بدايات الكتابة وتطورها في الرافدين:
إن الكتابة التي هي إنجاز من أعظم منجزات الفكر البشري، إن لم يكن أعظمها جميعاً، مرت بعدة أطوار، طور يُعرّف حالياً باسم الطور الممهد للكتابة، وفق نظرية السيدة دنيس شماندت بيسيرا التي ترى أن الأشكال الطينية الصغيرة المستديرة والقرصية والبيضوية والمعينية والاسطوانية الخ..التي يعثر عليها في العديد من المواقع الأثرية في بلاد الرافدين وبلاد الشام وماحولها، والتي تعود لزمن يمتد من أواخر الألف التاسع وحتى الألف الرابع قبل الميلاد، هي نوع من الكتابة تدل على منتجاتٍ ومواشٍ وأرقام كانت قد اصطلحت عليها المجتمعات البدائية المستقرة، في عمليات التبادل (شماندت بيسيرا1992) وكان الطور التالي هو طور الكتابة التصويرية التي وضعها السومريون في الرافدين في نهايات الألف الرابع قبل الميلاد. وذلك في حدود ما نعرف حتى الآن.
لن نقف عند مسألة أصل السومريين في هذا البحث... ولكن نقول باختصار إن اللغة السومرية هي من فصيلة اللغات الأورالية-الألطائية(وتسمى الأسبانية أيضاً). وهي من فئة اللغات الملصقة أو المدغمة، تقوم على جذر فعلي لا يتغير، يدخل كجزء ثابت في تركيب الأفعال. وتصرَّف هذه الأفعال بإضافة مقاطع ملصقة قبل ذلك الجذر أو بعده أو قبله وبعده معاً. لدينا مثلاً الجذر الفعلي LAL(1) الذي يعني فعل الدفع أو الوزن. ويكون التصريف على الشكل التالي:
دَفَعَ = EN-LAL ، (أي دفع الثمن).
دَفَعه = EN - NA- LAL
دَفَعَوا= EN - LAL- ENE
ويُشكّل كثير من المفردات أيضاً بإدماج كلمتين مثلاً LU-GAL = الرجل العظيم (أي الملك)،
وة-GAL = البيت العظيم (أي القصر). وكثير منها أيضاً من مقطع واحد. مثلاً Ki = أرض LU = رجل، SU = يد.
كتب السومريون لغتهم هذه بالرسوم. وكانت تلك الرسوم تدل على الأشكال التي تمثلها فحسب. ثم اهتدوا إلىاستعمال هذه الأشكال للتعبير عن بعض المعاني والأفكار أيضاً. فصورة القدم أخذت معنى السيْر ومايتعلق به. وغدت صورة الشمس تدل على الضوء والحرارة. وبهذا الشكل أصبحت طريقة الكتابة السومرية صُوريّة ورمزية معاً. ثم احتاجوا للتعبير بشكل أكثر دقة عن الأفكار والعواطف والمعاني الأخلاقية والألوان، فاستخدموا الأشكال المرسومة كمقاطع لفظية وفي الوقت نفسه ظل لتلك الأشكال قِيمٌ رمزية حيناً وقيمٌ صوتية حيناً آخر. وفي ذلك صعوبة بالغة في الكتابة والقراءة معاً.
تطورت العلامات التصويرية نفسها أول الأمر إلى رسوم خطية مبسَّطة ومختزلة. ثم آلت إلى علامات تبتعد عن الأصل كثيراً تُنفّذ على الطين الطري، بريشةٍ أو بقلم معدني فتعطي أشكالاً كالمسامير المجمَّعة، سمّيت لدي الرافدين أنفسهم باسم «تيكيف سانتاكي» (أي خربشة الأسافين). وعُرفت في دوائر المختصين الأوروبيين منذ القرن الثامن عشر باسم الكتابة المسمارية أو الإسفينية «CUNEIFORM» نسبة لكلمة «CUNEUS» اللاتينية التي تعني المسمار أو الإسفين.
بدايات العمل المعجمي:
منذ طور الكتابة التصويرية المبكر، في الرافدين، نشأت الحاجة إلى إيضاح تلك الصور المرسومة والمقصود منها، الأمر الذي أوجد نوعاً من النشاط المعجمي يهدف إلى شرح المفردات المصوّرة للكتبة وللطلبة وللمعنيين بشكل عام. وأقدم المعروف من هذا النشاط المعجمي يرجع إلى زمن يعود لنحو 2800 قبل الميلاد، وقد كان ذلك علي شكل قوائم تضم العلامات التصويرية مجموعة على أساس شكلها أو معناها. كانت تلك القوائم مخصصة. كما ذكرنا، لمساعدة الكتبة في معرفة المجموعة الضخمة من العلامات التصويرية التي كان عددها في ذلك الحين يصل إلى أكثر من ألفي علامة (بوتيرو، ج1973، ص 41).
ومع تطور الكتابة التصويرية إلى الكتابة المقطعية التي اختزلت الصُور أو حوّرتها، وبسبب استخدام الأقلام المسمارية الرأس على الطين، وانقلاب العلامات التصويرية تسعين درجة إلى اليسار(2)، أخذت تلك العلامات تبتعد عن الأصل ويستعصي بعضها على الإدراك، ومع تعقد حاجات المجتمع الرافدي في نطاق المعبد ومن ثم في نطاق القصر، اللذين أصبحا مشروعين اقتصاديين كبيرين، تطورت الكتابة باغتنائها بمفردات جديدة ومرادفات ومقتبسات ومشتركات لفظية وغدت السيطرة عليها مركباً صعباً، الأمر الذي تطلب مزيداً من المجهود المعجمي الذي نضج في ظل السيادة الأكادية على الرافدين، في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. ونشأ عنه قيام نوع من المدارس للكتبة تعلم الأكادية مع السومرية وتضم مجموعات من النصوص في اللغتين تحفظ في خزائن خاصة تعرف بسام ة DUB (أي بيت الرُقُم).
تطور المعجمية الأكادية- البابلية- الآشورية:
في الزمن الذي ذكرناه سادت اللغة الأكادية، لا في الرافدين فحسب، بل في آسيا الغربية كلها تقريباً، واعُتبر ملوك أكاد مصلحي الكتابة الرافدية، وغدت الأكادية في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد اللغة الدبلوماسية(آميية، 1982، المقدمة)، وانكمشت اللغة السومرية في العبادات وبعض العلوم. ماتت كلغة محليَّة وغدت كاللاتينية في العصور الوسطى. وفي هذه الحال نمت طبقة هامة من الكَتَبَة الديوانيين في الإدارات الرسمية والمراكز الدينية تُحسِن الأكادية وتستخدمها بديلاً من السومرية. لكن على الرغم من زوال السومرية كلغة كلام بقيت العلامات السومرية مستخدمة لكتابة اللغة الأكادية نفسها. والمقطع السومري أخذ يُلفظ بالأكادية، فالعلامة التي تدل على الملك تُقرأ LUGAL في السومرية ولكن الأكادي أو البابلي يلفُظها en أو Sar. ونتج من ذلك الحاجة لوضع إثبات بما يقابل المقاطع أو المفردات السومرية من المفردات الأكادية. وتعددت الأثبْات بتعدد الدواوين وانتشار اللغة الأكادية في المناطق المحيطة بالرافدين، حتى قبل فتوح سرجون الأكادي وإنشائه امبراطوريته الواسعة في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد(3). والأمر واضح في نصوص إبلا وتل بيدر في سورية(4). وقد خلّف عصر مملكة أور الثالثة (السومري الجديد)، في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وثائق اقتصادية تدل على بقاء الاتصالات التجارية بين الرافدين وسورية. ومن دلائل ذلك العثور على نموذج معجم مفردات من مدينة أور في مدينة جبيل (كلنغل 1998 ص 33-34).
تتضمن المعجمية الأكادية، فضلاً عن ترجمة المفردات والأفعال، البحث عن دلالاتها ودرجها في مجموعات ميسَّرة استخدمها الإبليون (نسبة لمدينة إبلا) والأموريون (البابليون) والكنعانيون في أوغاريت وغيرها، وكذلك الآشوريون والكلدانيون والحثيون والحوريون.
كانت هذه المؤلفات المعجمية تضم أحياناً آلاف السطور. وهي بمثابة موسوعة تضم أحياناً أكثر من عشرين رقيماً كبيراً. ومفرداتها تشمل تقريباً كل العالم المعروف آنئذٍ، وكل ما يشتمل عليه. فثمة قوائم بأسماء الحيوانات والنباتات من أهلية وبرية وأنواع الشجر والخشب والقصب والفخار والأواني الفخارية والجلد والأشياء الجلدية والمعادن وأجزاء الجسم الإنساني والنجوم والأرباب (بوتيرو 1973 ص42). وثمة معاجم لغوية فقط، ومعاجم بلغتين أو بعدة لغات، ومجموعات حكم وأمثال. ويذكر أن في وثائق مكتبة أشور بانيبال الشهيرة في مدينة نينوى مايدل على أن علماء النبات الآشوريين قد صنفوا النبات تصنيفاً علمياً (حشائش وقصبيات وقرعيات الخ والمفردات النباتية تُنيف على ثلاثمئة.
إن المدن الرافدية التي وقع فيها المنقبون الأثريون على رقمٍ من طبيعة معجمية هي كثيرة العدد، ومن أكثرها أهمية «نيبور» (نُفَّر)(5) و«سيبار» (أبو حبة)(6) و«شادويم» (تل الحرمل)(7) ومن ثم «شور وياك» (فارة)(8). وأبو صلابيخ(9). وتأتي في مقدمة تلك المواقع نينوي (بجوار الموصل) التي جمع فيها الملك الأشوري آشور بانيبال (668-626 ق.م)، في مكتبة عظمي، نحو ثلاثين ألف رقيم تضم معظم التراث العلمي والثقافي في الرافدين وفي مختلف الأغراض وفي مقدمتها الأثْبات التاريخية. وقد خلّف الرافديون أثباتاً بأسماء ملوكهم لكن الآشوريين ابتدعوا في هذا المجال نوعاً من المعجم التاريخي مؤلف من حقلين. يُذكر في الحقل الأول منه اسم الملك البابلي وفي الحقل الثاني اسم الملك الآشوري المعاصر له. نجد مثلاً أن الملك البابلي "نبوكدوري أوصر" (أي بختنصر الأول) يعاصره ملوك آشوريون ثلاثة هم: "ننورتا-توكلتي-أشور" و"موتكل- نسكو" و"أشور- ريش- إيشي" (باقر 1955 ص 322)، ويذكر المؤلف المذكور أن الرافديفن "ألفوا في الجغرافية أثباتاً... مطولة بأسماء البلدان والمدن والأنهار في العراق وفي الأقطار المجاورة. وقد جاءتنا من هذه الأثبات نماذج مهمة من الزمن البالي القديم، فمن ذلك ثبتٌ جغرافي مطوَّل وجد في تنقيبات مديرية الآثار العراقية في تل حرمل. ووصلت إلينا نماذج من هذه المؤلفات الجغرافية من الزمن الآشوري المتأخر، وكذلك من العهد البابلي الأخير، وفيها إضافات بأسماء المعابد وتفسير أسماء بعض الأقاليم والمدن. وهي مدونة بالسومرية وباللغة البابلية."(باقر 1955 ص 327).
إبلا (تل مرديخ) والوثائق المعجمية:
لا أرانا بحاجة للتعريف بإبلا مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فقد غدت المراجع والدراسات المفصَّلة عنها تعد بالمئات، وقد أدرجها جميعاً مدير البعثة الإيطالية مياولو مايتيه في خاتمة مقال يعرض فيه عشرين عاماً من أعمال التنقيب (1977-1996) ونتائجها الجديدة (مايتيه، 1997، ص 12-15) وفي اللغة العربية صدر الكثير عنها، بين مطبوع ومسموع. وشاركْنا بدورنا في التعريف بهذا الكشف الخارق للعادة في أكثر من مناسبة (البُنّي 1981 ص 22-35 وكذلك البُنِّي 1984، ص 9-17). ولكن على سبيل التذكرة نقول إن رُقُم إبلا التي تجاوزت، بين كاملة وناقصة، مايُنيف على ستة عشر ألف رقيم محرَّر بالمسمارية السومرية، بأجمل مايكون الشكل الهندسي لهذه الكتابة. أما اللغة التي كتبت بالعلامات السومرية. فهي لهجة قديمة قريبة من الأكادية في رأي البعض، ومن الكنعانية في رأي البعثة. ولكن إدمون سولبرجه، عضو اللجنة الدولية التي شكلتها سورية لدراسة رُقم إبلا يميل لتسميتها أكادية غربية (سولبرجيه، 1986-ص1). ومع ذلك يقال الآن إنها لهجة إبلية دون زيادة ولانقصان، وكل هذه اللهجات هي في الواقع عربية قديمة.
ومحفوظات إبلا متعددة الأغراض وفيها وثائق معجمية متميزة. ويقول مدير بعثة إبلا في هذا الصدد إن في إبلا قليلاً من النصوص الأدبية والأساطير والأناشيد الدينية، وأكثر منها النصوص المعجمية. والعديد من هذه النصوص هو عبارةعن قوائم تضم كلمات سومرية. لكن في بعضها شروح باللغة الإبلية(ماتييه 1978ص25).
إن كل النصوص المعجمية في إبلا وُجدت في النقطة الطبوغرافية (L.2764) وهي موضع صغير تحت الرواق في باحة القصر (G) أو (ساحة المدينة)(10). وهو مكان المحفوظات الملكية في المدينة. والنصوص المعجمية السومرية ذات اللغة الواحدة وردت على 47 رقيماً جيدة الحفظ إجمالاً و206 أجزاء رُقُم. والمجموع يعادل ما عُثر عليه في موقع "فارة" في العراق (مدينة شوروباك) وتلك الرُقُم مشابهة لأمثالها في الموقع المذكور وكذلك في موقع "أبو صلابيخ" (آركي 1980 ص82). وكلا الموقعين مر ذكرهما من قبل هذه الدراسة. هذا ويبلغ عدد النصوص المعجمية التي تشمل لغتين 32 كاملة و91 جزءاً وبعض الشظايا. وبعضُ الرُقُم المعجمية يصل حجمه إلى 24 × 26 سم ويحمل على الوجه عشرة أعمدة ومثلها من الجهة الخلفية وترتيب الكلمات السومرية يتبع الأشكال المتشابهة (آركي 1980 ص 82). كما في الشكل التالي:
ويرى الأستاذ آركي أن هذا الترتيب غير معروف في موقعي "فارة" و"أبو صلابيخ". ولكن ثمة نصوص معجمية في إبلا تسير وفق النسق المعروف في ذينك الموقعين. ومن ذلك قوائم بأسماء المهن والطيور والأسماك وقوائم مفردات وأثبات جغرافية مماثلة لما يقابلها في موقع "أبو صلابيخ" (أركي 1980 ص 83).
أضافت إبلا لهذه السلاسل المعجمية التي كانت معروفة في التقاليد الرافدية أثباتاً بما يقابلها في اللغة الإبلية فكانت الشروح المذكورة تكتب في المربع التالي أو في المربع نفسه وفي عدد كثير من النصوص كان الشروح في زاوية المربع(1).
وفي صدد المعاجم الجغرافية في إبلا يرى الفونسو آركي، عضو اللجنة الدولية لدراسة نصوص إبلا (آركي 1980 ص1 ومابعدها)، النظر إليها على مستويات أربعة نلخصها فيما يلي:
1-المستوى الأول: يشمل أسماء المدن في منطقة سومر (جنوب الرافدين) أو البلاد الأجنبية ذات الصلة بسومر. وقد انتقلت هذه الأسماء إلى إبلا عن طريق القوائم المعجمية السومرية. ومن هذا القبيل الرقيم (TM. 75. 1521) الذي نجد عليه أسماء ثلاث عشر مدينة من مدن منطقة سومر وما حولها، مرتبة وفق النسق التالي: لاغاش، نيبرو(أي نيبور)، أداب، شوروياك، أُمّا، عيلام، دِلمون، غرسو.
2- المستوى الثاني: يضم أسماء أمكنة في قائمة معجمية أخرى برقم (TM.75.6223) تماثل ماوجد في موقع أبو صلابيخ في العراق. وفيها أسماء مدن منتشرة من وسط ذلك القطر إلى الساحل السوري وبينها أوغاريت وأرواد ويبلغ مجموع الأسماء فيها مائتين وتسعة وثمانين.
3- المستوى الثالث: مدن لها علاقة سياسية واقتصادية مع مملكة إبلا.
4- المستوى الرابع: له علاقة بمدن في مملكة إبلا نفسها.
والمستويان الأخيران: ليس لهما، في رأينا، صفة معجمية لأنهما استُقيا من نصوص إدارية ومعاملات اقتصادية مختلفة. ولم يردا في جدول واحد.
أوغاريت مركز نشاط معجمي متميز:
في هذا القسم الأخير من بحثنا سنعرض للنشاط المعجمي في أوغاريت/ رأس الشمرة بصفتها المدينة السورية الأكثر نشاطاً وتألقاً في الميدان الثقافي وفي مجال الانفتاح الفكري، في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، والتي سهلت العلاقات الدولية على جميع الأصعدة عن طريق إنجازها الأعظم، ألا وهو وضع الأبجدية التي يدين العالم كله بها لأوغاريت.
لنرجع إلى المرحوم جبرائيل سعادة في مؤلفه المعروف عن أوغاريت. إذ يحدثنا باستفاضة عن أهمية الموروث المكتوب في أوغاريت وعن المكتبات والمحفوظات المكتشفة فيها فنقبس منه بإيجاز بعض المذكور من الوثائق المعجمية. ومن ذلك العثور في "الأرشيف الجنوبي" من القصر الملكي على رقيم أُدرجت عليه الأبجدية الأوغاريتية. وأمام كل حرف أوغاريتي العلامة المقطعية الآكادية التي تقابله لفظياً. وفي محفوظات بيت "رب آنو" (أو رف آنو) وُجد رقيم ضخم منقوش بخمسمائة سطر موزعة على ثمانية أعمدة. هذا الرقيم الضخم هو جزء من موسوعة متعددة الأغراض تجمع أسماء الأسماك والطيور والنباتات والمعادن والأنسجة والألبسة. ويضاف لهذا الثتبت الموسوعي رُقُمُ متعددة اللغات تضع الكلمات الأوغاريتية وما يقابلها في الآكادية والسومرية والحورية
(سعادة 1987 ص 183).
ومن محتويات المكتبة المعروفة باسم مكتبة "المثقف" وجد العديد من الوثائق المعجمية وجزء من موسوعة لم تنشر بعد. ومن الطرائف في تلك المكتبة مقاله عن "فن الكتابة" ومنها نسخة أكادية وأخرى سومرية. وقد حرر النص بشكل "استرحام"، لربٍ غير معروف، لمصلحة تلميذ يدرس مهنة الكاتب. ويقول القسم الباقي من النص:
إلى الملك الرباني قل: هكذا يتكلم لوغا لبيلا كاهنك المولَّج بالتطهير. في مقامك السامي لاتكن غير مبالٍ... لا تنظر باللامبالاة إلى التلميذ الصغير الجالس أمامك. اكشف له عن كل سر في فن الكتابة... بيِّن له الكتابة السرية. لقد زُوِّد هذا التلميذ الصغير بالقصبة المبريَّة والجلد وبالشحم والطين الطري... لا تهمل إذن أي شيء له مساس بفن الكتابة (سعادة 1978 ص 184).
ووفق أحدث الإحصاءات التي يقوم بها السيدان بوردرويْ وباردي(12)، حول الموروث الكتابي في أوغاريت، وذلك في مقر المتحف الوطني وبمساعدة أمناء المتحف المذكور، وجدت في أوغاريت حتى 1997 كتابات بتسع لغات ومن ثَم بتسع طرائق كتابية: أوغاريتية، أكادية، سومرية، حورية، هيروغليفية مصرية وهيروغليفية حثية ومقطعية حثية، وقبرصية مينوية وكذلك نص كنعاني متأخر (فينيقي). وعدا بعض الكتابات المصرية والنص الكنعاني المتأخر، فإن معظم الكتابات هي من نحو 1400 قبل الميلاد وحتى 1186 ق.م تاريخ سقوط مدينة أوغاريت على يد شعوب البحر. وفي ما يخص اللغة الحثية ثمة رقيم واحد محرر بالحثية ونص أدبي ثلاثي اللغات (سومرية- أكادية- حثية). ووجد نص يتضمن أمثالاً وعِظات بالأكادية والحثية. وفي مايتعلق بالكتابة التصويرية الحثية (أي الهيروغليفية الحثية)، ليس هناك سوى بعض الأختام المنقوشة بتلك اللغة.وأخيراً هناك قائمة مفردات فيها أربعة أعمدة متقابلة بالترتيب التالي: سومرية أكادية حورية وأوغاريتية (ياردي 1997 ص 264) وما عدا ذلك من آلاف النصوص فإنها محررة بالأوغاريتية وتليها الأكادية.
إن التفاسير الكنعانية الأوغاريتية للنصوص الأكادية - البابلية في أوغاريت، وكذلك المعاجم المتعددة اللغات التي تضم عموداً باللغة الأوغاريتية، تهيء فرصة فريدة في تهجية الكلمات الأوغاريتية وتجويدها وتفسير العاملين لها في حقل الدراسات اللغوية الأوغاريتية، وكذلك في الدراسات المقارنة بين الكنعانية الأوغاريتية وشقيقتها العربية. ومن حيث تأثر اللغة الأوغاريتية بشقيقتها الأكادية البابلية يقول دومور إن النصوص الأكادية (البابلية) في أوغاريت دلّت على فائدة جمَّة للباحثين. فإذا جمعت المفردات التي توجد في مجال دلالي واحد، في النصوص الأبجدية الأوغاريتية والنصوص المقطعية الأكادية، يتضح أن الكتّاب في أوغاريت استخدموا صيغاً واحدة في مجالات المجاملات وأسماء المهن والمؤسسات الاجتماعية والأدوات والمعدات والمنتجات والإجراءات القانونية الخ... وفي مثل تلك الحالات يمكن أن يسهل الأكادية تحديد معنى الكلمات الأوغاريتية (دومور 1973 ص 101).
ونود أخيراً أن نعطي فكرة أولية عن النصوص المعجمية التي عثرنا عليها خلال أعمال التنقيب السورية الفرنسية المشتركة في رأس ابن هانئ، الذي شُيِّدت عليه مدينة أوغاريت الجديدة، نحو منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد (البني ولاغارس 1998).
كانت دراسة النصوص المحررة بالمسمارية المقطعية (الأكادية البابلية) منوطة بعضو بعثتنا م.د.كينيدي، الذي ذكر في تقريره أن تلك النصوص، على قلتها النسبية، تمتاز بالتنوع. وبينها نصوص معجمية منها النص الذي يحمل الرقم (هاني 77/9) وهو محرر بالسومرية والأكادية البابلية ويشابه نصاً مماثلاً اكتشف في أوغاريت. ومضمونه ثبْتٌ بالخشب وأنواعه ويشبه المعروف في العراق. وثمة نص برقم (هاني 77/24) عليه أربعة أعمدة محرَّرة باللغة السومرية، اثنان منهما يُكمِلان المعروف في أوغاريت. وهو يشتمل على أسماء جغرافية على الأرض وأسماء جغرافية في السماء (أي الكواكب) وعدد تلك الكواكب يزيد على المعروف في نصوص العراق (لاغارس 1978 ص 57).
ومن النصوص المعجمية النص الذي يحمل الرقم (هاني 78/13+ هاني 77/3) وهو بستة أعمدة. ولابد لاستكمال الصورة من ذكر النص رقمَ (هاني 77/5) الذي هو جزء من جدول تهجية نموذجي يُعرف بالمقطع Sa. وهذا الجزء يعطي المقاطع السومرية من رقم 11(BU) إلى رقم 27(ZI). وتكمن أهمية هذه النسخة في أن الجدول السومري فيها أمامه جدول آخر بما يقابله في الأكادية- البابلية.وثمة جدول ثالث باللغة الأوغاريتية. وذلك يماثل جزئياً الرقيم (رأس الشمرة 20/149). (13) كما يشابه نصاً آخر غير منشور من أوغاريت أيضاً (البُنِّي 1979 ص 290شكل11).
ليس ماقدمناه سوى مدخل إلى موضوع المعجمية القديمة وعينات من عدد محدود من مواقعنا الحضارية تهدف لإثارة الاهتمام ولا تدَّعي إيفاء الموضوع حقه أو بعض حقه. ونأمل من القارئ الكريم أن يتعامل مع هذا الجهد المُقِل في حدود ماذكرنا.