يقول الأستاذ د. على متقي : " لقد استمد الاتجاه الحداثي تصوره ومفهومه للشعر فعلا من اتجاهات متعددة منها ما هو فلسفي ويتجسد في الفلسفة الوجودية أساسا ، ومنها ماهو شعري ، إذ عاد إلى الاتجاهات الشعرية الحداثية الغربية وإلى كتاباتها النظرية فقد كان لبودلير ورامبو وروني شار وبول فاليري ... وغيرهم الاثر الكبير في بناء التصور الحداثي ،دون أن ننسى كتاب سوزان بيرنار قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا فمن روني شار مثلا اقتبسوا مقولة : الكشف عن عالم يظل في حاجة إلى الكشف . وقد ركزت على الفلسفة الوجودية لأنني حصرت موضوعي في الخلفيات الفلسفية دون الشعرية" .
فأستاذنا توقف في بحثه في مرحلة تاريخية معينة واستمد منها تجربتها، وما اجتره العرب منها دون الغوص في بحر التاريخ للكشف عن رموزنا التي تناقلت شعرية النثر وكتبت فيه قبل الغرب بكثير.
ابن البناء العددي المراكشي (71-21 هـ1321 م)صاحب التصانيف التي فاقت المائة رغم ما اشتهر عنه من إيجاز في كتابته:
قصدت إلى الوجازة في كلامي*** لعلمي بالصواب في الاختصار
ولم أحـــــذر فهوما دون فهمي*** ولكن خفت إزراء الكبـــــــــــار
فشأن فحولة العلـمـــاء شأني *** وشـــــأن البسط تعليم الصغار
ونقل عنه البروفيسور عبد الله الفيفي** عما يشبه الشِّعرية في مصطلح الحديث حينما قال:
" المنظوم يكون شعرا وغير شعر، كما أن الشعر يكون منظوما وغير منظوم" (1)
إذ يظهر أن كلامه هنا ليس إلا على " الشعرية " بما تتوفر عليه من خاصية "التخييل" لا الشعر بما هو جنس أدبي مقابل للنثر، بدليل عبارته الأخرى الصريحة : " أهل العرف يسمون المنظوم كله شعرا، ولا يسمون شيئا من المنثور شعرا" (2)
ومن ثم فهو يستعمل "الشعر " بمعنى"الشعرية" أو "القول المخيل:" أو القول "الشعري" حسب شراح أرسطو من فلاسفة العرب.
ذلك أن الشعر بما هو جنس أدبي، كثيرا ما كانوا يصطلحون عليه ب"النظم" و"المنظوم" كما يفعل ابن البناء نفسه، لقد كان ابن البناء يطلق في الغالب على صاحب النص الشعري "ناظما لا "شاعرا" (3)
ومن هنا يكون استخدامه مصطلح " الشعر" بمعنى خاصية "التخييل" في النص، وإن لم يكن النص شعرا، من حيث بناؤه وجنسه.
فالشعر (الشعرية) لديه: " الخطاب بأقوال كاذبة مخيلة على سبيل المحاكاة، يحصل فيها استفزاز التوهمات" (4) أ ما الشعر الحقيقي لديه فهو المنظوم "المخيل" معا (5)؛ بل أكثر من هذا يرى، ابن البناء أن مصدر الجمالية، لا تنبع من "الشعرية" و"التخييل"، وإنما مما يسميه صناعة البديع، ف "ما كان من كلام مضرّس الألفاظ، مجمّع الأجزاء، غير مسجوع،مختتم الأواخر بحروف متباينة، فهو خارج عن البديع، ولاحق بكلام العوام" (6).
وقد سبق أيضا القرطاجني ابن البناء المراكشي،وتحدث أيضا عن الشعرية، وقبله أيضا الوليد ابن مغيرة وقوله في القرآن.
ووضمن الحوار مع الأستاذ د.عبد الله الفيفي قال : " ولليونان عَروضٌ لبحور الشعر والتفاعيل عندهم تُسمّى الأيدي والأرجل." ومحدّد الجنس الشِّعري وفق هذا المنظور هو التخييل فقط، بقطع النظر عن الموسيقى الشِّعرية، وما كذلك هو الجنس الشِّعري وفق المزاج العربيّ منذ عرف العربُ الشِّعر، وإلاّ فإن كثيرًا من النثر العربي منذ العصر الجاهلي يُعدّ شِعرًا بحسب التوصيف السابق، ومنه سجع الكُهّان؛ لأن مقدّماته مخيّلة، بل فوق ذلك هو لا يخلو من التنغيم والإيقاع؛ كما أن نصوصًا إسلاميّة كالمواقف والمخاطبات لدى النِّفري- على سبيل المثال- محض شِعر إذن، وهو ما لم يزعمه النِّفري نفسه! بيد أن هناك من يزعمه اليوم، ويصرّ على فرضه، بل يصفه تطوّرًا جديدًا للشِّعر العربي، وربما قال: إنه يَجُبُّ ما قبله من شِعر! مع أنه موجود في تراث النثر العربي منذ القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وقبل ذلك، كما أشرنا!"
ولهذا أقول لأستاذي الكريم د. علي متقي هذه جذور الشعرية المتحررة عن الوزن والقافية، فكيف بنا نقف عند من قلدوا ثقافتنا؟ ولو يأتونا بجديد سوى اسم "قصيدة النثر" والاسم ترجمة غير دقيقة لما جاء به الغرب. "Le poème en prose".