الفهرس
أولا: حول الشكل
1- في جانب اللغة
2- في موسيقا الشعر
2-1: في جانب الإيقاع
2-2: في جانب القافية
ثانيا: حول المضمون
1- الغياب الدلالي
2- التشتت الدلالي
أما بعد:
يستهدف هذا المقال وضع جانب من تجربة علي أحمد سعيد أدونيس الشعرية تحت سؤال المراجعة النقدية، ضمن مقاربة اقترحت الاقتراب من تلك التجربة في شقها المفهومي والشكلي والمضموني. وفي سياق ذلك قدمتُ ضمن المقالة الأولى مقاربة نقدية للجانب المفهومي والمصطلحي. وضمن هذا المقال سنتناول جانب الشكل والمضمون. وآمل في خاتمة هذه الأسطر أن تخلو هذه المحاولة من الشطط في إدراك ومراجعة حداثة ملأت الدنيا وشغلت النقاد، لأن الفهم الموضوعي لذلك لا يمكن أن يتم فعلا دون تحقق تراكم معرفي ومنهجي كفيل بإنضاج دراسة متبصرة بطبيعة التجربة الأدونيسية. وهذا التراكم نراه شرطا أوليا وأساسيا لإضاءة هذا الموضوع وتفكيك معضلاته.
أولا: حول الشكل
تخلت التجربة الشعرية الحداثية في توسلها بالوسائل الشكلية عن أساسيات وجماليات القصيدة العربية الأصيلة. لا لشيء إلا لأن الشاعر الحداثي لا يقبل حياة أي شاعر آخر مهما بلغت هذه الحياة من العظمة أو النضج. "ومن يحيا الحياة لا يسقط أسير أي شكل نهائي" [1]. ثم إنه "لا يقبل الارتياح إلى أدوات جاهزة" [2].
في ضوء ذلك تبدو مساءلة الحداثة الشعرية الأدونيسية في جانبها الشكلي من صميم الوقوف على ذلك التحول. وهو أمر يحتاج منا إلى دراسة أطول مما يناسب صفحات هذا المقال. لكن نحسب أن وقفة قصيرة مع جوانب اللغة والإيقاع والقافية لديه، تكفي في تقديرنا للتدليل على ذلك.
1- في جانب اللغة
دأب أدونيس على مفاجأة المتلقي بإقامة ارتباط غير منتظر بين الكلمات التي يبني بها عباراته وجمله، كما أن الكلمة لديه "هي غيرها في معجم العادة، لقد تغيرت دلالاتها، وتغير الإطار والتركيب اللذان تندمج فيهما" [3].
وللوقوف على ذلك نأخذ مثالا من شعر أدونيس من خلال المقطع التالي:[4]
ونَادِرُ الأسْود
كانَ الصَّدى وكانَ
يجلس بين القمر الجائع والبستان
يكتشف الظل، يغطي جوعَه وكانَ
كالدهر فلاحا من الفُرات
يخيط جرحَ الماء
يمشي وتمشي خلفه السَّماء
هكذا تبدو الصلة بين مفردات لا صلة بينها في السياق كالصدى، والقمر الجائع، والدهر، والفلاح، وجرح الماء، والسماء، والظل.. وتبدو تبعا لذلك ثورة أدونيس على المنطق العادي لمفهوم الكلمات في هذا السياق، لتدل على أشياء غير موجودة في واقع الأمر على الإطلاق.
لقد نقل أدونيس اللغة من وظيفتها في التوصيل والإفهام إلى وظيفة تركيبية خارج حدود المجاز. فإذا كان البلاغيون قد عرفوا الظاهرة المجازية بأنها: "استعمال للكلمة في غير ما وضعت له للمبالغة والاتساع" ، فإن أدونيس قد تجاوز ذلك الحد إلى صور متمنعة عن حدود المجاز وسياجه.
وبناء على خيار أدونيس في "التجاوز" –كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المقالة الأولى- يذهب في نطاق هذا المفهوم إلى حد التحطيم والتدمير من خلال دعوته، إلى تخطي المعاني الأصيلة للألفاظ العربية "بتحريرها من معانيها، وغسلها وتطهيرها من طلاء التراث" [5]. وفي هذا الصدد يصبح الشعر لديه "ثورة مستمرة على اللغة" [6] و"تصبح اللغة غابة شاسعة، كثيفة الإيقاع والتوهج والإيحاء لا حد لأبعادها، فتفرغ الكلمات من معانيها الموضوعة سابقا في المعاجم أو على الألسنة" [7].
هكذا يصبح الشعر، وفق هذا المصطلح، مجالا لتفلت الكلمة من معانيها وقواعدها الأصيلة، ولتتحول فيه إلى مقاطع صوتية غامضة تزيد من إبهام المضمون وتشتته.
2- في موسيقا الشعر
2-1: في جانب الإيقاع
تخلت القصيدة الأدونيسية -شأن القصيدة الحديثة- عن "البحر العروضي، ذي الشكل الهندسي الثابث المصحوب عادة بروي واحد يتكرر في نهاية كل بيت، ففقدت بذلك نمطا موسيقيا مرسوما باتقان" [8] وقد كان لهذا النمط ولا يزال من المعيارية ما يحمي الشاعر من الزلل في إيقاع القصيدة، وهو (أي النمط) على عراقته وتمكنه من ذائقة الجمهور "يمنح الشاعر راحة تامة في موضوع موسيقية الشعر" [9] وبذلك برحت القصيدة الحديثة "عهد عروض القصيدة" [10]. إذ أصبحت لكل قصيدة عروضها الخاص، الشيء الذي فتَّتَ الوحدة الموسيقية الأصيلة التي تمثلت في البيت الشعري، ذي الشطرين المتساويين تفتيتا أربك الدارسين والنقاد بأن وُضعوا أمام مسالة اصطلاحية تتعلق بتسمية ما يقابل البيت في الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة، ما بين لفظة السطر (نازك الملائكة)، والبيت (محمد النويهي)، والسطر الشعري (عز الدين إسماعيل)..
2-2: في جانب القافية
وُجد الشعر في الأصل للتغني لما فيه من نبرات موسيقية متكررة، وما هذه النبرات إلا القوافي التي تتردد عبر الأبيات. لذا فوجودها في القصيدة شيء ضروري لوجود شعر دقيق في تكوينه الموسيقي. وفي هذا الصدد يعتبر صفاء خلوصي "الشعر العربي أدق أشعار الدنيا من حيث الروعة الموسيقية لما يلتزمه الشاعر من قواعد في أجزاء القافية فضلا عن تفاعيل البحر الذي يُنظم فيه، وهو ما لا نجده في كثير من اللغات" [11].
ولما كانت حركة الشعر الحداثي قد جعلت أول أهدافها تفتيت موسيقية الشعر القديم، كان لابد أن ينال هذا التفتيت نظام القافية باعتباره جزءا من ذلك البناء الموسيقي العام. وارتباطا بموضوع الحداثة الأدونيسية يمكن تسجيل انتهاء دور القافية مع أدونيس بوصفها ضوءا أحمرَ أو علامة وقوف إجبارية، بل "أصبحت محطة وقوف اختيارية تتنفس فيها حركة مشاعر الشاعر، وأفكاره قبل أن تستأنف رحلتها" [12].
تلك بعض قسمات الشكل الشعري لأدونيس، وقبل تبين ملامح المضمون لديه، نختم هاهنا بملاحظتين لباحثين متميزيين:
أولهما: نسجل مع الباحث أحمد المعداوي المجاطي، أن أدونيس ليس حجة في موضوع حركة تجديد موسيقا الشعر، لأنه في رأيه لم يترك بابا من أبواب الخرق العروصي إلا طرقه.[13] نلفت الانتباه إلى هذا خاصة في ظل الحماس الشديد لدور أدونيس في إحداث ثورة إيقاعية شاملة ومتميزة. يلتقي في هذا الحماس كل من محمد بنيس وكمال خير بك، وزوجة الرجل خالدة سعيد.
ثانيهما: ونسجلها مع الناقد كاظم جهاد، وتتعلق بوسمه لشعر أدونيس بخاصية "اللعب الشكلي أو الخطي الذي لا يضيف شيئا إلى التجديدات المحققة على أيدي الدادائيين، وأبو لونير لطبوغرافية القصيدة، بل إنه لا يقصر عنها أولا، ولا تجد له تبريرا داخليا في طبيعة تجربته الشعرية ثانيا. والأنموذج الفاضح يتمثل هنا في (مفرد بصيغة الجمع) حيث يستعير الشاعر رموز الرياضيات والهندسة: (أنا = أنا. طعام لا يدخل المعدة / لا يعود إلى الفم. يبقى بين الحلقوم (« ») والمعدة) إلخ.. من هذا أيضا لجوءه إلى التعداد الحسابي، كما في (قبرص من أجل نيويورك): 1- في تلك الناحية حفلة جاز. 2- في هذا البيت شخص لا يملك غير الحبر. 3- في هذه الشجرة عصفور يغني." [14]، وغير هذا كثير.
ثانيا: حول المضمون
رافق التحول الشكلي للقصيدة الحديثة، تحولا جذريا في مضمونها، ودلالاتها، متجاوزة في ذلك اقتفاء آثار الأقدمين في المعاني والأفكار. وللوقوف على بعض القسمات في ذلك ترسم هذه الفقرة صورة لأبرز ملامح الدلالة والمضمون لدى شاعر القصيدة الحداثية علي أحمد سعيد أدونيس، من خلال بعض ملاحظات النقد الأدبي ومراجعاته. ومن أجل ذلك تبدو لنا إثارة النقطتين التاليتين بوصفهما مدخلين أساسيين لقراءة أعمال أدونيس، وانفتاح إنجازاته النظرية والتطبيقية من ناحية الدلالة.
1- الغياب الدلالي
تغيب المضامين والدلالات غيابا كاملا في كثير من شعر الحداثة العربية المعاصرة، ومن مظاهر ذلك: "غياب الموضوع فلا يعرف المتلقي عما يتحدث الشاعر، ولا فكرته الرئيسية. ولا يبقى أمامه (أي المتلقي) سوى الاجتهاد في تأول المعنى وفق آليات منهجية أو غير منهجية إلى درجة لم تعد القصيدة كما ذهب أحد النقاد تنطلق من موضوع ما، بل صارت تنطلق من حالة ما، أو حالات ما مركبة، تكون الحالة النفسية والثقافية. وكل كيان، أو معاناة يعانيها الشاعر أشبه بحالة من البخار المكثف الحار جدا، الساخن، كأنه بخار الروح لاتصاله بينابيع المعاناة والتجربة وصدقها" [15]. وفي السياق ذاته يقول مالارميه: "تسمية الموضوع تحطيم ثلاثة أرباع الاستمتاع بالقصيدة" [16].
ولعل أدونيس في سعييه الحثيث نحو الحداثة الشعرية يعي جيدا هذا الفراغ في نصه، ويطمئن إليه في شعره إذ يقول:[17]
قيَّدت سفني، بالرياح
وفوضت أمري إلى الموج
افتح يديك، أيها المعنى، وانظر
ما أفرغهما
ما أحن هذا الفراغ.
فالمعنى لدى أدونيس فارغ من المعنى، كأن اللامعنى هو المعنى وهو الأساس وهو الملجأ العطوف. وتلك خاصية ذهبت بأحد الدارسين إلى حد القول بأنه: "في شعر أدونيس إجمالا محو للموضوعات" [18]. الأمر الذي يذكرنا بما كتبه فلوبير: "إن ما يبدو جميلا بالنسبة لي، ما أريد كتابته، هو كتاب عن لا شئ، كتاب لا يعتمد على شئ، تتماسك أجزاؤه بقوة أسلوبه تماما كالأرض وهي محلقة في الفراغ لا تعتمد على شيء خارجي لدعمها، كتاب لا يكون له موضوع تقريبا، أو على الأقل يكاد الموضوع فيه يكون غير مرئي" [19] ولنقرأ لأدونيس مثلا هذا المقطع الشعري:[20]
قوس ريحان عريش من حمام
والشبابيك رمت أبوابها
ليد الريح / الحقول
قرية من سعف النخل ومن حبر الفضول.
غضب الرعد ولطف الغيم فيها ربياني
قرية نسهر في سروالها
ويبوح التين والتوت بما تخجل منه الشفتان
في أعالي شجر النخل نمت ذاكرتي
هو ذا السماق نحنيه وهيأنا البقول
ونقول التابل الطيب لن ينقصنا هذه العشية
هو ذا ليحتضن النسرينَ طفل
كي يرد الورد للورد التحية
في أعالي شجر النخل نمت ذاكرتي
إنه النرجس يأتي حافيا
ما الذي يشغله
والرفيق يعطيني ذراعيه وأعطيه قميصي
وتغطينا يدا زيتونة
لي في دفتري الأخضر شباك وفي الأزرق وعد
لي في محفظة الشمس كتاب...
فعن أي موضوع تتحدث هذه المقطوعة "الشعرية"؟ حقا إنه موضوع غائب ليس من المستطاع اسحضاره إلا بالتأويل. ثم إن هذا الأخير غير دائم وغير مستقر، إذ هو متغير، ومتلون بتغير وتلون القراء.
2- التشتت الدلالي
أصبحت القصيدة مع موجة الحداثة، بنية مخلخلة ومتشظية، ومتشذرة بفراغاتها وغياب روابطها "وصار القارئ وفق نظرية التلقي، هو الذي يملأ فراغاتها ويقيم روابطها ويمنحها تماسكها" [21]. كما عبر أحد النقاد (كمال أبو ديب) بأن العمل الإبداعي الحداثي: "يفصح عن إيمان بالوحدة، ولم يعد موحدا أو مجسدا لرؤية توحيدية. بل أصبح متشظيا، متفتتا يشف عن رؤيا تفتيتية" [22].
إن هذا التشتت والتشظي، إنما هو صدى لأفكار الحداثة، ومقولاتها. يقول بودلير: "الحداثة زمن يتفتت" [23].
ولعل أدونيس أبرز شاعر حداثي، يعتبر شعره صدى للتشظي، والتفتت الدلالي. وفي قصائد كثيرة من شعره في أعماله الكاملة ما يجسد تشتت المضمون ولا نهائيتها وتفلتها ومراوغتها عنده. إن هذه الخاصية، فيما، يبدو للباحث عبد الرحمن محمد القعود هي "من ثمرات الهجوم على اليقينية، فمع الشك، وعدم اليقين اللذان يمازجان فكر الحداثة صار العمل الأدبي مخيبا لأمل متلقيه لأنه لا ينتهي معه إلى دلالة ثابتة، أو إجابة يقينية، فقد أفلس اليقين وصار شحاذا في رأي أدونيس."
واليقينُ
الآن
شحَّاد.
[24]
تلك بعض ملامح الدلالة عند السادة الحداثيين في دائرتها المفرغة، وكلامها الأجوف الباحث عن المعنى والمضمون المجهول. فالحداثة موقف وعقلية إنها –حسب أدونيس- قبول بكل مستلزمات الحداثة: المغامرة، واحتضان المجهول.
أما بعد:
فهل يمكن القول بعد أن كثر السجال النقدي على حداثة أدونيس الشعرية عبر العديد من المراجعات، أننا سنشهد نهايةً لهذه التجربة التي ظهرت ضمن سياق ثقافي غابت عنا أهمُّ ملامحه وقسماته؟ أم أن بوادر وإرهاصات هذه النهاية قد بدأت في التلويح من وراء خُشُب الحداثة نفسها وما بعد الحداثة؟ أم أن هذه التجربة لاتزال أو ستبقى في مناقشات واحتفاءات بعض المحافل النخبوية المركونة في عزلة تامة عن الذوق العام للجمهور؟ أم أننا سنشهد ارتدادا لهذه التجربة إلى حيث بدأت(القصيدة العمودية)؟ أسئلة أطرحها في خاتمة هذا المقال على القارئ اللبيب دون الخوض في إثارة إجابات حاسمة بخصوصها. فعوامل التاريخ والذوق العام ومقومات الإبداع وأسسه الجمالية المتينة هي الكفيلة بتحديد الأفق الأدونيسي.