السـؤال:
مسجدٌ يحتاج إلى المالِ منذ سنواتٍ من أجلِ توسعةٍ ضروريّةٍ، ولم يُفْلِحِ القائمون عليه في إقناعِ جمهور المصلّين بالتّبرّعِ لفائدةِ المسجدِ إلا أفرادًا قليلين لم يُغْنُوا شيئًا، فابتكروا وسيلةً لتكثيرِ التّبرّعاتِ وتنظيمِها بإنشاءِ دفترٍ للمتبرّعين حثُّوا النّاسَ على التّسجيلِ فيه، فمن رَضِيَ سجّلوا اسمَه والمبلغَ الذي يلتزم بدفعِه شهريًّا، مع التزامِه بإحضارِ الوثيقةِ الدّالّةِ على دفعِ التّبرّعِ وإنجازِه وَعْدَه من مركزِ البريدِ، وقد كان الإقبالُ عليه حَسَنًا، إلاّ أنّه عارضَ هذه الفكرةَ بعضُ النّاسِ وقالوا: «هذا إجبارٌ غيرُ مَرْضِيٍّ وإفسادٌ للنّيّاتِ، والتّبرّعُ سرًّا أفضلُ، وردَّ أصحابُ فكرةِ الدّفتر بأنّ هذا من بابِ التّعاونِ على البرِّ والتّقوى والحثِّ عليهما، وبأنّه لا ينافي الإعلانُ الإخلاصَ، فماذا تَرَوْنَ حفظكم الله، أفتونا مأجورين؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمسجدُ وقفٌ خيريٌّ، والتّبرُّعُ بالمالِ لعمارتِه قربةٌ مستحَبّةٌ في الإسلامِ بلا خلافٍ، وتدوينُ الدّفعاتِ الماليّةِ للمتبرِّعين في دفاترَ وقوائمَ لضبطِ مداخيلِ الوقفِ ومصاريفِ الإنفاقِ عليه أمرٌ آكدٌ حرصًا على حفظِ أماناتِ المتبرِّعين والتّأكّدِ من تحقيقِ شرطِ الواقفِ، غيرَ أنّ إلزامَ المتبرِّعِ بدفعِ قيمةٍ معلومةٍ شهريًّا -ولو كان الإقبالُ على هذا العملِ مكثَّفًا- إلاّ أنّ الإلزامَ يُنافي حُكْمَ الوقفِ وأحكامَ التّبرُّعاتِ.
لذلك لا يجوز -شرعًا- إلزامُ المتبرِّعِ بدفعِ نصيبٍ مُحَدَّدٍ في زمنٍ معيَّنٍ، وإنّما يُرَغَّب في البذلِ الماليِّ بِحَسَبِ الوُسْعِ والإمكانِ، وله إظهارُ صدقتِه أو إخفاؤُها سواء كانتِ الصّدقةُ فرضًا أو نفلاً، غيرَ أنّ إخفاءَها أفضلُ من إبدائِها لقولِه تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: 271]، ولقولِه تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً﴾ [البقرة: 274]، وهذا بشرطِ أنْ لا يقترنَ الإنفاقُ بالرّياءِ والمنِّ في الصّدقاتِ والعطايَا لقولِه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ﴾ [البقرة: 264]، وفي حديثِ أبي ذرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه عنِ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»(١- أخرجه مسلم (1/60) في «الإيمان» رقم (106)، وأحمدُ في «مسنده» (5/148)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
موقع الشيخ فركوس