الترجيح : :
الراجح والله أعلم أن قول الصحابي الواحد إذا لم يتنشر لا يكون ملزماً لأمور :
الأمر الأول :أن الله لم يثبت العصمة لغير نبيه وقد أرسل إلينا رسولاص واحد يلزمنا اتباعه ولو جعلنا قول الصحابي حجة وقوله واجب الاتباع لجعلناه كالرسول وهذا لا يصح .
قال ابن بدران في المدخل ( ص 290 ) : ( والذي يظهر أنه الحق مثل هذا ليس بحجة فإن الله لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبيها وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله بغير كتاب الله وسنة نبيه وما يرجع إليهما فقد قال بما لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية ما لم يأمر الله به وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها مما لا بد أن الله عز وجل به ولا يحل لمسلم الركون إليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله لا لغيرهم ولو بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله في حجية قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه حرف واحد )
الأمر الثاني : أن ما استدل به من يرى حجيته لم يستدل بدليل صريح في وجوب الأخذ بقول الصحابي وإنما غالب هذه الأدلة نصوص في بيان فضلهم وعظم قدرهم وهذا لا شك فيه كما سبق .
الأمر الثالث : أن الصحابة رضي الله عنهم بشر ويقع منهم الخطأ والنسيان والغفلة ولا يمكن أن يعلق الله شرعه بمن هذا حاله ولذلك لما أوجب طاعة الرسل عصمهم من الوقوع في الخطأ وجعل الحاكم على البشر وحيه .
الأمر الرابع : ان القول بحجية قول الصحابي قول مضطرب فطائفة ترى قول الجميع حجة وطائفة ترى قول الفقهاء والعلماء منهم حجة وطائفة تخص الخلفاء الأربعة وطائفة تخص ابا بكر وعمر رضي الله عنهما وهذا الاضطراب دليل على أنه ليس هناك دليل واضح جلي يلزم بالأخذ بأقوالهم رضي الله عنهم .
الأمر الخامس : أن الصحابة لم ينكروا على التابعين حينما خالفوهم ولو كان قولهم حجة لأوجبوا على التابعين الأخذ باقوالهم ولحرموا عليهم المخالفة لكن هذا لم يقع بل كانوا يحيلون السائل للمجتهد من التابعين وربما تابعوه على فتياه ورجعوا عن أقوالهم لقوله .
الأمر السادس : أن الصحابة يختلفون في أقوالهم في بعض المسائل فكيف يكون قول كل واحد منهم حجة وهم مختلفون فإن قيل إنهم إذا اختلفوا لم يكن قول الواحد منهم حجة باتفاق قيل كيف يكون الدليل حجة في وقت وليس بحجة في وقت آخر ؟
الأمر السابع : أنا وجدنا الأئمة أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد خالفوا قول الصحابي في مسائل ولم يروا الإلزام بقول الصحابي فيها وقد ذكرنا بعض الأمثلة في ذكر آراء الأئمة فنحن نراهم يأخذون به تارة ويتركونه تارة وهذا يدل على أنه ليس على سبيل الإلزام وقد نقل هذا الشافعي عن اهل العلم فقال : ( ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة ويتركونه أخرى ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم )
الثامن :النظر في أقوال الأئمة الأربعة المذكورة سابقاً :
لو تدبرنا أقوال الئمة الأربعة السابقة لوجدناها تدور حول مسائل :
1 - أنهم يذكرون اقوال الصحابة جميعاً والتخيير بينها ومن ذلك :
- قول أبي حنيفة : ( إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته ، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات عن الثقات ، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم .. )
- قال ابن المبارك سمعت أبا حنيفة يقول : ( إذا جاء عن النبي فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم ، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم )
2 - أنهم أحيانا يقرنون الأخذ بأقوال الصحابة بالأخذ بأقوال التابعين ومعلوم أن أقوال التابعين ليست حجة باتفاق ومن ذلك :
- قال الفضيل بن عياض عن أبي حنيفة : ( كان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه ، و إن كان عن الصحابة والتابعين ، وإلا قاس وأحسن القياس )
بل أحيانا يحتج بفتوى التابعي إذا كان مجتهداً في عصر الصحابة مع أن قوله ليس حجة باتفاق وفي هذا يقول : ( من كان من أئمة التابعين وأفتى في زمن الصحابة وزاحمهم في الفتوى و سوغوا له الاجتهاد ، فأنا أقلده ، مثل شريح ، و الحسن ، ومسروق بن الأجدع ، وعلقمة )
3 - أن الشافعي وبعض الأئمة يرون ضعف الاعتماد على قول الصحابي وحده وانه يحتاج إلى ما يسنده من قياس او غيره ولذلك يقول : ( إلى اتباع قول واحد إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه ُيحكم له بحكمه أو وُجد معه قياس .وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم لا يخالفه غيره من هذا )
4 - أن ما يفعله الأئمة تجاه أقوال الصحابة إنما هو من باب التقليد السائغ لا أنه دليل واجب الاتباع ولذلك نراهم يأخذون بقول صحابي تارة وبقول آخر تارة اخرى وتارة يتركون قول الصحابي ويعارضونه بالقياس ونحوه .
ولذلك يقول الشاطبي في الموافقات (4 / 129 ) : ( فالمراد أنه حجة على انفراد كل واحد منهم أي أن من استند إلى قول أحدهم فمصيب من حيث قلد أحد المجتهدين لا أن كل واحد منهم حجة في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واحد )
ولا شك أن تقليد قول الصحابي عند عدم وجود الدليل هو الأفضل لما علم من حال الصحابة رضي الله عنهم من سعة العلم وقلة التكلف وحضور نزول القرآن وشهود تأويله بين يدي النبي ومعرفتهم بمقاصد الشريعة واللغة إضافة إلى تقواهم وورعهم وخوفهم من الله تعالى .
التاسع : تنبيهات :
الأول : أن الصحابة إذا اختلفوا في مسألة على أقوال فلا يخرج عن أقوالهم ؛ لأن هذا إجماع منهم على أن هذه المسألة لا يوجد فيها غير القوال المذكورة ولأن الخروج عن أقوالهم يلزم منهم أنهم جميعاً لم يصيبوا وهذا باطل ويلزم منه أن تجمع الأمة على خطأ وأن لا يكون هناك قائم لله بالحجة .
وقد اختلف في أي الأقوال يؤخذ :
- فقيل يخير بينها حكاه ابن عبد البر عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وحكي عن أبي حنيفة كما سبق .
- وقيل يؤخذ بأقربها إلى الكتاب والسنة وهو قول أحمد ، وزاد الشافعي الإجماع والقياس .
الثاني : أن الأخذ بقول الخلفاء الأربعة يعتبر أقوى الأقوال في حجية قول الصحابي ، لكنه في الغالب مرتبط بالإجماع السكوتي ؛ لأن قول الواحد منهم يشتهر بين الصحابة غالباً ضرورة كونه خليفة للمسلمين فيظهر عندئذ المخالف فتكون المسألة خلافية بين الصحابة وهي خارجة عن محل النزاع ، أو يكون إجماعاً سكوتياً وهو عندئذٍ حجة كما سبق ، وهو خارج عن محل النزاع أيضاً .
الثالث : أن المراد بقول الخلفاء الأربعة قول كل واحد منهم وهو غير ما يذكر في باب الإجماع أن اتفاق الخلفاء الأربعة هل هو إجماع أولا ؟
العاشر : آراء المذاهب فيما إذا خالف الصحابي الحديث ؟ :
مخالفة الصحابي للحديث لها حالتان :
الحالة الأولى : أن يخالف الحديث كلية وله صور :
الصورة الأولى : أن نقطع بعلمه بالحديث وتحته قسمان :
الأول : أن يظهر سبب المخالفة وفيه قولان :
فهذا يعتمد على سبب المخالفة فإن كان سبب المخالفة وجود دليل مخالف فينظر بين الدليلين بطرق الترجيح ، وإن كان سبب المخالفة نسيان الصحابي أو تورعه فالمقدم ما رواه لا ما رآه .
الثاني : أن يخفى سبب المخالفة وفيه قولان :
1 – أن العبرة بما رواه لا بما رآه وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والرواية الأصح عن أحمد وهي المذهب عند الحنابلة ورجحه أبو يعلى وأبو الخطاب وابن القيم وهو قول ابن حزم ، واختاره الكرخي من الحنفية .
2 – أن العبرة بقول الصحابي فيقدم على روايته وهو قول جمهور الحنفية وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد واختاره الجويني في البرهان .
الصورة الثانية : أن يغلب على الظن علمه بالحديث أو نشك بعلمه به أو يغلب على ظننا عدم علمه به فهذا يقدم فيه الحديث عند الأكثر .
الصورة الثالثة : أن نقطع بعدم علمه بالحديث فهنا يقدم الحديث باتفاق .
الحالة الثانية : أن يخالفه مخالفة جزئية وله صورتان :
الصورة الأولى : أن يخالف عموم الحديث فهنا اختلف هل قول الصحابي يخصص عموم الحديث أولا على قولين :
1 – أنه لا يخصص عموم الحديث ويبقى الحديث على عمومه وهو قول أكثر العلماء من المالكية والشافعية وبه قال بعض الحنفية وهو الأظهر .
2 – أنه يخصص العموم وهو قول أكثر الحنفية ورواية عن مالك وهو المنقول عن الإمام أحمد وجمهور الحنابلة واختاره أبو يعلى وأبو الخطاب وابن قدامة .
الصورة الثانية : أن يخالف الظاهر وفيه قولان :
1 – أن يقدم قول الصحابي على ظاهر الحديث وهو مذهب أكثر الحنفية .
2 – أنه يقدم الحديث على قول الصحابي ويبقى على ظاهره وهو قول الجمهور كما ذكر الزركشي والعلائي وهو الذي نص عليه الشافعي في كتاب الأم .
3 – أن ينظر في الدليل الذي خالف به الصحابي ظاهر الحديث فإن كان يصلح للتأويل أخذ به وإلا فلا وهو قول الآمدي .
هذا ما أردت بيانه في هذه المسألة فيما ظهر لي والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ينظر في حجية قول الصحابي :
أصول السرخسي ( 2 / 105 ) كشف الأسرار للبخاري ( 3 / 217 ) تيسير التحرير لابن أمير بادشاه ( 3 / 132 ) فواتح الرحموت لابن عبد الشكور ( 2 / 185 ) مفتاح الوصول للتلمساني ( ص 754 ) شرح تنقيح الفصول للقرافي ( ص 445 ) العضد على ابن الحاجب ( 2 / 287 ) نشر البنود ( 2 / 258 ) نثر الورود ( 2 / 572 ) مذكرة الشنقيطي ( ص 165 ) البرهان للجويني ( 2 / 1358 ) المستصفى للغزالي ( 2 / 450 ) المنخول للغزالي ( ص 318 ) الكاشف عن المحصول للأصفهاني ( 5 / 494 ) الإحكام للآمدي ( 4 / 149 ) البحر المحيط للزركشي ( 6 / 56 ) التبصرة للشيرازي ( ص 395 ) قواطع الأدلة للسمعاني ( 3 / 291 ) العدة لأبي يعلى ( 4 / 1181 ) التمهيد لأبي الخطاب ( 3 / 332 ) شرح مختصر الروضة للطوفي ( 3 / 185 ) شرح الكوكب المنير لابن النجار ( 4 / 422 ) أصول مذهب الإمام أحمد للتركي ( ص 436 ) الأحكام لابن حزم ( 1 / 616 ) إرشاد الفحول ( ص 404 )