منتديات متيجة
يشرفنا نحن ادارة منتدى متيجة ان نرحب بك زائرنا العزيز في المنتدى ونرجوا منك ان تشرفنا بتسجيلك معنا لتفيدة وتستفيد
منتديات متيجة
يشرفنا نحن ادارة منتدى متيجة ان نرحب بك زائرنا العزيز في المنتدى ونرجوا منك ان تشرفنا بتسجيلك معنا لتفيدة وتستفيد
منتديات متيجة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى متيجة هو منتدى ترفيهي علمي بامتياز هنا تجد كل ما تريده من تطبيقات و سريالات و العاب و فتاوة في الشريعة الاسلامية و تفسير القران و كل ما نستطيع توفيره من كتب علمية .ادبية .انسانية. وعلوم شرعية .بحوث الخ. ويوجد منتدى للفيديو يوتوب ونكت ..الخ وحتى الان
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
نائب المدير
الادارة العامة
الادارة العامة
نائب المدير


عدد المساهمات : 2120
نقاط : 7058
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 06/04/2010

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Empty
مُساهمةموضوع: تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني   تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Emptyالسبت يوليو 03, 2010 1:03 am



الصفحة الرئيسة تعريف بالرابطة أعضاء الرابطة جديدنا محرك بحث


شعر
نثر فني
قصة
رواية
مسرحية
مقالة
خاطرة
خطبة
قضايا
أدب عالمي
أدب رحلات

حديث الروح
نقد أدبي
عرض كتاب
تراجم
مقابلات
فنون
قطوف
برقيات أدبية
واحة الإخاء
كاريكاتير
ساحة حرة
أرشيف كلمة

خدمات الموقع

أخبر صديقك
مواقع صديقة
اتصل بنا

القائمة البريدية





نقد أدبي > تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"

لنزار قباني

د. فايز عارف القرعان

fayezaref@hotmail.com

تهدف هذه الدراسة إلى تناول التقنيات البلاغية التي يحكمها مبدأ التوازي ضمن بنية النص الشعري؛ لمحاولة اختبار قدرة هذه التقنيات على التفاعل معاً في إنتاج شعرية النص من ناحية والدلالة المتشكلة في فضائه من ناحية أخرى. وقد اتخذت لاختبار هذه القدرة نص "الممثلون" لنزار قباني بوصفه واقعاً في الخطاب الشعري الحديث الذي يشكل حقلاً صالحاً للتطبيق عليه؛ لأنه خطاب يحفل بكثير من تقنيات التوازي التي تميز بها شعر نزار وخصوصاً تقنية التوازي التكرارية التي جاءت في مقدمتها في خطابه الشعري([1]).

إن هذه الدراسة تنطلق من مفهوم التوازي الذي تحدثت عنه بعض الدراسات النقدية([2])، وهو مفهوم يتلخص بملاحظة الأبنية اللغوية التي تقوم بينها علاقات من التناسبات بناء على مبدأ التوزيع اللغوي في البنية التركيبية القائم على التأليف الثنائي الذي يخلق نوعاً من التوازي الهندسي بين عناصر البنية التي تظهر أنساقاً من الازدواج والتقابل([3])، وهي تربط بين التشكل البلاغي في التراكيب ومبدأ التوازي؛ لأن عمل هذه الأشكال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكيفية تعالقها على مستوى الترابط والتداخل البنائيين، هذه الكيفية منبثقة، كما أرى، من طبيعة التوازي التي تفرض نفسها على البنية النصية للشعر بوصفها سمة بنائية للنصوص التي تعتمد الأشكال البلاغية والجمالية وسائل أساسية في تكوينها. وقد لاحظ هذا المبدأ (هوبكنس) منذ ما يزيد عن مئة عام، يقول: "إن الجانب الزخرفي في الشعر، بل وقد لا نخطئ حين نقول بأن كل زخرف يتلخص في مبدأ التوازي. إن بنية الشعر هي بنية التوازي المستمر الذي يمتد مما يسمى التوازي التقني للشعر العبري والترنيمات التجاوبية للموسيقى المقدسة إلى تعقيد الشعر اليوناني والإيطالي أو الإنجليزي"([4]). يبدو لي أن هذه الملاحظة مبنية على محاولة وصف الأنظمة التركيبية التي تنبني بها الأشكال الزخرفية البلاغية في النصوص، وهي أنظمة تفرض مبدأ التوازي بين الأشكال البلاغية في هذه النصوص.

وقد وسّع (جاكبسون) رؤيته لقدرة التوازي على التحكم في المكونات اللغوية حتى جعلها تشمل كل مكونات العمل النصي وأنظمته، يقول: "هناك نسق من التناسبات المستمرة على مستويات متعددة: في مستوى تنظيم وترتيب البنى التركيبية وفي مستوى تنظيم وترتيب الأشكال والمقولات النحوية وفي مستوى تنظيم وترتيب الترادفات المعجمية وتطابقات المعجم التامة، وفي الأخير في مستوى تنظيم وترتيب تأليفات الأصوات والهياكل التطريزية. وهذا النسق يكسب الأبيات المترابطة بواسطة التوازي انسجاماً واضحاً وتنوعاً كبيراً في الآن نفسه"([5])، فمقولة التوازي تتعدى كونها تقنية تُحرِّك البنية التركيبية للألفاظ إلى كونها ظاهرة متجذرة فــي التكوين النصي على كل مستوياته، ابتداء من أصغر مكوناته اللسانية المتمثلة في الدال اللغوي وأقسامه اللسانية إلى التراكيب الجملية، وبالتالي إلى بنية النص الكلية([6]). وقد حاول محمد مفتاح أن يضع تعريفاً لمفهوم التوازي، فهو يرى أنه "إعادة لبنية ما أو بعض عناصرها مع اشتراك في المعنى واختلاف فيه"([7]). لا شك في أن هذا التعريف يرصد مبدأ التكرار والعلاقة التي تجمع المتكررات بوصفهما (أي المبدأ والعلاقة) تقنية أساسية في تكوين التوازي في التعبيرات اللغوية. يبدو لي أن هذا التعريف يممنوعنا إلى الدخول في منطقة المفهوم التكراري التي عملت فيها البلاغة العربية في كثير من أنساقها التي تقترب مباشرة من مفهوم التكرار الخالص أو تتصل به من قريب أو بعيد. ولعل من يستعرض الجهود البلاغية العربية القديمة يجد جهد السجلماسي يتجه نحو هذا المفهوم، وذلك أنه قد وضع التفكير البلاغي على طريق مبدأ التوازي من خلال جعله التشكيل التكراري الجنس العاشر من أجناس الأساليب البلاغية التي قسمها بحسب القانون البلاغي الذي تتحرك من خلاله، وقد أطلق على هذا الجنس مصطلح (التكرير)([8])، ولعل نظرة السجلماسي تفيدنا في التقدم نحو بلورة مفهوم التوازي الذي سنعتمده أداة لاختبار فاعلية الأنساق البلاغية في هذه الدراسة؛ لذا فإنني سأقف عند جهده لا لقصد استعراضه وتبيان مدى قيمته العلمية؛ لأن هذا المسعى يخرجنا عن هدف هذه الدراسة، بل لإبراز ما فيه من قيم إجرائية تقربنا من مبدأ التوازي الذي نراه.

أدرج السجلماسي تحت مصطلح (التكرير) كل الأشكال البلاغية التي تتفق معاً في نظامها التشكيلي الذي تلتقي فيه على مبدأ التكرار، وهو فيما يبدو لا يتوقف عند التكرار بوصفه ظاهرة تقيم علاقة تطابق بين الألفاظ المكررة لفظاً ومعنى، بل يتعدى ذلك إلى كونه ظاهرة تكوينية تنتظم تحت قانون التقابل القائم على التماثل الذي يتخلل التنظيم التكراري للألفاظ والتراكيب، وقد حدد علاقتين لضبط قانون التكرار بين المتكررات، هما: علاقة المشاكلة، وعلاقة المناسبة. وقد جعل علاقة المشاكلة تنتج (التكرير اللفظي)، وعلاقة المناسبة تنتج (التكرير المعنوي).

أما التكرير اللفظي فقد تعامل معه على أساس أنه يحتمل كل أشكال التماثل اللفظي على المستوى اللساني- النطقي للمفردات، أو على المستوى البنائي لهذه المفردات؛ لذا نراه يتحدث عن التكرار اللفظي الذي يأتي على المستوى اللساني- النطقي فيرى أنه يتمثل في تكرار الكلمة ومعناها في موضعين أو أكثر، ووضعه تحت نوع (البناء) الذي عرفه بقوله: "هو إعادة اللفظ الواحد بالعدد وعلى الإطلاق المتحد المعنى كذلك مرتين فصاعداً خشية تناسي الأول لطول العهد به في القول"([9])، وقد مثل لهذا النوع بقوله تعالى: "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون"([10]) وعلق عليه بقوله: "فقوله أنكم الثاني بناء على الأول وإذكار به خشية تناسيه لطول العهد به في القول"([11])، إن ملاحظته مبنية على تكرار اللفظ (أنكم) مرتين في موقعين مختلفين مع احتفاظه بالمعنى وتعليقاً للثاني بالأول للمحافظة على نسق التركيب، ولا شك في أننا ندرك، هنا، أن مفهوم البناء عنده يؤول إلى معنى التكرار الذي تحدث عنه البلاغيون السابقون عليه([12]). ويتحدث عن التكرار اللفظي الذي يتمثل في تكرار الكلمة مع اختلاف معناها تحت عنوان (التجنيس) الذي عرفه بقوله: "إعادة اللفظ الواحد بالعدد وعلى الإطلاق لمعنيين متباينين فصاعداً لمجرد الإعراب لا لعلة"([13])، وقد جعل تحت هذا النوع كثيراً من أقسام الجناس التي تحدث عنها البلاغيون([14]) هذه الأنواع هي : تجنيس المماثلة، وتجنيس المضارعة، وتجنيس التركيب، وتجنيس الكناية([15]). ولا شك في أننا ندرك أن الجناس بما يحدثه من تماثل بين الألفاظ الواقعة في بنية يؤول في نهاية المسألة إلى التكوين التكراري للأنساق التركيبية.

وقد تحدث عن التماثل اللفظي الذي يأتي على المستوى البنائي للألفاظ، فيرى أنه يعتمد التماثل في بعض صيغها أو حروفها دون معانيها وقد وضعها تحت نوع سماه (المقاربة)([16]) الذي قسمه قسمين: سمى قسمه الأول (التصريف) وسمى الثاني (المعادلة).

فأما التصريف، فقد تحدث فيه عن التكرار الناتج من اشتقاق الألفاظ، وقد عرفه في قوله: "هو إعادة اللفظ الواحد بنوع المادة فقط في القولين ببنائين مختلفي الصورتين مرتين فصاعداً. وبالجملة فهو لفظ يشتق من لفظ"([17]) وهو يرى أن اشتقاق اللفظين إما أن يعود إلى أصل واحد مع اتفاق مادتهما وقد سمى هذا النوع (الاشتقاق)، ومثل عليه بقول الشاعر:

وذلكم أن ذل الجار حالفكم= وأنّ أنفكم لا يبلغ الأَنفا

وقال: "فاتفق الأنْف والأنَف في المادة وهي حروف الكلمة دون البناء، ورجعا إلى أصل واحد"([18])، وإما أن يعود إلى أصل واحد مع اختلاف في مادة اللفظين وقد سمى هذا النوع (الاشتراك)، ومثل عليه بصدر بيت هو: "سلِّمْ على الربع من سلْمَى بذي سَلَمٍ" وعلّق عليه في قوله: "فصرّف ثلاث كلمات وهو أقصى ما يرتقي إليه هذا النوع"([19]). لعلنا ندرك هنا أن مفهوم التصريف عنده ينتهي إلى عدد من التشكلات البديعية في البلاغة التي تلتقي على مثل هذا التشكل النسقي في التركيب من مثل (رد أعجاز الكلام على ما تقدمها) أو (التصدير) اللذين يعنيان أن تتوافق كلمة القافية في البيت مع كلمة مماثلة لها أثناء البيت نفسه([20]) والتوافق، هنا، هو توافق لفظي يممنوع إلى الطبيعة التكرارية، ومثل (الترديد) الذي لا يختلف كثيراً عن رد الأعجاز على الصدور بل قد يتداخل معه عند بعض البلاغيين فهو تكرار الكلمة أثناء البيت دون القافية أو تقع إحدى الكلمتين في القافية ويكون الاختلاف عن رد الأعجاز باختلاف تعليقهما([21]). ومثل تشابه الأطراف الذي يعني تكرار القافية في الشعر أولَ البيت الذي يليها، وفي النثر تكرار سجعة الجملة أولَ الجملة التي تليها([22]).

وأما المعادلة، فقد جعلها للألفاظ التي تلتقي في صورها الوزنية وبعض حروف مادتها، وقد عرفها في قوله: "إعادة اللفظ الواحد بنوع الصور فقط في القول بمادتين مختلفتي البناء مرتين فصاعداً"([23])، وأدرج تحتها نوعين، هما (الترصيع) و(الموازنة)، وعرّف الترصيع بأنه "إعادة اللفظ الواحد بالنوع في موضعين من القول فصاعداً هو فيهما متفق النهاية بحرف واحد، وذلك أن تصير الأجزاء وألفاظها متناسبة الوضع متقاسمة النظم معتدلة الوزن متوخّىً في كل جزئين منهما يكون مقطعاهما واحداً"([24])، وقد مثل له بقوله تعالى دون أن يعلق عليه: "إن الإنسان خلق هلوعاً* إذا مسه الشر جزوعاً* وإذا مسه الخير منوعاً"([25])، ويبدو أنه قد أدرك أن في الآيات الكريمة توازياً يقوم على التناسب والتنظيم بين أجزائها ، وذلك بناء على رؤيته في تعريفه الترصيع، ذلك أن التركيبين (إذا مسه) يتناسبان في الآيتين الثانية والثالثة، وأن اللفظين (الشر والخير) يتناسبان في الآيتين نفسهما، ونجد كذلك أن الألفاظ (هلوعا، وجزوعا، ومنوعا) قد تناسبت في المستوى الوزني ومستوى الحرف الأخير العين. وأما الموازنة فقد عرفها في قوله: "إعادة اللفظ الواحد بالنوع في موضعين من القول فصاعداً هو فيهما مختلف النهاية بحرفين متباينين، وذلك أنه تصيير أجزاء القول متناسبة الوضع متقاسمة النظم معتدلة الوزن، متوخىً في كل جزء منها أن يكون بزنة الآخر دون أن يكون مقطعاهما واحداً"([26]) وقد مثل لهذا النوع من القرآن الكريم والشعر والنثر، وقد وجدنا ما يشعرنا بإدراكه حركة التوازي عندما تحدث عن بنية بعض الشواهد كما في قوله: "ومن صوره من الكلام ما كتب بعض الكتاب: "إذا كنتَ لا تُؤتى من نقص كرم، ولا أُوتى من ضعف سبب، فكيف أخاف منك خيبة أمل، أو عدولاً عن اغتفار زلل، أو فتوراً عن لم شعث وإصلاح خلل". فوضع- كما قال قدامة- قوله: "نقص" بإزاء "ضعف" و "كرم" بإزاء "سبب" و"عدولا" بإزاء "فتور" مناسبة في وضع الألفاظ وموازنة بينها"([27]) لا شك في أن ملاحظته مبنية على توازي التركيبين (نقص كرم) و(ضعف سبب) وتوازي اللفظين (عدولاً/ فتوراً). والواقع أن البلاغة العربية قد تحدثت عن حركة التناسب والتعادل القائمة على التوازي والتوازن في مثل هذه الأبنية في الشعر والنثر ولكن في مواضع متفرقة دون لمّ هذا التفرق في موضع واحد، فنجدها تتحدث عنها تحت مصطلحات: الترصيع([28]) والتسجيع بأنواعه([29]) والموازنة([30]) مع أننا قد نجد مفهومات هذه المصطلحات متداخلة في بعض الأحيان.

وأما التكرير المعنوي، فلا يقصد به السجلماسي تكرار المعنى الواحد في مواضع متعددة، فهو يقول: "ليس ينبغي أن يظن بنا أنا نريد باسم المناسبة الذي نرادف به التكرير المعنوي، أن يكرر المتكلم المعنى الواحد بالعدد في القول مرتين فصاعداً، لأن ذلك ليس يُعدّ من القول مغسولاً خِلواً من البديع وعطْلاً عُرياً من البيان فقط، بل مرذولاً غثّاً ومستكرهاً رثّاً"([31])، وإنما يريد به أن تقترن الألفاظ على نوع من التناسبات المعنوية؛ أي أن الألفاظ تكون مجتمعة على نوع من التناسب في معانيها، وقد عرفه في قوله: "هو تركيب القول من جزئين فصاعداً كل جزء منها مضاف إلى الآخر ومنسوب إليه بجهة ما من جهات الإضافة، ونحو من أنحاء النسبة"([32])، وقد أنتج بناء على هذه العلاقة أربعة أنواع من صور التكرير: الأول- (إيراد الملائم) وقد تحدث عنه فقال: "أن يأتي بالشيء وشبيهه مثل الشمس والقمر والسنان والصارم، والسرج واللجام، والسيف والفرند، وهذا النوع هو الملقب بإيراد الملائم"([33]). إن السجلماسي يتحدث هنا عما سماه البلاغيون مراعاة النظير أو التناسب أو المؤاخاة، أو الائتلاف أو التلفيق أو التوفيق([34])، وذلك أن الشمس تناسب القمر وتناظره في الكوكبية، والسنان يناسب الصارم في عدة القتال والحرب. والثاني- (إيراد النقيض) وقد تحدث عنه فقال: "يأتي بالأضداد مثل: الليل والنهار، والصبح والمساء، والحياة والموت، وهذا النوع هو الملقب بإيراد النقيض"([35]). ولا شك في أن هذا النوع يقع في مفهوم مصطلح الطباق أو التضاد عند البلاغيين([36]) الذي يقوم على تقابل بين لفظين متضادين كما في مقابلة الليل بالنهار والصبح بالمساء. والثالث- (الانجرار) وقد تحدث عنه في قوله: "يأتي بالشيء وما يستعمل فيه مثل: القوس والسهم، والفرس واللجام، والقلم والدواة، والقرطاس والعلم، وهذا النوع هو الملقب بالانجرار)([37]). لعلنا نلحظ هنا أنه يريد كل لفظين متوائمين ويلتقيان معاً في الموضوع الواحد. والرابع- (التناسب) الذي قال عنه: "يأتي بالأشياء المتناسبة مثل: القلب والملك، إذ يقال نسبة القلب في البدن نسبة الملك في المدينة، وهذا النوع هو الملقب بالتناسب"([38])، لعلنا نلحظ هنا أنه يريد بالتناسب الجمع بين كل متشاكلين في الوظيفة الوجودية أو في الفاعلية الوظيفية، فالقلب في البدن يشكل وظيفية حيوية للبدن من خلال موقعه وفاعليته، والملك في المدينة يتشاكل معه فهو يشكل وظيفة تنظيمية من خلال موقعه وسلطته.

يبدو أن تقنيات التوازي البلاغية لا تقف عند التكرار بمفهومه السابق بل تتعداها إلى التقنيات البيانية التي تعمل من خلال مبدأ التوازي في الخطاب الشعري الحديث. ولعل محاولة نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) التي تحدثت فيها عن التكرار قد مهدت لتطوير مفهوم هذه التقنية، وذلك انطلاقاً من محاولة ربط التكرار بحركة الشعر العربي المعاصر وملاحظة أن هذه الحركة قد خلقت في الخطاب الشعري بنية شعرية جديدة ومفارقة في معظم الأحيان حركةَ الخطاب الشعري القديم معتمدة هذه البنية على بنية الشعر الحر وتقنياته الإجرائية المتمثلة في تطوير التقنيات البلاغية القديمة تطوراً يتواءم مع الدفق الشعري الجديد، ولذا فإننا نجدها تتخطى حدود التصور البلاغي القديم لبنية التكرار لتقترح أبنية جديدة، فجعلت التكرار يتمثل في ثلاثة أنماط، هي: التكرار البياني، وتكرار التقسيم، والتكرار اللاشعوري([39])، ثم تضيف ملاحظة غاية في الأهمية وهي أنها ترى التشكلات التكرارية التي تناسب الخطاب الشعري الحديث لا بد لها من أن تحتكم لقانون التوازن، تقول: "وثاني قاعدة نستخلصها هي: أن التكرار يخضع للقوانين الخفية التي تتحكم في العبارة، وأحدها قانون التوازن. ففي كل عبارة طبيعية نوع من التوازن الدقيق الخفي الذي ينبغي أن يحافظ عليه الشاعر في الحالات كلها. إن للعبارة الموزونة كياناً ومركز ثقل وأطرافاً، وهي تخضع لنوع من الهندسة اللفظية الدقيقة التي لا بدّ للشاعر أن يعيها وهو يدخل التكرار على بعض مناطقها"([40]). ولا شك في أن هذه الملاحظة تمتلك قدراً كبيراً من الصدق النقدي الذي يجعل مبدأ التكرار يدخل في مبدأ التوازي بوصفه جزءاً من العملية الإيصالية في الخطاب الشعري الحديث الذي يقوم على التوازيات التركيبية والتنظيمية. وقد تحدث فاضل ثامر عن تقنيات التوازي بوصفها خصيصة مميزة للخطاب الشعري العربي المعاصر([41])، وأشار إلى إمكانية الإفادة من الجهد البلاغي والنقدي القديم في هذا المجال فقال: "إننا نستطيع أن ندرس الكثير من أنساق التوازي بالإفادة الواعية من معطيات الموروث البلاغي والنقدي العربي على أكثر من مستوى"([42])، وقد جعل المستوى البلاغي واحداً من هذه المستويات، يقول: "على المستوى البلاغي: ملاحظة الكثير من المظاهر الجمالية والأدائية كالتشبيه والاستعارة والمساواة والمشاكلة والمقابلة والترصيع وما إلى ذلك"([43]). ولا شك في أن هذه المحاولات لجعل مبدأ التوازي يسيطر على كثير من الأبنية البلاغية تممنوعنا إلى محاولة اختبار هذه التقنية ومدى قدرتها على الفاعلية في الخطاب الشعري الحديث.

وانطلاقاً من التصورات السابقة لا بد من التنويه هنا إلى أنني سأقف عند التقنيات التكرارية والبيانية الأخرى التي تحقق مبدأ التوازي في النص الشعري الذي أدرسه في هذه الورقة البحثية، وسأحاول الكشف عن فاعليتها في النص. ووقوفي على فاعلية هذه التقنيات البلاغية، في دراستي نص "الممثلون" لنزار قباني متأت من محاولة اختبار علاقة التشكل التركيبي لأنساق النص البلاغية بالتشكل الدلالي الناشئ في فضاء النص الشعري، وذلك انطلاقاً من تصور العلاقة الحميمة بين التشكلين (التركيبي والدلالي) التي تنبني على علاقة التفاعل التي يشغل المتلقي نفسه بالتقاطها بوصفها ناتجة من شعرية اللغة وقد أوضح (تودوروف) مهمة هذه اللغة في قوله: "ما هي وضعية اللغة الأدبية؟ صفتها الأكثر وضوحاً أنْ لا وجود لـ"الأشياء" فيها، وأنْ ليس للكلمات مرجع تقريري Denctatam ، بل إحالة وهي متخيلة. في اللغة المشتركة تجد إحالة وحيدة، وهي نفسها عمل النطق وعمل المنطوق معاً. أما في اللغة الشعرية فإن هاتين الإحالتين معزولتان، والقارئ مطالب بأن يكمل بنفسه عمل المنطوق"([44]). ولعلنا لا نبالغ إذا ما ذهبنا إلى أن التقنيات البلاغية تجد نفسها دائماً معنية بإنتاج مثل هذا التشكل العلائقي، ولعل اتخاذها مبدأ التوازي مسرباً نصياً لها يزيدها عمقاً في فاعليتها النصية التي تسعى إلى رفع وتيرة الشعرية في هذا النص، فالعلاقة بين النص والأشكال البلاغية هي علاقة التماهي؛ لأن هذه الأشكال بحد ذاتها تشكل شعريته الإيصالية التي تعمل عند المتلقي، وقد عبر (رولان بارث) عن هذا التماهي في قوله: "الشعرية هي شكل من الأشكال التي تجيب عن السؤال التالي: ما الذي يجعل من الاتصال اللغوي عملاً فنياً؟ إنه العنصر النوعي نفسه الذي سأسميه البلاغة"([45]). فالبلاغة تقدم بأنساقها وتشكلاتها للنص الشعريةَ التي تمهد له إنتاج الدلالة المرتبطة بها ارتباطاً وثيقاً بوصف هذه الأنساق آليات عمل الشعرية التي تنتج الدلالة، وقد بلور (تودوروف) هذه العلاقة في قوله: "جاءت الشعرية فوضعت حدّاً للتوازي القائم على هذا النحو بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية، وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية، لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنتظم ولادة كل عمل، ولكنها بخلاف هذه العلوم التي هي علم النفس وعلم الاجتماع...الخ، تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته، فالشعرية إذن مقاربة للأدب "مجردة" و"باطنية" في الآن نفسه"([46]). فالشعرية إذن حركة نصية تسير باتجاهين: اتجاه شكلي، وآخر دلالي. وهما اتجاهان متقاطعان يتلبّسان الخطاب النصي. ويبدو أن تقاطع الأشكال البلاغية القائمة على مبدأ التوازي بوصفها الأدوات الأساسية لخلق الشعرية في الخطاب الشعري الحديث يفترض من دارسي نصوص هذا الخطاب انتهاج إجراءات تحليلية صالحة للكشف عن الخيوط الرابطة لهذا التقاطع وما ينتج منها من دلالات وفعاليات نصية. ولعل من أهم هذه الإجراءات محاولة كشف العلاقات التي تعتمدها الأنساق البلاغية المتشكلة ضمن تقنيات التوازي ومن ثم ربط هذه العلاقات بالدلالات الناتجة من هذه الأنساق، والواقع أن (رومان جاكبسون) قد اقترح كيفية هذه الإجراءات، يقول في معرض حديثه عن الترتيب في التوازيات داخل الأبيات الشعرية: "إن هذا الترتيب يُسند إلى كلّ مشابهة وإلى كل تباين وزناً خاصاً. إننا نرى مباشرة العلاقة بين الشكل الخارجي والدلالة، وحينما ندرك المشابهات والمجاورات داخل زوج من الأبيات المتحدة بفضل التوازي نشعر آلياً بالحاجة إلى تقديم حلٍّ لها ولو كان لا شعورياً"([47]).

أنساق التوازي في النص:

يتكون نص (الممثلون) من عشرة مقاطع ظهرت مرقمة على الصفحة المطبوعة من الأعمال السياسية الكاملة([48]) وقد تشكل من أربع حركات بنائية ترسم فضاء النص البنائي، وتتضمن كل حركة منها مقطعاً أو أكثر. ولا بد قبل البدء في رصد أنماط التوازي التي تكونه من أن نضع وصفاً لفضائه الذي تتحرك فيه هذه الحركات؛ حتى نسهل على أنفسنا التقاط الدلالات الناشئة فيها.

يبدو لي أن هذا النص انبنى على فكرة التقنية المسرحية، وذلك ابتداء من عنوانه الذي يضع المتلقي في فضائه، فالنص يتخذ عنوان (الممثلون) للإيحاء بمضمون التمثيل الذي يخرج المتلقي من الواقع إلى المحاكاة، ثم يدخل بالمتلقي في الحركة الأولى التي تتكون من المقاطع (1، 2، 3، 4) وهي تمثل الصوت المسرحي الذي يهيئ لبدء المسرحية، فيرسم ملامح المكان (بلدة) والشخوص (الحكام/ الجنود/الناس) والأحداث بطريقة سردية، ثم تنتهي الحركة الأولى لتبدأ الحركة الثانية التي تتكون من المقطع الخامس معلنة نهاية العرض المسرحي بثورة جمهور المشاهدين على الممثلين، ثم تنتهي الحركة الثانية لتبدأ الحركة الثالثة التي تتكون من المقاطع (6، 7، 8، 9) وقد اتخذت طابعاً تقييمياً لأحداث المسرحية لتنتهي إلى الحركة الرابعة التي تتكون من المقطع الأخير (10) وجاءت في شكل نتيجة التقييم في الحركة السابقة لها.

إن تقسيم هذه الحركات مبني على طبيعة أنساق التوازي الناشئة في النص، فقد أنتجت هذه الطبيعة بنيتين تتخذان التوازي المقطعي أسلوباً لها جاءتا في حركتين هما: الأولى، والثالثة. والتوازي العمودي جاء في الحركة الثانية.

تتجه الحركة الأولى إلى إنشاء أربعة أنساق من التوازي تعتمد على تقنيتي التوازي التكراري والتوازي البنائي اللتين جعلتا المقاطع الأربعة تتوازى مقطعياً بحيث تنبني تقنية التوازي التكراري في تكرار مجموعة من الدالات المتماثلة في السطر الأول من كل مقطع، وتنبني تقنية التوازي البنائي من تشكل كل مقطع من أنساق تكرارية متوازية، ولكن هذه الأنساق لا تنتهي رسالتها الإعلامية بما تحتويه من تراكيب إلا في نهاية مقطعها بحيث تشكل هذه النهاية غلقاً لهذا المقطع.

وحتى نكون على وعي تام في تصورها نرصدها على النحو الآتي:

المقطع الأول:النسق الأولالسطر1- حينَ يصير الفكْرُ في مدينةٍ

النسق الثاني6- حين تصير بلدة بأسرها

الغلق المقطعي10- يموتُ كلُّ شيءْ..

المقطع الثاني:النسق الأولالسطر1- حين يصير الحرْفُ في مدينةٍ

النسق الثاني8- حين يصير الناسُ في مدينةٍ

الغلق المقطعي13- تحترقُ الغاباتُ، والأطفالُ, والأزهارْ

المقطع الثالث: النسق الأولالسطر1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ

النسق الثاني5- حين يصير الدّمعُ في مدينةٍ

الغلق المقطعي 7 - يسقط كلُّ شيءْ

المقطع الرابع:النسق الأول1- حين تصير خُوذةٌ

النسق الثاني9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ

النسق الثالث14- حين تصير نسمة الهواءْ

النسق الرابع20- حين تصير أمةٌ بأسرها

الغلق المقطعي22- يختنق الأطفال في أرحامهمْ

وأما الحركة الثانية، فإنها تتجه إلى تكوين نسق تواز عمودي يعتمد على تقنية التكرار في سطرها الأول (متى سترحلونْ؟)

وأما الحركة الثالثة فتنشئ أربعة أنساق من التوازي المقطعي الذي يعتمد على التقنية التكرارية التي جعلت المقاطع الأربعة تتوازى في سطرها الأول على تكرار جميع الدالات على النحو الآتي:

المقطع السادس:حرب حزيرانَ انتهتْ..

المقطع السابع: حرب حزيرانَ انتهتْ..

المقطع الثامن: حرب حزيرانَ انتهتْ..

المقطع التاسع:حرب حزيرانَ انتهتْ..

وأما الحركة الرابعة، فتختفي فيها أنساق التوازي.

وتتشكل داخل مقاطع كل حركة أنساق تواز جديدة تقوم على التواصل البنائي في المقطع الواحد حيناً وتواصل بنائي بين مقاطعها الأخرى حيناً آخر، وسنتحدث عن كل هذه التكوينات النسقية في موضعها.

الحركة الأولى- المقطع الأول

1- حينَ يصير الفكْرُ في مدينةٍ

2- مُسَطَّحاً كحدوة الحصانْ

3- مُدوراً كحدوة الحصانْ

4- وتستطيعُ أيُّ بندقيةٍ يرفعها جبانْ

5- أن تسحقَ الإنسانْ

6- حين تصير بلدة بأسرها

7- مَصْيَدةً.. والناسُ كالفئرانْ

8- وتصبح الجرائد الموجّههْ

9- أوراق نعي تملأ الحيطانْ

10- يموتُ كلُّ شيءْ..

11- يموتُ كلُّ شيءْ..

12- الماءُ، والنباتُ، والأصواتُ، والألوانْ

13- تهاجر الأشجار من جذورها

14- يهرب من مكانه المكانْ

15- وينتهي الإنسانْ




يتشكل المقطع من نسقي تواز اعتمدا على تقنية التكرار التي ظهرت في بداية كل منهما، امتد النسق الأول من السطر الأول إلى السطر الخامس، وامتد النسق الثاني من السطر السادس إلى السطر التاسع، ثم أغلق النصُ النسقين بسائر الأسطر أي من السطر العاشر إلى الخامس عشر. وقد أظهر النسقان ترابطاً بنائياً وآخر دلالياً. بدأ هذا الترابط من خلال تقنية التكرار التي تشكلت في السطرين:

1- حينَ يصير الفكْرُ في مدينةٍ

6- حين تصير بلدة بأسرها

إن السطرين، كما نلحظ، يتماثلان من خلال تكرار رأس الجملة من دالي (حين يصير)، ويفترقان في سائر المكونات الدالية، وذلك أن الأول يسند الدال (الفكر) إلى (يصير)، ويتبعه بالجار والمجرور (في مدينة)، وأما الثاني فيسند الدال (بلدة) إلى (تصير) ويتبعها بالجار والمجرور (بأسرها)، ثم يتسع الافتراق بين النسقين على المستوى السطحي المتمثل في دالات كل منهما، أي أن تقنية التكرار السطحية تغيب عن النسقين، ويأخذ كل نسق، يعمل على إنتاج الدلالة بتقنياته البلاغية الخاصة.

فالنسق الأول يخلق بنية تواز تعتمد على التوازي التشبيهي في السطرين:

2- مُسَطَّحاً كحدوة الحصانْ

3- مُدوراً كحدوة الحصانْ

لا شك في أننا نلحظ أن بنية التشبيه، هنا، تعتمد على تقنية التكرار اللفظي متمثلاً في بنية المشبه به (كحدوة الحصان) وعلى التماثل في البنية الوزنية (مُفَعّل) للدالين (مسطحاً/ مدوراً) وهي تسعى بهاتين التقنيتين إلى الوصول إلى دلالة الخواء التي تتلبس (الفكر) المشبه به الوارد في السطر الأول، فالفكر يتحول إلى بعد شكلي يتخذ الحلقة المدورة التي تشير إلى الفراغ، ليصل بهذا الشكل إلى الإفلاس الفكري الذي ينتهي إلى عدم الفاعلية وتوقف ممارسة التجدد في الحياة؛ مما يقوده إلى التحجر وبالتالي إلى الخواء. ولعل ما يقوي فاعلية هذه الدلالة اتكاؤها على وزن (مفعَّل) الذي يوحي بتكثير الحدث: حدث التسطيح، وحدث التدوير، فهما حدثان يعمقان معنى التحجر والخواء، واتكاؤها، أيضاً، على التكرار العمودي للمشبه به الذي يرصد بعدين مهمين في تشكل الفكر، وهما البعد الحركي والبعد الصوتي، وذلك أن الفعل الحركي لـ(حدوة الحصان) يرافقه الفعل الصوتي لوقع هذه (الحذوة) على المكان، ويكشف اجتماع الفعلين معاً للتعبير عن فاعلية (الفكر)- عن عمق الخواء في الفكر في المدينة، فهو فكر لا يممنوع في حركته أو صوته إلا إلى الخواء. وينتهي بعد ذلك هذا الخواء إلى تفعيل قدرة دال (البندقية) في السطر الرابع لتقوم بفعل سحق الإنسان مما يؤشر إلى إكساب الفكر دلالة السحق التي تمارسها البندقية.

ويلتقي النسقُ الثاني النسقَ الأول على خلق بنية توازٍ معتمدة على التوازي التشبيهي، الذي يربط النسقين بوساطة علاقة التماثل البنائي، وقد تشكل هذا التوازي في الأسطر:

6- حين تصير بلدة بأسرها

7- مَصْيَدةً.. والناسُ كالفئرانْ

لعلنا نلحظ أن البنية التشبيهية الأولى تتكون من (بلدة بأسرها مصيدة) والثانية تتكون من (الناس كالفئران)، ويبدو أن تقنية التوازي هنا تجعل الدالين (بلدة بأسرها) يتقابلان بالدال (الناس)، والدال (مصيدة) يتقابل بالدال (الفئران) وهو تقابل يؤدي إلى خلق دلالة السحق، ويمكننا أن ندرك هذه الدلالة في إقامة العلاقات بين هذه المتوازيات، فدالا (بلدة بأسرها) يتوازيان مع (الناس) على علاقة الاحتواء المكاني، فالناس يحلّون في البلدة، وهذا الحلول يقود إلى توحد الناس بالمكان، والدال (مصيدة) يقيم علاقة التناسب مع الدال (الفئران) وذلك أن المصيدة تناسبها الفئران، وهذا يقود إلى التوحد بين الدالين؛ مما يممنوع إلى الإحساس بالتماثل بين الأطراف الأربعة من بنية التوازن ويمكننا أن نبني هذا التماثل على النحو الآتي:

البنية الأولىبلدة بأسرهامَصْيَدةً

البنية الثانيةالنـــاسُ الفئرانْ

إن التماثل بين البنيتين يقع على المستوى الأفقي بين كل مشبه ومشبه به (بلدة بأسرها/ مصيدة)، و(الناس/ فئران)، ويقع على المستوى العمودي بين (بلدة بأسرها/ الناس) وبين (مصيدة/ فئران) ثم يقع على المستوى التقاطعي بحيث يتماثل الدالان (بلدة بأسرها) مع (فئران) على مستوى التناسب المكاني، و(الناس) مع (مصيدة) على مستوى الفاعلية؛ أي فاعلية المصيدة على الإنسان، إن هذا التماثل يممنوعنا إلى إدراك فاعلية السحق التي تمارسها البلدة التي تمثل البعد المكاني على الإنسان، تماماً كما تمارس المصيدة فعلها السابق على الفئران، ولا شك في أن هذا التكون يعود بدلالة هذا النسق إلى النسق الأول وإلى فاعلية السطر الأول بالتحديد المتمثلة بفاعلية (الفكر) التي قادت في نهاية النسق إلى ممارسة السحق.

وتتشكل في هذا النسق بنية تواز نحوي من خلال تقنية العطف بين السطرين:

6- حين تصير بلدة بأسرها

8- وتصبح الجرائد الموجّههْ

وذلك من خلال حضور الدال (حين) فعلياً في السطر السادس، وحضوره تقديرياً في السطر الثامن، ويبدو أن هذا التوازي يممنوع إلى إدراك علاقات التحول التي تنتجها الدلالات السياقية، وذلك أن السطر الثامن قد خلق بنية تشبيه تمثل طرفها الأول المشبه في الدالين (الجرائد الموجهة) وطرفها الثاني المشبه به في الدالات (أوراق نعي تملأ الحيطان)، إن التحول هنا ينطلق من تحويل دال (الجرائد) الذي يمثل بمدلوله القريب أداة إعلامية حرة تروج للفكر والمعرفة - إلى أداة تهدف إلى تغييب حرية الفكر، وتجعل الفكر فيها موجهاً نحو هدف واحد يخدم بلا شك ما يريده صاحب هذه الأداة، ولعل هذا الهدف يتمثل بما أنتجه المشبه به (أوراق في تملأ الحيطان) وهو هدف إعلامي يعلن حالة الوفاة، تماماً كما تفعل الأوراق التي تعلق- على عادة الدمشقيين- على حيطان الأحياء السكنية، غير أن هذا المعنى المتكون في التشبيه لا يستقر في الدلالة العميقة، وذلك بناء على تقنية التورية البلاغية التي تمثلت في الدال (الموجهة)، وهو دال يأخذ معنيين– كما أرى- الأول المعنى القريب المستخدم وهو توجيه الجرائد نحو هدف فكري أو سياسي ما، والمعنى الثاني البعيد وهو المراد وهو معنى (الموت) الذي يكشف عن مدلول التوجيه؛ أي التصويب، ولا شك في أن هذا المعنى يلتقي دلالة تكوّنات السطر السابق، ذلك أن البلدة والجرائد تمارسان فعل الموت والسحق.

وتأتي الأسطر التي تغلق المقطع مشكلة علاقات بنائية مع النسقين، وذلك في السطرين

10- يموتُ كلُّ شيءْ..

11- يموتُ كلُّ شيءْ..

وهما سطران يشكلان بنية تكرار عمودي تتماثل فيهما الدالات المكررة، ويبدو أن البنية النصية قد كررت كل دال مرتين في السطرين إشارة إلى أن كل سطر منهما يعود إلى نسق من النسقين، ويبدو أن الدلالة الناتجة في النسقين التي تمثلت (بالسحق) هي التي جعلت بنية النص تعتمد تقنية التوازي التكراري المتلازم بين السطرين؛ وذلك حتى تعمق دلالة السحق ثم تنتج دلالة (الموت) التي انبثقت من فاعلية السحق وطفت على سطح البنية التركيبية في هذين السطرين.

ويبدو أن المقطع جعل هذين السطرين منطلقاً بنائياً لخلق توازيات جديدة تعمق من فاعلية الموت التي أصابت العناصر المكونة للنسقين. فيأتي السطر:

12- الماءُ، والنباتُ، والأصواتُ، والألوانْ

ليكشف عن ماهية الدالين (كل شيء) فهو يفسر الدالين بالعناصر الأربعة المكونة له، والتي تنبني على تقنيات بلاغية؛ فالماء والنبات يتعالقان على مستوى التناسب الناتج من الشكل البلاغي (مراعاة النظير) وعلى مستوى التخالف الحسي الذي نشأ بين دال (الأصوات) الذي يستقبل سمعياً ودال (الألوان) الذي يستقبل بصرياً، وما هذا التناسب والاختلاف إلا لتعميق البعد الدلالي للموت، وذلك أن دالي التناسب يؤولان إلى البعد الإنساني الذي يمثل الحياة المنتهية التي ظهرت في التركيبين: (تسحق الإنسان) من النسق الأول، و(الناس كالفئران) من النسق الثاني. وأن دالي التخالف يؤولان إلى فاعلية الموت والسحق؛ وذلك أن دال (الألوان) يتعالق مع الدالين (مسطحاً/ مدوراً) بوصفها دالات تلتقي على الهيئة والشكل، ودال (الأصوات) يتعالق مع دالي ( حدوة الحصان) بوصفهما يشيران إلى الحركة والصوت.

وقد تكون تواز عمودي تمثل في تكرار صيغة المضارع لأفعال متقاربة المعاني وتواز استعاري وذلك في الأسطر::

13- تهاجر الأشجار من جذورها

14- يهرب من مكانه المكانْ

15- وينتهي الإنسانْ

وهو تكرار يؤكد دلالة السحق والموت، فالسطران الثالث عشر والرابع عشر يخلقان توازياً استعارياً محوراه دالا: (الشجر) الذي يفعل فعل الإنسان فيهاجر من (جذوره)، و(المكان) الذي يهرب من مكانه. إن هذا التكون الاستعاري يشير إلى عمق ما أصاب عناصر النسقين السابقين أمام دلالتي (السحق والموت) فلا المكان (بلدة) عاد مكاناً ولا الإنسان (الناس) عاد إنساناً. ولذلك نجد المقطع ينتهي بسطره الأخير (وينتهي الإنسان) الذي يخلق صلة دلالية بين المستوى السطحي للمقطع ومستواه العميق، ويبدو لي أن مثل هذه الحركة الدلالية مؤشر إلى تبادل الفاعلية بين المقطع الشعري والإنسان الذي يشكل محوره، فانتهاء تكون الدلالات فيه إيذان بانتهاء الإنسان وفاعليته.

المقطع الثاني

1- حين يصير الحرْفُ في مدينةٍ

2- حَشيشَةً يمنعها القانونْ

3- ويصبح التفكيرُ

4- كالبغاءِ..

5- واللُّواطِ..

6- والأفيونْ..

7- جريمةً يطالها القانونْ..

8- حين يصير الناسُ في مدينةٍ

9- ضفادعاً مفقوءة العيونْ

10- فلا يثورون ولا يشكونْ

11- ولا يُغنّونَ ولا يبكونْ

12- ولا يموتونَ ولا يحيونْ

13- تحترقُ الغاباتُ، والأطفالُ, والأزهارْ

14- تحترقُ الثمارْ

15- ويصبح الإنسان في موطنِهِ

16- أذلَّ من صَرْصَارْ..




يتكوّن هذا المقطع من نسقي تواز: امتد الأول من السطر الأول إلى السطر السابع، وامتد الثاني من السطر الثامن إلى الثاني عشر. ثم ينغلق في الأسطر من الثالث عشر إلى السادس عشر، وقد شكل هذا الانغلاق أداة الترابط بين النسقين.

وقد اعتمد تشكل النسقين على عدد من تقنيات التوازي أولاهما التقنية التكرارية التي تمثلت في أول سطر في كل منهما، وذلك على النحو الآتي:

1- حين يصير الحرْفُ في مدينةٍ

8- حين يصير الناسُ في مدينةٍ

لا شك في أن السطرين يتوازيان على مبدأ التماثل بين المكونات الدالية، سوى خرق دالي واحد بينهما، ذلك أن السطر الأول يتضمن دال (الحرف) ويقابله في السطر الثاني دال (الناس)، ويبدو أن هذا الخرق يشير إلى أن كل سطر موجه نحو إنتاج دلالة مختلفة عن دلالة السطر الآخر غير أن هذا الاختلاف يبدو ظاهرياً؛ أي أن البنيتين ربما تنتجان دلالتين متماثلتين؛ فالسطر الأول يخرج من بنية التماثل الدالي بالدال (الحرف) ليرصد به وبكل ما يتعلق به من دالات دلالة الجمود من خلال محاولة إبطال فاعلية الحرف، وحتى تنتج بنية التوازي هذه الدلالة اعتمدت تقنية التوازي التشبيهية من خلال خلق بنيتي تشبيه متوازيتين يتشكل محور الأولى من الدال (الحرف) ومحور الثانية من الدال (التفكير). وحتى نكون على وعي لبنية التوازي نعيد رصد الأسطر الممثلة للتشبيهين على النحو الآتي:

البنية الأولى الحرفحشيشة يمنعها القانون

البنية الثانيةالتفكيركالبغاء/اللواط/الأفيون جريمة يطالها القانون

إن البنية الأولى تحاول أن تخلق حالة التماثل التي تؤدي إلى دلالة الجمود من خلال المقاربة بين فعل (الحرف) وفعل (الحشيشة)؛ وذلك أن كلاً منهما يقدم فاعلية التحفيز، فالحرف يقدم فاعلية تحفيز المتلقي الذي يتأثر به عن طريق الاتصال؛ مما يجعله منقاداً إلى دائرة الفعل والاستجابة. والحشيشة تقدم بفاعلية تحفيز الذهن وشحذه ليدخل في عملية التصور والتخيل والوهم. ولا شك في أننا ندرك أن قيمة تحفيز الحرف – في واقعه- تقود إلى التحفيز الإيجابي، في حين أن تحفيز الحشيشة يقود إلى التحفيز السلبي. غير أن هذا الافتراق بين الفاعليتين يزول في بنية التشبيه، وذلك من خلال الدالين (يمنعها القانون) ذلك أن القانون يقرب بين الفاعليتين ويجعلهما تسيران في قناة دلالية واحدة هي التحفيز السلبي، لا شك في أن هذا التحويل لفاعلية الحرف في المدينة يممنوع إلى جعل الحرف معطلاً عن الفعل الحقيقي مما يجعله حرفاً جامداً لا إنتاج لـه على صعيد الفعل والممارسة الحقيقيين.

وتحاول البنية التشبيهية الثانية أن ترصد هذه الدلالة بالتقنيات التشبيهية نفسها التي استخدمتها البنية الأولى مع تغيير في المساحة البنائية من حيث عدد الأسطر وطريقة بناء النسق التشبيهي، وذلك أنها اعتمدت على تقنية التوازي النحوي من خلال توازي التركيبين في السطرين: (حين يصير الحرْفُ في مدينةٍ) و(ويصبح التفكيرُ) إن السطرين يلتقيان نحوياً على الدال (حين) الذي حضر فعلياً في السطر الأول وغاب عن السطر الثاني ولكنه حضر تقديرياً، فنحن لا نستطيع أن التواصل بالسطر الثاني تواصلاً سليماً إلا بتقدير هذا الدال الذي يقودنا إلى السطر الأول ويشعرنا بمبدأ التوازي. ومن هنا تبدأ بنية التشبيه الثانية بإنتاج دلالة الجمود باستخدامها دال (التفكير) المحوري ومحاولة تقريبه من ثلاثة دالات تشكل المشبه به في البنية هي (البغاء/ اللواط/ الأفيون) ومن ثم تعليقه بالسطر السابع (جريمة يطالها القانون)؛ وذلك أن (التفكير) يتصف بفاعلية التحفيز التي تقود إلى الفعل الإيجابي في تحسين الممارسة، في حين أن الدالات الثلاثة تقدم نوعاً من الفاعلية التي تفترق عن فاعلية التفكير، فالدال (البغاء) يقدم فاعلية سلبية في الاتجاه الأخلاقي الذي يقود إلى دائرة الفساد الاجتماعي بوصف البغاء سلعة رائجة تسيطر على الفعاليات الاجتماعية، والتي تقود المجتمع إلى استثمار الجانب الأخلاقي الفاسد ليصبح قوة اقتصادية، ويشترك الدال (اللواط) في فاعلية الدال السابق وذلك باتجاهه إلى الفاعلية الأخلاقية الفاسدة التي تقود القوى البشرية في المجتمع إلى ممارسة فعل الشذوذ الذي يعطل قدراتهم، ويأتي الدال الثالث (الأفيون) بفاعلية مفترقة عن فاعليتي الدالين السابقين وذلك أنه يقوم بفاعلية التحفيز الذهني التي تممنوع إلى عملية التصور والوهم, وربما تنتهي هذه العملية إلى أن يفقد من يتعاطاه السيطرة على قدراته الذهنية. يبدو أن هذا التراكم الدلالي الناتج من الدالات الثلاثة يقف على موازاة فاعلية التفكير ويتقاطع معها على مستوى التماثل البنائي من خلال تعليقه بدال (جريمة) ذلك أن كل هذه الدالات بتوازيها مع دال التفكير تجعل هذا الدال فعلاً سلبياً يعمل القانون على كبح جماحه وتعطيل ممارسته الفعلية؛ مما يدخله في طور الجمود والسكون.

ويبدو لي أن بنية التوازي التشبيهية تقدم على المستوى البنائي دوراً مهماً لإيصال دلالة الجمود بين دالاتها من خلال توازي القافيتين (القانون) وذلك أننا نلحظ أن القافية الأولى في السطر الثاني تشكل غلق بنية التشبيه الأول والدال الثاني يشكل غلق البنية التشبيهية الثانية؛ مما يشير إلى أن ما بين القافيتين من دالات (التفكير/ البغاء/ اللواط/ والأفيون/ الجريمة) تتواصل مع مكونات البنية التشبيهية الأولى، ولذلك لا بد من ملاحظة العلاقات القائمة بين دالات كل بنية، ويمكن أن نرصد هذه العلاقات على النحو الآتي:

البنية الأولى:الحرفحشيشة يمنعها القانون

البنية الثانية:التفكير البغاء اللواط الأفيون جريمة يطالها القانون

إن دال (الحرف) يتصل على المستوى الموضوعي بالدال (التفكير)؛ وذلك أن الحرف هو الناتج النهائي الذي يكشف عن التفكير الذي يعمل في الذهن، وقد حاولت الحركة الأولى أن تجعل هذا الناتج معطلاً في المدينة؛ مما جعل هذا التعطيل يمتد إلى مُنتِج الحرف، وفي الوقت نفسه نستطيع أن نتصور العلاقة الموضوعية معكوسة بين الدالين؛ أي أن الحرف يقوم بفاعلية تحفيز الذهن مما يدفع هذا الذهن إلى إنتاج التفكير، ومع هذا العكس فإن البنية جعلت هذا الناتج التفكيري معطلاً؛ مما يعني أن الدالين- وإن تبادلا المواقع في المدينة- معطلان عن الفاعلية.

وأما دال (حشيشة), فإنه يتواصل بالدالات المتعددة المتقابلة في البنية الثانية، وذلك أن الحشيشة تتواصل مع البغاء واللواط والأفيون على المستوى الموضوعي في دائرة (المحرم) اجتماعياً وقانونياً، ثم يأتي الدال (جريمة) ليتواصل بالدال (حشيشة) على المستوى الدلالي والمستوى الإيقاعي، أما في المستوى الدلالي فإن الحشيشة تتماثل مع الجريمة في وقوعها في دائرة المحظور، وأما في المستوى الإيقاعي، فهما يتماثلان في الوزن الصرفي (فعيلة) الذي يممنوع إلى إكمال حلقة التماثل بين الدلالة والإيقاع، ثم تجلي بنية التوازي التشبيهي هذه العلاقات بفرضها التوازي بين (يمنعها) و(يطالها) وجعل دالي (القانون) فاعلين مباشرين لهما، فالقانون في الأولى يمارس فعل المنع والكبح على فاعلية (الحرف) فيجمدها، والقانون، في الثانية يمارس فعل التسلط والقمع على فاعلية التفكير فيجمدها ويقصيها.

ويقدم النسق الثاني من هذا المقطع عدداً من تقنيات التوازي المختلفة، فيبدأ برصد بنية تشبيه محورها دال (الناس) في المشبه ودالات (ضفادعاً مفقوءة العيونْ) ثم تعلق بها ثلاثة أبنية متوازية تقوم على تقنية تكرار الحرف (لا) من ناحية وتقنية توازي التقابل البلاغية من ناحية أخرى.

وقد رصدت بنية التشبيه دلالة الجمود من خلال حركة التحول التي أحدثتها علاقة التماثل بين دال المشبه (الناس) ودال المشبه به (ضفادعاً) وذلك أن (الناس) في المدينة يتقزمون بتحولهم من قدرتهم وفاعليتهم بوصفهم بشراً قادرين على ممارسة القدرة البشرية إلى قدرة تتهاوى لتصبح بقدرة ضفدع مشلول الحركة لفقده القدرة على الأبصار (مفقوءة العيون) وقد مثلت التقنية التكرارية والتقنية التقابلية هذه الدلالة تمثيلاً واضحاً، وذلك في الأسطر الثلاثة الآتية:

10- فلا يثورون ولا يشكونْ

11- ولا يُغنّونَ ولا يبكونْ

12- ولا يموتونَ ولا يحيونْ

إن هذه الأسطر التي تشكل نهاية النسق الثاني قد توازت على وفق البنية التكرارية من خلال تكرار دال النفي (لا) وإتباعه بفعل مضارع ثم تتكرر البنية الثنائية في الأسطر كلها بشكل أزواج (حرف نفي + فعل مضارع). وقد شكل السطر الأول توازياً قائماً على علاقة التناسب والتناظر بين الدالين (يثورون) و(يشكون) في المستوى السطحي، في حين ينتجان علاقة ما يشبه التضاد في المستوى العميق؛ وذلك أن الدال الأول (يثورون) يقود إلى معنى الثورة المنتجة حركة ثورية متأججة، والدال (يشكون) يقود إلى معنى التذمر الذي يتصف بالحركة الموضعية الهادئة التي لا تصل درجة حدتها إلى حركة الثورة. غير أن هذا التناسب الحركي- بدخوله بنية التكرار المعتمدة على النفي- يؤول إلى دلالة الخواء الناتجة من نفي الثورة المتحركة ومن نفي الشكوى الساكنة. ويبدو أن علاقة ما يشبه التضاد تنضاف إليها دلالات متوازية أخرى، وذلك أن دال (لا يثورون) يقود إلى دلالة انتفاء الأمل المعقود على الثورة وما يمكن أن تحققه، وفي المقابل فإن الدال (لا يشكون) يممنوع إلى دلالة انتفاء الحزن الذي ينتج الشكوى؛ مما يجعل هذه الثنائية الدلالية تنتهي إلى دلالة الجمود.

ويأتي السطر الحادي عشر ليعمق دلالة الجمود من خلال بنية التوازي بين ثنائية (لا يغنون) و (لا يبكون)، وذلك أن الدال الأول (يغنون) يؤشر إلى سببين أساسيين ينتج أحدهما الغناء: الأول يتصل بحال السرور والفرح، والثاني يتصل بحال الحزن والألم. وبإدخال هذا الدال بنية النفي يصبح الناتج الدلالي منفياً؛ أي أن حالي السرور والحزن منفيتان عن الناس في المدينة. وأما الدال (يبكون) فإنه في العادة لا ينتج إلا من حال الحزن والألم، وبإدخاله بنية النفي يصبح الناتج الدلالي للحزن منفياًً. لا شك في أننا نلحظ أن الدالين يلتقيان في الناتج الدلالي، و لعل هذا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
نائب المدير
الادارة العامة
الادارة العامة
نائب المدير


عدد المساهمات : 2120
نقاط : 7058
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 06/04/2010

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Empty
مُساهمةموضوع: تابع   تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Emptyالسبت يوليو 03, 2010 1:05 am

إن هذه الأسطر التي تشكل نهاية النسق الثاني قد توازت على وفق البنية التكرارية من خلال تكرار دال النفي (لا) وإتباعه بفعل مضارع ثم تتكرر البنية الثنائية في الأسطر كلها بشكل أزواج (حرف نفي + فعل مضارع). وقد شكل السطر الأول توازياً قائماً على علاقة التناسب والتناظر بين الدالين (يثورون) و(يشكون) في المستوى السطحي، في حين ينتجان علاقة ما يشبه التضاد في المستوى العميق؛ وذلك أن الدال الأول (يثورون) يقود إلى معنى الثورة المنتجة حركة ثورية متأججة، والدال (يشكون) يقود إلى معنى التذمر الذي يتصف بالحركة الموضعية الهادئة التي لا تصل درجة حدتها إلى حركة الثورة. غير أن هذا التناسب الحركي- بدخوله بنية التكرار المعتمدة على النفي- يؤول إلى دلالة الخواء الناتجة من نفي الثورة المتحركة ومن نفي الشكوى الساكنة. ويبدو أن علاقة ما يشبه التضاد تنضاف إليها دلالات متوازية أخرى، وذلك أن دال (لا يثورون) يقود إلى دلالة انتفاء الأمل المعقود على الثورة وما يمكن أن تحققه، وفي المقابل فإن الدال (لا يشكون) يممنوع إلى دلالة انتفاء الحزن الذي ينتج الشكوى؛ مما يجعل هذه الثنائية الدلالية تنتهي إلى دلالة الجمود.

ويأتي السطر الحادي عشر ليعمق دلالة الجمود من خلال بنية التوازي بين ثنائية (لا يغنون) و (لا يبكون)، وذلك أن الدال الأول (يغنون) يؤشر إلى سببين أساسيين ينتج أحدهما الغناء: الأول يتصل بحال السرور والفرح، والثاني يتصل بحال الحزن والألم. وبإدخال هذا الدال بنية النفي يصبح الناتج الدلالي منفياً؛ أي أن حالي السرور والحزن منفيتان عن الناس في المدينة. وأما الدال (يبكون) فإنه في العادة لا ينتج إلا من حال الحزن والألم، وبإدخاله بنية النفي يصبح الناتج الدلالي للحزن منفياًً. لا شك في أننا نلحظ أن الدالين يلتقيان في الناتج الدلالي، و لعل هذا الالتقاء يشكل تكثيفاً دلالياً لناتج الحزن من ناحية، ويدخل الناس في المدينة في حالة الجمود من ناحية أخرى, فهم يفقدون الحس والمشاعر سلباً أو إيجاباً كما فقدوا الحركة والسكون في البنية الأول.

وتتعمق دلالة الجمود في السطر الأخير باعتماده على بنية التقابل الذي يقوم على علاقة التضاد، فالدال (يموتون) يتضاد بالدال (يحيون) غير أن تقنية التكرار التي سلطت دال النفي على الفعلين جعلت إنتاج دلالة الجمود إنتاجاً مفتوحاً لا ينتهي كما كان في السطرين السابقين؛ ذلك أن السطرين السابقين قد أنتجا حركة منفية، وسكوناً منفياً وحزناً منفياً وسروراً منفياً دون إحداث تكرار تماثلي لهذه الدلالات, في حين يشكل السطر الأخير حركة إنتاج دلالي تماثلي غير منتهٍ؛ وذلك أن فرض حالة توسط بين متضادين لا يمكن أن تتوفر في الواقع المعيش فليس هناك حالة متوسطة بين الموت والحياة، فإذا كان هؤلاء الناس في المدينة (لا يموتون) فهم إذن يحيون فيها، وإذا كانوا (لا يحيون) فيها فهم إذن يموتون فيها، غير أن البنية، هنا، جعلت الناس لا يحيون ولا يموتون، ولا شك في أن هذه البنية تعمق دلالة الجمود غاية التعميق، ويبدو لي أن هذه البنية قد تقاطعت أو تناصت مع الآية الكريمة: "إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى"([49]) وهي حالة ترصد شدة البؤس التي تغمر هؤلاء الناس في المدينة التي أصبحت بمواصفات جهنم وأصبح الناس فيها مجرمين يطالهم القانون.

إن المقطع لا يكتفي بتوحيد الحركتين بإنتاج دلالة الجمود، بناءً على علاقات التماثل والتضاد الناشئة من تقنيات التوازي، وإنما يسعى إلى خلق عملية ربط على المستوى البنائي من خلال انغلاقه بالأسطر الأربعة الأخيرة:

13- تحترقُ الغاباتُ، والأطفالُ, والأزهارْ

14- تحترقُ الثمارْ

15- ويصبح الإنسان في موطنِهِ

16- أذلَّ من صَرْصَارْ..

وذلك أنه علق السطرين (13، 14) بتقنية تكرارية تكونت نتيجة تتحقُّقِ دلالة الجمود في المحاور الرئيسية في النسقين السابقين (الحرف/ التفكير/الناس) مما جعل (الغابات والأطفال والأزهار والثمار) تحترق جميعاً، ويبدو أن هذا الاحتراق ناتج من فاعلية السطوة التي مورست على هذه المحاور. وهذا الاحتراق يقود إلى تعطيل فاعلية الحياة في البعد المكاني (المدينة). وقد مثلت هذه الحياة عناصر موضوعية تنتج كثيراً من الدلالات والترابطات التي تكشف عن خطورة ما يجري من تسلط في هذا المكان فما الغابات إلا ذلك النسيج المتشابك من مقومات الحياة التي تؤشر إلى النماء والعطاء وتجدد الحياة, وبإضافة دال (الأطفال) إليها تتعزز دلالة تجدد الحياة بمجيء أطفالها واستمرارهم في الحياة عطاءً ونماءً. ويجلي هذا التصاعدَ في النماء والعطاء الدالُ (الأزهار) الذي يممنوع إلى جعل الحياة تواصل نموها واستمرارها بكل معاني التفتح والازدهار. إن كل ما تقدم من ترابطات في النماء والعطاء والاستمرار يزول بفاعلية الدال (تحترق) الناتج من فعل بنية التوازي المتقدمة، ويبلغ المقطع ذروة التصعيد الدلالي بإضافة دال (الثمار) الذي علق بالدال (تحترق) في السطر الرابع عشر والذي شكل توازياً تكرارياً مع السطر السابق، وذلك بجعل النمو والعطاء يصل إلى نهاية متمثلة بالثمار ولكنها نهاية منهارة أمام سطوة ما تقدم. إن هذا الانهيار قد دفع بالإنسان لأن يفقد كل معاني الرفعة والكرامة في وطنه مما جعله (أذل من صرصار ..).

المقطع الثالث

1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ

2- سفينةً يركبها قرصانْ

3- ويصبح الإنسان في سريرهِ

4- مُحاصراً، بالخوف والأحزانْ

5- حين يصير الدّمعُ في مدينةٍ

6- أكبرَ من مساحة الأجفانْ

7- يسقط كلُّ شيءْ

8- الشمسُ..

9- والنجومُ..

10- والجبالُ..

11- والوديانْ..

12- والليلُ، والنهارُ, والبحارُ، والشطآنْ..

13- واللهُ..

14- والإنسانْ..




يتكوّن هذا المقطع– كالمقطعين السابقين- من نسقي تواز عموديين قائمين على تقنية التكرار: امتد النسق الأول من السطر الأول إلى السطر الرابع، وامتد الثاني من السطر الخامس إلى السطر السادس. وذلك على النحو الآتي:

1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ

5- حين يصير الدّمعُ في مدينةٍ

وقد أحدث المقطع خرقاً في التكون التكراري في السطرين من خلال الدالين (العدل) و(الدمع) لينتج بهما دلالات مختلفة، ثم انتهى النسقان ببنية تشكل غلقاً بنائياً يوحدهما على المستوى البنائي والدلالي. يبدأ هذا الغلق من السطر السابع إلى السطر الرابع عشر.

أنتج النسق الأول دلالة التغيير انطلاقاً من الافتراق وقد اعتمد في إنتاج هذه الدلالة على تقنية توازٍ نحوية، تكونت في السطرين:

1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ

3- ويصبح الإنسان في سريرهِ

إن التوازي النحوي، هنا، ناتج من الحضور الدال (حين) فعلياً في السطر الأول ومن حضوره تقديرياً في السطر الثالث، وقد أنتج السطر الأول دلالة المفارقة من خلال بنية التشبيه التي شكل الدال (العدل) فيه المشبه والدال (سفينة) المشبه به. إن دلالة المفارقة، هنا، منبثقة عن علاقة المماثلة التي تفرضها بنية التشبيه بين الدالين، وذلك أن هذه السفينة واقعة تحت سيطرة (قرصان) يقطع البحار بغية السطو على ما في عرض البحر والاستيلاء عليه. إن تحول العدل بوساطة علاقة المماثلة إلى سفينة القراصنة يتخذ موقعاً متضاداً من نفسه؛ أي أنه يصبح ضد نفسه إذ ينتقل من عدل إلى ظلم، مما يقود إلى إنتاج دلالة المفارقة التي تممنوع إلى دلالة التغيير، ويشترك السطر الرابع في إنتاج هذه الدلالة وذلك أنه رصد دال (سريره) الذي يحيل إلى ترابطات الراحة والدعة والاستقرار والسكون وغيرها مما ينتمي إلى معجم الراحة, ثم علقة بدال (الإنسان) (المحاصر بالخوف والأحزان) ثم إن مثل هذا التعليق يخلق دلالة المفارقة بين ما ينتجه السرير من الراحة والدعة وما ينتجه الحصار بالخوف والأحزان من التعب والعنت والشقاء فتتمثل عندئذ دلالة التغيير.

ويأتي النسق الثاني ليتواصل بالنسق الأول اعتماداً على الربط السببي المترتب على إنتاج دلالة التغيير، وذلك أن الدال (الدمع) يتخذ حركة تصاعدية في مكانه حتى لا يتسع لـه هذا المكان؛ مما جعله يأخذ (أكبر من مساحة الأجفان) ويبدو أن هذه الحركة ناتجة من حالة التغيير التي حدثت في المدينة في النسق الأول، وذلك أن الإنسان في هذه المدينة دخل حالة حزن عميق يفوق مساحة جسده ويتعداه إلى المساحة الكونية التي تحيط به، وذلك بدخوله حالة الحضارة والتغيير في القيم التي كان يمارسها فيها.

ويبدو أن الأسطر التي أغلقت هذا المقطع قد تفاعلت مع دلالة التغيير والتحول، وذلك أنها تممنوع إلى دلالة انهيار الكيان الإنساني بكل علاقاته القائمة على التماثل أو التضاد، وقد ظهر هذا الانهيار في السطر (يسقط كل شيء)، فكل شيء ينهار مستجيباً لدلالة التغيير والتحويل. وقد جاءت بنية الغلق بعدد من الدالات التي تكشف عن هذا التساقط، وذلك بوساطة تقنية التوازي التي تعتمد على علاقات التناسب وهو ما سمي في البلاغة بمراعاة النظر، وقد تمثل هذا التوازي في الثنائيتين: (الشمس/ والنجوم) و(البحار/ والشطآن) فالشمس تتناسب مع النجوم في الكوكبية، والبحار تتناسب مع الشطآن في البعد المكاني، وقد كشفت عن التساقط أيضاً من خلال بنيتين ثنائيتين تجمعهما علاقة التضاد، وقد توفرت في الثنائيتين (الجبال/ الوديان) و(الليل/ النهار)، فالدال (الجبال) الذي ينتج معنى الأعلى يتضاد مع الدال (الوديان) الذي ينتج معنى الأسفل، ويتقابل الدال (الليل) على التضاد مع دال (النهار). ثم يتصاعد الإحساس بالانهيار عندما يرصد هذا الغلق البنائي انهيار القيم الدينية لدى الإنسان في السطرين الأخيرين عندما يمزقان علاقة الإنسان بـ(الله) سبحانه وتعالى. ولا شك في أن وصول المقطع إلى هذا الحد من التمزق يكشف عن عمق دلالة التغيير التي أصابت الناس في المدينة في صميم كيانهم.
المقطع الرابع

1- حين تصير خُوذةٌ

2- كالربّ في السماءْ

3- تصنعُ بالعباد ما تشاءْ

4- تَمْعَسُهُمْ..

5- تَهْرُسُهُمْ..

6- تُميتُهُمْ..

7- تَبْعَثُهُمْ..

8- تصنع بالعباد ما تشاءْ

9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ

10- نوعاً من البغاءْ

11- ويصبح التاريخ في مدينةٍ

12- مَمْسَحَةً..

13- والفكر كالحذاءْ

14- حين تصير نسمة الهواءْ

15- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ

16- وحبة القمح التي نأكلها

17- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ

18- وقطرة الماء التي نشربها

19- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ

20- حين تصير أمةٌ بأسرها

21- ماشيةً تعلف في زريبة السلطانْ

22- يختنق الأطفال في أرحامهمْ

23- وتجهض النساءْ..

24- وتسقط الشمس على ساحاتنا

25- مَشْنَقَةً سوداءْ..




يتكوّن هذا المقطع من أربعة أنساق تواز عمودية تعتمد بدايات تكوينها على التقنية التكرارية التي تشكل الرابط البنائي الأول بينها، ثم يتعمق ترابطها بالأسطر التي تشكل غلق البنية الكلية للمقطع. ظهرت هذه الأنساق في الأسطر الآتية:1- حين تصير خُوذةٌ9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ14- حين تصير نسمة الهواءْ20- حين تصير أمةٌ بأسرها

إن الأنساق الأربعة تشترك في تكرار دالين في كل منها ثم يفترق كل منها بدالاته الأخرى.

يتشكل النسق الأول من عدد من تقنيات التوازي البلاغية التي تتداخل بنائياً، ابتداء من السطر الأول إلى السطر الثامن، وقد تمثلت التقنية الأولى في تكرار السطر (تصنع بالعباد ما تشاء) الذي تكرر مرتين في السطرين الثالث والثامن ثم تداخلت بينهما تقنية مراعاة النظر التي تشكلت من الدالين (تمعسهم/ تهرسهم)، وجاورتها تقنية التضاد في الدالين (تميتهم/ تبعثهم).

يبدو لي أن هذا النسق ينتج دلالة السطوة من خلال تعالق دالاته ابتداء من بنية التشبيه التي مثل فيها الدال (خوذة) المشبه والسطر (كالرب في السماء) المشبه به، فدال (الخوذة) يشير إلى القوة والسطوة اللتين يمارسهما الإنسان، فالخوذة تحيل في العادة إلى الجندي الذي يعتمرها لخوض معركته التي يمارس فيها القوة ضد عدوه، فبنية التشبيه تؤشر بتكوينها إلى دلالة السطوة التي يمارسها الدال (الخوذة)، وقد جلى المشبه به في السطر الثاني هذه الدلالة لإحالة دالاته عليها، وذلك أن دال (الرب) يحيل إلى معنى الربوبية المتحكمة بمصائر البشر، فهي تسيرهم كيفما تشاء. وقد عمقت البنية هذا التحكم بدال (السماء) الذي يحيل إلى الرفعة والسلطة العلوية. فبنية التشبيه، إذن، تنتج دلالة السطوة المطبقة على كل شيء.

وتعمق التقنيات البلاغية المتداخلة دلالة السطوة من خلال بنية التكرار التي تحمل معنى تحكم صاحب الخوذة المطلق على الناس الذين أوصلتهم البنية إلى درجة (العباد) التي تتوافق مع دلالة القدرة الإلهية التي تماثلها قدرة صاحب الخوذة، وقد جاء هذا التعميق بحصر بنية التوازي تقنيتي مراعاة النظير والتضاد بين نسقي التكرار, فكأنما التركيب (تصنع بالعباد) يتحكم تحكماً مطلقاً بهم، فصاحب الخوذة بممارسته الفعلين (تمعسهم/ تهرسهم) يمارس عليهم كل أنواع التسلط التي تحيل العباد إلى شكل وهيئة جديدين، ثم بعد ذلك يحيلهم إلى الموت ويبعثهم من جديد أحياء. ومن الملاحظ أن الدالات الأربعة التي وقعت بين هذين النسقين تتشكل من ثلاثة دالات تشير إلى ممارسة السلطة السلبية الضاغطة على الإنسان ومن دال واحد يشير إلى ممارسة إيجابية تمثل عودة الإنسان من الموت إلى الحياة، ويبدو لي أن زيادة دالات التسلط تشير إلى عمق ممارسة السطوة على الإنسان من قبل صاحب الخوذة وما يحيل إليه الدال (تبعثهم) يشعر بغاية تكرار هذه السطوة مع الناس من جديد؛ ليصبح إنتاج هذه الدلالات إنتاجاً مكرراً بين نسقي التكرار.

وتنشأ في النسق الثاني تقنيتا تواز متداخلتان، تتشكل الأولى من تواز تكراري، والأخرى من تواز تشبيهي، امتدت الأولى والثانية على كل أسطر النسق على النحو الآتي:9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ10- نوعاً من البغاءْ11- ويصبح التاريخ في مدينةٍ12- مَمْسَحَةً..13- والفكر كالحذاءْ

إن بنية التوازي الأولى تحضر دال (حين) فعلياً في السطر التاسع وتحضره تقديراً في السطر الحادي عشر، ثم تغير دالين في كل نسق من نسقيها فتأتي بدالي (يصير الحكم) لتوازيهما بدالي (يصبح التاريخ) ثم تكرر دالي (في مدينة) في النسقين، وأما بنية التوازي التشبيهي، فقد تشكلت من ثلاثة أنساق على النحو الآتي:

البنية


المشبه


المشبه بــــه

النسق الأول


الحكم


نوعاً من البغاء

النسق الثاني


التاريخ


ممسحة

النسق الثالث


الفكر


الحذاء

لا شك في أننا نلحظ أن الأنساق الثلاثية ترصد في محورها الأول (المشبه) ثلاثة ركائز أساسية في حياة الأمة، فالحكم ركيزة الأمة في الحفاظ على أمنها واستقرار معيشة أفرادها، والتاريخ عامل مهم في دفع الأمة للتطور والتفوق في منجزاتها، والفكر هو المحرك الأساسي لها لإنتاج التقدم والازدهار، غير أن هذه الركائز تدخل في بنية التوازي من خلال عملية التحويل التي تنتج دلالات مختلفة تنحرف بها عن وظيفتها الأساسية في حياة الأمة: (فالحكم) يتحول من أداة عدل تحقق الأمن والاستقراء إلى شهوة تممنوع الأمة إلى الفساد فما (البغاء) إلا ممارسة للفساد عن طريق الشهوة المحرمة مما يحيل إلى دلالة ممارسة سلطة الفساد، ويقوم الدال (التاريخ) بالتحول المشابه لتحول الحكم ولكنه يفترق عنه ليصبح سلطة خاوية من المعنى تمارس الإقصاء، وذلك أن التاريخ بتحوله إلى الدال (ممسحة) الذي يحيل إلى معنى القيمة المتدنية ومعنى الإزالة التي إذا ما ارتبطت بالتاريخ فإنها تنتج دلالة إقصاء مقومات الأمة وإنجازاتها الحاضرة لإحلال التاريخ الذي لا قيمة لـه محلها؛ مما يدخل الأمة في حال التحجر والجمود والتقوقع في التاريخ. ولا شك في أن مثل هذا التحول يسهل مهمة التسلط والإقصاء. ويجلي الدالُ (الفكر) المتحول هذه الدلالةَ بربطه بدال (الحذاء) الذي يحيل إلى معنى الانحطاط في القيمة، ففكر الأمة أمام التحولين السابقين لا يستطيع أن يمارس فعله الحقيقي فيصبح عندئذ فكراً غير فاعل يتجمد بتجمد (التاريخ) ويفسد بفساد (الحكم).

ويقدم النسق الثالث بنية توازٍ تقوم على المزج بين التقنية التكرارية والتقنية النحوية، وهي تتكون من ثلاثة أنساق تتوازى نحوياً وتتداخل فيها ثلاثة أنساق تتوازى تكرارياً وحتى نتصور هذه البنية نعيد تنسيقها على النحو الآتي:

14- حين تصيح نسمة الهواء15- تأتي بمرسوم من السطان

16- وحبة الفرح التي نأكلها17- تأتي بمرسوم من السلطان

18- وقطرة الماء التي نثر بها19- تأتي بمرسوم من السلطان

إن الأسطر (14، 16، 18) تجتمع على بنية التوازي النحوي، وذلك بوساطة التوازي القائم في بنية العطف فالسطران السادس عشر والثامن عشر يُعطفان على الرابع عشر بالواو ويتضمن هذا العطف تقدير دالين هما (حين تصير) لكل من السطرين، ثم تتقاطع مع هذه الأنساق النحوية الأنساق التكرارية في الأسطر (15، 17، 19). ويبدو لي أن مثل هذا التكوين النسقي يسعى إلى جعل الدالات المحورية فيه متوحدة على المستوى الدلالي الناتج وهو دلالة التحكم بالمصير الإنساني، هذه الدالات هي (نسمة، وحبة، وقطرة)، ولا شك في أننا نلحظ أن هذه الدالات تشترك على المستوى الإيقاعي في بنية وزنية واحد هي (فَعْلَة) وهي تممنوع إلى ملاحظة التوازي الإيقاعي ثم تشترك على المستوى المدلولي والنحوي؛ أي أنها تتحرك من خلال مدلول العدد واحد لتحيل إلى دلالة أقل ما يمكن من العدد لتستغرق بالتالي جنسه.

إن ما تقدم من دالات في أنساق التوازي يكشف عن أن السلطان متحكم بمقومات الحياة الأساسية التي تمنح الناس الاستمرار في العيش، فهو متحكم بجنس الهواء (نسمة الهواء)، ومتحكم بجنس الغذاء (حبة القمح)، ومتحكم بجنس الشراب (قطرة الماء)، إن هذه القدرة على التحكم بهذه المقومات تجعل من السلطان متحكماً بمصير الأمة وممارساً عليها القمع والتسلط.

ويأتي النسق الرابع ليؤكد دلالة التسلط والتحكم بمصير الأمة من خلال اعتماده على بنية التشبيه التي كان محورها (أمة) وهو المشبه و(ماشية تعلف في زريبة السلطان)المشبه به، وذلك أن هذه البنية اعتمدت حركة تحويل الأمة إلى الماشية، فالأمة مارس السلطان عليها التحكم بمصيرها تتحول إلى مخلوقات لا قدرة لها على اختيار نوعية الحياة، فهي كالماشية التي تسمن لتحقيق غايات الجزار من الإفادة من قدراتها وإمكاناتها فهو القادر المتحكم بمصائرها وبإمكاناتها.

وقد أغلقت الأسطر الأربعة الأخيرة من المقطع الأنساق الأربعة المتقدمة وربطت بينها في الوقت الذي بلورت فيه دلالة التسلط التي نتجت في هذه الأنساق من خلال تتابع دالات فعلية تتوازى نحوياً على بنية الفعل المضارع فالسطران:

22- يختنق الأطفال في أرحامهمْ

23- وتجهض النساءْ..

يتوازي دالاهما (يختنق/ تجهض) ليممنوعا إلى غياب بناء مستقبل الأمة نتيجة القدرة السلطوية التي يمارسها العسكر والسلطان على الأمة، فالأطفال يختنقون في أرحام أمهاتهم، لأن السلطان يتحكم (بنسمة الهواء) ويتحكم بغذائهم وشرابهم وبالتالي بحياتهم، لذا تجهض النساء فتلقي أطفالها. ولعل إلقاء الأطفال، هنا، يحيل إلى انعدام تشكل مستقبل زاهر للأمة، ويجلي السطران الأخيران:

24- وتسقط الشمس على ساحاتنا

25- مَشْنَقَةً سوداءْ..

فاعلية دلالة التسلط بتأشيرهما إلى سقوط حرية الإنسان وذلك باستخدامهما دالي (الشمس) و(مشنقة) اللذين نشأت بينهما علاقة التماثل من خلال بنية التشبيه؛ فالشمس التي تحيل إلى انطلاق الحياة، وحرية الإنسان في هذه الحياة تتحول إلى مشنقة سوداء تقيد هذه الحريات وتقتلها فيسود الظلام الأمة ويسحقها.
الحركة الثانية - المقطع الخامس

1- متى سترحلونْ؟

2- المسرح انهار على رؤوسكمْ

3- متى سترحلونْ؟

4- والناسُ في القاعة يشتمونَ.. يبصقُونْ..

5- كانت فلسطين لكمْ

6- دجاجةً، من بيضها الثمين تأكلونْ..

7- كانت فلسطينُ لكمْ

8- قميصَ عثمانَ الذي به تتاجرونْ

9- طُوبى لكمْ..

10- على يديكمْ أصبحتْ حدودنا

11- من ورقٍ...

12- فألفُ تشكرونْ..

13- على يديكمْ أصبحتْ بلادنا

14- امرأةً مباحةً..

15- فألفُ تشكرونْ..




تختلف هذه الحركة في تكويناتها النسقية عن الحركة السابقة، فهي تعمل على إنتاج أنساق تواز متداخلة انطلاقاً من تكوين ثنائيات متوازية يتداخل بعضها في بعضها الآخر، وقد امتدت هذه التداخلات على مساحة بنية هذا المقطع كاملة، وقد تراوحت هذه الأنساق بين التوازي التكراري والتوازي النحوي والتوازي التشبيهي.

بدأ المقطع بتكوينين متداخلين في الأسطر الأربعة الأولى على النحو الآتي:

1- متى سترحلونْ؟2- المسرح انهار على رؤوسكمْ3- متى سترحلونْ؟4- والناسُ في القاعة يشتمونَ.. يبصقُونْ..

يتشكل التكوين الأول من تقنية تكرارية للدالين (متى سترحلون) في السطرين الأول والثالث، ويتشكل التكوين الثاني من تقنية نحوية ويتداخل بالتكوين الأول، فهو يبدأ في السطر الثاني ثم ينتهي في السطر الرابع، وهو يتكون من جملتين سرديتين تصف الأولى ما آل إليه المسرح من خلال الدال الفعلي (انهار)، ويصف الثاني ردة فعل الناس من خلال الدالين (يشتمون / يبصقون)، ويبدو أن هذا التوازي في النسقين كان قد أنتج التكوين الاستفهامي الأول، وذلك أن المقطع يقوم منذ بدئه على إعلان انتهاء الحدث التمثيلي الذي كانت المقاطع الأولى ترسم ملامحه وأحداثه في فضاء النص من خلال دلالاتها التي أنتجتها بناء على شخوص التمثيل التي أشرت إليها سابقاً، فالنسق الأول من التكوين الاستفهامي متأت من صوت الناس المشاهدين للحدث المسرحي عندما رؤوا المسرح قد انهار على رؤوس الممثلين، وتكشفت حقائق الكواليس التي كانت ديكورات المسرح تخفيها وتزينها, فجاء النسق على صيغة الاستفهام الذي يكشف عن سأم المشاهدين للأدوار التي تقمصها الممثلون. وقد استخدم المقطع الدالين (يشتمون/ يبصقون) للإشارة إلى الكشف عن طبيعة ردة الفعل لدى المشاهدين. إن هذين الدالين ينبنيان على علاقة التناسب في تقنية مراعاة النظير، إذ إن (يشتمون) تتناسب مع (يبصقون) فكلاهما من معجم الشتيمة الذي يكشف عن عمق استياء الناس من أدوار الممثلين. وحتى بعمق المقطع هذا الاستياء لجأ إلى مداخلة النسق الثاني من التكوين التكراري (متى سترحلون) في التكوين النحوي.

وأنتج المقطع أيضاً تكويني توازٍ متداخلين مبنيين على استياء المشاهدين، ومشكلين في الوقت نفسه صوت الناس الذي يمثله الدال (يشتمون)، وذلك بدءاً من السطر الخامس وانتهاء بالسطر الثامن:

5- كانت فلسطين لكمْ

6- دجاجةً، من بيضها الثمين تأكلونْ..

7- كانت فلسطينُ لكمْ

8- قميصَ عثمانَ الذي به تتاجرونْ

يتشكل التوازي الأول من التقنية التكرارية التي ظهرت بنيتها في السطرين الخامس والسابع، ويتشكل الثاني من التوازي التشبيهي الذي امتد على الأسطر الأربعة. وحتى ندرك هذا التكوين نرصد البنيتين على النحو الآتي:

نسق التكرار الأول5- كانت فلسطين لكمْ

التشبيه الأولالمشبه5- كانت فلسطين لكمْالمشبه به 6- دجاجةً..

نسق التكرار الثاني7- كانت فلسطينُ لكمْ

التشبيه الثانيالمشبه7- كانت فلسطينُ لكمْالمشبه به 8- قميصَ عثمانَ..

لا شك في أننا نلحظ أن النسقين الأول والثاني من التكوين التكراري يشكل الجزء الأول من كل بنية من بنيتي التشبيه، فهما يمثلان المشبه، ولعل تكرار المشبه في البنيتين قد يوهم بإنتاج علاقة التماثل بين التكوينين، غير أن هذا الوهم يزول عندما نجد العلاقة تتخلخل برصد بنية التشبيه مشبهين بهما مختلفين يتجه كل واحد منهما اتجاهاً مغايراً للآخر. ذلك أن المشبه به الأول (دجاجة) والمشبه به الثاني (قميص عثمان)، ويبدو أن التشبيه الأول يسعى لإنتاج دلالة استغلال السلطة في سبيل تحقيق المطامع الشخصية للممثلين (الحكام) وذلك أن هؤلاء الحكام كانوا يرون في (فلسطين) نبعاً وكنزاً (كما هي الحال في بيضة الدجاجة) يدر عليهم كل مقومات الاستمرار بالسلطة ليتحكموا برقاب المحكومين، فكل ما كانوا يفعلون بهؤلاء المحكومين من القمع والتسلط والسحق والممارسات التي برزت في المقاطع السابقة من الحركة الأولى- كان من منطلق إعادة (فلسطين) وتحريرها. إن اكتشاف جمهور المشاهدين هذا التهاوي لقدرات الحكام بفقدهم فلسطين جعل البنية المقطعية تكون صوت هؤلاء المشاهدين في السطر الخامس، ثم تخلق بنية التشبيه الكلية لتتوازى مع التكوينين المتداخلين السابقين ولتعمق الدلالة لتنحرف بها إلى التاريخ العربي. وقد بدأت هذه الدلالة عملها من أعماق التاريخ، ذلك أن (قميص عثمان) الذي اتخذه بنو أمية عموماً ومعاوية على وجه الخصوص وسيلة للتشبث بالحكم والدولة- يستدعي كل ترابطاته التاريخية وتنضاف إليه ترابطات جديدة بربطه بفلسطين، فهؤلاء الحكام لم يكونوا يكتفون بفلسطين مصدراً لاستمرار تسلقهم السلطة ومصدراً لتحقيق نزواتهم الشخصية ومطامعهم بالإمارة بل أصبحت سلاحاً يمارسون به إراقة الدماء وكل أنواع القمع، فهيئوا للأمة أن إراقة دمائها أصبحت طريقاً لتحرير فلسطين من أيدي أعدائهم.

وقد صعّد المقطع في ردة فعل الجمهور المشاهد، فخلق بنية تواز جديدة تقوم على التداخل ولكنها بنية مختلفة عن البنيتين السابقتين، فهي تتكون من ستة أسطر متداخلة، في حين كانت كل بنية من البنيتين السابقتين مكونة من أربعة أسطر، وقد تميزت هذه البنية باستحداث المقطع سطراً منفرداً لها يكشف عن موقف الجمهور المتكلم والمستهزئ بالحكام وهو سطر يعمق دلالة التهكم في أبنية التوازي هذا السطر هو (طوبى لكم ...). لا شك في أن هذا السطر يتناص مع الآية الكريمة "الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ"([50]) وذلك أن الآية تتحدث عما يجده المؤمنون في الجنة من الخلود فيها والنعيم الذي لا يزول، وغير ذلك مما وعد الله المؤمنين في الجنة. إن كل هذه الترابطات في الآية الكريمة يستدعيها هذا السطر ليخلق موقف المفارقة بين ما حققه الحكام في المقاطع السابقة من الظلم والتسلط والقمع وما أنتجوه في هذا المقطع من ضياع فلسطين، فصوروه للحكام بأنه إنجاز عظيم، وهو – كما يبدو- محاولة لتعميق الإحساس لدى هؤلاء الحكام بالخيبة التي أصيبوا بها.

إن أبنية التوازي اللاحقة لهذا السطر تكشف عن مدى تهاوي الحكام وقدراتهم وممارساتهم مقابل الدلالة الناتجة من موقف المفارقة، ذلك أنها بدأت بتكوين توازٍ تكراري من نسقين كان الأول في السطر العاشر والثاني في السطر الثالث عشر، وقد تعالق هذان النسقان مع بنية توازٍ تشبيهي تكونت من نسقين امتد الأول في السطرين العاشر والحادي عشر والثاني في الثالث عشر والرابع عشر، وذلك على النحو الآتي:

النسق الأول على يديكم أصبحت حدودنامن ورق

النسق الثانيعلى يديكم أصبحت بلادناامرأة مباحة

لا شك في أننا نلحظ أن النسقين الأول والثاني من بنية التكرار يتماثلان في الدالات (على يديكم أصبحت) ويختلفان في الدالين (حدودنا/ بلادنا). يبدو أن هذا التكوين التكراري مع اختلاف داليه يسعى لإنتاج دلالة تحيل على التهكم بنوعية الفعل الناتج من دال (يديكم) فهؤلاء الحكام– كما تشعر البنية التكرارية قد أنجزوا بفعل قدرتهم (على يديهم) إنجازاً عظيماً جعلهم يستحقون التبجيل والتعظيم، ففعلهم طال (الحدود) وطال (البلاد)، غير أن بنية التشبيه قد حوّلت هذه العظمة إلى صغار بفعل الدال (من ورق)، وذلك أن فعل هؤلاء الحكام قد جعل حدود بلادنا متحولة إلى ورق؛ أي أن هذه الحدود بهشاشتها وضعفها وعدم تبيان ملامحها لا تقوى على مقاومة القادمين إلى بلادنا محتلين أو غازين تماماً كما هي الحال في الورق سهل التمزيق والتخريق والطي والثني وغير ذلك من معاني عدم قدرة تماسكه على مقاومة الفعل الخارجي.

وقد عمق المقطع موقف المفارقة في النسق الأول من بنيتي التشبيه والتكرار بإدخال بنية تواز تكرارية جديدة في السطر الثاني عشر الذي تكون من (فألف تشكرون) وهي عبارة تقال في العادة في المواقف التي يحمد فيها الناس ويبالغ في حمدهم وثنائهم. وجاء هذا التعميق بربط هذه البنية بالدلالة السابقة، فهي تسعى لتعميق تحويل العظمة إلى الصغار، مما مهد لرصد النسق الثاني من بنية التكرار والتشبيه الذي زاد في تعميق دلالة الصغار، وذلك أن (بلادنا) بعدما تهتكت حدودها وتمزقت تحولت إلى (امرأة مباحة) يضاجعها الصبيان والرجال، فلا حدود تحميها ولا شرف يمنعها، ولا شك في أن هذا التحويل غاية في إحداث موقف المفارقة فيما كان يسعى إليه الحكام من حماية بلادنا (فلسطين) بوسائلهم من تسلط وقهر وقمع وتحكم بحياة الأمة، فالبلاد صارت مشاعاً للناهبين والمحتلين، ولذا جاء النسق الثاني من التكرار (فألف تشكرون ) فعمق هذا الصغار لدى الحكام.
الحركة الثالثة - المقطع السادس

1- حرب حزيرانَ انتهتْ..

2- فكل حرب بعدها، ونحن طيّبونْ..

3- أخبارنا جيدةٌ

4- وحالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكونْ..

5- جمر النراجيلِ.. على أحسن ما يكونْ..

6- وطاولات الزهر- ما زالتْ-

7- على أحسن ما يكونْ

8- والقمر المزروع في سمائنا

9- مُدوَّرُ الوجه، على أحسن ما يكونْ..

10- وصوتُ فيروزَ،

11- من الفردوس يأتي،

12- "نحن راجعونْ"..

13- تغلغل اليهود في ثيابنا

14- و"نحن راجعونْ"..

15- صاروا على مترين من أبوابنا

16- و"نحن راجعونْ"..

17- ناموا على فراشنا..

18- و"نحن راجعونْ"..

19- وكل ما نملك أن نقولهُ

20- "إنا إلى الله لراجعونْ"..




يرصد السطران الأول والثاني بنية ترديد تشكلت من تكرار دال (حرب) الذي تعلق بالدال (حزيران) في السطر الأول وهو يحيل بطبيعة الحال إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام (1967) التي أصيب بها العرب بهزيمة نكراء ساحقة أمام قوة إسرائيل، ومن تكرار الدال الثاني (حرب) الذي علق بدال (كل) وتلاه دال (بعدها) ليحيل إلى استغراق كل أنواع الحروب التي تتلو هذه الحرب، ولعل في هذه الإشارة إحالة إلى دلالة يحاول المقطع أن يجسدها تقود إلى رصد حالة الضعف التي أصابت الأمة في ثقتها بنفسها وبقوتها وقد عمق هذه الدلالة التركيب (ونحن طيبون) الذي يرصد دلالة التهكم بالأمة بوصفه تركيباً يستخدم في ثقافة الأمة بعد إنجاز أفرادها إنجازاً يممنوعهم إلى الفرح والسرور أو بعد إنجاز لـه قيمة عليا. فاستخدامه في موقف الهزيمة يؤدي إلى مفارقة الفرح والسرور إلى التهكم الذي أحدثته مساواة الهزيمة بالإنجاز ذي القيمة العالية، وقد عمقت هذه الدلالة الأسطر التالية لـه والتي تشكل المقطع كله, وهي أسطر مبنية على كثير من أنساق التوازي التكرارية التي تعمق مرارة الهزيمة وعنفها على ذات الأمة ومعتقداتها وثقافتها في كل مسوياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية.

وأول هذه الأنساق النسق التكراري الذي تشكل من التركيب (على أحسن ما يكون) وامتد في أربعة أنساق ابتداء من السطر الرابع إلى السطر التاسع، وهي أسطر تخلق متوالية نحوية ترصد دالات تتعلق بتصور أحوال الأمة من الداخل والخارج، وقد بدأت هذه المتوالية من السطر الثالث إذ رصدت الدال (أخبارنا) الذي يتوزع على حالي الأمة من الداخل متمثلة بمشاعرها ومن الخارج متمثلة بما تتماس به على مستوى معيشتها وقدراتها، وقد جاءت بعدها الدالات التي تصور حال الأمة من الداخل, وذلك في السطر الثاني متمثلة في الدالات (حالنا) و(الحمد لله) و(أحسن)، فالدال (حالنا) يحيل- بربطه بالدالين (الحمد لله)- إلى الاستشعار بالسرور والهناءة التي تتمتع بها الذات الإنسانية بما حققته في حياتها من رضى نفسي وقبول عن الذات، ويكشف الدال (أحسن) عمق هذا الرضى والقبول، وقد توالت الدالات التي تصور أحوال الأمة من الخارج ضمن المتوالية النحوية فرصدت (جمر النراجيل) و(طاولات الزهر) و(القمر، المزروع في سمائنا) لتصور المظاهر العامة التي تحيا بها الأمة والتي تكشف عن مدى المتعة التي تتحلى بها هذه الأمة من ممارستها أنواع اللهو والتسلية (جمر النراجيل/ طاولات الزهر) والاستمتاع بليالي السهر الجميلة التي يزينها القمر في هذه الليالي. إن هذا الرصد لحالة الأمة من داخلها وخارجها كان مرتبطاً على مدى الأسطر التي وردت فيها بنسق التوازي (على أحسن ما يكون) الذي كان يعمل على تعميق دلالة التهكم بتكرار استحداثه حالة الرضى عن الذات والقبول لما أنجزته.

وقد عمق المقطع دلالة التهكم باستثمار الثقافة الاجتماعية والدينية (الفكرية) وخلق بنية تواز تكرارية جديدة, وذلك ابتداء من السطر العاشر إلى نهاية المقطع، وقد رصد من الثقافة الاجتماعية الدالين (صوت فيروز) اللذين يحيلان إلى ثقافة الأمة وفنها وتأثير هذا الفن في ذاتها وفي توجيه مسيرتها، ورصد من الثقافة السياسية الحركة الصهيونية التي سعت بكل تحركاتها للإحاطة بالأمة وابتلاعها وقد ظهر هذا الرصد في الأسطر:

13- تغلغل اليهود في ثيابنا

15- صاروا على مترين من أبوابنا

17- ناموا على فراشنا..

ورصد من الثقافة (الدينية – الفكرية) فهم الأمة للدين والفكر المبني على هذا الدين، وقد ظهر هذا الرصد في الدالات (الفردوس) و(كل ما نملك أن نقوله: إنا إلى الله لراجعون)، ومع كل هذا الرصد للجوانب المكونة للأمة العربية كان المقطع يرصد أنساق التوازي التكراري التي تكونت من السطر (نحن راجعون) ومن السطر الأخير (إنا إلى الله لراجعون)، وقد ولّدت هذه الأنساق التكرارية دلالة المفارقة التي آلت إلى دلالة التهكم، فالثقافة الاجتماعية التي قامت على السطر (وصوت فيروز) هي التي كونت الذات العربية فجعلتها أمة ترى في فاعلية الغناء بديلاً عن فاعلية قدرة الذات وممارستها، فصوت فيروز تخلل عقل الأمة بكل ما يحمله في عبارة (نحن راجعون) من إحالات إلى العودة إلى الوطن المحتل ودحر العدو، فجعلها مخدرة غير قادرة على الفعل المؤثر، فهي أمة متلقية تمارس (جمر النراجيل) و(طاولات الزهر) والاستمتاع.

وأما الثقافة السياسية هنا فهي مبنية على الأكاذيب التي أطلقها الحكام والسلاطين التي ظهرت في الحركة السابقة، وقد استحضر المقطع العبارة السياسية المشهورة (نحن راجعون) التي تكررت في هذا المقطع في أربعة أسطر، غير أن تكرارها لا يعني إعادة معناها، لأن كل سطر منها يرتبط ببنيته فيأخذ دلالته منها، تقول (جوليا كريسطيفا) في حديثها عن قانون التكرارية: "إن الأمر يختلف في اللغة الشعرية، إذ هنا تكون الوحدات غير قابلة للتكرار، أو بصيغة أخرى، لا تظل الوحدة المكررة هي هي. وهو ما يجعلنا نتبنى كونها تصبح أخرى بمجرد ما تخضع للتكرار، فالتكرار الظاهر س.س لا يعادل س على المستوى الصوتي (الظاهر) للنص الشعري. ففيه تتكوّن ظاهرة غير قابلة للملاحظة، إلا أنها أثر معنى شعري خالص يتمثل في أننا نقرأ في المقطع (المكرر) المقطع نفسه وشيئاً آخر"([51]) فهي عبارة تخدير لذات الأمة وتكرارها في السطور إشارة تحيل إلى عمق الخواء في ثقافة العرب السياسية التي لا ترى اليهود يواصلون غزو هذه الأمة, فتخللوا ذاتها, واستباحوها, واستباحوا أوطانها. وقد رصد المقطع ثلاثة أسطر اعتمدت التقنية السردية لتصف هذه الإحاطة بالأمة (تغلغل اليهود في ثيابها) فهم قد دخلوا كياننا, وتمثلوه, و(صاروا على مترين من أبوابنا) فأحاطوا بنا, وفرقونا, وقطعوا أوصال أوطننا. و(ناموا على فراشنا) فدخلوا ذاتنا, وغيروا أحلامنا, وخدرونا. ومع كل هذا الذي يصبّ في واقعنا بعد حرب حزيران نذهب مع الحكام ونؤمن بأننا (نحن راجعون). وقد زاد هذا الخواء فساد الثقافة الدينية لديهم التي رصدتها الأسطر (11، 19، 20)، وذلك أن رؤيتهم الفكرية لصوت فيروز تقود إلى تصور (الفردوس) تصوراً مشوهاً بافتراضهم أن صوت (فيروز) صوت ملائكي منحدر من السماء ومن الفردوس تحديداً، وهذا التشويه يتصل بالسطر الأخير (إنا إلى الله لراجعون ...) الذي كشف عن الثقافة الدينية المشوهة التي يتمتع بها المسلمون، وذلك من خلال تناص هذا السطر مع قوله تعالى " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ "([52]) فهذا التناص كما أرى مبني على مستويين: الأول تركيبي والثاني دلالي. أما التركيبي، فيتصل بتغيير في تركيب الآية الكريمة، وهي إشارة أولى إلى أن الأمة تقرأ القرآن بطريقة خاطئة فتستشهد على أحوالها بآيات مغلوطة القراءة، وهذه القراءة المخطوءة تممنوع إلى المستوى الثاني، أي المستوى الدلالي، ذلك أن الآية الكريمة تشير إلى أن الإنسان ملك لله سبحانه وتعالى يتحكم به الله كيفما شاء فيميته ويعيده متى ما شاء، فإذا أصابه بمصيبة فإنه يرجعها إلى الله بوصفه المتحكم بمصيره، وقد تعامل السطر الأخير مع هذه الدلالة تعاملاً يكشف عن الخواء في التفكير الديني؛ فالأمة لا تملك في حياتها إلا تصور العودة إلى الله بالموت، ولذلك فإن هذا السطر حوّل الدال في الآية (لله) إلى (إلى الله) وحوّل التركيب فيها (إليه راجعون) إلى (لراجعون) الذي يشير إلى تأكيد الرجعة إلى الله دون الحديث عن ملكية الله للإنسان ومصيره وأحواله، وكأنما الأمة لا تفهم من الفعل في الحياة سوى الاستسلام للحياة والانتقال إلى الموت.
المقطع السابع

1- حرب حزيرانَ انتهتْ..

2- وحالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكونْ..

3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ

4- من مطبخ السلطان يأكلونْ

5- بسيفه الطويل يضربونْ

6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ

7- لم يُقْتَلوا..

8- لم يُصْلَبوا..

9- لم يقفوا على حدود الموت والجنونْ

10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ

11- وخارجَ التاريخ يسكنونْ..

12- حرب حزيران انتهتْ

13- جرائد الصباح، ما تغيرتْ

14- الأحرف الكبيرة الحمراء.. ما تغيرتْ

15- الصورُ العاريةُ النكراءُ.. ماتغيرتْ

16- والناس يلهثونْ..

17- تحت سياط الجنس يلهثونْ

18- تحت سياط الأحرف الكبيرة الحمراء.. يسقطونْ..

19- الناس كالثيران في بلادنا..

20- بالأحمر الفاقع يؤخذونْ..




يتكون هذا المقطع من نسقي تواز : امتد الأول من السطر الأول إلى السطر الحادي عشر، وامتد الثاني من السطر الثالث عشر إلى السطر العشرين، وكل نسق منها يعتمد على تقنية التكرار التي كررت (حرب حزيران انتهتْ).

رصد النسق الأول عدداً من أبنية التوازي التي وقعت تحت ضغط دلالة المفارقة التي تؤول إلى دلالة التهكم المنتجة من السطر (حالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكون) الذي أدركنا كيفية إنتاجه هذه الدلالة في المقطع السابق، كانت البنية الأولى بنية تكرارية اعتمدت تكرار الدال الأولى منها ثلاث مرات وهو (كتابنا) وقد جاءت على النحو الآتي:

3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ

............

6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ

............

10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ

لا شك في أن هذا التكوين الثلاثي قد خلق نوعاً من التغاير في تقابل دالاته خارج دال (كتابنا) وذلك أن كل دال من هذه الدالات المكررة يتعلق بدالات مختلفة عن دالات الآخر، وقد نتج عن هذا التغاير تكون أنساق تكرار تعتمد التوازي النحوي رصدت بدالاتها عدداً من الدلالات، فالتكرار الأول من البنية أنتج ثلاث متواليات تبدأ كلها بحروف جر على النحو الآتي:

3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ

من مطبخ السلطان يأكلونْ

بسيفه الطويل يضربونْ

إن المتوالية النحوية، هنا، باستخدامها حروف الجر المختلفة تخلق دلالات مختلفة ولكن في النهاية ينضم بعضها إلى بعض، فالسطر الأول (على رصيف الفكر عاطلون) يرصد البعد المكاني الذي يمثل الحيز الفكري المعطل لدى الدال (كتابنا) فهؤلاء الكتاب، كتاب الأمة، قد تعطلت فاعليتهم الحقيقية عن التفكير وإنتاج الفكر الذي يرسم ثقافة الأمة، فأصبحوا يشغلون البعد المكاني الثانوي الجديد في طريق المسيرة الفكرية وهو رصيف الطريق المخصص لكل مركبة معطلة، أو لكل منتظر حافلة قادمة ليوصل طريقه بها. ولا شك في أننا ندرك أن هذه الدلالة معتمدة على البعد الاستعاري الذي أنتجه التركيب (رصيف الفكر). ثم يأتي السطر الذي يليه (من مطبخ السلطان يأكلون) ليحدد ملامح الفاعلية المعطلة فعلياً، وذلك أنها فاعلية تستمد جمودها من البعد المكاني المتمثل في مجرور (من) وهو (مطبخ السلطان) الذي يجسد نوعية الفكر المعطل للفاعلية الحقيقية للكتاب، فالسلطان يمدهم بالمادة الفكرية التي لا يستطيعون أن يتجاوزوها فهي غذاؤهم الذي يشكلهم، ويأتي السطر (بسيفه الطويل يضربون) ليكشف عن نوعية الفاعلية الجامدة التي تنتج القمع والتسلط بوصفها فاعلية مستمدة من السلطان، وهي فاعلية متكونة خارج الذات (ذات كتابنا) إن هذه الدلالات وإن بدت مختلفة في حركتها المضمونية إلا أنها تنضم معاً لتكوّن البعد الدلالي الأول للدال (كتابنا)، وهو بعد يرصد حقيقة حركة هؤلاء الكتاب، وقد جسدت القافية هذه الحركة بدقة, فإذا ما قرأنا قافية الأسطر الثلاثة (عاطلون/ يأكلون / يضربون) فإننا نخرج بالتصور الدقيق لهذا البعد، فالكتاب بناء على هذه القوافي يمارسون ثلاث حركات متواصلة على المستوى الدلالي؛ وذلك أن العطل من العمل والفاعلية الإيجابية بارتباطها بالأكل والتمتع تنتهي إلى الفعل السلبي الذي يممنوع إلى الإفساد في المجتمع ولذا نجد القافية (يضربون) قد جسدت هذا الفعل بوصفه فعلاً متأتياً من (سيف السلطان) الذي مارس كل أشكال القمع والتسلط كما أدركنا في الحركة الأولى من هذا النص.

وأما التكرار الثاني فقد أنتج أربع متواليات نحوية قامت على بنية تكرار رؤوس الجملة، وذلك على النحو الآتي:

6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ

لم يُقْتَلوا..

لم يُصْلَبوا..

لم يقفوا على حدود الموت والجنونْ

نلحظ أن رؤوس الأسطر الأربعة تتشكل من أحرف نفي متماثلة سوى رأس جملة السطر الأول الذي جاء بلفظ (ما) في حين أن الأحرف الثلاثة الأخرى كانت بلفظ (لم) غير أن هذا التغاير لا يغير الحركة الدلالية، فالدلالة كلها تتجه إلى فاعلية نفي الحدث في الماضي، ويبدو أن هذا التكرار يشكل مع التكرار السابق بنية تواز تقابلية ترصد واقع الدال (كتابنا) من خلال البعد الدلالي، وذلك أن الدلالة السابقة التي رصدت فاعلية الكتاب الجامدة والمعطلة عن فعلها الحقيقي والموجهة نحو الفاعلية التسلطية المستمدة من السلطات تتوازى مع دلالة هذه البنية التي تؤشر إلى الفاعلية الحقيقية التي يفتقدها الدال (كتابنا) والفاعلية الإيجابية التي تنتج الفكر والتقدم للأمة، وهو تواز تفسيري يشكل حالة اتصال لا حالة مواجهة كما يمكن أن توحي إليه حركة التوازي التي تنتهي إلى التقابل، وأول الدالات التي تشير إلى هذه الفاعلية هو (التفكير) وهو دال يمتلئ مضمونه بكل أنواع الحدث الإنتاجي للتفكير غير أن هذا الإنتاج معطل بناءً على بنية النفي (ما مارسوا من قرون). فوظيفة الكتاب الحقيقية هي ممارسة التفكير وإنتاج الفكر غير أن غياب هذه الممارسة عن ساحة الزمن الماضي الطويل (من قرون) جعل هؤلاء الكتاب عاطلين عن التفكير، ثم وضحت البنية حقيقة الفاعلية الإيجابية التي كان على الكتاب أن ينتجوها من خلال الدالات المنفية في الأسطر الثلاثة التالية، وهي (يقتلوا/ يصلبوا/ يقفوا)، ولا شك في أن هذه الدالات تشير إلى الفعل الحقيقي الذي ينتجه الفكر، فالفكر ضمن ثقافة التسلط والقهر يقود إلى (القتل) لقتل حامله، وإلى (الصلب) لمنع حامله من نشره كما صلب المسيح عليه السلام، ويممنوع إلى الموت والجنون، ولكن هؤلاء الكتاب ابتعدوا عن الفكر فابتعدوا بهذا عن القتل والصلب والموت والجنون، ولا شك في أن هذا التكوين التكراري قاد إلى تفسير الفاعلية المعطلة في البنية السابقة.

ويأتي التكرار الثالث ليعمق حالة التواصل مع التكرارين السابقين وليرصد حركة هؤلاء الكتاب المعطلة عن الفاعلية في حياة الأمة، وقد تشكلت فيه بنية توازٍ نحوية مختلفة في نظام ترتيبها عن البنيتين السابقتين، وذلك على النحو الآتي:

10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ

وخارجَ التاريخ يسكنونْ..

تتكون البنية، هنا، من تركيبين: يبدأ الأول بفعل مضارع (يحيون)، وينتهي الثاني بفعل مضارع (يسكنون)، بحيث يشكل الأول مفتتح الجملة الأولى والثاني غلق الجملة الثانية. والجملتان متواصلتان معاً على المستوى الدلالي، وذلك أن الجملة الأولى تحيل إلى رصد دلالة الفاعلية الجامدة المعطلة من خلال دال (أجازة) فهؤلاء الكتاب يعيشون في إجازة تخرج عن العمل وتعطل قدراتهم الفعلية، وأن الجملة الثانية تحيل إلى الدلالة نفسها، وذلك أن هؤلاء الكتاب بتعطيلهم عن الفاعلية قد خرجوا من تحريك التاريخ وإنتاجه، فكأنما هم يتخذون بعداً زمانياً لا يقع في تاريخ الأمة؛ فهم لا يؤثرون بثقافتها أو بفكرها أي تأثير.

وأما النسق الثاني، فقد أنتج أبنية تواز مختلفة في تنظيمها وترتيب دالاتها عن النسق الأول. وقد كانت البنية الأولى متشكلة من التوازي القائم بين قافية ثلاثة أسطر متتابعة جاءت على النحو الآتي:

12- حرب حزيران انتهتْ

13- جرائد الصباح، ما تغيرتْ

14- الأحرف الكبيرة الحمراء.. ما تغيرتْ

15- الصورُ العاريةُ النكراءُ.. ما تغيرتْ

يبدو لي أن هذه البنية تحاول رصد حالة الثبات في موضوعات الأسطر الثلاثة، وذلك أن السطر الأول يرصد دالي (جرائد الصباح) الذي يحيل إلى ما يتلقاه الناس من الإعلام في الصحف اليومية صباح كل يوم، فهذه الجرائد تقدم ل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
نائب المدير
الادارة العامة
الادارة العامة
نائب المدير


عدد المساهمات : 2120
نقاط : 7058
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 06/04/2010

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Empty
مُساهمةموضوع: رد: تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني   تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Emptyالسبت يوليو 03, 2010 1:08 am

- الصورُ العاريةُ النكراءُ.. ما تغيرتْ

يبدو لي أن هذه البنية تحاول رصد حالة الثبات في موضوعات الأسطر الثلاثة، وذلك أن السطر الأول يرصد دالي (جرائد الصباح) الذي يحيل إلى ما يتلقاه الناس من الإعلام في الصحف اليومية صباح كل يوم، فهذه الجرائد تقدم للناس الأخبار التي اعتادت على تقديمها قبل حرب حزيران، وقد دل على هذا الثبات في نمط المعلومة الإعلامية القافية (وما تغيرت)، ثم انضاف إليها السطر (الأحرف الكبيرة الحمراء) ليؤكد دلالة الثبات في العنوانات الحمراء في الصحف التي يفترض أن تكون مثيرة للمتلقي، فهي عنوانات ثابتة الدلالة قبل الحرب وبعد الحرب، ولعل في هذا إحالة إلى تأكيد عدم قدرة الحرب والهزيمة على التأثير في فكر الكتاب المعطل عن العمل، مما يجعل هذا التكوين البنائي يتصل بدلالته مع النسق السابق. وقد جاءت القافية (ما تغيرت) لتضغط دلالة الثبات من جديد، ثم يضيف السطر الثالث في (الصور العارية النكراء) حركة جديدة تسعى لتأكيد دلالة الثبات ولكن باتجاه آخر وهو التوجه به نحو الصورة التي تمثل الوجه الآخر للحرف، وهي (صورة عارية نكراء) تممنوع إلى دلالة الثبات باقترانها بالقافية (ما تغيرت)، ولكنه ثبات لا على الفكر فحسب بل على الممارسة الفعلية، وهذه الممارسة مرتبطة في هذا السطر بالناس لا بالفكر الذي مثلته الأحرف في جرائد الصباح، مما جعل بنية التوازي هنا تمتد إلى بنية توازٍ جديدة تشكلت بنمط مختلف عن البنية السابقة، وذلك على النحو الآتي:

16- والناس يلهثونْ..

17- تحت سياط الجنس يلهثونْ

18- تحت سياط الأحرف الكبيرة الحمراء.. يسقطونْ..

19- الناس كالثيران في بلادنا..

20- بالأحمر الفاقع يؤخذونْ..

إن البنية الناشئة في هذه الأسطر تتشكل من تكرار دالات رؤوس الأسطر حيناً ومن دالات القافية حيناً آخر، ذلك أن السطرين (16، 19) يكرران دال (الناس)، ثم يكرر السطران (17، 18) دالي (تحت سياط)، ويكرر السطران (16، 17) دال القافية (يلهثون). يبدو لي أن هذا التكوين يقود إلى عملية ضغط الأسطر للدلالة الناشئة عن الأبنية السابقة؛ أي أن دلالة الفاعلية المعطلة في الكتاب ودلالة الثبات في الصحف تتكثف وترسو كل رواسبها في فكر الأمة وممارساتها، فالناس يمارسون فعلهم بكل جد ونشاط تحت ضغط (سياط الجنس) فكل قدراتهم الفكرية وطاقاتهم الإنتاجية مسخرة للحصول على الجنس الذي يحيل إلى الشهوة واللذة اللتين تعطلان عمل الفكر الحقيقي، وقد أدى تكرار القافية (يلهثون) إلى جعل التركيب (تحت سياط الجنس) ينضغط بين القافيتين؛ مما يشير إلى أن عمل الأمة وفاعليتها لا يخرج عن اللهاث نحو الجنس وفعله. ويبدو أن هذا الضغط الدلالي ولّد البنية التكرارية في السطرين (17، 18)، وذلك أن ضغط القافية (يلهثون) قد خلق علاقة بين دالي (الجنس) و(الأحرف)، وذلك أن الأحرف الكبيرة الحمراء التي تقود الناس إلى فاعلية التسلط والقمع التي مارسها الفكر المعطل في الأبنية السابقة- تتماثل مع فاعلية الجنس التي تعطل فاعلية الناس، ونتيجة هذه العلاقة الحميمة بين الدالين فقد فجّر ضغط القافية (يلهثون) قافية جديدة هي (يسقطون) وذلك إشارة إلى طبيعة الحركة الفعلية للقافيتين، فاللهاث يقود إلى السقوط؛ بمعنى أن الجنس والأحرف الكبيرة الحمراء تممنوع إلى السقوط أيضاً. ولعل تواصل السطر (19) بالسطر (16) على تكرار دال (الناس) يمثل عملية ضغط جديدة في إحداث فاعلية التعطيل الفكري عند الأمة من جديد، وذلك باعتماد السطر (19) تقنية التشبيه التي جعلت (الناس) المحور المتحول إلى المشبه به (الثيران) وهو دال يحمل في موضوعة قدراً كبيراً من تاريخ ممارسة التسلط المتمثلة في مصارعة الثيران باستخدام ما يثيرها من خطر متمثل باللون الأحمر وهو إثارة جوفاء لا تقوم على حقيقة رصد الخطر الحقيقي، فالأمة بالقياس إلى هذه الإحالة تواجه خطراً وهمياً يلهثون وراءه فيقعون تحت سياط التسلط والقمع. إن هذه الإحالة الدلالية تتوافق مع الدلالة في الأسطر السابقة، فالأمة إذن تقوم بفاعلية معطلة دون تفكير.
المقطع الثامن

1- حرب حزيرانَ انتهتْ..

2- وضاع كل شيءْ..

3- الشرف الرفيعُ،

4- والقلاعُ، والحصونْ

5- والمالُ، والبنونْ..

6- لكننا...

7- باقونَ في محطةِ الإذاعَهْ..

8- "فاطمةٌ تُهدي إلى والدها سلامها.."

9- "وخالٌ يسأل عن أعمامه في غزةٍ..

10- وأين يقطنون؟."

11- "نفيسةٌ قد وضعتْ مولودها.."

12- "وسامرٌ حاز على شهادة الكفاءهْ.."

13- "فطمئنونا عنكُمُ..

14- "عنواننا المخيم التسعونْ.."




يتشكل هذا المقطع من بنية توازٍ تقابلية واحدة امتدت بعناصرها على مساحته الكلية، وقد تكونت من نسقين تمثل الأول في السطر (وضاع كل شيءْ..)، وتمثل الثاني في السطرين(لكننا.../ باقونَ في محطةِ الإذاعَهْ..)، وقد ارتبط النسقان بنسق التوازي المقطعي في السطر الأول (حرب حزيران انتهت) وشكل الدالان (ضاع/ باقون) نواة بنية التقابل، وذلك من خلال علاقة التخالف الناشئة بينهما؛ إذ إن الدال (ضاع) الذي يقود إلى مدلول الفقد يقيم علاقة الافتراق والتخالف مع الدال (باقون) الذي يممنوع إلى مدلول الثبات والديمومة، فالفقد والديمومة يجتمعان على التخالف لا على التضاد، وانطلاقاً من هذه العلاقة تبنى أسطر المقطع تقابلات ترصد حال الأمة بعد (حرب حزيران) وقبلها،

وقد تكون النسق الأول من الأسطر الأربعة الآتية:

2- وضاع كل شيءْ..

3- الشرف الرفيعُ،

4- والقلاعُ، والحصونْ

5- والمالُ، والبنونْ..

تمثل هذه الأسطر حركة الفقد (ضاع) التي وقعت على (كل شيء)، فالأمة قد فقدت شرفها الرفيع الذي يحيل إلى فقدان الأمة لقيمها الاجتماعية والأخلاقية، وفقدت (القلاع، والحصون) التي تحيل إلى فقدان الاجتماع والأمان في الوطن، وفقدت (المال والبنون) اللذين يحيلان إلى شرف العيش ورغده في الوطن بناء على تناص الدالين مع قوله تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"([53]). إن هذه المقومات الناشئة في الأسطر الثلاثة تشكل ماهية حركة الضياع، وتشكل نقاطاً متداخلة ومتلازمة في مقومات الأمة، وقد جسدت الأسطر هذا التلازم على المستوى البنائي علاوة على مستواها النحوي القائم على أسلوب العطف، وأعني بالمستوى البنائي إنشاء بنية توازٍ صوتية تعتمد على الحرف الأخير في دالاتها، ذلك أننا نلحظ اجتماع الدالين (الرفيع/ القلاع) على صوت العين في آخرهما، واجتماع دالي القافية (الحصون/ والبنون) على صوتي الواو والنون في آخرهما، وربما قاد مثل هذا التوازي إلى عمق في العلاقة بين الدالات على المستوى الدلالي، وذلك أن دالي (الرفيع/ القلاع) يقودان الأمة إلى دلالة المنعة والقوة المستمدة من فاعلية دال (القلاع) التي تقود إلى اتصاف الأمة بالتمسك بالقيم الرفيعة التي تحافظ عليها هذه القلاع، وأن دالي (الحصون/ والبنون) يممنوعان الأمة إلى دلالة القوة والتمسك، فالقوة مستمدة من فاعلية دال (الحصون) التي يتمنع وراءها (البنون) بوصفهم مستقبل الأمة وزينة حياتها وعيشها.

ويرصد النسق الثاني من التقابل الدال (لكننا ...) ليقدم معنى الاستدراك على النسق الأول، ويبدو أن هذا المعنى يرصد دلالة التهكم التي بدأت فاعليتها بالعمل في السطر السابع (باقونَ في محطةِ الإذاعَهْ..) من خلال رصدها علاقة المخالفة بينه وبين السطر الثاني, وذلك أن تقابل دال (باقون) مع دال (ضاع) يثير حالة افتراق بين ما فقدته الأمة وما حافظت عليه، أو بمعنى آخر بين ما كانت عليه وما أصبحت فيه، فالأمة التي فقدت كل ما تقدم تتحول إلى الثبات (في محطة الإذاعة) وهذا الثبات هو أول حالات المفارقة التي تممنوع إلى دلالة التهكم، فالأمة التي كانت تتحصن بحصونها وقلاعها وفي وطنها يصبح وجودها وكينونتها (محطة الإذاعة) التي تحيل إلى الإعلام؛ بمعنى أنها فقدت البعد المكاني الذي تتواصل فيه وتحولت إلى بعد أثيري لا ملامح لـه ولا شكل، وقد مثلت الأسطر التالية لهذا السطر الحال التي انقلبت إليها هذه الأمة. فهذه الأسطر ترصد تحولات الأمة التي تشير إلى تحولات قيمية متدنية وأمنية هزيلة بعد حرب حزيران.

إن بنية التوازي في هذا المقطع تتخذ مسارات مختلفة عن سابقاتها التي كانت تشكل توازيات نسقية ثنائية أو متداخلة في صورة ترتيبية أو تنظيمية متتابعة كما كنا نلحظها أثناء رصدها، فمسارات البنية هنا ترصد غياباً واضحاً في بنية الترتيب، فمثل السطران الثامن والتاسع حالة التشتت التي أصابت الأمة في نزوح أبنائها من فلسطين من حيث تباعد الأسرة الواحدة، فالبنت ترسل سلامها إلى والدها، والخال يسأل عن أعمامه، وقد جلى السطر العاشر (أين يقطنون) هذه الحالة من التشتت، فأفراد الأمة تفرقوا في البلاد بعيداً عن وطنهم، ثم يرصد السطر الحادي عشر حالة التكاثر والتناسل خارج الوطن، ويرصد السطر الثاني عشر نوعية الإنجاز القيمي المتدني الذي تنجزه الأمة خارج البعد الوطني، ويأتي السطران الثالث عشر والرابع عشر ليكشفا عن عمق المأساة التي حلت بهذه الأمة، وذلك أنهما يعبران عن افتقاد الشعور بالأمن والسلامة (فطمئنونا عنكم) فإذا كان المخاطب مستشعراً بالأمن المزيف خارج الوطن, أراد أن يستشعر حقيقته عند الفرد الآخر خارج وطنه أيضا،ً وقد عمق هذا الأمن المزيف السطر الرابع عشر برصده دال (المخيم)، فوطنهم الجديد هو (المخيم التسعون)، إن دال (المخيم) يحيل إلى دلالة البعد المكاني المؤقت خارج الوطن، علاوة على دال (التسعون) الذي يحيل إلى كثرة أماكن النزوح من الوطن، ولا شك في أن هذه الأسطر ترصد تحولات الأمة بعد الحرب وهي تحولات تشير إلى قيم متدنية وأمن هزيل.

ويبدو لي أن بنية التوازي في هذا المقطع قد أنتجت مسارات توازٍ مختلفة عنها في المقاطع السابقة، وذلك أن المقاطع السابقة- كما أشرت قبل قليل- كانت تتشكل بأنساق حركية يطغى التنظيم الرتيب على بنيتها سواء أكانت ثنائية متتابعة أو ثلاثية متتابعة أو أنساق مرتبة متداخلة مع تكوينات نسقية أخرى، أما في هذه البنية, فإننا نلحظ أنها ترصد نظاماً خاصاً غير خاضع للترتيب، متوافقاً مع حالة الشتات والنزوح التي أصابت الفلسطينيين، ويبدو لي أن مثل هذه الحركة البنائية تعتمد على محاولة خلق تبادل بين مستويي النص: المستوى السطحي والمستوى الدلالي العميق، فالشكل التركيبي يستجيب للدلالة التي تسري في علاقاته، وقد أشارت (ونفرد نوتنبي) إلى مثل هذه العلاقة في قولها: "والحق أن بعض أشكال التركيب تحمل معنى يكْمُنُ في استخدامها بوصفها أشكالاً خاصةً مُعبِّرةً عن موقف عقلي خاص لدى المتكلم الذي يتخذها"([54]). ونستطيع أن ندرك هذا النظام من خلال رصدنا نسقي التقابل متقابلين على النحو الآتي:

النسق الأولالنسق الثاني

2- وضاع كل شيءْ..7- باقونَ في محطةِ الإذاعَهْ..

3- الشرف الرفيعُ،8- "فاطمةٌ تُهدي إلى والدها سلامها.."

4- والقلاعُ، والحصونْ9- "وخالٌ يسأل عن أعمامه في غزةٍ..

5- والمالُ، والبنونْ.. 10- وأين يقطنون؟."

11- "نفيسةٌ قد وضعتْ مولودها.."

12- "وسامرٌ حاز على شهادة الكفاءهْ.."

13- "فطمئنونا عنكُمُ..

14- "عنواننا المخيم التسعونْ.."

لا شك في أننا نلحظ أن الترتيب القائم بين الأسطر في النسق الأول يغيب عن أسطر النسق الثاني بافتراض أن الأسطر تتقابل على علاقات التواصل المختلفة، فلم تتوفر عملية الترتيب إلا بين السطرين الثاني والسابع اللذين يشكلان نواة التقابل بداليهما (ضاع/ باقون)، أما الأسطر الأخرى, فتتقاطع فيما بينها، وذلك أن السطر الثالث يتواصل على مستوى القيمة الاجتماعية بالسطر الثاني عشر، والسطر الرابع يتواصل على مستوى الأمن وفقدانه بالسطر السابع والعاشر والرابع عشر، ويتواصل السطر الخامس بالأسطر الثامن والتاسع والحادي عشر والثالث عشر على مستوى رغد العيش في الوطن وفقدانه وفقد معاني الاجتماع، يبدو لي أن هذا التكوين النسقي المبتعد عن طبيعة التوازي التي تممنوع إلى الترتيب الإيقاعي والانسجام ناجم عن طبيعة الدلالة الناتجة عن التحولات التي أصابت الأمة في بعدها الاجتماعي والمكاني، إذ أدى إلى غياب الترتيب النسقي المعبر عن عدم ترتيب العلاقات البنائية تماثلاً مع عدم ترتيب العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة، وأدى أيضاً إلى انفلات التكوّن الطبيعي للعلاقات المنظمة بين مكونات البنية تماثلاً مع انفلات العلاقات بين أفراد الأمة، ذلك أننا لا نجد علاقات منضبطة على مبدأ الانسجام في بنية التوازي، فعلاقة السطر الرابع مثلاً لا ينتظمها انسجام بنائي على المستوى الدلالي مع الأسطر التي تتواصل عليها وهي السطر السابع والعاشر والرابع عشر، ثم تزداد عملية الاضطراب في البنية عند غياب تساوي عدد أسطر التقابل بين النسقين، إذ إن النسق الأول تكوّن من أربعة أسطر في حين تكوّن النسق الثاني من ثمانية أسطر مما يحيل إلى إدراك أن ما كانت الأمة قد حصلته قبل الحرب من فاعليات إيجابية أقل مما أنتجته الحرب من فاعليات سلبية. ولا شك في أن مثل هذا الناتج الشكلي والدلالي مبني على الموقف الشعري المتأزم الذي وصلت إليه الذات الشاعرة في محاولة إيصالها ما تشعر به إلى المتلقي.
المقطع التاسع

1- حرب حزيرانَ انتهتْ..

2- كأنَّ شيئاً لم يكنْ..

3- لم تختلف أمامنا الوجوه والعيونْ

4- محاكم التفتيش عادتْ.. والمفتشونْ..

5- والدونكشوتيونَ.. ما زالوا يُشَخِّصُونْ

6- والناس من صعوبة البكاءِ..

7- يضحكونْ..

8- ونحن قانعونْ..

9- بالحربِ قانعونْ.. والسلم قانعونْ..

10- بالحرِّ قانعونْ.. والبرد قانعونْ..

11- بالعقم قانعونْ.. والنسل قانعونْ

12- بكل ما في لوحنا المحفوظ في السماء..

13- قانعونْ..

14- وكل ما نملك أن نقوله:

15- "إنا إلى الله لراجعونْ"..




يحشد هذا المقطع عدداً كبيراً من تقنيات التوازي البلاغية التي تنتظم فيه بطريقة مختلفة بعض الشيء عن تقنيات المقاطع السابقة في هذه الحركة. وذلك أن مجموعة من التوازيات الأفقية قد تكونت في بداية المقطع وامتدت تكوناتها في خمسة أسطر، هي:

3- لم تختلف أمامنا الوجوه والعيونْ

4- محاكم التفتيش عادتْ.. والمفتشونْ..

5- والدونكشوتيونَ.. ما زالوا يُشَخِّصُونْ

6- والناس من صعوبة البكاءِ..

7- يضحكونْ..

إن الأسطر تخلق أزواجاً متوازية من التنظيمات التي تقوم بينها علاقات مختلفة فالدالان, (الوجوه/ العيون) تقوم بينهما علاقة التناسب التي أنتجتها بنية مراعاة النظير بوصفهما دالين يرصدان عضوين متلازمين في الجسد الإنساني، والدالان (التفتيش/ والمفتشون) تقوم بينهما علاقة التماثل التي أنتجتها الحركة الاشتقاقية القائمة على الجناس الاشتقاقي أو الموقع البنائي الذي يممنوع إلى بنية رد العجز على الصدر. والدالان (الدونكشوتيون/ يشخصون) يرصدان حالة التوازي الصوتي القائم على (حرفي الواو والنون), والدالان (البكاء/ يضحكون) يرصدان علاقة التضاد المبنية على شكل الطباق. إن مجموع هذه الدالات بعلاقاتها تحاول أن تقدم للمقطع دلالة الثبات من ناحية ودلالة التحول الإنساني من ناحية أخرى، وقد حاولت أن تعمق دلالة الثبات في فاعلية القدرة السلطوية التي تمارسها قوى السلطان والحكم التي أشارت إليها الدالات (محاكم/ المفتشون). فالوجوه والعيون التي كانت تمارس قوة القمع والتسلط قبل حرب حزيران هي نفسها التي تمارس هذا القمع بعد هذه الحرب، والممثلون الذين كانوا يمارسون الكذب السياسي قبل الحرب ما زالوا يمارسونه بعد الحرب، وأما الناس الذين مورس عليهم القمع والتسلط فإنهم يتحولون من حال الألم والقهر المحزنين إلى حال الألم والقهر المضحكين، ولا شك في أن هذا التحول يرصد تفجيراً دلالياً في بنية لغوية تختزن داخلها مؤشراً عميقاً يتماثل مع توتر الناس وأوضاعهم، وذلك أن حياة الناس تصبح مضحكة لعمق حزنها، وأمام مثل هذا الانفجار الدلالي تنشأ بنية تواز تقوم على تقنية التكرار بين الدالات وتقنية التضاد التقابلية في الوقت نفسه، وذلك في بنية تداخلية تقاطعية، وقد ظهرت هذه البنية في الأسطر على النحو الآتي:

8- ونحن قانعونْ..

9- بالحربِ قانعونْ.. والسلم قانعونْ..

10- بالحرِّ قانعونْ.. والبرد قانعونْ..

11- بالعقم قانعونْ.. والنسل قانعونْ..

12- بكل ما في لوحنا المحفوظ في السماء..

13- قانعونْ..

لاشك في أننا نلحظ أن البنية التكرارية تعتمد في الأسطر على تكرار الدال (قانعون) وبصورة ترتيبية بحيث يأتي قبله دال في كل مرة ما عدا التكرار الأخير في السطر الثالث عشر الذي جاء قبله سطر يتكون من أكثر من دال وقد شكلت الدالات القبلية لـه تقابلات ضدية في الأسطر (9، 10، 11) هذه الدالات هي: (الحرب/ السلم) و(الحر/ البرد) و(العقم/ النسل) إن هذه التقابلات بربطها بدال (قانعون) تقود إلى إدراك أن المقطع يسعي إلى تعميق دلالة الحزن المضحك لدى ذات الأمة، فالأمة لفرط حزنها لا تفرق بردة فعلها بين الأضداد فهي مستسلمة للحرب, ومستسلمة للسلم، قانعة بفعل البرد، وقانعة بفعل الحر، فالبرد والحر عندها سيان، وقانعة بالتكاثر، وقانعة بانقطاع النسل لا فرق بينهما، إن هذه الأضداد -كما يبدو لي- تحيل إلى رصد واقع الأمة بعد (حرب حزيران)، فالأمة أصبحت فاقدة معنى الحرب والسلم؛ لأنها لا تملك فاعلية التغيير، فاعليتها معطلة ويقوم مقامها السلطان والحاكم، وفاقدة معنى الحياة الكريمة التي تممنوعها إلى الرفاء ورغد العيش، فأصبحت الحياة بكل متناقضاتها لا تعنيها، وأصبحت فاقدة للتطلع إلى الاستمرار بوصفها أمة نامية في التكاثر والتناسل لبناء مستقبل بقدراتها البشرية، إن هذه السلسلة من الإحباطات التي أصابت الأمة في الأسطر السابقة جعلت السطر (الثاني عشر) يحشد عدداً كبيراً من الدالات التي تحيل بمدلولاتها إلى عمق الإحباط الذي أصاب هذه الأمة، فهذه الأمة تعاملت- أمام إحباطات الحرب- مع المفهوم الديني – العقدي تعاملاً خاطئاً، إذ قادها استسلامها إلى فهم قوله تعالى: "قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"([55]) فهما خاطئاً مما أفقدها فاعليتها في الحياة فهي تستسلم لكل تلك المتضادات بوصفها مكتوبة في لوحها المحفوظ، ويبدو أن انتهاء بنية التوازي إلى السطر الثالث عشر (قانعون) إشارة إلى محاولة تأكيد هذا الاستسلام النابع من الفهم الخاطئ للقناعة من المفهوم الديني، وكأنما البنية بهذه النهاية تضغط كل حالات الاستسلام بين القوافي المكررة التي تؤكد في كل مرة معنى الاستسلام النابع من الإحباط.

ويختتم المقطع دلالة الاستسلام والإحباط، بالسطرين الأخيرين اللذين يتواصلان بالبنية السابقة المقامة على مغالطة الفهم الديني، وذلك أنهما يؤكدان حالة الاستسلام التامة لكل المتضادات السابقة لأن الأمة تنطلق من تصورها أنها ستعود في نهاية الحياة إلى الله سبحانه وتعالى.

الحركة الرابعة - المقطع العاشر

احترق المسرح من أركانهِ

ولم يمت- بعد- الممثلونْ..

تمثل هذه الحركة بنية ختامية للنص الشعري في الوقت الذي تحيل عملية التلقي إلى العنوان بوصفه جزءاً من التشكيل النصي، وذلك أن هذه الحركة تؤكد بسطرها الأول احتراق المسرح الذي يمارس عليه الممثلون أدوارهم، هذا المسرح الذي يحيل إلى البعد المكاني المتمثل في الوطن، فالوطن انهارت جدرانه فصار مباحاً للغزاة والطامعين، غير أن الحكام والسلاطين ما زالوا يمارسون فيه التمثيل على شعوبهم (لم يمت بعد الممثلون)، لا شك في أن السطر الأخير يعيدنا إلى بداية النص ممثلاً بعنوانه إشارة إلى أن دورة التمثيل لدى الحكام العرب لا تنتهي فهي تبدأ من جديد.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
gbeirakdar




عدد المساهمات : 1
نقاط : 1
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 24/04/2011

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Empty
مُساهمةموضوع: رد: تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني   تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Emptyالأحد أبريل 24, 2011 5:12 pm

اعذرني ولكن عندما أقارن نسخة قصيدة "الممثلون" التي ظهرت في "مواقف " في 1968 الاحظ بعض الأختلاف عن ما جاء هنا
بالتحديد :
في المقطع الثالث السطر 7 يتكرر كما تكرر سطر 10 في المقطع الأول
ثم في المقطع السادس لا اجد سطرا بعد 7: "والقهوة المرة بالهال على أحسن مايكون"مفروض وجوده قبل السطر الذي يقرأ "والقمر المزروع ..."
في المقطع الثامن سطر 9 "وخالد " بدلاً من "وخال ..." لان السطور كلها تبدأ باسماء : فاطمة، خالد ، نفيسة ثم سامر.
ومن الامكان أن الخطأ يكون عندي طبعاً
مع كل احترامي
غ . البيرقدار
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
نائب المدير
الادارة العامة
الادارة العامة
نائب المدير


عدد المساهمات : 2120
نقاط : 7058
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 06/04/2010

تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Empty
مُساهمةموضوع: رد: تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني   تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون"  لنزار قباني Emptyالأحد يوليو 17, 2011 4:13 pm

شكرا اخي الكريم .معك حق .لكن ما ينبغي ان تعلمه ان اشعار نزار تجد احيانا قصائد مختلفة الروايات بالرغم من كونه معاصرا.مثل قصيدة المهرولون او اطفال غزة.لكن ما يهم اكثر التقنية اكثر من القصيدة.
اعتذر على التاخير لاني والله لم انتبه لردك .فكما تعلم كل هذا الجهد الرهيب الذي ابذله ولا تجد ردا او نقاشا فكيف تكون معنوياتك وانت تطالع في منتداك الذي هو منتداكم اصلا لانه غير ربحي بالمرة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تقنيات التوازي البلاغية في "الممثلون" لنزار قباني
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات متيجة :: دراسات ادبية ولغوية :: الدراسات التراثية :: النقد والبلاغة-
انتقل الى: