-1-
- نشأة التفكير في البحث:
معروف أن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) هو أول من اشتغل بالصناعة المعجمية، وقد أخذ في ترتيب معجمه "العين" بمبدأ تصنيف الكلام في أبواب هي الثنائي والثلاثي: الصحيح والمعتل، ثم الرباعي فالخماسي... والخماسي ما كان على خمسة أحرف مثل سفرجل.
ويرى الخيل أن كلام العرب لا يتعدّى بناؤه خمسة الأحرف، يقول: "وليس للعرب بناء في الأسماء ولا في الأفعال أكثر من خمسة أحرف، فمهما وجدت زيادة على خمسة أحرف، في فعل أو اسم، فاعلم أنها زائدة على البناء وليست من أصل الكلمة، مثل (قَرَ عْبَلانة)، وإنما أصل بنائها (قرعبل)، ومثل (عنكبوت) وإنما أصل بنائها (عنكب).(1)
ولمزيد من الدقة في التقسيم جعل الخليل بناء الثنائي في أنواع هي: الثنائي الخفيف من الحروف مثل "مع"، والثنائي المضاعف مما أدغم حرفاه المتشابهان مثل "علّل" الذي وضعه في "علّ"، والذي لم يدغم حرفاه المتشابهان مثل "كعك" الذي وضعه في "عكّ" والرباعي المضاعف مثل "زلزل" الذي وضعه في "زل". ويبدو أن الخليل اعتمد في ذلك على رسم الكلمة في الكتابة، لا على حسبان التكرير والتضعيف. بعد هذا أثبت باب الثلاثي بنوعيه، وجعل الرباعي والخماسي في باب واحد للصحيح من أصولهما. وأما الرباعي والخماسي المعتلين فقد أخرهما إلى مختتم معجمه حيث عقد باباً للحروف المعتلة.(2)
وبقليل من التأمل في هذا التبويب يلحظ المرء أن "الأبنية" تستبدّ بمنهج الخليل وتسيطر على تصوّره وتخطيطه لتقسيم الكلم في أنساق وفئات. وعزّز التفكير في موضوع الأبنية عنده نظرية التقاليب التي أخذ بها معياراً لاستقصاء الصيغ المحتملة للأصول وإحصائها اعتماداً على صورها أو قراءاتها المتعددة بالتقليب. فالأصل اللغوي "لمق" مثلاً، يعطي بالتقليب التراكيب الآتية: لمق، لقم، ملق، مقل، قمل، قلم... وما له منها معنى كان الخليل يثبت أمامه معناه، وما ليس له منها معنى كان يثبت أمامه كلمة "مهمل". ووفق هذا المبدأ يكون قد أحصى أبنية العربية الفصيحة المستعملة بدلالات لغوية، وضَبَطَها. وتأسيساً على هذا التصوّر اتّسع الاهتمام بالأبنية وازداد الميل إلى البحث فيها.
وعند بدء الاشتغال بالنحو عرض الرواد الأوائل من النحاة لمسألة تقسيم الكلام. ولعل أول من ذكرها في وضع وتصنيف سيبويه (ت180هـ) تلميذ الخليل، قال في "الكتاب":
"فالكلام على ثلاثة أحرف، وأربعة أحرف، وخمسة، لا زيادة فيها ولا نقصان(3)، ثم جعلها في أبواب وحشد لها ما وسعه الجهد والتذكر من الأبنية والألفاظ.
وكان من المنتظر أن يتابع الخالفون من النحاة بحث الأبنية بعد سيبويه في حقول متنوّعة من النشاط اللغوي، وهذا ما كان، إذ أضافوا إليه، أو استدركوا على سيبويه ما فاته منها، كأبي عمر الجرمي (صالح بن إسحاق، ت 225هـ)، وابن السراج (أبو بكر محمد بن سهل النحوي، ت 316هـ)، وابن خالويه (الحسن بن أحمد، ت 370هـ)، وأبي بكر الزُّبيدي الأندلسي (ت379هـ)، الذي زاد على أبنية سيبويه ما يربو على ثمانين بناء.
-2- معاجم أبنية الأفعال:
ولكن التأليف في أبنية الأفعال الثلاثية والرباعية سبق هؤلاء في نماذج مبكّرة خصّ أصحابها الأفعال بكتب مستقلة. ومن أشهر هؤلاء المؤلفين:
- قُطْرُب (محمد بن المستنير، ت 206هـ).
- يحيى بن زياد الفرّاء (ت207هـ).
- أبو عبيدة معمر بن المثّنى (ت210هـ).
- أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت215هـ).
- عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ).
- عبد اللَّه بن محمد التوَّزي (ت233هـ).
- يعقوب بن السِّكِّيت (ت244هـ).
- محمد بن الحسن الأحول (كان حيّاً عام 250هـ).
- سهل بن محمد السجستاني (ت255هـ).
- الزَّجاج (إبراهيم بن السري، ت 310، أو 311هـ).
- محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (321هـ).
- ابن درستويه (عبد اللَّه بن جعفر، ت 347هـ).
- أبو علي القالي (إسماعيل بن القاسم، ت 356هـ).
- الآمدي (الحسن بن بشر، ت 371هـ).
- الجواليقي (أبو منصور موهوب بن أحمد، ت 540هـ).
- ابن الأنباري (عبد الرحمن بن محمد، ت 577هـ).
- الواسطي (القاسم بن القاسم، ت 626هـ).
- ابن مالك (جمال الدين محمد بن عبد اللَّه الطائي، ت 672هـ)(4).
وعرض لهذه الظاهرة اللغوية "الأبنية" في العربية لغويون معجميون، ونحاة وصرفيون في إطار أبحاثهم المتنوّعة، وضربوا لها الأمثلة والشواهد، وتناولوا ذلك كله بالتعليل والتحليل والمدارسة، وخصص لها بعضهم أبحاثاً، أو فِقَراً، أو فصولاً وأبواباً في تضاعيف كتبهم، من ذلك ما نقف عليه في المعاجم المقسمة إلى "كتب" أو "أبواب"، أو "أبنية".
ومن اللغويين من عرضوا في كتبهم اللغوية العامة لبناء الأفعال، ونخص بالذكر منهم من عنونوا لأبحاثهم بعبارة: "فَعَلَ وأَفْعَلَ" أو "فعلتُ وأفعلتُ". وممن ضمنوا كتبهم أبحاثاً في ذلك:
- سيبويه في "الكتاب".
- أبو عبيد القاسم بن سلاّم (ت224هـ) في كتابه "الغريب المصنف".
- يعقوب بن السكيت في كتابه "إصلاح المنطق".
- ابن قتيبة (عبد اللَّه بن مسلم، ت 267هـ) في كتابه: "أدب الكاتب".
- ثعلب (أحمد بن يحيى، ت 291هـ) في كتابه: "الفصيح".
- ابن دريد الأزدي في معجمه "جمهرة اللغة".
- ابن القوطية (محمد بن عمر، ت 367هـ) في كتابه: "الأفعال".
- عثمان بن جني (ت392هـ) في كتابه: "الخصائص".
- أحمد بن فارس الرازي (ت395هـ) في كتابه: "الصاحبي في فقه اللغة".
- ابن سيده (علي بن إسماعيل، ت 485هـ) في كتابه: "المخصص".
- ابن القطّاع (علي بن جعفر، ت 515هـ) في كتابه: "الأفعال".
ووقف هؤلاء وغيرهم عند الأبنية النادرة، أو التي يتعدّد ضبطها وزناً، تبعاً لتقدير حروف الزيادة والحذف والإعلال. واتّسع الاهتمام بالأبنية فشمل أبنية الأفعال والأسماء والمصادر. ولكن الخطين البارزين في هذا الفرع من البحث استقلاّ باتجاهين رئيسيين هما: أبنية الأفعال، وأبنية الأسماء والأفعال جميعاً. وأمام الحاجة المرتقبة لاستيعاب المادة العلمية المستخلصة من نتاج هذا النشاط شرع اللغويون يبحثون عن منهج لتصنيفها فلم يجدوا أفضل من المنهجية المعجمية؛ ذلك أن مدار البحث في المعاجم يقوم أصلاً على "المفردة" في تعيين جذرها اللغوي وإثباته، وفي بيان معناها، أو معانيها، وليس مدار البحث في "الأبنية" ببعيد عن ذلك. وعلى وفق هذا التصور اتجهوا بأبنية الأفعال والأسماء نحو المعجمية، ثم خرج إلى الوجود مصطلح "معاجم الأبنية"، وصار ترتيبها على حروف الهجاء، أو على مخارج الحروف منهجاً مألوفاً، وبذا يكون التطور الذي طرأ على هذا النوع من النشاط اللغوي قد أخذ بضوابط التنظيم، وفي الوقت نفسه أخذ بفكرة الاستقصاء التي تقرُب من الاستقراء التام، أو من الإحصاء. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر عن السرقسطي (أبو عثمان سعيد بن محمد، المنبوذ بالحمار، ت بعد 400هـ) من أنه بلغ بالأفعال التي صنّفها 2753 فعلاً مرتبة على مخارج الحروف، وذكر أن ابن القوطية في "أفعاله" قصد إلى الإيجاز فأخلّ في كثير من المواضع(5).
ولإعطاء فكرة إيضاحية سريعة عن مضمونات تلك الأبحاث والمصنفات المبكرة يمكن أن نقف عند أمثلة متخيّرة منها؛ فمما تكلمت به العرب على بناء "فَعَلْتُ وأفْعَلْتُ" والمعنى واحد قول الزجاج:
"بكر الرجل في حاجته يبكر بكوراً، وأبكر إبكاراً، قال زهير بن أبي سلمى:
بكرْنَ بكوراً واستحَرْنَ بسحرةٍ * * * * * فهن ووادي الرسّ كاليد في الفمِ
وقال ابن أبي ربيعة (عمر):
أمِنْ آل نُعْمٍ أنت غادٍ فَمُبْكِرُ * * * * * غداةَ غدٍ أم رائحٍ فَمُهَجِّرُ؟
ويقال: بشرْتُ الأديم وأبشرته، وأديم مبشور ومُبْشَر إذا قُشر. وبرد اللَّه الأرض وأبردها إذا أصابها البرد، وأرض مبرودة ومُبْردَةَ. ويقال: بتّ عليه الحكم وأبَتَّه إذا قطعه عليه، وكذلك بتَّ الحبل وأبتَّه".(6).
ومن ذلك قوله:
"تقول: ثَرِي المكان وأثرى إذا ندي بعد يبس، وكثر فيه الندى، وكذلك ثري القوم وأثروا إذا كثرت أموالهم. وثلجت السماء وأثلجت من الثلج".(7).
ومنه: "خلَسَ رأس الرجل فهو خليس، وأخلس رأسه فهو مُخْلِس إذا اختلط فيه البياض بالسواد... وخضعه الكبر خضعاً وأخضعه إخضاعاً. وخفق الطائر بجناحيه وأخفق إذا صفق بهما".(8).
ويقدم المصنفون في هذا الموضوع أمثلة على غرار البناء السابق "فعلت وأفعلت" والمعنى مختلف، نحو: "راق الشيء فلاناً إذا أعجبه وحسن في عينيه، وأراق الرجل الماء إذا صبّه.(9) وطرق الحديد إذا ضربه حتى ينبسط، وأطرق الرجل إذا أمسك عن الكلام".(10).
أو يقدمون أمثلة اختير فيها "أفعلتُ" دون "فعلت"، أو "فعلتُ" دون "أفعلتُ"، نحو: "أخرف القوم إذا دخلوا في الخريف، وأذعن الرجل بالطاعة إذا ألزمها نفسه".(11) ومن الثاني قولهم: "جنبت الريح، وصدرت عن الشيء، وغلت القدر، ونبذت الشيء... ولا يقال في شيء من هذا وأمثاله "أفعلتُ".
-3- معاجم أبنية الأسماء:
تأخّر التصنيف في أبنية الأسماء فجاء لاحقاً للبحث في أبنية الأفعال في الترتيب الزمني. وقد يعلل سبق التصنيف في أبنية الأفعال بالحاجة إلى استعمال الأفعال المجردة في أبواب المعاجم، ذلك أن الأفعال تمثل الأصول أو الجذور Roots التي كانت مفاتيح الإفادة من المعاجم، والمنطلق إلى تقصيّ المشتقات. وقد يعلل ذلك السبق باللجوء إلى علم الصرف واتّخاذه ميزاناً لضبط الأبنية، إذ إن الصرف يقدِّم الأصول الموثقة، أو يقدم الجوهر مخلَّصاً من شوائب الزيادات والإعلال والحذف والإبدال، وبذا يمكن فرز الأبنية، ثم الانطلاق إلى البحث عن المعاني أو الدلالات اللغوية.
ويشار هنا إلى أن القاضي نشوان بن سعيد الحميري الذي ألّف معجماً في الأبنية (كما سيجيء) كان قد افتتح ذلك المعجم بالحديث عن التصريف لأهميته في البحث اللغوي، ثم انتقل إلى الحديث عن مخارج الحروف، وبعدها عقد فصلاً في أبنية كلام العرب. أما أبنية الأسماء فأمرها أكثر تعقيداً هنا من أبنية الأفعال، إذ يعتور الأسماء التوزّع بين الأصل والمشتق، وبين الزيادة والتجريد اللذين تبقى حقائقهما أعز ملتمساً، وبين الأصيل والدخيل. وتبقى الأسماء أوسع من الأفعال أبنية، مما يحفز على الاشتغال بالقليل الأبنية أولاً، ومما يجدر تسجيله هنا أن البحث في أبنية الأسماء اقتصر على فصول من كتب اللغة، ولم يرق إلى الاستقلال بكتب بأعيانها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور أحمد مختار عمر:
"ولم أجد أحداً من اللغويين قد أفرد أبنية الأسماء بتأليف مستقل بقصد استيعابها، ويعمد إلى تنظيمها ويجمع ما تفرّق منها، ولكنني وجدتهم قد ألّفوا في شيء خاص منها وهو "المقصور والممدود"، وممن ألف في ذلك الفراء، والأصمعي، وأبو عبيد، والزجاج، وأبو علي القالي.."(12). وإذا كان الفراء المتوفى 207 هـ قد ارتاد هذا المجال فهذا يعني أن البحث في أبنية الأسماء لم يتأخر كثيراً عن البحث في أبنية الأفعال. وإذا صرفنا النظر عن الكتب التي صنُفت في "المقصور والممدود" وتجاوزنا هذه الدائرة الضيقة وأصحابها فسنجد أن أبا عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ) هو صاحب السبق والفضل في توسيع دائرة البحث في أبنية الأسماء، إذ أفرد لهذا الموضوع ستاً وخمسين صفحة استهل بها كتابه "الغريب المصنّف"، وعقد أبواباً لما ورد فيه مثالان أو أكثر؛ وبين الصحيح والمعتل من المثال الواحد، فجعل لكل منهما باباً، وبين الأسماء والصفات من المثال الواحد، فأفرد لكل باباً...(13).
كما يعزى إلى يعقوب بن السكيت (ت 244هـ) مثل هذا الاهتمام في كتابه "إصلاح المنطق" إذ خصص لأبنية الأسماء القسط الأكبر من الجزء الأول من الكتاب وبعض أبواب الجزء الثاني.(14) وتابع ابن قتيبة (ت 276هـ) سلفيه فأفرد، في القسم الثاني من كتابه "أدب الكاتب" بعض الأبحاث لأبنية الأسماء، كما تابع الاهتمام بهذا الضرب من البحث اللغوي كل من أبي الحسن الهنائي المعروف بُكراع (كان حياً سنة 307هـ) الذي "أفرد باباً من كتابه المنتخب والمجرد للغات استهلّه بأمثلة الأسماء التي تشغل قريباً من عشرين صفحة".(15). وكذلك فعل ابن دريد الأزدي في "جمهرة اللغة"، وابن سيده الأندلسي في "المخصص".
أما الكتب التي وضعت في أبنية الأسماء واستقلّت بها فأشهرها "المقصور والممدود" للفراء (ت207هـ)، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري (ت 328هـ)، وكتاب ما جاء من المبني على فَعَال لعلي بن عيسى الربعي (ت420هـ)، وكتاب "أبنية الأسماء" لابن القطّاع (ت515هـ)، وكتاب "ما بَنَتْه العرب على فَعَالِ"، وكتاب "يفعول" للصغاني (أو الصاغاني المتوفى سنة 650هـ).
وألّفوا فصولاً أو أبحاثاً في أبنية المصادر بدءاً من الكسائي (ت 183هـ) فالنضر بن شميل (ت 203هـ)، فالفراء، وخص كتابه المصادر بمصادر القرآن، فأبي عبيدة، فالأصمعي، فأبي زيد الأنصاري، فنفطويه (ت 323هـ).(16).
وفي غير ما إطالة يمكن القول إن هؤلاء اللغويين سلكوا، كنظرائهم من أصحاب المعاجم، مسالك متنوّعة في تبويب أبحاثهم، سواء أكانت فِقراً أو أقساماً ضمن كتاب، أم كانت معقودة على كتب مستقلة برؤوسها لهذا الغرض. ومع ما انطوت عليه مباحثهم من تباين في المنهج تبقى القضية واحدة، ويبقى منطلقها خدمة العربية واستيفاء أسرارها وبسطها ولمِّ شواردها للمتعلمين.
ولعل أشهر وأشمل ما صنف في هذا الموضوع معجم "ديوان الأدب" لأبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي المتوفى سنة 350هـ.(17) ومن أبرز ما ذكره الفارابي في المقدمة المطولة لمعجمه هذا قوله:
"وقد أنشأت بتوفيق اللَّه تعالى، وبه الحول والقوة في ذلك... كتاباً عملت فيه عمل من طبَّ لمن حبَّ (كصنعة الطبيب الحاذق لمن يحبه)، مشتملاً على تأليف لم أسبق إليه، وسابقاً بتصنيف لم أزاحم عليه، وأودعته ما استعمل من هذه اللغة، وذكره النحارير من علماء أهل الأدب في كتبهم، مما وافق الأمثلة التي مثّـلْتُ، والأبنية التي أوردت، مما جرى في قرآن، أو أتى في سنّة، أو حديث، أو شعر، أو رجز، أو حكمة، أو سجع، أو مثل، أو نادرة".(18).
ورتّب الفارابي المادة اللغوية على النحو الآتي:
أولاً: قسم كتابه إلى ستة أقسام سماها كتباً، وهي على الترتيب الآتي:
آ- كتاب السالم. ب- كتاب المضاعف. ج- كتاب المثال. د- كتاب ذوات الثلاثة. هـ- كتاب ذوات الأربعة. و- كتاب المهموز.
ثانياً: جعل كل كتاب من هذه الكتب شطرين: أسماء وأفعالاً، وقدّم الأسماء في كل كتاب على الأفعال.
ثالثاً: قسم كل شطر منهما إلى أبواب بحسب التجرّد والزيادة...
ويحسن توضيح ما قصد إليه الفارابي بستة الأقسام بغية تقريب منهجه من القارئ، أو تسليط مزيد من الضوء على مصطلحات الفارابي؛ فالمراد بالسالم عنده: "ما سلم من حروف المد واللين والتضعيف"، والمضاعف: "ما كانت العين منه واللام من جنس واحد" يعني مثل: حبب، مدَّ، هزَّ. والمثال: "ما كانت في أوله واو أو ياء" يعني مثل: وعد، ينع. وكتاب "ذوات الثلاثة" عرفه بقوله: "ما كانت العين منه حرفاً من حروف المد واللين" وهو "الأجوف". وهذه التسمية "ذوات الثلاثة" مأخوذة من رد الفعل الأجوف إلى نفسك، أي تصريفه بصيغة المتكلم، نحو: قمت، بعت، نمت. أما كتاب ذوات الأربعة فهو عنده: "ما كانت اللام منه حرفاً من حروف المد واللين"، وهو "الناقص"، نحو: حكى، سعى، دنا.. فعند تصريف هذه الأفعال ونظائرها بصيغة المتكلم يصير بناؤها أربعة أحرف، إذ تقول: حكيت، سعيت، دنوت.
وذكر السرّ في إفراد المهموز بكتاب بقوله: "والهمزة كالحرف السالم في الحركات، وإنما جعلت في حروف الاعتلال لأنها تلين فتلحق بها".(19)
وراعى الفارابي في ترتيب أبواب معجمه المظاهر الصرفية من تجريد وزيادة وتثقيل وحشو وإلحاق، في الثلاثي والرباعي والخماسي وما ألحق به، كما راعى في ترتيب الأفعال المثال والأجوف والناقص والمهموز والمضاعف، وأخذ بمنهج مراعاة الترتيب الهجائي وفق باب الحرف الأخير؛ أي ما يعرف اليوم بنظام باب الحرف الأخير فصل الحرف الأول، على غرار ما صنع اليمان بن أبي اليمان البندنيجي المتوفى سنة 284هـ في معجمه "التقفية في اللغة" الذي رتّبه البندنيجي وفق باب الحرف الأخير أو القافية كما نُقل عنه.(20) ولم يكن معجم الفارابي "أول معجم سلك هذا النظام الذي أخذ به الجوهري" كما قرر الدكتور أحمد مختار عمر في مقدمة التحقيق.(21).
وأخذ بنظام الباب الأخير بعد الفارابي: القاضي نشوان بن سعيد الحميري (من علماء القرن السادس الهجري)، وابن منظور، والفيروزابادي وغيرهم.
وإذا كنا قد وقفنا قليلاً عند المعجم "ديوان الأدب" فلأنه: "أول معجم عربي جامع اتبع نظام الأبنية في ترتيب الألفاظ ولم يأخذ التأليف في الأبنية قبل الفارابي صورة المعجم الكامل الذي يتجه إلى حصر المادة اللغوية، وتوزيعها على الأبنية في نظام معين، وإنما اتجه بعض اللغويين إلى حصر الأبنية والتمثيل لها، واتجه بعض آخر إلى العناية ببعض الأبنية، ومحاولة حصر ألفاظها، أي أن عملهم كان فاقداً لأهم عنصرين من عناصر المعجم الكامل وهما: الشمول والترتيب".(22)
وما دام معجم "ديوان الأدب" قد اتصف بالشمول والترتيب، واحتل مرتبة الصدارة بين معاجم الأبنية، فمن المتوقّع أن يكون له أثر واضح في المعاجم التي جاءت بعده، منهجاً ومضموناً. ويمكن رصد حصيلة هذا التأثر في ثلاثة اتجاهات هي بإيجاز:
1- ما صنّف حول المعجم نفسه، أو ما بني عليه، أو اختصره، أو زاد في أبوابه.
2- الاستفادة به في جمع المادة اللغوية، وقد شمل ذلك معظم ما جاء بعده من مؤلفات لغوية. ويبدو معجم "الصحاح" للجوهري أكثر كتب اللغة تأثراً بديوان الأدب، في المادة اللغوية على وجه الخصوص.
3- التأثر بمنهجه تأثراً منوّعاً وموزعاً بين التطابق وبين التعديل. أو بين جمع أبنية الأسماء والأفعال معاً، أو الاقتصار على أبنية الأفعال ومصادرها فقط، وأشهر معاجم النوعين.
آ- شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكُلُوم للقاضي نشوان بن سعيد الحميري(23) الذي تأثر بالفارابي في المنهج، وإن أدخل عليه (على المنهج) بعض تعديلات يسيرة لا يظهر فيها عنصر الابتكار، كما أن المادة اللغوية الخاصة مشتركة بين المعجمين،(24) أو متشابهة، وإن كان القاضي الحميري قد حشد في معجمه معارف متنوّعة من الأخبار والأقوال، في الأشجار والأحجار والكواكب وعلوم القرآن والقراءات والتفسير والأنساب، وما شابه ذلك(25) من الاستطرادات التي لا تستدعيها طبيعة المادة اللغوية المنتظر وجودها في معاجم الأبنية.
ب- وتأثر بالفارابي محمود بن الحسين الكاشْغَرِي المتوفى عام 466 هـ في معجمه "ديوان لغات الترك". والزوزني (أبو عبد اللَّه الحسين بن أحمد بن علي المقري البيهقي)، المعروف باسم "بو جعفرك" والمتوفى عام 544هـ في معجمه "تاج المصادر". وهذه المعاجم الثلاثة صنفت لخدمة اللغتين التركية والفارسية بمنهج ومادة عربيين فكرةً وأسلوباً.
-4- معاجم أبنية أخرى:
وثمة مؤلفات تُسلك في هذا اللون من البحث اللغوي، وتبدو موزّعة بين المعجمية وكتب الأبنية، فمن خصائص المعجمية نجد فيها الترتيب الهجائي بمراعاة أواخر الأصول أو أوائلها، مثلما نجد فيها محاولة الإحصار أو الاستيفاء. ومن البناء نجد فيها الوزن الواحد، أو محاولة تصنيف الأوزان بعد تحقيق أصولها بالاحتكام إلى الدلالة اللغوية أو إلى القواعد الصرفية.
ومن الأمثلة التي تصلح لإيضاح هذه الفكرة كتاب "ما بنته العرب على فَعَالِ" للصغاني.
وتجدر الإشارة إلى أن للصغاني كتباً أخرى على هذا الغرار مثل: كتاب الأفعال، وكتاب الافتعال، وكتاب الانفعال، وكتاب نقعة الصديان فيما جاء على وزن فعلان، وكتاب يَفْعُوْل.(26) وقد أورد الصغاني في هذا الكتاب(130) مئة وثلاثين لفظة مما استعمله العرب من الثلاثي على بناء "فَعَالِ" في المعاني المختلفة. وألحق بها سبعة ألفاظ مما بني من الرباعي على معنى "فعالِ". وقد ذكر السيوطي هذه الألفاظ جميعاً في كتابه "المزهر" نقلاً عن الصغاني.(27) جمعها في ثلاث مجموعات، جعل المجموعة الأولى منها على أسماء الأفعال خاصة، وجعل الثانية لأسماء المواضع خاصة، وجعل الثالثة لأسماء أعلام النساء، وأنواع الحيوان، والأشياء الأخرى كالحرب والشمس.(28) ورتبه على حروف المعجم ووفق أواخر الأصول بادئاً بالهمزة في ثلاث كلمات هي: بَلاَءِ، شَرَاءِ، نَفَاءِ. ويلحظ أنه راعى الترتيب الهجائي في فصل الحرف الأول فبدأ بالباء، فالشين، فالنون. وانتهى بكلمة "بَهَانِ" أي بباب النون فصل الباء.
ولكنه أخل بالقاعدة التي تنص على بناء "فعالِ" من كل فعل ثلاثي، من "فَعَلَ" أو "فَعُل" أو "فَعِل" فحسب. ولا يجوز بناؤها مما جاوز ذلك. حين أورد أمثلة من الرباعي مثل: بَحْباحِ، وعَرْعارِ، وقرقارِ، ودهداعِ، وحَمْحامِ... وفي تعليل هذه القاعدة يقول سيبويه:
"واعلم أن (فَعَالِ) جائزة من كل ما كان على بناء (فَعَلَ) أو (فَعُل) أو (فَعِلَ). ولا يجوز من (أفعلتُ)لأنا لم نسمعه من بنات الأربعة. إلا أن تسمع شيئاً فتجيزه فيما سمعت، ولا تجاوزه. فمن ذلك: قرقارِ، وعرارِ"(29).
والقيمة العلمية في تخير مثل هذه الأبنية اللغوية تنصرف إلى بيان نشأة المعنى اللغوي ومجال استعماله أو دلالته العامة في تشعبها مما يسميه المحدثون من اللغويين الحقل الدلالي Semantic Field فأصل كلام العرب في استعمال صيغة (فَعَالِ) للأمر، عند حاجتهم إلى توكيد الكلام وتقوية معناه، وتثبيته في نفس السامع، وهذا هو السر في أن أكثر ما يجيء منه يكون مكرراً، كقول الشاعر:
حَذَارِ من أرماحنا حَذَارِ!
وقول الآخر:
تراكِها من إبل تراكِها
وذلك عند شدة الحاجة إلى هذا الفعل.(30) ويستعمل هذا البناء في النداء والتهديد والتحذير والزجر والشتم والمبالغة في الوصف أو الدلالة على غلبته على الشيء وما إلى ذلك من المعاني التي تشتد الحاجة إلى توكيد الكلام فيها.(31).
ولمحقق كتاب "ما بنته العرب على فعالِ" في مقدمته حديث وافٍ في تعليل هذا البناء ومجيئه اسماً للفعل، ومعدولاً من صفة المؤنث، ومعدولاً من مصدر مؤنث معرفة، واسماً علماً لامرأة أو لشيء آخر مؤنث. وغير خفي أنّ مدار ذلك كله صيغة "فَعَال" في وزنها الصرفي الثابت، ودلالتها اللغوية المتحوِّلة، مع محاولة إحصاء لعدد هذه الصيغ وتصنيف دلالاتها بنوع من الفلسفة اللغوية التي تكاد تبدو ترفاً علمياً أكثر منه نهجاً تعليمياً، ولكن ما يخلص إليه القارئ هو ضبط نطق هذه الصيغة في لغة العرب، وتعليل بنائها، وحصر ما تنصرف إليه، أو تقتصر عليه من دلالات أو مسميات، وفي هذا تقنين للغة بفرز أبنيتها في قوالب بأعيانها، وتصنيفها في أوعية خاصة سموها المعجمات، أو أخضعوها لمنهجية صناعة المعجمات، مع وضوح ما بينهما من اختلاف في التفصيلات.
ومن كتب الأبنية ما اقتصر على المذكّر والمؤنث ومثَّل ظاهرة مستقلة في دائرة البحث اللغوي. وقد ألف فيه طائفة من اللغويين فعقدوا عليه فصولاً في تضاعيف كتبهم، أو خصوه بتأليف مستقل. نذكر من هؤلاء أبا زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت207هـ)، وأبا عبيد القاسم بن سلام (224هـ)، وأبا حاتم السجستاني (ت255)، وأبا العباس محمد بن يزيد المبرد (ت285هـ)، وإبراهيم بن السري الزجاج (ت310، أو 311هـ)، وابن خالويه (الحسن بن أحمد المتوفى سنة 370هـ)، وأبا الفتح عثمان بن جني (ت392هـ)، وأبا البركات عبد الرحمن بن محمد بن الأنباري (ت577هـ) وغيرهم.
ويشير بعض الباحثين إلى أن قدامى العرب لم يكونوا يفرقون بين المذكر والمؤنث بعلامات نحوية، وإنما بإدراك فطري غريزي، وأول ما عرفوا ذلك في الإنسان والحيوان اللذين كان لكل من المذكر والمؤنث فيهما كلمة مختلفة، نحو رجل وامرأة، وولد وبنت، وحمار وأتان، وحَمَل ورَخلِ (الأنثى من أولاد الضأن). فلما كثرت عليهم الألفاظ لجؤوا إلى اتخاذ علامات أضيفت إلى المؤنث، لأن المذكر عندهم هو الأصل، وقيدوا بعض العلامات بقيود الوزن فقالوا مثلاً: إن علامة التأنيث الألف الممدودة توجد في اللغة العربية على الأخص في صيغة "فعلاء" مؤنث "أفْعَل"، نحو سمراء وأسمر، وعرجاء وأعرج. وعلامة التأنيث الألف المقصورة توجد في اللغة على الأخص في صيغة "فُعْلى" مؤنث "أَفْعَل" الدال على التفضيل، مثل كبرى وأكبر، وفي صيغة "فَعْلى" و "فَعْلان" مثل عطشى وعطشان، وسكرى وسكران.. وهذا اللون من التقييد أو التقعيد وفق "أبنية" هو الذي حمل اللغويين على تصنيف ما أُلِّف في المذكر والمؤنث ضمن معاجم الأبنية. وثمة حالات أخرى اعتمدوا فيها القياس أو التقعيد عند تمييز المذكر من المؤنث بالتاء "علامة التأنيث" كقولهم: إن دخول التاء يكون للمبالغة، أو تأكيد المبالغة في مثل: راوية، ونسّابة، وعلاّمة، أو لتمييز الواحد من الجنس، نحو تمر وتمرة، أو للدلالة على تعريب الأسماء الأعجمية، نحو فرزدق وفرازنة، ومَرْزُبان ومرازبة. أو للتعويض عن مدَّة تفعيل، نحو زكّى تزكية، وربّى تربية.(32) وكان الأصل أن يقال ذلك على قاعدة فعَّل تفعيل، نحو هدَّد تهديد، ورجّع ترجيع. وكل هذا مما يمكن سلكه في منظومة تقعيدية تتظاهر فيها القواعد الصرفية والنحوية والصيغ البنائية، وإن كان هذا النمط من التأليف أكثر بعداً من أبنية الأفعال عن معاجم الأبنية. نضيف إلى ذلك أنهم اعتمدوا القياس أيضاً في النظر إلى صيغة التأنيث التي تحمل علامته المعروفة بالألف المقصورة، فقالوا صغرى وكبرى، مؤنث أصغر وأكبر، وسموها صيغة "فُعْلى" مؤنث "أفْعَل" الدال على التفضيل، وإن لم يكن قياساً مطّرداً.
ومن كتب الأبنية "المقصور والممدود" اللذان يمثِّل البحث فيهما شعبة من شعاب البحث اللغوي العام عند العرب. وكتاب الفرّاء الذي يحمل هذا العنوان يعد من "أول الكتب التي أسهمت في جلاء ظاهرة الخلط بين المقصور والممدود من الأسماء."(33)
وصلة هذا اللون من التأليف بمعاجم الأبنية، أو بكتب الأبنية ترجع إلى أن النحاة يعتمدون، في التقعيد لمادته، على الأوزان غالباً، لا على أثر العامل النحوي، أو أثر السياق، أو التقديم والتأخير، أو وظيفة المفردة في الجملة أو التركيب... هنا يقولون مثلاً: "ما يعرف من المنقوص والممدود بالتحديد والعلامات. من ذلك المصدر في (أفْعَل) الذي أثناه (فعلاء) فهو منقوص، من ذلك عَمِيَ عَمَى، وعَشِي عَشَى، وطوِي طَوَى.."(34).
ويقولون: "وما كان من جمع (فعْلَة) من الياء والواو على (فعِال) كان ممدوداً، مثل رَكْوة ورِكاء، وشكوة وشكاء، وفروة وفراء..."(35).
ويقولون: "ما جمع على فَعيْل أو فُعَال أو فَعُول على فِعَال مُدَّ أيضاً، مثل قولك: قصير وقصار، وكريم وكرام، مثل هذا من الياء والواو ممدود يكتب بالألف. وأكثر ما يجمع من الواو والياء (من جمع فعيل) على أفْعِلاَء فيمدّ ويكتب بالألف، من ذلك وَلِيّ وأولياء، وغني وأغنياء، ودعي وأدعياء، وإن جمع على فُعلاَء مُدَّ أيضاً وكتب بالألف مثل: شركاء وضعفاء.."(36)
ومنه: "ما جمعته على فَعَالى أو فُعالى (بضم الفاء وفتحها) أو فَعْلى فهو مقصور يكتب بالياء، من ذلك: كَسَالى وكُسَالى، وسَكَارى وسُكَارى، وصرعى وأسْرى وأُسارى. فإن كان على فُعالى وهو اسم واحد فهو مقصور يكتب بالياء مثل: حُبارى وجُمادى وذُنابَى الطائر..."(37).
وأنت إذا تأملت هذه القواعد والأحكام وجدت أن ألفاظ "الأوزان" طاغية فيها، ووجدتَها معقد التقعيد ومظنة الاحتكام لبيان الأصول والاستيثاق من سلامة القول الفصيح.
وأما تسويغ تصنيف أمثال هذه المؤلفات في جملة معاجم الأبنية فمردّه إلى التشابه الملحوظ بين مضمونها ومضمونات المعاجم المذكورة؛ فلو بوَّبَ المؤلف أوزان المقصور والممدود كلها في أبواب، أو أوردها متتابعة، من الأبنية الصغيرة (الثلاثية مثلاً) إلى الأبنية الخماسية لتقيَّل بذلك المعجميين في مناهجهم. ولو قام اللغويون باستقصاء الأسماء المقصورة والممدودة حتى استيفائها إحصاءً تاماً لكانت الحصيلة معاجم خالصة، ولكنها ليست عامة، وإنما تكون "معاجم متخصصة".
وقد ألَّف اللغويون بعد الفراء ما يزيد على أربعين كتاباً في المقصور والممدود ذُكِر آخرها باسم ابن مالك النحوي (ت672هـ)(38) وهي رسالة بعنوان "ذِكْر معاني أبنية الأسماء الموجودة في المفصل".(39).
-5-
ولم يتوقف البحث والتأليف في "الأبنية" عند السلف، أو عند لغويي العصور المتأخرة، بل استمر ذلك في مصنفات المحدثين، نجد من ذلك كتاباً بعنوان "بحث في صيغة (أَفْعَلَ) بين النحويين واللغويين واستعمالاتها العربية "للدكتور أحمد النحاس،(40) وفيه يربط المؤلف عمله بأعمال السلف ليبدو امتداداً لهم واستمراراً لصنيعهم في هذا المجال، يقول:
"... جاءت صيغة أفعل في اللغة العربية متداولة في الاستعمال في أغراض شتى وأنواع متعددة، فجاءت فعلاً متعدد المعاني مما جعل العلماء يعنون به ويؤلفون فيه كتباً كثيرة تحمل هذا الاسم: (فعلت وأفعلت) أو (فعل وأفعل) فألف فيه أبو زيد الأنصاري..."(41)
ثم يسرد أسماء من تقدّم ذكرهم في بداية هذا البحث. ويعرض المؤلف في مفتتح كتابه لاستعمالات صيغة (أفْعَل) من ناحية فعليّتها أولاً، وأسميتها ثانياً ذاكراً ما يتعلق بها من أحكام متفرقة.(42) ويعقد فصول الكتاب الثلاثة على ورودها اسماً وفعلاً، والمعاني المستفادة من الصيغة كورودها للتعدية والنقل والصيرورة والتحريض... وإفادتها السلب والدعاء والتعجب واللزوم والتعدي...وورودها اسماً وصفة مشبهة وللتفضيل وممنوعة من الصرف... وهكذا حتى يستوفي هذه الصيغة وما يحيط بها من حالات ودلالات واستعمال، في التذكير والتأنيث والإفراد والجمع والصفة والشذوذ والزيادة... وفي معنى الفاعل والمفعول... إلخ.
وبعد، فقد يتساءل القارئ الكريم عن الحافز على وضع مثل هذه المصنفات في "الأبنية" أو عن القيمة العلمية لها، أو عن أثرها في خدمة العربية. وبيان ذلك لا يحتاج إلى فضل تأمل وتدبّر، إذ يمكن أن نبادر إلى القول إنه لا شيء يمنع من مثل هذه الرياضة العقلية ولمِّ شعاب هذه الأبنية في أنساق وزمر وفق أوزانها لنستخلص منها ما لا نستطيع أن نقف عليه في غيرها من المصادر والمراجع، لأن الحديث عنها بالتفصيل لا يرد في سواها من فروع البحث اللغوي في العربية، بل سيبدو استطراداً في غير محله، أو إقحاماً له في غير نسيجه. وإيفاء الشيء حقه يستدعي إخلاص الجهد له وحده. ثم إن ما صنِّف في "الأبنية" كان يمثّل نهجاً من الجهود التعليمية التي التمست كل سبيل للحفاظ على العربية سليمة فصيحة، ولإيصالها إلى الشداة من غير ما طريق وأسلوب.
ومما يجدر استحسانه في معاجم الأبنية أنها نصّت في كثير من المواضع على الدقة والضبط بذكر الوزن وتقييد الحركات تسميةً كقول الفراء مثلاً:
"هذا باب يُفتح أوله فيمدّ، وإذا كُسر أوله قُصر".(43) وكقولهم مثلاً: مَفْعَل (بفتح الميم وإسكان الفاء وفتح العين) في اسم المكان، ومُفْعِل (بضم الميم وسكون الفاء وكسر العين) في اسم الفاعل، ومِفْعَل (بكسر الميم وسكون الفاء وفتح العين) لاسم الآلة... ذلك أن المعاجم القديمة لم تكن تهتم بالحركات في الضبط، وإنما كانت تكتفي بالحروف الساكنة.
ومن فوائد معاجم الأبنية في الدلالة اللغوية تعيين ما انصرفت إليه الأوزان من مثل بناء (فُعَال) بضم الفاء وفتح العين، فهذا البناء يعدد المعاني التي يتجه إليها في الأعم الأغلب تعدداً يشبه الحَصْر، أو القصرْ على ما هو شائع بين اللغويين، إذ قالوا: يختص هذا البناء بما هو مستقبح أو مستقذر نحو: البُصاق، والمخاط، والعطاس... وبما هو من الصغائر والبقايا كالغُبار، والسُّخام، والجُفاء. ونظيره من التأنيث بناء "فُعالة" نحو: الحُثالة، والنُخالة، والحُكاكة، والقمامة، والنُّفاية... وبما هو للأمراض والأصوات: كالصُداع، والنُّكاف، والدُّوار، والسعال، والنُّباح، والصُّراخ، والعُواء... وبمثل هذا التقسيم يتعلم شُداة العربية كيف يقرؤون ويفهمون هذا البناء قراءة صحيحة وفهماً يستفيد من الاحتكام إلى القياس والخيارات المحدودة.
ومثل هذا يقال عن بناء "فِعَالة" بكسر الفاء وفتح العين الذي ينصرف غالباً إلى الحرفة نحو: النَّجارة، والقبالة، والحِدادة، والحياكة، والحجامة، والفراسة....
وتُعين معاجم الأبنية شداة العربية على ردّ الكِلم على أصوله، من ذلك مثلاً تصنيف النحاة أبنية الأفعال الثلاثية الذي يستدعي تجريدها من الزوائد وإعادتها إلى أصولها نحو: الميناء من (وَنَى) بمعنى ضعف، فالمبتدئ قد لا يتهدّى إلى الأصل، أو قد يبحث عنه في (مَيَنَ)...
ونحو: تهامة والتهائم التي يثبت أصلها في (تَهَمَ)، أما التهمة فيثبت أصلها في (وَهَمَ)... وكل ذلك ونظائره قد يغمّ على المبتدئين استخلاصه من الكلمات المزيدة، أو التي فيها إبدال وإعلال... وهنا تتجلى أيضاً أهمية حصر المقصور والممدود وتحرّي أصولهما وتقييدهما في أنساق بعد التثبت من تلك الأصول. وبغير هذا الجهد وهذه المرحلة ستظل معرفة الأصول عسيرة على غير المتمكنين من أسرار العربية وخصائصها.
لقد عكف اللغويون العرب القدامى على دراسة الكلمة المفردة زمناً، فجمعوا نوادرها وغرائبها، وأحدثوا المعاجم وكُتب الشروح من أجل رصد دلالتها أو دلالاتها، واتخذوها شاهداً على صحة كلام العرب في النحو واللحن والفصاحة، ونظروا إلى وظيفتها في التركيب والسياق، وأسّسوا عليها في إيضاح الفصاحة والبلاغة فأشاروا إلى وجوب خلوّها من تنافر الحروف... واستكمالاً لهذه الجهود العلمية حول الكلمة المفردة جاءت معاجم الأبنية فأوفتها حقها من جهات الصوت والصرف والوزن والدلالة.