إن هذه الأسطر التي تشكل نهاية النسق الثاني قد توازت على وفق البنية التكرارية من خلال تكرار دال النفي (لا) وإتباعه بفعل مضارع ثم تتكرر البنية الثنائية في الأسطر كلها بشكل أزواج (حرف نفي + فعل مضارع). وقد شكل السطر الأول توازياً قائماً على علاقة التناسب والتناظر بين الدالين (يثورون) و(يشكون) في المستوى السطحي، في حين ينتجان علاقة ما يشبه التضاد في المستوى العميق؛ وذلك أن الدال الأول (يثورون) يقود إلى معنى الثورة المنتجة حركة ثورية متأججة، والدال (يشكون) يقود إلى معنى التذمر الذي يتصف بالحركة الموضعية الهادئة التي لا تصل درجة حدتها إلى حركة الثورة. غير أن هذا التناسب الحركي- بدخوله بنية التكرار المعتمدة على النفي- يؤول إلى دلالة الخواء الناتجة من نفي الثورة المتحركة ومن نفي الشكوى الساكنة. ويبدو أن علاقة ما يشبه التضاد تنضاف إليها دلالات متوازية أخرى، وذلك أن دال (لا يثورون) يقود إلى دلالة انتفاء الأمل المعقود على الثورة وما يمكن أن تحققه، وفي المقابل فإن الدال (لا يشكون) يممنوع إلى دلالة انتفاء الحزن الذي ينتج الشكوى؛ مما يجعل هذه الثنائية الدلالية تنتهي إلى دلالة الجمود.
ويأتي السطر الحادي عشر ليعمق دلالة الجمود من خلال بنية التوازي بين ثنائية (لا يغنون) و (لا يبكون)، وذلك أن الدال الأول (يغنون) يؤشر إلى سببين أساسيين ينتج أحدهما الغناء: الأول يتصل بحال السرور والفرح، والثاني يتصل بحال الحزن والألم. وبإدخال هذا الدال بنية النفي يصبح الناتج الدلالي منفياً؛ أي أن حالي السرور والحزن منفيتان عن الناس في المدينة. وأما الدال (يبكون) فإنه في العادة لا ينتج إلا من حال الحزن والألم، وبإدخاله بنية النفي يصبح الناتج الدلالي للحزن منفياًً. لا شك في أننا نلحظ أن الدالين يلتقيان في الناتج الدلالي، و لعل هذا الالتقاء يشكل تكثيفاً دلالياً لناتج الحزن من ناحية، ويدخل الناس في المدينة في حالة الجمود من ناحية أخرى, فهم يفقدون الحس والمشاعر سلباً أو إيجاباً كما فقدوا الحركة والسكون في البنية الأول.
وتتعمق دلالة الجمود في السطر الأخير باعتماده على بنية التقابل الذي يقوم على علاقة التضاد، فالدال (يموتون) يتضاد بالدال (يحيون) غير أن تقنية التكرار التي سلطت دال النفي على الفعلين جعلت إنتاج دلالة الجمود إنتاجاً مفتوحاً لا ينتهي كما كان في السطرين السابقين؛ ذلك أن السطرين السابقين قد أنتجا حركة منفية، وسكوناً منفياً وحزناً منفياً وسروراً منفياً دون إحداث تكرار تماثلي لهذه الدلالات, في حين يشكل السطر الأخير حركة إنتاج دلالي تماثلي غير منتهٍ؛ وذلك أن فرض حالة توسط بين متضادين لا يمكن أن تتوفر في الواقع المعيش فليس هناك حالة متوسطة بين الموت والحياة، فإذا كان هؤلاء الناس في المدينة (لا يموتون) فهم إذن يحيون فيها، وإذا كانوا (لا يحيون) فيها فهم إذن يموتون فيها، غير أن البنية، هنا، جعلت الناس لا يحيون ولا يموتون، ولا شك في أن هذه البنية تعمق دلالة الجمود غاية التعميق، ويبدو لي أن هذه البنية قد تقاطعت أو تناصت مع الآية الكريمة: "إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى"([49]) وهي حالة ترصد شدة البؤس التي تغمر هؤلاء الناس في المدينة التي أصبحت بمواصفات جهنم وأصبح الناس فيها مجرمين يطالهم القانون.
إن المقطع لا يكتفي بتوحيد الحركتين بإنتاج دلالة الجمود، بناءً على علاقات التماثل والتضاد الناشئة من تقنيات التوازي، وإنما يسعى إلى خلق عملية ربط على المستوى البنائي من خلال انغلاقه بالأسطر الأربعة الأخيرة:
13- تحترقُ الغاباتُ، والأطفالُ, والأزهارْ
14- تحترقُ الثمارْ
15- ويصبح الإنسان في موطنِهِ
16- أذلَّ من صَرْصَارْ..
وذلك أنه علق السطرين (13، 14) بتقنية تكرارية تكونت نتيجة تتحقُّقِ دلالة الجمود في المحاور الرئيسية في النسقين السابقين (الحرف/ التفكير/الناس) مما جعل (الغابات والأطفال والأزهار والثمار) تحترق جميعاً، ويبدو أن هذا الاحتراق ناتج من فاعلية السطوة التي مورست على هذه المحاور. وهذا الاحتراق يقود إلى تعطيل فاعلية الحياة في البعد المكاني (المدينة). وقد مثلت هذه الحياة عناصر موضوعية تنتج كثيراً من الدلالات والترابطات التي تكشف عن خطورة ما يجري من تسلط في هذا المكان فما الغابات إلا ذلك النسيج المتشابك من مقومات الحياة التي تؤشر إلى النماء والعطاء وتجدد الحياة, وبإضافة دال (الأطفال) إليها تتعزز دلالة تجدد الحياة بمجيء أطفالها واستمرارهم في الحياة عطاءً ونماءً. ويجلي هذا التصاعدَ في النماء والعطاء الدالُ (الأزهار) الذي يممنوع إلى جعل الحياة تواصل نموها واستمرارها بكل معاني التفتح والازدهار. إن كل ما تقدم من ترابطات في النماء والعطاء والاستمرار يزول بفاعلية الدال (تحترق) الناتج من فعل بنية التوازي المتقدمة، ويبلغ المقطع ذروة التصعيد الدلالي بإضافة دال (الثمار) الذي علق بالدال (تحترق) في السطر الرابع عشر والذي شكل توازياً تكرارياً مع السطر السابق، وذلك بجعل النمو والعطاء يصل إلى نهاية متمثلة بالثمار ولكنها نهاية منهارة أمام سطوة ما تقدم. إن هذا الانهيار قد دفع بالإنسان لأن يفقد كل معاني الرفعة والكرامة في وطنه مما جعله (أذل من صرصار ..).
المقطع الثالث
1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ
2- سفينةً يركبها قرصانْ
3- ويصبح الإنسان في سريرهِ
4- مُحاصراً، بالخوف والأحزانْ
5- حين يصير الدّمعُ في مدينةٍ
6- أكبرَ من مساحة الأجفانْ
7- يسقط كلُّ شيءْ
8- الشمسُ..
9- والنجومُ..
10- والجبالُ..
11- والوديانْ..
12- والليلُ، والنهارُ, والبحارُ، والشطآنْ..
13- واللهُ..
14- والإنسانْ..
يتكوّن هذا المقطع– كالمقطعين السابقين- من نسقي تواز عموديين قائمين على تقنية التكرار: امتد النسق الأول من السطر الأول إلى السطر الرابع، وامتد الثاني من السطر الخامس إلى السطر السادس. وذلك على النحو الآتي:
1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ
5- حين يصير الدّمعُ في مدينةٍ
وقد أحدث المقطع خرقاً في التكون التكراري في السطرين من خلال الدالين (العدل) و(الدمع) لينتج بهما دلالات مختلفة، ثم انتهى النسقان ببنية تشكل غلقاً بنائياً يوحدهما على المستوى البنائي والدلالي. يبدأ هذا الغلق من السطر السابع إلى السطر الرابع عشر.
أنتج النسق الأول دلالة التغيير انطلاقاً من الافتراق وقد اعتمد في إنتاج هذه الدلالة على تقنية توازٍ نحوية، تكونت في السطرين:
1- حين يصير العدْلُ في مدينةٍ
3- ويصبح الإنسان في سريرهِ
إن التوازي النحوي، هنا، ناتج من الحضور الدال (حين) فعلياً في السطر الأول ومن حضوره تقديرياً في السطر الثالث، وقد أنتج السطر الأول دلالة المفارقة من خلال بنية التشبيه التي شكل الدال (العدل) فيه المشبه والدال (سفينة) المشبه به. إن دلالة المفارقة، هنا، منبثقة عن علاقة المماثلة التي تفرضها بنية التشبيه بين الدالين، وذلك أن هذه السفينة واقعة تحت سيطرة (قرصان) يقطع البحار بغية السطو على ما في عرض البحر والاستيلاء عليه. إن تحول العدل بوساطة علاقة المماثلة إلى سفينة القراصنة يتخذ موقعاً متضاداً من نفسه؛ أي أنه يصبح ضد نفسه إذ ينتقل من عدل إلى ظلم، مما يقود إلى إنتاج دلالة المفارقة التي تممنوع إلى دلالة التغيير، ويشترك السطر الرابع في إنتاج هذه الدلالة وذلك أنه رصد دال (سريره) الذي يحيل إلى ترابطات الراحة والدعة والاستقرار والسكون وغيرها مما ينتمي إلى معجم الراحة, ثم علقة بدال (الإنسان) (المحاصر بالخوف والأحزان) ثم إن مثل هذا التعليق يخلق دلالة المفارقة بين ما ينتجه السرير من الراحة والدعة وما ينتجه الحصار بالخوف والأحزان من التعب والعنت والشقاء فتتمثل عندئذ دلالة التغيير.
ويأتي النسق الثاني ليتواصل بالنسق الأول اعتماداً على الربط السببي المترتب على إنتاج دلالة التغيير، وذلك أن الدال (الدمع) يتخذ حركة تصاعدية في مكانه حتى لا يتسع لـه هذا المكان؛ مما جعله يأخذ (أكبر من مساحة الأجفان) ويبدو أن هذه الحركة ناتجة من حالة التغيير التي حدثت في المدينة في النسق الأول، وذلك أن الإنسان في هذه المدينة دخل حالة حزن عميق يفوق مساحة جسده ويتعداه إلى المساحة الكونية التي تحيط به، وذلك بدخوله حالة الحضارة والتغيير في القيم التي كان يمارسها فيها.
ويبدو أن الأسطر التي أغلقت هذا المقطع قد تفاعلت مع دلالة التغيير والتحول، وذلك أنها تممنوع إلى دلالة انهيار الكيان الإنساني بكل علاقاته القائمة على التماثل أو التضاد، وقد ظهر هذا الانهيار في السطر (يسقط كل شيء)، فكل شيء ينهار مستجيباً لدلالة التغيير والتحويل. وقد جاءت بنية الغلق بعدد من الدالات التي تكشف عن هذا التساقط، وذلك بوساطة تقنية التوازي التي تعتمد على علاقات التناسب وهو ما سمي في البلاغة بمراعاة النظر، وقد تمثل هذا التوازي في الثنائيتين: (الشمس/ والنجوم) و(البحار/ والشطآن) فالشمس تتناسب مع النجوم في الكوكبية، والبحار تتناسب مع الشطآن في البعد المكاني، وقد كشفت عن التساقط أيضاً من خلال بنيتين ثنائيتين تجمعهما علاقة التضاد، وقد توفرت في الثنائيتين (الجبال/ الوديان) و(الليل/ النهار)، فالدال (الجبال) الذي ينتج معنى الأعلى يتضاد مع الدال (الوديان) الذي ينتج معنى الأسفل، ويتقابل الدال (الليل) على التضاد مع دال (النهار). ثم يتصاعد الإحساس بالانهيار عندما يرصد هذا الغلق البنائي انهيار القيم الدينية لدى الإنسان في السطرين الأخيرين عندما يمزقان علاقة الإنسان بـ(الله) سبحانه وتعالى. ولا شك في أن وصول المقطع إلى هذا الحد من التمزق يكشف عن عمق دلالة التغيير التي أصابت الناس في المدينة في صميم كيانهم.
المقطع الرابع
1- حين تصير خُوذةٌ
2- كالربّ في السماءْ
3- تصنعُ بالعباد ما تشاءْ
4- تَمْعَسُهُمْ..
5- تَهْرُسُهُمْ..
6- تُميتُهُمْ..
7- تَبْعَثُهُمْ..
8- تصنع بالعباد ما تشاءْ
9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ
10- نوعاً من البغاءْ
11- ويصبح التاريخ في مدينةٍ
12- مَمْسَحَةً..
13- والفكر كالحذاءْ
14- حين تصير نسمة الهواءْ
15- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ
16- وحبة القمح التي نأكلها
17- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ
18- وقطرة الماء التي نشربها
19- تأتي بمرسومٍ من السلطانْ
20- حين تصير أمةٌ بأسرها
21- ماشيةً تعلف في زريبة السلطانْ
22- يختنق الأطفال في أرحامهمْ
23- وتجهض النساءْ..
24- وتسقط الشمس على ساحاتنا
25- مَشْنَقَةً سوداءْ..
يتكوّن هذا المقطع من أربعة أنساق تواز عمودية تعتمد بدايات تكوينها على التقنية التكرارية التي تشكل الرابط البنائي الأول بينها، ثم يتعمق ترابطها بالأسطر التي تشكل غلق البنية الكلية للمقطع. ظهرت هذه الأنساق في الأسطر الآتية:1- حين تصير خُوذةٌ9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ14- حين تصير نسمة الهواءْ20- حين تصير أمةٌ بأسرها
إن الأنساق الأربعة تشترك في تكرار دالين في كل منها ثم يفترق كل منها بدالاته الأخرى.
يتشكل النسق الأول من عدد من تقنيات التوازي البلاغية التي تتداخل بنائياً، ابتداء من السطر الأول إلى السطر الثامن، وقد تمثلت التقنية الأولى في تكرار السطر (تصنع بالعباد ما تشاء) الذي تكرر مرتين في السطرين الثالث والثامن ثم تداخلت بينهما تقنية مراعاة النظر التي تشكلت من الدالين (تمعسهم/ تهرسهم)، وجاورتها تقنية التضاد في الدالين (تميتهم/ تبعثهم).
يبدو لي أن هذا النسق ينتج دلالة السطوة من خلال تعالق دالاته ابتداء من بنية التشبيه التي مثل فيها الدال (خوذة) المشبه والسطر (كالرب في السماء) المشبه به، فدال (الخوذة) يشير إلى القوة والسطوة اللتين يمارسهما الإنسان، فالخوذة تحيل في العادة إلى الجندي الذي يعتمرها لخوض معركته التي يمارس فيها القوة ضد عدوه، فبنية التشبيه تؤشر بتكوينها إلى دلالة السطوة التي يمارسها الدال (الخوذة)، وقد جلى المشبه به في السطر الثاني هذه الدلالة لإحالة دالاته عليها، وذلك أن دال (الرب) يحيل إلى معنى الربوبية المتحكمة بمصائر البشر، فهي تسيرهم كيفما تشاء. وقد عمقت البنية هذا التحكم بدال (السماء) الذي يحيل إلى الرفعة والسلطة العلوية. فبنية التشبيه، إذن، تنتج دلالة السطوة المطبقة على كل شيء.
وتعمق التقنيات البلاغية المتداخلة دلالة السطوة من خلال بنية التكرار التي تحمل معنى تحكم صاحب الخوذة المطلق على الناس الذين أوصلتهم البنية إلى درجة (العباد) التي تتوافق مع دلالة القدرة الإلهية التي تماثلها قدرة صاحب الخوذة، وقد جاء هذا التعميق بحصر بنية التوازي تقنيتي مراعاة النظير والتضاد بين نسقي التكرار, فكأنما التركيب (تصنع بالعباد) يتحكم تحكماً مطلقاً بهم، فصاحب الخوذة بممارسته الفعلين (تمعسهم/ تهرسهم) يمارس عليهم كل أنواع التسلط التي تحيل العباد إلى شكل وهيئة جديدين، ثم بعد ذلك يحيلهم إلى الموت ويبعثهم من جديد أحياء. ومن الملاحظ أن الدالات الأربعة التي وقعت بين هذين النسقين تتشكل من ثلاثة دالات تشير إلى ممارسة السلطة السلبية الضاغطة على الإنسان ومن دال واحد يشير إلى ممارسة إيجابية تمثل عودة الإنسان من الموت إلى الحياة، ويبدو لي أن زيادة دالات التسلط تشير إلى عمق ممارسة السطوة على الإنسان من قبل صاحب الخوذة وما يحيل إليه الدال (تبعثهم) يشعر بغاية تكرار هذه السطوة مع الناس من جديد؛ ليصبح إنتاج هذه الدلالات إنتاجاً مكرراً بين نسقي التكرار.
وتنشأ في النسق الثاني تقنيتا تواز متداخلتان، تتشكل الأولى من تواز تكراري، والأخرى من تواز تشبيهي، امتدت الأولى والثانية على كل أسطر النسق على النحو الآتي:9- حين يصير الحكْمُ في مدينةٍ10- نوعاً من البغاءْ11- ويصبح التاريخ في مدينةٍ12- مَمْسَحَةً..13- والفكر كالحذاءْ
إن بنية التوازي الأولى تحضر دال (حين) فعلياً في السطر التاسع وتحضره تقديراً في السطر الحادي عشر، ثم تغير دالين في كل نسق من نسقيها فتأتي بدالي (يصير الحكم) لتوازيهما بدالي (يصبح التاريخ) ثم تكرر دالي (في مدينة) في النسقين، وأما بنية التوازي التشبيهي، فقد تشكلت من ثلاثة أنساق على النحو الآتي:
البنية
المشبه
المشبه بــــه
النسق الأول
الحكم
نوعاً من البغاء
النسق الثاني
التاريخ
ممسحة
النسق الثالث
الفكر
الحذاء
لا شك في أننا نلحظ أن الأنساق الثلاثية ترصد في محورها الأول (المشبه) ثلاثة ركائز أساسية في حياة الأمة، فالحكم ركيزة الأمة في الحفاظ على أمنها واستقرار معيشة أفرادها، والتاريخ عامل مهم في دفع الأمة للتطور والتفوق في منجزاتها، والفكر هو المحرك الأساسي لها لإنتاج التقدم والازدهار، غير أن هذه الركائز تدخل في بنية التوازي من خلال عملية التحويل التي تنتج دلالات مختلفة تنحرف بها عن وظيفتها الأساسية في حياة الأمة: (فالحكم) يتحول من أداة عدل تحقق الأمن والاستقراء إلى شهوة تممنوع الأمة إلى الفساد فما (البغاء) إلا ممارسة للفساد عن طريق الشهوة المحرمة مما يحيل إلى دلالة ممارسة سلطة الفساد، ويقوم الدال (التاريخ) بالتحول المشابه لتحول الحكم ولكنه يفترق عنه ليصبح سلطة خاوية من المعنى تمارس الإقصاء، وذلك أن التاريخ بتحوله إلى الدال (ممسحة) الذي يحيل إلى معنى القيمة المتدنية ومعنى الإزالة التي إذا ما ارتبطت بالتاريخ فإنها تنتج دلالة إقصاء مقومات الأمة وإنجازاتها الحاضرة لإحلال التاريخ الذي لا قيمة لـه محلها؛ مما يدخل الأمة في حال التحجر والجمود والتقوقع في التاريخ. ولا شك في أن مثل هذا التحول يسهل مهمة التسلط والإقصاء. ويجلي الدالُ (الفكر) المتحول هذه الدلالةَ بربطه بدال (الحذاء) الذي يحيل إلى معنى الانحطاط في القيمة، ففكر الأمة أمام التحولين السابقين لا يستطيع أن يمارس فعله الحقيقي فيصبح عندئذ فكراً غير فاعل يتجمد بتجمد (التاريخ) ويفسد بفساد (الحكم).
ويقدم النسق الثالث بنية توازٍ تقوم على المزج بين التقنية التكرارية والتقنية النحوية، وهي تتكون من ثلاثة أنساق تتوازى نحوياً وتتداخل فيها ثلاثة أنساق تتوازى تكرارياً وحتى نتصور هذه البنية نعيد تنسيقها على النحو الآتي:
14- حين تصيح نسمة الهواء15- تأتي بمرسوم من السطان
16- وحبة الفرح التي نأكلها17- تأتي بمرسوم من السلطان
18- وقطرة الماء التي نثر بها19- تأتي بمرسوم من السلطان
إن الأسطر (14، 16، 18) تجتمع على بنية التوازي النحوي، وذلك بوساطة التوازي القائم في بنية العطف فالسطران السادس عشر والثامن عشر يُعطفان على الرابع عشر بالواو ويتضمن هذا العطف تقدير دالين هما (حين تصير) لكل من السطرين، ثم تتقاطع مع هذه الأنساق النحوية الأنساق التكرارية في الأسطر (15، 17، 19). ويبدو لي أن مثل هذا التكوين النسقي يسعى إلى جعل الدالات المحورية فيه متوحدة على المستوى الدلالي الناتج وهو دلالة التحكم بالمصير الإنساني، هذه الدالات هي (نسمة، وحبة، وقطرة)، ولا شك في أننا نلحظ أن هذه الدالات تشترك على المستوى الإيقاعي في بنية وزنية واحد هي (فَعْلَة) وهي تممنوع إلى ملاحظة التوازي الإيقاعي ثم تشترك على المستوى المدلولي والنحوي؛ أي أنها تتحرك من خلال مدلول العدد واحد لتحيل إلى دلالة أقل ما يمكن من العدد لتستغرق بالتالي جنسه.
إن ما تقدم من دالات في أنساق التوازي يكشف عن أن السلطان متحكم بمقومات الحياة الأساسية التي تمنح الناس الاستمرار في العيش، فهو متحكم بجنس الهواء (نسمة الهواء)، ومتحكم بجنس الغذاء (حبة القمح)، ومتحكم بجنس الشراب (قطرة الماء)، إن هذه القدرة على التحكم بهذه المقومات تجعل من السلطان متحكماً بمصير الأمة وممارساً عليها القمع والتسلط.
ويأتي النسق الرابع ليؤكد دلالة التسلط والتحكم بمصير الأمة من خلال اعتماده على بنية التشبيه التي كان محورها (أمة) وهو المشبه و(ماشية تعلف في زريبة السلطان)المشبه به، وذلك أن هذه البنية اعتمدت حركة تحويل الأمة إلى الماشية، فالأمة مارس السلطان عليها التحكم بمصيرها تتحول إلى مخلوقات لا قدرة لها على اختيار نوعية الحياة، فهي كالماشية التي تسمن لتحقيق غايات الجزار من الإفادة من قدراتها وإمكاناتها فهو القادر المتحكم بمصائرها وبإمكاناتها.
وقد أغلقت الأسطر الأربعة الأخيرة من المقطع الأنساق الأربعة المتقدمة وربطت بينها في الوقت الذي بلورت فيه دلالة التسلط التي نتجت في هذه الأنساق من خلال تتابع دالات فعلية تتوازى نحوياً على بنية الفعل المضارع فالسطران:
22- يختنق الأطفال في أرحامهمْ
23- وتجهض النساءْ..
يتوازي دالاهما (يختنق/ تجهض) ليممنوعا إلى غياب بناء مستقبل الأمة نتيجة القدرة السلطوية التي يمارسها العسكر والسلطان على الأمة، فالأطفال يختنقون في أرحام أمهاتهم، لأن السلطان يتحكم (بنسمة الهواء) ويتحكم بغذائهم وشرابهم وبالتالي بحياتهم، لذا تجهض النساء فتلقي أطفالها. ولعل إلقاء الأطفال، هنا، يحيل إلى انعدام تشكل مستقبل زاهر للأمة، ويجلي السطران الأخيران:
24- وتسقط الشمس على ساحاتنا
25- مَشْنَقَةً سوداءْ..
فاعلية دلالة التسلط بتأشيرهما إلى سقوط حرية الإنسان وذلك باستخدامهما دالي (الشمس) و(مشنقة) اللذين نشأت بينهما علاقة التماثل من خلال بنية التشبيه؛ فالشمس التي تحيل إلى انطلاق الحياة، وحرية الإنسان في هذه الحياة تتحول إلى مشنقة سوداء تقيد هذه الحريات وتقتلها فيسود الظلام الأمة ويسحقها.
الحركة الثانية - المقطع الخامس
1- متى سترحلونْ؟
2- المسرح انهار على رؤوسكمْ
3- متى سترحلونْ؟
4- والناسُ في القاعة يشتمونَ.. يبصقُونْ..
5- كانت فلسطين لكمْ
6- دجاجةً، من بيضها الثمين تأكلونْ..
7- كانت فلسطينُ لكمْ
8- قميصَ عثمانَ الذي به تتاجرونْ
9- طُوبى لكمْ..
10- على يديكمْ أصبحتْ حدودنا
11- من ورقٍ...
12- فألفُ تشكرونْ..
13- على يديكمْ أصبحتْ بلادنا
14- امرأةً مباحةً..
15- فألفُ تشكرونْ..
تختلف هذه الحركة في تكويناتها النسقية عن الحركة السابقة، فهي تعمل على إنتاج أنساق تواز متداخلة انطلاقاً من تكوين ثنائيات متوازية يتداخل بعضها في بعضها الآخر، وقد امتدت هذه التداخلات على مساحة بنية هذا المقطع كاملة، وقد تراوحت هذه الأنساق بين التوازي التكراري والتوازي النحوي والتوازي التشبيهي.
بدأ المقطع بتكوينين متداخلين في الأسطر الأربعة الأولى على النحو الآتي:
1- متى سترحلونْ؟2- المسرح انهار على رؤوسكمْ3- متى سترحلونْ؟4- والناسُ في القاعة يشتمونَ.. يبصقُونْ..
يتشكل التكوين الأول من تقنية تكرارية للدالين (متى سترحلون) في السطرين الأول والثالث، ويتشكل التكوين الثاني من تقنية نحوية ويتداخل بالتكوين الأول، فهو يبدأ في السطر الثاني ثم ينتهي في السطر الرابع، وهو يتكون من جملتين سرديتين تصف الأولى ما آل إليه المسرح من خلال الدال الفعلي (انهار)، ويصف الثاني ردة فعل الناس من خلال الدالين (يشتمون / يبصقون)، ويبدو أن هذا التوازي في النسقين كان قد أنتج التكوين الاستفهامي الأول، وذلك أن المقطع يقوم منذ بدئه على إعلان انتهاء الحدث التمثيلي الذي كانت المقاطع الأولى ترسم ملامحه وأحداثه في فضاء النص من خلال دلالاتها التي أنتجتها بناء على شخوص التمثيل التي أشرت إليها سابقاً، فالنسق الأول من التكوين الاستفهامي متأت من صوت الناس المشاهدين للحدث المسرحي عندما رؤوا المسرح قد انهار على رؤوس الممثلين، وتكشفت حقائق الكواليس التي كانت ديكورات المسرح تخفيها وتزينها, فجاء النسق على صيغة الاستفهام الذي يكشف عن سأم المشاهدين للأدوار التي تقمصها الممثلون. وقد استخدم المقطع الدالين (يشتمون/ يبصقون) للإشارة إلى الكشف عن طبيعة ردة الفعل لدى المشاهدين. إن هذين الدالين ينبنيان على علاقة التناسب في تقنية مراعاة النظير، إذ إن (يشتمون) تتناسب مع (يبصقون) فكلاهما من معجم الشتيمة الذي يكشف عن عمق استياء الناس من أدوار الممثلين. وحتى بعمق المقطع هذا الاستياء لجأ إلى مداخلة النسق الثاني من التكوين التكراري (متى سترحلون) في التكوين النحوي.
وأنتج المقطع أيضاً تكويني توازٍ متداخلين مبنيين على استياء المشاهدين، ومشكلين في الوقت نفسه صوت الناس الذي يمثله الدال (يشتمون)، وذلك بدءاً من السطر الخامس وانتهاء بالسطر الثامن:
5- كانت فلسطين لكمْ
6- دجاجةً، من بيضها الثمين تأكلونْ..
7- كانت فلسطينُ لكمْ
8- قميصَ عثمانَ الذي به تتاجرونْ
يتشكل التوازي الأول من التقنية التكرارية التي ظهرت بنيتها في السطرين الخامس والسابع، ويتشكل الثاني من التوازي التشبيهي الذي امتد على الأسطر الأربعة. وحتى ندرك هذا التكوين نرصد البنيتين على النحو الآتي:
نسق التكرار الأول5- كانت فلسطين لكمْ
التشبيه الأولالمشبه5- كانت فلسطين لكمْالمشبه به 6- دجاجةً..
نسق التكرار الثاني7- كانت فلسطينُ لكمْ
التشبيه الثانيالمشبه7- كانت فلسطينُ لكمْالمشبه به 8- قميصَ عثمانَ..
لا شك في أننا نلحظ أن النسقين الأول والثاني من التكوين التكراري يشكل الجزء الأول من كل بنية من بنيتي التشبيه، فهما يمثلان المشبه، ولعل تكرار المشبه في البنيتين قد يوهم بإنتاج علاقة التماثل بين التكوينين، غير أن هذا الوهم يزول عندما نجد العلاقة تتخلخل برصد بنية التشبيه مشبهين بهما مختلفين يتجه كل واحد منهما اتجاهاً مغايراً للآخر. ذلك أن المشبه به الأول (دجاجة) والمشبه به الثاني (قميص عثمان)، ويبدو أن التشبيه الأول يسعى لإنتاج دلالة استغلال السلطة في سبيل تحقيق المطامع الشخصية للممثلين (الحكام) وذلك أن هؤلاء الحكام كانوا يرون في (فلسطين) نبعاً وكنزاً (كما هي الحال في بيضة الدجاجة) يدر عليهم كل مقومات الاستمرار بالسلطة ليتحكموا برقاب المحكومين، فكل ما كانوا يفعلون بهؤلاء المحكومين من القمع والتسلط والسحق والممارسات التي برزت في المقاطع السابقة من الحركة الأولى- كان من منطلق إعادة (فلسطين) وتحريرها. إن اكتشاف جمهور المشاهدين هذا التهاوي لقدرات الحكام بفقدهم فلسطين جعل البنية المقطعية تكون صوت هؤلاء المشاهدين في السطر الخامس، ثم تخلق بنية التشبيه الكلية لتتوازى مع التكوينين المتداخلين السابقين ولتعمق الدلالة لتنحرف بها إلى التاريخ العربي. وقد بدأت هذه الدلالة عملها من أعماق التاريخ، ذلك أن (قميص عثمان) الذي اتخذه بنو أمية عموماً ومعاوية على وجه الخصوص وسيلة للتشبث بالحكم والدولة- يستدعي كل ترابطاته التاريخية وتنضاف إليه ترابطات جديدة بربطه بفلسطين، فهؤلاء الحكام لم يكونوا يكتفون بفلسطين مصدراً لاستمرار تسلقهم السلطة ومصدراً لتحقيق نزواتهم الشخصية ومطامعهم بالإمارة بل أصبحت سلاحاً يمارسون به إراقة الدماء وكل أنواع القمع، فهيئوا للأمة أن إراقة دمائها أصبحت طريقاً لتحرير فلسطين من أيدي أعدائهم.
وقد صعّد المقطع في ردة فعل الجمهور المشاهد، فخلق بنية تواز جديدة تقوم على التداخل ولكنها بنية مختلفة عن البنيتين السابقتين، فهي تتكون من ستة أسطر متداخلة، في حين كانت كل بنية من البنيتين السابقتين مكونة من أربعة أسطر، وقد تميزت هذه البنية باستحداث المقطع سطراً منفرداً لها يكشف عن موقف الجمهور المتكلم والمستهزئ بالحكام وهو سطر يعمق دلالة التهكم في أبنية التوازي هذا السطر هو (طوبى لكم ...). لا شك في أن هذا السطر يتناص مع الآية الكريمة "الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ"([50]) وذلك أن الآية تتحدث عما يجده المؤمنون في الجنة من الخلود فيها والنعيم الذي لا يزول، وغير ذلك مما وعد الله المؤمنين في الجنة. إن كل هذه الترابطات في الآية الكريمة يستدعيها هذا السطر ليخلق موقف المفارقة بين ما حققه الحكام في المقاطع السابقة من الظلم والتسلط والقمع وما أنتجوه في هذا المقطع من ضياع فلسطين، فصوروه للحكام بأنه إنجاز عظيم، وهو – كما يبدو- محاولة لتعميق الإحساس لدى هؤلاء الحكام بالخيبة التي أصيبوا بها.
إن أبنية التوازي اللاحقة لهذا السطر تكشف عن مدى تهاوي الحكام وقدراتهم وممارساتهم مقابل الدلالة الناتجة من موقف المفارقة، ذلك أنها بدأت بتكوين توازٍ تكراري من نسقين كان الأول في السطر العاشر والثاني في السطر الثالث عشر، وقد تعالق هذان النسقان مع بنية توازٍ تشبيهي تكونت من نسقين امتد الأول في السطرين العاشر والحادي عشر والثاني في الثالث عشر والرابع عشر، وذلك على النحو الآتي:
النسق الأول على يديكم أصبحت حدودنامن ورق
النسق الثانيعلى يديكم أصبحت بلادناامرأة مباحة
لا شك في أننا نلحظ أن النسقين الأول والثاني من بنية التكرار يتماثلان في الدالات (على يديكم أصبحت) ويختلفان في الدالين (حدودنا/ بلادنا). يبدو أن هذا التكوين التكراري مع اختلاف داليه يسعى لإنتاج دلالة تحيل على التهكم بنوعية الفعل الناتج من دال (يديكم) فهؤلاء الحكام– كما تشعر البنية التكرارية قد أنجزوا بفعل قدرتهم (على يديهم) إنجازاً عظيماً جعلهم يستحقون التبجيل والتعظيم، ففعلهم طال (الحدود) وطال (البلاد)، غير أن بنية التشبيه قد حوّلت هذه العظمة إلى صغار بفعل الدال (من ورق)، وذلك أن فعل هؤلاء الحكام قد جعل حدود بلادنا متحولة إلى ورق؛ أي أن هذه الحدود بهشاشتها وضعفها وعدم تبيان ملامحها لا تقوى على مقاومة القادمين إلى بلادنا محتلين أو غازين تماماً كما هي الحال في الورق سهل التمزيق والتخريق والطي والثني وغير ذلك من معاني عدم قدرة تماسكه على مقاومة الفعل الخارجي.
وقد عمق المقطع موقف المفارقة في النسق الأول من بنيتي التشبيه والتكرار بإدخال بنية تواز تكرارية جديدة في السطر الثاني عشر الذي تكون من (فألف تشكرون) وهي عبارة تقال في العادة في المواقف التي يحمد فيها الناس ويبالغ في حمدهم وثنائهم. وجاء هذا التعميق بربط هذه البنية بالدلالة السابقة، فهي تسعى لتعميق تحويل العظمة إلى الصغار، مما مهد لرصد النسق الثاني من بنية التكرار والتشبيه الذي زاد في تعميق دلالة الصغار، وذلك أن (بلادنا) بعدما تهتكت حدودها وتمزقت تحولت إلى (امرأة مباحة) يضاجعها الصبيان والرجال، فلا حدود تحميها ولا شرف يمنعها، ولا شك في أن هذا التحويل غاية في إحداث موقف المفارقة فيما كان يسعى إليه الحكام من حماية بلادنا (فلسطين) بوسائلهم من تسلط وقهر وقمع وتحكم بحياة الأمة، فالبلاد صارت مشاعاً للناهبين والمحتلين، ولذا جاء النسق الثاني من التكرار (فألف تشكرون ) فعمق هذا الصغار لدى الحكام.
الحركة الثالثة - المقطع السادس
1- حرب حزيرانَ انتهتْ..
2- فكل حرب بعدها، ونحن طيّبونْ..
3- أخبارنا جيدةٌ
4- وحالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكونْ..
5- جمر النراجيلِ.. على أحسن ما يكونْ..
6- وطاولات الزهر- ما زالتْ-
7- على أحسن ما يكونْ
8- والقمر المزروع في سمائنا
9- مُدوَّرُ الوجه، على أحسن ما يكونْ..
10- وصوتُ فيروزَ،
11- من الفردوس يأتي،
12- "نحن راجعونْ"..
13- تغلغل اليهود في ثيابنا
14- و"نحن راجعونْ"..
15- صاروا على مترين من أبوابنا
16- و"نحن راجعونْ"..
17- ناموا على فراشنا..
18- و"نحن راجعونْ"..
19- وكل ما نملك أن نقولهُ
20- "إنا إلى الله لراجعونْ"..
يرصد السطران الأول والثاني بنية ترديد تشكلت من تكرار دال (حرب) الذي تعلق بالدال (حزيران) في السطر الأول وهو يحيل بطبيعة الحال إلى الحرب العربية الإسرائيلية عام (1967) التي أصيب بها العرب بهزيمة نكراء ساحقة أمام قوة إسرائيل، ومن تكرار الدال الثاني (حرب) الذي علق بدال (كل) وتلاه دال (بعدها) ليحيل إلى استغراق كل أنواع الحروب التي تتلو هذه الحرب، ولعل في هذه الإشارة إحالة إلى دلالة يحاول المقطع أن يجسدها تقود إلى رصد حالة الضعف التي أصابت الأمة في ثقتها بنفسها وبقوتها وقد عمق هذه الدلالة التركيب (ونحن طيبون) الذي يرصد دلالة التهكم بالأمة بوصفه تركيباً يستخدم في ثقافة الأمة بعد إنجاز أفرادها إنجازاً يممنوعهم إلى الفرح والسرور أو بعد إنجاز لـه قيمة عليا. فاستخدامه في موقف الهزيمة يؤدي إلى مفارقة الفرح والسرور إلى التهكم الذي أحدثته مساواة الهزيمة بالإنجاز ذي القيمة العالية، وقد عمقت هذه الدلالة الأسطر التالية لـه والتي تشكل المقطع كله, وهي أسطر مبنية على كثير من أنساق التوازي التكرارية التي تعمق مرارة الهزيمة وعنفها على ذات الأمة ومعتقداتها وثقافتها في كل مسوياتها الاجتماعية والسياسية والفكرية.
وأول هذه الأنساق النسق التكراري الذي تشكل من التركيب (على أحسن ما يكون) وامتد في أربعة أنساق ابتداء من السطر الرابع إلى السطر التاسع، وهي أسطر تخلق متوالية نحوية ترصد دالات تتعلق بتصور أحوال الأمة من الداخل والخارج، وقد بدأت هذه المتوالية من السطر الثالث إذ رصدت الدال (أخبارنا) الذي يتوزع على حالي الأمة من الداخل متمثلة بمشاعرها ومن الخارج متمثلة بما تتماس به على مستوى معيشتها وقدراتها، وقد جاءت بعدها الدالات التي تصور حال الأمة من الداخل, وذلك في السطر الثاني متمثلة في الدالات (حالنا) و(الحمد لله) و(أحسن)، فالدال (حالنا) يحيل- بربطه بالدالين (الحمد لله)- إلى الاستشعار بالسرور والهناءة التي تتمتع بها الذات الإنسانية بما حققته في حياتها من رضى نفسي وقبول عن الذات، ويكشف الدال (أحسن) عمق هذا الرضى والقبول، وقد توالت الدالات التي تصور أحوال الأمة من الخارج ضمن المتوالية النحوية فرصدت (جمر النراجيل) و(طاولات الزهر) و(القمر، المزروع في سمائنا) لتصور المظاهر العامة التي تحيا بها الأمة والتي تكشف عن مدى المتعة التي تتحلى بها هذه الأمة من ممارستها أنواع اللهو والتسلية (جمر النراجيل/ طاولات الزهر) والاستمتاع بليالي السهر الجميلة التي يزينها القمر في هذه الليالي. إن هذا الرصد لحالة الأمة من داخلها وخارجها كان مرتبطاً على مدى الأسطر التي وردت فيها بنسق التوازي (على أحسن ما يكون) الذي كان يعمل على تعميق دلالة التهكم بتكرار استحداثه حالة الرضى عن الذات والقبول لما أنجزته.
وقد عمق المقطع دلالة التهكم باستثمار الثقافة الاجتماعية والدينية (الفكرية) وخلق بنية تواز تكرارية جديدة, وذلك ابتداء من السطر العاشر إلى نهاية المقطع، وقد رصد من الثقافة الاجتماعية الدالين (صوت فيروز) اللذين يحيلان إلى ثقافة الأمة وفنها وتأثير هذا الفن في ذاتها وفي توجيه مسيرتها، ورصد من الثقافة السياسية الحركة الصهيونية التي سعت بكل تحركاتها للإحاطة بالأمة وابتلاعها وقد ظهر هذا الرصد في الأسطر:
13- تغلغل اليهود في ثيابنا
15- صاروا على مترين من أبوابنا
17- ناموا على فراشنا..
ورصد من الثقافة (الدينية – الفكرية) فهم الأمة للدين والفكر المبني على هذا الدين، وقد ظهر هذا الرصد في الدالات (الفردوس) و(كل ما نملك أن نقوله: إنا إلى الله لراجعون)، ومع كل هذا الرصد للجوانب المكونة للأمة العربية كان المقطع يرصد أنساق التوازي التكراري التي تكونت من السطر (نحن راجعون) ومن السطر الأخير (إنا إلى الله لراجعون)، وقد ولّدت هذه الأنساق التكرارية دلالة المفارقة التي آلت إلى دلالة التهكم، فالثقافة الاجتماعية التي قامت على السطر (وصوت فيروز) هي التي كونت الذات العربية فجعلتها أمة ترى في فاعلية الغناء بديلاً عن فاعلية قدرة الذات وممارستها، فصوت فيروز تخلل عقل الأمة بكل ما يحمله في عبارة (نحن راجعون) من إحالات إلى العودة إلى الوطن المحتل ودحر العدو، فجعلها مخدرة غير قادرة على الفعل المؤثر، فهي أمة متلقية تمارس (جمر النراجيل) و(طاولات الزهر) والاستمتاع.
وأما الثقافة السياسية هنا فهي مبنية على الأكاذيب التي أطلقها الحكام والسلاطين التي ظهرت في الحركة السابقة، وقد استحضر المقطع العبارة السياسية المشهورة (نحن راجعون) التي تكررت في هذا المقطع في أربعة أسطر، غير أن تكرارها لا يعني إعادة معناها، لأن كل سطر منها يرتبط ببنيته فيأخذ دلالته منها، تقول (جوليا كريسطيفا) في حديثها عن قانون التكرارية: "إن الأمر يختلف في اللغة الشعرية، إذ هنا تكون الوحدات غير قابلة للتكرار، أو بصيغة أخرى، لا تظل الوحدة المكررة هي هي. وهو ما يجعلنا نتبنى كونها تصبح أخرى بمجرد ما تخضع للتكرار، فالتكرار الظاهر س.س لا يعادل س على المستوى الصوتي (الظاهر) للنص الشعري. ففيه تتكوّن ظاهرة غير قابلة للملاحظة، إلا أنها أثر معنى شعري خالص يتمثل في أننا نقرأ في المقطع (المكرر) المقطع نفسه وشيئاً آخر"([51]) فهي عبارة تخدير لذات الأمة وتكرارها في السطور إشارة تحيل إلى عمق الخواء في ثقافة العرب السياسية التي لا ترى اليهود يواصلون غزو هذه الأمة, فتخللوا ذاتها, واستباحوها, واستباحوا أوطانها. وقد رصد المقطع ثلاثة أسطر اعتمدت التقنية السردية لتصف هذه الإحاطة بالأمة (تغلغل اليهود في ثيابها) فهم قد دخلوا كياننا, وتمثلوه, و(صاروا على مترين من أبوابنا) فأحاطوا بنا, وفرقونا, وقطعوا أوصال أوطننا. و(ناموا على فراشنا) فدخلوا ذاتنا, وغيروا أحلامنا, وخدرونا. ومع كل هذا الذي يصبّ في واقعنا بعد حرب حزيران نذهب مع الحكام ونؤمن بأننا (نحن راجعون). وقد زاد هذا الخواء فساد الثقافة الدينية لديهم التي رصدتها الأسطر (11، 19، 20)، وذلك أن رؤيتهم الفكرية لصوت فيروز تقود إلى تصور (الفردوس) تصوراً مشوهاً بافتراضهم أن صوت (فيروز) صوت ملائكي منحدر من السماء ومن الفردوس تحديداً، وهذا التشويه يتصل بالسطر الأخير (إنا إلى الله لراجعون ...) الذي كشف عن الثقافة الدينية المشوهة التي يتمتع بها المسلمون، وذلك من خلال تناص هذا السطر مع قوله تعالى " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ "([52]) فهذا التناص كما أرى مبني على مستويين: الأول تركيبي والثاني دلالي. أما التركيبي، فيتصل بتغيير في تركيب الآية الكريمة، وهي إشارة أولى إلى أن الأمة تقرأ القرآن بطريقة خاطئة فتستشهد على أحوالها بآيات مغلوطة القراءة، وهذه القراءة المخطوءة تممنوع إلى المستوى الثاني، أي المستوى الدلالي، ذلك أن الآية الكريمة تشير إلى أن الإنسان ملك لله سبحانه وتعالى يتحكم به الله كيفما شاء فيميته ويعيده متى ما شاء، فإذا أصابه بمصيبة فإنه يرجعها إلى الله بوصفه المتحكم بمصيره، وقد تعامل السطر الأخير مع هذه الدلالة تعاملاً يكشف عن الخواء في التفكير الديني؛ فالأمة لا تملك في حياتها إلا تصور العودة إلى الله بالموت، ولذلك فإن هذا السطر حوّل الدال في الآية (لله) إلى (إلى الله) وحوّل التركيب فيها (إليه راجعون) إلى (لراجعون) الذي يشير إلى تأكيد الرجعة إلى الله دون الحديث عن ملكية الله للإنسان ومصيره وأحواله، وكأنما الأمة لا تفهم من الفعل في الحياة سوى الاستسلام للحياة والانتقال إلى الموت.
المقطع السابع
1- حرب حزيرانَ انتهتْ..
2- وحالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكونْ..
3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ
4- من مطبخ السلطان يأكلونْ
5- بسيفه الطويل يضربونْ
6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ
7- لم يُقْتَلوا..
8- لم يُصْلَبوا..
9- لم يقفوا على حدود الموت والجنونْ
10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ
11- وخارجَ التاريخ يسكنونْ..
12- حرب حزيران انتهتْ
13- جرائد الصباح، ما تغيرتْ
14- الأحرف الكبيرة الحمراء.. ما تغيرتْ
15- الصورُ العاريةُ النكراءُ.. ماتغيرتْ
16- والناس يلهثونْ..
17- تحت سياط الجنس يلهثونْ
18- تحت سياط الأحرف الكبيرة الحمراء.. يسقطونْ..
19- الناس كالثيران في بلادنا..
20- بالأحمر الفاقع يؤخذونْ..
يتكون هذا المقطع من نسقي تواز : امتد الأول من السطر الأول إلى السطر الحادي عشر، وامتد الثاني من السطر الثالث عشر إلى السطر العشرين، وكل نسق منها يعتمد على تقنية التكرار التي كررت (حرب حزيران انتهتْ).
رصد النسق الأول عدداً من أبنية التوازي التي وقعت تحت ضغط دلالة المفارقة التي تؤول إلى دلالة التهكم المنتجة من السطر (حالنا- والحمد لله- على أحسن ما يكون) الذي أدركنا كيفية إنتاجه هذه الدلالة في المقطع السابق، كانت البنية الأولى بنية تكرارية اعتمدت تكرار الدال الأولى منها ثلاث مرات وهو (كتابنا) وقد جاءت على النحو الآتي:
3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ
............
6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ
............
10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ
لا شك في أن هذا التكوين الثلاثي قد خلق نوعاً من التغاير في تقابل دالاته خارج دال (كتابنا) وذلك أن كل دال من هذه الدالات المكررة يتعلق بدالات مختلفة عن دالات الآخر، وقد نتج عن هذا التغاير تكون أنساق تكرار تعتمد التوازي النحوي رصدت بدالاتها عدداً من الدلالات، فالتكرار الأول من البنية أنتج ثلاث متواليات تبدأ كلها بحروف جر على النحو الآتي:
3- كُتَّابنا على رصيف الفكر عاطلونْ
من مطبخ السلطان يأكلونْ
بسيفه الطويل يضربونْ
إن المتوالية النحوية، هنا، باستخدامها حروف الجر المختلفة تخلق دلالات مختلفة ولكن في النهاية ينضم بعضها إلى بعض، فالسطر الأول (على رصيف الفكر عاطلون) يرصد البعد المكاني الذي يمثل الحيز الفكري المعطل لدى الدال (كتابنا) فهؤلاء الكتاب، كتاب الأمة، قد تعطلت فاعليتهم الحقيقية عن التفكير وإنتاج الفكر الذي يرسم ثقافة الأمة، فأصبحوا يشغلون البعد المكاني الثانوي الجديد في طريق المسيرة الفكرية وهو رصيف الطريق المخصص لكل مركبة معطلة، أو لكل منتظر حافلة قادمة ليوصل طريقه بها. ولا شك في أننا ندرك أن هذه الدلالة معتمدة على البعد الاستعاري الذي أنتجه التركيب (رصيف الفكر). ثم يأتي السطر الذي يليه (من مطبخ السلطان يأكلون) ليحدد ملامح الفاعلية المعطلة فعلياً، وذلك أنها فاعلية تستمد جمودها من البعد المكاني المتمثل في مجرور (من) وهو (مطبخ السلطان) الذي يجسد نوعية الفكر المعطل للفاعلية الحقيقية للكتاب، فالسلطان يمدهم بالمادة الفكرية التي لا يستطيعون أن يتجاوزوها فهي غذاؤهم الذي يشكلهم، ويأتي السطر (بسيفه الطويل يضربون) ليكشف عن نوعية الفاعلية الجامدة التي تنتج القمع والتسلط بوصفها فاعلية مستمدة من السلطان، وهي فاعلية متكونة خارج الذات (ذات كتابنا) إن هذه الدلالات وإن بدت مختلفة في حركتها المضمونية إلا أنها تنضم معاً لتكوّن البعد الدلالي الأول للدال (كتابنا)، وهو بعد يرصد حقيقة حركة هؤلاء الكتاب، وقد جسدت القافية هذه الحركة بدقة, فإذا ما قرأنا قافية الأسطر الثلاثة (عاطلون/ يأكلون / يضربون) فإننا نخرج بالتصور الدقيق لهذا البعد، فالكتاب بناء على هذه القوافي يمارسون ثلاث حركات متواصلة على المستوى الدلالي؛ وذلك أن العطل من العمل والفاعلية الإيجابية بارتباطها بالأكل والتمتع تنتهي إلى الفعل السلبي الذي يممنوع إلى الإفساد في المجتمع ولذا نجد القافية (يضربون) قد جسدت هذا الفعل بوصفه فعلاً متأتياً من (سيف السلطان) الذي مارس كل أشكال القمع والتسلط كما أدركنا في الحركة الأولى من هذا النص.
وأما التكرار الثاني فقد أنتج أربع متواليات نحوية قامت على بنية تكرار رؤوس الجملة، وذلك على النحو الآتي:
6- كُتَّابنا، ما مارسوا التفكير من قرونْ
لم يُقْتَلوا..
لم يُصْلَبوا..
لم يقفوا على حدود الموت والجنونْ
نلحظ أن رؤوس الأسطر الأربعة تتشكل من أحرف نفي متماثلة سوى رأس جملة السطر الأول الذي جاء بلفظ (ما) في حين أن الأحرف الثلاثة الأخرى كانت بلفظ (لم) غير أن هذا التغاير لا يغير الحركة الدلالية، فالدلالة كلها تتجه إلى فاعلية نفي الحدث في الماضي، ويبدو أن هذا التكرار يشكل مع التكرار السابق بنية تواز تقابلية ترصد واقع الدال (كتابنا) من خلال البعد الدلالي، وذلك أن الدلالة السابقة التي رصدت فاعلية الكتاب الجامدة والمعطلة عن فعلها الحقيقي والموجهة نحو الفاعلية التسلطية المستمدة من السلطات تتوازى مع دلالة هذه البنية التي تؤشر إلى الفاعلية الحقيقية التي يفتقدها الدال (كتابنا) والفاعلية الإيجابية التي تنتج الفكر والتقدم للأمة، وهو تواز تفسيري يشكل حالة اتصال لا حالة مواجهة كما يمكن أن توحي إليه حركة التوازي التي تنتهي إلى التقابل، وأول الدالات التي تشير إلى هذه الفاعلية هو (التفكير) وهو دال يمتلئ مضمونه بكل أنواع الحدث الإنتاجي للتفكير غير أن هذا الإنتاج معطل بناءً على بنية النفي (ما مارسوا من قرون). فوظيفة الكتاب الحقيقية هي ممارسة التفكير وإنتاج الفكر غير أن غياب هذه الممارسة عن ساحة الزمن الماضي الطويل (من قرون) جعل هؤلاء الكتاب عاطلين عن التفكير، ثم وضحت البنية حقيقة الفاعلية الإيجابية التي كان على الكتاب أن ينتجوها من خلال الدالات المنفية في الأسطر الثلاثة التالية، وهي (يقتلوا/ يصلبوا/ يقفوا)، ولا شك في أن هذه الدالات تشير إلى الفعل الحقيقي الذي ينتجه الفكر، فالفكر ضمن ثقافة التسلط والقهر يقود إلى (القتل) لقتل حامله، وإلى (الصلب) لمنع حامله من نشره كما صلب المسيح عليه السلام، ويممنوع إلى الموت والجنون، ولكن هؤلاء الكتاب ابتعدوا عن الفكر فابتعدوا بهذا عن القتل والصلب والموت والجنون، ولا شك في أن هذا التكوين التكراري قاد إلى تفسير الفاعلية المعطلة في البنية السابقة.
ويأتي التكرار الثالث ليعمق حالة التواصل مع التكرارين السابقين وليرصد حركة هؤلاء الكتاب المعطلة عن الفاعلية في حياة الأمة، وقد تشكلت فيه بنية توازٍ نحوية مختلفة في نظام ترتيبها عن البنيتين السابقتين، وذلك على النحو الآتي:
10- كُتَّابنا يحيون في إجازةٍ
وخارجَ التاريخ يسكنونْ..
تتكون البنية، هنا، من تركيبين: يبدأ الأول بفعل مضارع (يحيون)، وينتهي الثاني بفعل مضارع (يسكنون)، بحيث يشكل الأول مفتتح الجملة الأولى والثاني غلق الجملة الثانية. والجملتان متواصلتان معاً على المستوى الدلالي، وذلك أن الجملة الأولى تحيل إلى رصد دلالة الفاعلية الجامدة المعطلة من خلال دال (أجازة) فهؤلاء الكتاب يعيشون في إجازة تخرج عن العمل وتعطل قدراتهم الفعلية، وأن الجملة الثانية تحيل إلى الدلالة نفسها، وذلك أن هؤلاء الكتاب بتعطيلهم عن الفاعلية قد خرجوا من تحريك التاريخ وإنتاجه، فكأنما هم يتخذون بعداً زمانياً لا يقع في تاريخ الأمة؛ فهم لا يؤثرون بثقافتها أو بفكرها أي تأثير.
وأما النسق الثاني، فقد أنتج أبنية تواز مختلفة في تنظيمها وترتيب دالاتها عن النسق الأول. وقد كانت البنية الأولى متشكلة من التوازي القائم بين قافية ثلاثة أسطر متتابعة جاءت على النحو الآتي:
12- حرب حزيران انتهتْ
13- جرائد الصباح، ما تغيرتْ
14- الأحرف الكبيرة الحمراء.. ما تغيرتْ
15- الصورُ العاريةُ النكراءُ.. ما تغيرتْ
يبدو لي أن هذه البنية تحاول رصد حالة الثبات في موضوعات الأسطر الثلاثة، وذلك أن السطر الأول يرصد دالي (جرائد الصباح) الذي يحيل إلى ما يتلقاه الناس من الإعلام في الصحف اليومية صباح كل يوم، فهذه الجرائد تقدم ل