* من بين أوائل من شرعت بقراءتهم أيام المدرسة، كان "عباس محمود العقاد". ومذَّاك ارتسمت له في مخيلتي صورتان: صورة الكاتب العربي المسلم المنفتح على الحياة والثقافة الحديثة، وصورة المثقف العصامي المستقل الصارم متعدد القراءات والاهتمامات. وهما الصورتان اللتان ما زالتا مقيمتين في ذاكرتي حتى الآن.
حينها، قرأت له عدداً من تراجمه المعروفة بـ"العبقريات" وكتبه النقدية: "شعراء مصر وبيئاتهم..." و"ابن الرومي" و"عمر بن أبي ربيعة"، ومطالعاته: "بين الكتب والناس".
أما شعره، فلم تُسغه ذائقتي الآخذة بالتكون آنذاك، والمحتفية بالشعر الرومانسي وشعرائه: إبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وايليا أبي ماضي، وعمر أبي ريشه، وأبي القاسم الشابي، وأبي سلمى، والكرمي، وعرار، وبشارة الخوري...
وبالشعر الجديد وشعرائه: السياب والبياتي وحاوي والماغوط ودوريش ودنقل والمناصرة وعبدالمعطي حجازي ووليد سيف وسعدي يوسف...
وقد تكوَّن لدي انطباع بأن وعي العقاد وتنظيره النقدي أكبر من شعره الذي بدا لي مفتقداً لحرارة ونبض الشعر وأقرب إلى النظم والبناء الذهني. وهو ما يمكن قوله أيضاً عن قصته "سارة" التي أقصتها قراءاتي لروايات وقصص لـ: نجيب محفوظ ويوسف ادريس وزكريا تامر وهمنغواي وغوغول ودستويفسكي وديكنز وموباسان...
* * *
لكن هذا- وأضيفت إليه لاحقاً مراجعتي لمنهجه النقدي- لم يؤثر في نظرتي للعقاد التي تعززت بلقائي بأساتذة ومثقفين عرفوه عن قرب، فأطللت من خلالهم على جوانب من شخصيته ومواقفه تستحق التقدير, وبخاصة احترامه العميق لنفسه, ووعيه الكبير بدوره كمثقف مستقل عن كل سلطة خارج مبادئه وأفكاره. مما نأى به عن التزلف بمعنييه: الشخصي: طلباً للمناصب والحظوة. والثقافي: مسايرة للمزاج الشائع.
وهو ما قاده إلى السجن في العهد الملكي كما نعرف، وإلى المواجهة مع عدد من رموز الثقافة والسياسة، شأنه في ذلك شأن الكبار الذين يؤسسون مثالهم الخاص ويتبعونه بإخلاص.
لكن هذا المثال بالذات، المستند إلى تكوين سياسي وفكري ومعرفي تأسس –غالباً- في الثلث الأول من القرن العشرين أو أكثر قليلاً، هو ما أبعد داعية التجدد القديم عن قبول الجديد (السياسي والأدبي) الذي شهدته مصر منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين. ففي السياسة ظل العقاد متمسكاً بحدود الرؤى الوطنية الليبرالية التي عبر عنها حزب الوفد بقيادة "سعد زغلول" الذي كان العقاد من أشد مؤيديه, وفي الأدب ظل أميناً لتقاليد "مدرسة الديوان" التي كان أسسها مع صديقيه: إبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري.
لكن مصر –والعالم عامة- كان قد توالى عليها نهار وليل كثير، فتغيرت عما كانته أيام ثورة (1919م) التي شارك فيها العقاد وهو في الثلاثين من عمره (ولد في العام 1889م)، وتغيَّرت كذلك حساسيتها وأشكال تعبيرها الأدبية والفنية، فيما ظل العقاد وفياً لنموذجه الشعري يزجر عنه الآتين الجُدد شعراء "التفعيلة" الذين لم يعترف ب" شعرية" و"شرعية" مشروعهم الخارج على بحور الشعر العربي واوزانه التقليدية المتوارثة، مما حدا برائدهم في مصر "صلاح عبدالصبور" ان يكتب مدافعاً عن شعر التفعيلة, ومُقسِماً: "موزون والله العظيم موزون!"
* * *
رحل العقاد في العام 1964م، ورغم أن سنوات طويلة مضت على قراءتي له، إلا أنها لم تمحُ من ذاكرتي صورتين قديمتين انعكست فيهما "حياة قلم" عربي قدِّر له أن يكون واحداً ممن وسموا بعلاماتهم دروب النهضة والحياة الجديدة التي صَبَت إليها مصر والعرب، واشتبكوا في تياراتها المتلاطمة بعد الحرب العالمية الأولى.
والذين يعرفون العقاد كمدافع عن الإسلام ومنجزات الأسلاف، يعرفون أيضاً انفتاحه على ثقافات الامم الاخرى، خصوصاً الإنجليزية، التي تعلم لغتها من جملة ما علَّمه لنفسه بنفسه, وهو الاسواني الصعيدي الذي توقف تعليمه النظامي عند الشهادة الابتدائية. فلم يخلط بين مقاومته للاستعمار الإنجليزي، وبين سعيه لمعرفة علوم ومعارف وخبرات الإنجليز وغيرهم من الأمم. وهو درس ينبغي تذكره عندما يجري الحديث عن العلاقات بالآخرين الذي ابتذل واختزل في عنوان بائس: "نحن والآخر"!
وأياً كانت آراؤنا في مطالعات العقاد، أو منهجه المستخدم، أو استنتاجاته وأحكامه، فإن ما يدعو للتنويه هو تعامله ووقوفه من جميع ما تناوله من شخصيات وموضوعات, سواء اتصلت بـالماضين أو بالمعاصرين له، تعاملَ وموقف الذات الدارسة والمحللة والناقدة، وليس تعامل وموقف المبهور المأخوذ الذي يكتفي بالترداد.
وما أحرانا بالتأكيد على هذه المسألة في مواجهة وضعية الاستلاب العقلي والثقافي التي تحصر دورنا في حدود ووظيفة الصدى: صدى الاسلاف الماضين, أو صدى الآخرين!
لكن دورنا - ووجودنا ايضا- لا يستقيمان إن لم نننشىء صوتنا الحر المتميز، وإن لم نبْنِ ذاتنا الواعية الناقدة التي تدرس وتستوعب: فتأخذ أو تنبذ, وتعارض أو تستلهم..
والأمر المهم في كل الأحوال,هو أن نضيف ابداعنا ومساهمتنا الخاصة الجديدة المنشغلة بأسئلة عصرنا وحساسياته واقتراحاته وتحدياته, اذا ما اردنا لأنفسنا ولأمتنا القيامة والصعود..
فبهذا فقط, يكون لضمير الافصاح عن الذات: "أنا" او"نحن", ومصطلح "الأصالة", وصفة "الاستقلال", تجلياتها ومعانيها الحقيقية..
فلا مكانة لمن هم عالة على غيرهم – من الماضين او الآخرين- سوى الجمود على ما هم عليه وفيه: التبعية بإذلال.