قد يحلو لكاتب أن يرسم خطوطه الفنية على لوحاته، فتبدو اللوحة في أعين الناس جذابة المنظر تسلب الناظر لبه وقد تستولي على خياله ؛ لكنها في عيون الفنان مجرد دم كذب ؛ لكونه عرض على الناس مساحيق وأصباغ كما يعرضها التاجر على فرق بين من يعرضها للبيع في إناء أو على صفحة الورق. فما قيمة اللوحة إن لم تؤد رسالة إنسانية نبيلة.
إنها رسالة الشهود الحضاري، حيث يتحول الفنان إلى مبشر ومنذر، ريشته لسانه الناطق والمعرب عن آمال الأمة وعن أحزانها، وأصباغه تلون الجو بإشراقة شمس ضاحكة حتى بدت نواجذها، أو يكفهر جوها وتتكهرب سماؤها وينزل مطرها ويغطي ثلج يقينها الواقع.
ورسالة الشهود الحضاري هي الثبات والاستمرار على درب النبوة، بالقومة لله والشهادة على الناس، فضلا عما يستجيش الشاعر من إحساس باطني ورغبة تذكي صموده ليبرز إيحاءاته ولو جحدها الجاحدون وصدها الصادون ؛ إذ ليس في ناموس الله إلا :
قائم لله بالشهادة على النفس أو الوالدين أو الأقربين بله غيرهم،
و حصيد حصدته عجلة التاريخ لما عارض الحق وجحده.
ولا غرو فالأدب فنّ، والفن إن غابت عنه القسمات الجميلة، واللقطات الرشيقة، والإيقاعات الموسيقية، والخيالات المبدعة والداعية إلى الابتكار وتفجير المواهب والتنافس في الخير، حتى وإن كان الكاتب جبلا سامقا في مجاله أضحى من غير شك جبل بركان فتح فاه يوشك أن يحرق ما تحته وما فوقه وما بقربه، فضلا عن إرسال روائح كريهة للأبعد منه.
إنما يعربه لسان حاله ومقاله هو أنه مجرد مدفع بارود على وشك الانفجار ليبدأ الحي في التناحر حتى آخر نقطة دم، وآخر عين تطرف. أنعتبر الهدم بناء ؟! والدعوة إلى الشر فنا وجمالا ؟!!
فمن لم يدرك رسالة الفنان في واقعه، ضل سعيه، إذ كيف يتأتى التفكير لدفع السيئة بالحسنة ؟ ودفع الشر بالخير ؟ وأي الأجواء تعانق هذه الإرهاصات ؟
لولا أخذ القرآن بعنان المرء نحو العلياء، حيث السماء، حيث الغيث والنماء، من هناك من تلك الأعالي ثغر ثغر جميل وقد سرق سارق ماله : " أتتخذني مهواة لدخول النار؟ كلا لقد غفرتها لك ولا أبالي ".
لا تنبت تلك العيدان الطيبة إلا رافعة رأسها نحو العلياء، ولو تعمد متعمد لتنسم مسكها بحرق عودها لطار دخانه نحو العلياء وتركه أرضا. أيلحقه ؟ أيطير نحوه ؟ وأنى له ذلك !!! ولا فرق بين العود والحطب إلا طيب الريح.
والفكر لا يستفيق من سبات في زمن الصحو إلا حينما ينفتح على جمال هادئ يثير المشاعر، ويدعو للتأمل وتحكيم المنطق السليم والإحساسات الباطنة والبارعة في نزوعها نحو سبل اكتشاف الجمال، سواء ببروزه بروزا ظاهريا، أو بإيحاءاته الرمزية الناطقة بما تعجز عنه الكلمات لتستدعيك إلى باب ربها مسبحا ملبيا.
وبين الأديب أو الشاعر على السواء من جهة والعسكري من جهة ثانية عموم وخصوص، فمما عمم بينهم أنهم حارسو قافلة المجتمع ؛ فهذا بلوحته الفنية، وذاك بعبارات رجزه سواء منها اللطيفة السمحة أو اللاذعة الفتاكة، والآخر بسلاحه يذود عن حماها.
وما يخص الشاعر والأديب أنهما تارة يستحثان الهمم للعلياء، وتارة يدعوان إلى غض البصر، والعفو والصفح، وأخرى يذكران بالأخلاق العالية، فهما إن اختلفا مع العسكري في لباسه ووسائله، فقد لا يختلفان معه في بعد جهاده؛ فهذا يحفظه من تربص أعدائه، وذانك يحفظانه من خلخلة فضائله، واهتزاز ثوابته ؛ بل وما يحرس العسكري إن ذهبت أخلاق الأمة وتغيرت معالمها ؟
ولئن قدم العسكري للأمة دمه ونفسه حماية لها لنيل درجة الشهادة عند الله، فالأديب صاحب صوت الحق والكلمة الحرة التي لا تخشى في الله لوم لائم أو لئيم، فما كان سيد الشهداء إلا رجل الكلمة. وهنا تمايزت الدرجات : فالأول شهيد والثاني سيد الشهداء، ولشرف الهدف استبقى القرآن طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ولو كان الجهاد فرض عين.
وما كانت له المكانة الرفيعة إلا من حرصه على ثوابت الأمة حتى يورثها للأجيال اللاحقة أمانة الرسل بيضاء ناصعة لا شية فيها، فهو والعالم يمضيان على سبيل واحد وهدف واحد ؛ إذ هما مع الشرطي يشكلان اللجنة العليا لأخلاق المجتمع وإن اختلفت وسائلهم :
فالأديب بلوحته الفنية يقرع الأسماع، ويتهدد الأطماع، وتشرق أنواره بلآلئه، فترشد وتُقَوِّم وتُقِيم صرحا شامخا من فكرة ربما هجينة تبلورها أنامل مبدعة، خليقة بجلائل الخصال.
وذاك بفقهه يؤصل الأمور ويطورها وفق ظرفها وما احتاجت الأمة إليه من تجديد لفهم الدين فهما سليما.
والشرطي يحفظ المجتمع من أكابر مجرميه الشريرين الذين استهواهم درب الاعوجاج والانحراف.
وما النقد الأدبي إلا لوحة فنية تعلو صور الفنانين، وتتألق عليها بما حباها الله من خلال تضفي على سحر العبارة رونقا جميلا، يزيدها بهاء تتشربه النفوس لنفاسته، وتقبله القلوب للباقته وسلاسته.
و الأديب من برعت ريشته في نسجها، وأبدعت إبداعها، وقدمت ما يروع العقول ويأخذ بتلابيبها، ويشد الناظر شدا يسبح المرء من جرائه الله تسبيحا يفيض من جنانه لما وهب الرب العزيز الوهاب لخلقه.
وليس من الأدب في شيء من إذا نظر إلى لوحة بارع يذكيه حقد دفين، ويصب عليها جم غضبه، ويمقتها مقتا، ويمجها مجا، وينعتها بشتى الأوصاف المشينة لينزلها من سماء الثريا إلى أرض الوحل، حيث يصب عليها ما فاض من قطران جراء اسوداد قلبه.
غاب عنه أن الله قد جعل لكل شيء قدرا ؛ لكونه صبغة الخلاق العليم، ومن أهان شيئا بظلم أهانه الله.كما أن التطاول على الجبال من شيم المعز لا من فعل الأغنام، وعلى ظهر أمها تلعب الخرفان.
مضى حاقدا حاسدا، يزرع الشوك والقتاد، ويشوه الثريا ويطمع ويطمح في عليائها والسبل أمامه موصدة، والأبواب عليه مغلقة، وتنطفئ عليه الأنوار، وينطلي عليه السواد،شارك البوم في ليلها، أعمى لا يدرك للنهار نورا ولا للأشياء ألوانا، لكنه تفنن فنونا أخرى لا يحسنها غيره، وغدا الترميج والمجمحة أسلوبه، والطلخ والطلس شغله، وفساده عظيما، وخطره كبيرا، و خطيئة تلوث المجتمع لكنها تتجاوز مهام الشرطي ؛ إذ لا بد للفكر من فكر يقارعه ليكشف عواره، ويقوّم سبله، ويرغم أنفه في محول هي أشد وأنكى من ورطة السجين.
فكم ثارت ثائرة أقوام عبر التاريخ، ولم تتعرض لها الدولة بالحديد والنار أو بالمحاكم الصورية كما يفعل أهل زماننا، إنما اعترض سبيلهم شعراء وعلماء سلوا سخائم قلوبهم برفق الإسلام وأخوة الإيمان، وانتهى الأمر بغير آهات اليتامى، ولا عويل الثكالى، ولا أنات السجناء.
وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الشعر إلا تبليغا لجوهر رسالة رب العالمين تحقيقا لفضائلها، ترغيبا وترهيبا، ومدحا وذما لدفع البشرية أو صرفها ؛ حماية لأخلاقها، وتنفيذا للعهد الرباني الذي أخذه الله على الذين يعلمونه.
ليس الأدب جنوحا في الخيال، أو لعبا على العواطف بتموجها على شكل الأفلام الهندية، تبكي تارة وتضحك أخرى، ويتفتق قصف العبارات من شد وجذب سواء مناظرها أو موسيقاها، على اهتزاز بعنـف مخيف حتى لكأنها لطمات متلاحقة يتلقفها القارئ واحدة تلو الأخرى، كما لو تحول إلى غرفة التحقيق ولم يسمع سؤال رجالاته، ولم يصغ إليهم، فتنفجر في وجهه صعقتها ويبقى أثر لسعاتها.
إنما الأدب رقة ضمير تضفي على ريشة فنان أنواع العبارات الجميلة حتى ولو رسم لوحة سوداء لتبدو للناظرين نضراء يانعة، تحمل من المعاني ما لم تتحمله الألفاظ، إضافة إلى روح شجاعة رجولية تتحدى الباطل وتجبره على الزهوق، كل ذلك تتضمنه صورة فنية ذات جمال وإبداع مميزين، مما يجعل النص ذا هدف تحمل معانيه رسالة مرشدة إلى ما ينبغي القيام به من واجبات، أو العدول والعزوف عنه من شرود عن السبيل السوي.
وحري بالأديب أن تشرق لوحته على جمال هادئ رفيق، ندي السمات والإيقاعات، في الحين، تؤرق بعضها الأخرى على نداوة ورقة، ورضى يفيض طمأنينة تتناسق فيها المناظر والأنغام والهدف المنشود، تاركا للقارئ الفرصة لمراجعة الذات، والتراجع عن سلبياته.
ومن تمرس على الكتابة الأدبية، وشارك رجالاتها، بل ونافس روحهم الأدبية، تتفرس عينه النصوص تفرس القاضي الذي يرمق الجاني من بين المتقاضين قبل أن يبدي كلمة.
وما كان لأديب يمشي في أرض الله أن ينبذ قوانينه التي جعلها خطا أحمر لا رجعة فيها، ولا تبديل لها ولا تغيير يعتريها، ولا تحويل يشملها : إنها " سنن الله " وهي جملة عهوده عز وجل، وهي كلماته التامات وأفعاله سبحانه وتعالى ؛ إذ لا شيء يخرج عن حوزتها، وبها يستطيع نقده أن يكشف ثغرات قل من وقف عندها ؛ إذ لا عبثية في ناموس الله الذي اجتبى الوسطية وجاءت ب" لا إفراط ولا تفريط ". وبها أيضا تلبس الكتابة رداءها الطبيعي فلا تتمحل المحول، ولا تدخل جحر الضب.
فما رعى للأدب حرمة من انطلق حرا طليقا يطلق للقلم عنانه، ويرسله حاطب ليل يجلب عليه الويل والثبور كما جلب الناشر الدانمركي على بلاده الخراب الاقتصادي والانفصام الاجتماعي بالداخل والخارج، وما يلحق أدهى وأمر.