السـؤال:
ما حكم أكل الضَّبُعِ؟ وهل هو من الخبائثِ التي تأكل النّجاساتِ والجِيَفَ؟ وجزاكم الله خيرا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأكلُ الضَّبُعِ أحلّه جمهور أهل العلم، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة والظّاهريّة(١- انظر «الأم» للشّافعي: (2/272)، «المحلى» لابن حزم: (7/398)، «فتح الباري» لابن حجر: (9/657)، «الإنصاف» للمرداوي: (10/314).)، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الضَّبُعُ صَيْدٌ فَكُلْهَا، وَفِيهَا كَبْشٌ مُسِنٌّ إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ»(٢- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 183)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (4/ 243).)، وفي روايةٍ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءُ كَبْشٍ مُسِنٍّ وَيُؤْكَلُ»(٣- أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (4/ 183)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 623)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.). ويدلّ على إباحته –أيضًا- حديثُ ابنِ أبي عمّارٍ قال: قُلْتُ لِجَابِرٍ: «الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: «آكُلُهَا؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: «أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»(٤- أخرجه أحمد في «مسنده» (3/ 318)، والترمذي في «الأطعمة» باب ما جاء في أكل الضبع (1791)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (4/ 242).).
هذا، وممن قال بجواز أكل الضّبُع من الصّحابة رضي الله عنهم: عليٌّ وابنُ عُمَرَ وابنُ عبّاسٍ وجابرٌ وأبو هريرةَ وسعدُ بْنُ أبي الوقّاص وأبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ وغيرُهم.
وما ذهب إليه القائلون بالإباحة لا يعارض أدلّةَ الحنفيّة(٥- «شرح معاني الآثار» للطّحاوي: (4/189-191).) القائلين بالتَّحريم، لإمكانِ تخصيصِ عمومِ حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»(٦- أخرجه البخاري في «الذبائح والصيد» (3/ 117) باب أكل كل ذي ناب من السباع، ومسلم في «الصيد والذبائح» (2/ 931) رقم (1932)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.) بحديث جابرِ بْنِ عبدِ الله رضي الله عنهما، فكان التّحريمُ شاملاً لكلّ ذي نابٍ من السّباع باستثناء الضّبُعِ، لأنّ الضّبُع من جنس السّباع خُصَّ جوازُه بالنّصّ.
وأمّا المالكيّة فكرّهوا أكْلَه من غير تحريمٍ(٧- قال مالك: «ولا أحب أكل الضّبُعِ»: [«تهذيب المدوّنة» للبراذعي: (1/248)، انظر: «القوانين الفقهية» لابن جُزَيّ: (170)].) صرفًا إلى الكراهة لوجود الدّليل.
ونفى ابنُ القيّم -رحمه الله- أن يكونَ الضّبُع منَ السّباع العَادِيَةِ، فأخرجها بهذا الاعتبار من عموم التّحريم، قال –رحمه الله-: «وأمّا الضّبُع فإنّما فيها أحدُ الوصفين، وهو كونُها ذاتَ نابٍ، وليست من السّباع العَادِيَةِ، ولا ريبَ أنّ السّباعَ أخصُّ من ذوات الأنياب، والسّبُع إنّما حُرِّمَ لما فيه من القوّة السَّبُعيّة التي تُوَرِّثُ المُغْتَذِيَ بها شَبَهَهَا، فإنّ الغاذيَ شبيهٌ بالمغتذِي، ولا ريبَ أنّ القوّة السَّبُعيّة التي في الذّئبِ والأسدِ والنّمِرِ والفهْد ليست في الضّبُعِ حتى تجبَ التّسويةُ بينهما في التّحريم، ولا تُعَدُّ الضّبُعُ من السّباع لغةً ولا عرفًا»(٨- «إعلام الموقّعين» لابن القيّم: (2/136).).
كما لا يعارضه -من جهة أخرى- حديثُ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الضَّبُعِ، فَقَالَ: «أَوَيَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟!»، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الذِّئْبِ فَقَالَ: «أَوَيَأْكُلُ الذِّئْبَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ؟!»(٩- أخرجه الترمذي في «الأطعمة» باب ما جاء في أكل الضبع (1792) وقال: « هذا حديث ليس إسناده بالقوي».)، لأنّ هذا الحديث فَقَدَ حجيَّتَه للمعارضة والاستدلال بسبب ضعفه، قال الشّوكانيّ –رحمه الله-: «لأنّ في إسناده عبدَ الكريمِ بنَ أُمَيَّةَ، وهو متَّفَقٌ على ضعفه، والرّاوي عنه إسماعيلُ بنُ مُسْلِمٍ، وهو ضعيفٌ»(١٠- «نيل الأوطار» للشّوكانيّ: (10/64).).
والذي يترجّح من الأقوال السّابقة أنّ الضّبُعَ مستثنىً من عموم ذوات الأنياب من السّباع بالنّصّ الخاصّ، أو خارجٌ عن السّباع العَادِيَةِ كما قرّره ابن القيّم –رحمه الله-، ولأنّ الضّبُع معدودٌ من أنواع الصّيد كما دلّ عليه التّصريحُ النّبويّ، وهذا قاضٍ بِعَدِّه من الطّيِّبات لا من الخبائث، وقد وصف الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: 157]، والقولُ بالكراهة لا ينافي الجوازَ والإباحة، وما نقله المناوي عن ابن العربيّ المالكيّ قولَه: «وعجبًا لمن يحرّم الثّعلب وهي تفترس الدّجاجَ، ويبيح الضّبُع وهو يفترس الآدميَّ ويأكله»(١١- «فيض القدير»: (4/258).)، فإنّه قياسٌ فاسد الاعتبار لمقابلته للنّصّ، ولو اعتُبِرَ هذا القياسُ لَلَزِمَ امتناعُ أكْلِ الحِيتَانِ التي تأكل الآدميَّ وغيرَه، فاللاّزم والملزوم باطلان.
وأمّا القولُ بأنّ دليلَ تحريمِ ذواتِ الأنيابِ من السّباع وَرَدَ متأخِّرًا عن الحديث المبيح لأكل الضّبُع فدلّ على أنّه منسوخٌ، فهو غيرُ صحيحٍ لعمومِ الإحرام وجزاءِ ما قَتَلَ منَ الصَّيد بمثله من النَّعَمِ، لاحتمال أن يكونَ متأخِّرًا عن الأوّل، ولأنّ الخاصَّ –من جهةٍ أخرى- يُخصَّص به العموم كما هو مذهبُ جمهورِ الأصوليّين، سواء كان الخاصّ سابقًا على العامّ أو متأخِّرًا، خلافًا للأحناف الذين يرَوْنَ أنّ دلالةَ العامّ قطعيّةٌ، فإنْ وردت بعد دلالة الخاصّ التي هي قطعيّةٌ -أيضًا- فإنّ المتأخِّرَ ينسخُ المتقدِّمَ بعد معرفةِ تاريخَيْهما، ولا شكَّ أنّ مذهبَ الجمهور أولى وأقوى؛ تقديمًا للجمع على النّسخ الاحتماليّ، وإعمالُ كلِّ الأدلّة أولى من إهمالِها أو إهمالِ بعضِها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.