"كلنا يعلم أننا نعيش في عصر ضاغط ومتوتر، وكل يوم يمر بنا يحمل الكثير من الأحداث الصغيرة والكبيرة، وهذا ما يجبرنا على التفكير والتطلع إلى المستقبل بطريقة أكثر تقدمية...
وأن هذه العوامل جميعها من المفترض أن تنتج عاملا مساعدا في استخلاص العبر من المسيرة الحياتية التي نقطعها، ومن اجل صيانة أنفسنا والعالم من حولنا من جديد، فهي الابتكار الفني التي تأتي فكرته كبذرة لصياغة نصا أدبيا راقيا، وهي الفكرة لحسن ضيافته على أوراق قصص حكاياتنا في كتاباتنا الأدبية لتشكل سبك روح الشخوص وفكفكة لغز الحياة، وأخص بالذكر "عالم الأدباء"، ليظل ذاك أو تلك النص مفتوحا على تأويلات كثيرة ما دام يخدم الكاتب والقارئ وتلاميذ المستقبل وربما يـبقى للتاريخ".
ولأننا ككتاب ربما لا نستطيع تغييب همومنا وقضايانا وأطروحاتنا وما نطمح إليه بهذا القلم.
لكن من المؤكد أننا في المحصلة سنطلع على حصيلة تجربة الإنسان وكينونته، والإضرابات النفسية، والحالات التي نلجأ إليها في أقلامنا بين صحوة الكاتب في غيبوبة الإنسان عن الواقع.....
سنقف برهة هنا: لنرى اختلاف أشكال التعاطي مع الواقع الحالي لما تعانيه أسرة أناة الكاتبة داخل مجتمع متقلب الأمزجة، متناقض الطباع، مبحرة في أناتها داخل الفرد، على خلاف بعض الكتاب الروائيين والقاصين الذين اعتمدوا على شهرتهم من خلال الكمية وليس النوعية مما جعلهم يبقون على ما هم عليه (كواثق الخطوة يمشي ملكا) معتقدين أن نجاحاتهم ستأتي من خلال علاقاتهم، متجاهلين تنوع إبداع الكاتب ورؤية القـارئ والنـاقـد... حتى أصبحوا يكررون أنفسهم ويشترون قصصهم المعلقة على شماعات الوطن والاحتلال في عناوين مزخرفة سطرت فوق أوراق ملونة.
وبما أن لكل تجربة حالتها الخاصة وأوضاعها المحيطة بها، ولكل تجربة واقعها وإرهاصاتها، وفي ظل ما حققته التجارب التي يمر بها الفرد في الواقع المأسور داخل أحكام وقوانين مجمدة للطاقة والإمكانات والرغبات الكامنة في دواخلنا، ما تسببت بالإحباط لكثير من النساء عامة وللمرأة المبدعة خاصة، فبعضهن خرجنا أمتارا بعيدة، وبعضهن يتحركن ببطء، وبعضهن ما زلن يدفعن فاتورة صمتهن المؤلم.
كما سجلت القاصة نهيل بعضا من تقارير حياتها اليومية في مربعها المتر. قصص مشبعة بقضايا وهموم المرأة الفلسطينية المسطرة في 91 صفحة، لنجد أنفسنا أمام قضية وجودية ناتجة من الظروف والعوامل التي تحيط بها الكاتبة الخارجة عن طوع المألوف الاحتلالي الممتد على صفحات بعض القصص والروايات متجاهلين أصحابها في الكتابة عما سببه الاحتلال على المجتمع الذي نعيشه.
كما كشفت لنا الكاتبة من خلال صوتها البصري آلام المجتمع الفلسطيني وأحداثه الآتية من أنفاس تجربتها مستذكرة يوميات الواقع للمجتمع وللمرأة في آن ملتقطة صور حية من الأمكنة التي ذكرتها أو زارتها ناقلة لنا أدق التفاصيل وتأثيراتها وأوجاعها في اللحظة مخاطبة القارئ فيما تعايشه من توتر وتمزق إنساني يقظ في يوميات حياتها الفكرية والإنسانية والعاطفية، لتكشف لنا عالمها الداخلي الذي يحمل في طياته ثقافة أيديولوجية مؤثرة.
لهذا نسلط الضوء اليوم من جديد على إبداعات القاصة نهيل المتعددة المواهب، التي ألقت مساحات ماهيتها الكتابية وتجربتها الإبداعية الخارجة من رغباتها وأحلامها الواقعة بين قناعتين: قناعة الحقيقة، وقناعة الحلم المنطقي، لنلتمس جوانب من حياتها في مجموعتها القصصية المستحضرة من الواقع الحياتي في قصص "حياة في متر مربع" المستلهم من جزئيات سيرتها الحياتية الخاصة والعامة، برؤية منحصرة في هذا المتر المربع " الممزوج من ألوان ريشاتها التي نثرت من محطات الواقع السلبي والقهري الذي نحيا فيه.
واضعة أمامنا قصصها في لوحات تشكيلية مرسومة من صور الحياة اليومية الروتينية، التي وقفت فيها القاصة مدافعة بالأناة الجمعي عن حق الإنسان في العيش كباقي الشعوب التي يتوفر لها الحرية، والاستقلالية، والنظام الديمقراطي، والسياسي، والاجتماعي المنظم، كما بدأت قصصها بـ ( زلة لسان ـ أمثالي يتكررون ):
كاشفة لنا العلاقة الغير متكافئة في مجتمع لا يمكن أن يلبي ابسط المتطلبات لعلاقة كانت من الممكن أن تنتهي بالزواج لولا تصدع الرغبات التي ذهبت بها الكاتبة إلى عدة قضايا اجتماعية، كما في قصة (بعض من انفجارات) التي بدأت معالمها منذ العنوان حتى انتهت بثلاثة تأويلات أدت إلى تسميتها بــ (بعض من انفجارات) واضعة أمامنا أنواع القمع داخل السجن واحتمالات ثلاثة أشكال لتأويلات معبرة.
ثم لاحقتها بـ (ثلاثية الحب والبقاء) المدونة من أناتها الممزوجة بخيال الواقع وتفاعلها مع حالات الشخوص الذين عرفتهم وعرفت تجربتهم وقضاياهم، أو مروا في حياتها داخل مجتمع ضيق مما دفع بالكاتبة لإخراج هذه المجموعة القصصية الناطقة بالأناة الجمعي:
كما في ( سوء حظ وهذيان) و ( كثير من الثرثرة) و ( السترة) و (حياة في متر مربع ) تعود بنا الكاتبة من جديد لتعبر لنا عن رؤية الوجه الآخر للصراع الفكري لدى جيل الشباب الذي تنتمي له الكاتبة نفسها.
(( فلو سألنا أنفسنا لماذا؟ نجحت الكاتبة الأكاديمية السويدية ( دروس ليـنسج ) التي حصلت على جائزة نوبل في 2007 على أنتاجها الأدبي لين الرجال والنساء في الأدب وهي في ألـ (88) من العمر، أليس لأنها عملت على التنوع... في رواياتها التي كتبت فيها عن القضية الإنسانية، والتربوية، الاجتماعية، التعليمية، والعلمية، والخيالية، والواقعية.... منذ بدء كتابة روايتها (الكراسة الذهبية) وحتى اليوم ما زالت ترمي أثقال هموم المجتمع في تنوع أنتاجها الأدبي الذي كرمها بجائزة نوبل سنة 2007 )).
كما في مجهودات نهيل الإبداعية المرتبطة بالواقع الحسي التي انطلقت منها الكاتبة وبموادها الخام للقصص التي تطرقت إليها وتصويرها للحالة السيكولوجية لتلك الشخصيات، أضاف إلى رصيدها الإبداعي تنوعا لافتا للنظر.
نعود لنستعرض عناوين قصص نهيل المحملة بطابع البساطة والتلقائية النابعة من السخرية السوداء الآتية من مسلمات الواقع كما في ( مخطوط الموتى ) و (إهداء إلى الجثث والمبتورين) و (من تمنوا الشهادة ) و ( في اللغة وضمور تفاحة آدم ) و ( ألا أموت ضحكاً ) التي تحمل روائح شعرية وألغازا قمرية... بفلسفتها المتلاحقة بتساؤلات لم تنتهي بـــ ببناء سورا، كما تقول القاصة نهيل:
" بنينا سوراً وبالطااااء بنينا سطورا " كما في (أربع نساء) المسجلة بتاريخ أحداثها وبأدق التفاصيل التي أدخلتنا فيها الكاتبة كالزائرين لمتحفها الشرقي الذي يمس جوانب من حياتنا، شارحة لنا ما استوقفها من الحالات الإنسانية وتساؤلاتها في حضور القهر المجتمعي المسيطر على الفرد بلغتها الخاصة والبسيطة والسلسة دون أي تكلفة أو عناء في الصنعة أو ترتيب الجمل وزخرفة السرد المنطلق من خلال روحها وتواصلها بالقلم الذي وصل إلى وضع الحياة في متر مربع، الذي يغلب عليها الطابع الإنساني، مما جعلتنا نسير وراء أفكارها وخبايا خصبها، التي هزّتها تلك الرؤى.
المتواطئة مع سمات الحياة اليومية ودهشتها المتنقلة داخل كينونة إحساسها، مما يدور حولها من قصص خارجة عن حدود أفكارها. تدعونا القاصة نهيل لمعالجة قضايانا وتناقضاتنا ورغباتنا الكامنة في وعينا، ولنتجاوز تلك القمع والكبت الذي يعيشه الفرد في مجتمع سبب لنا تلك المواجع الدفينة، والفجيعة الإنسانية المتراوحة في جغرافيا معدودة، مكانيا، وبشريا، واقعة في مكامن التمزق، الذي حول تدفق الكاتبة الوجداني والإنساني من أيقونات الأمكنة إلى لغة طافحة الأسئلة بالإنابة عن مجتمعها في قصصها المستحضرة من مواجعه الدفينة المؤلمة..!
إذاً فالقاصة نهيل منذ البداية وبدون دراية منها مشت حسب نظرية "جان جاك روسو" حين قال (إن الإنسان يجب أن ينمو داخل الإنتربولوجيا ) بمعني أن يسجل واقع الحياة كما هي دون إضافة أو ابتعاد عن الحقيقية البشرية بجميع أشكالها وكما يجب أن تظهر..
نستنتج أخيرا أن اللعبة القصصية التي اعتمدتها القاصة نهيل المتحدثة بالأناة الجمعي والذاتي الممتلئ بالسيرة الذاتية في التماهي وتدفق ذاكرتها المضيئة بالأحداث التي منحت لكل شخصية من شخوصها خصائص مميزة وقسمات واضحة الصفات والجدليات واضعة أمامنا جوهر المواضيع التي وقعت. لتكشف لنا عورات المجتمع والاختناق الفكري والتخدير الحسي في قصصها. مختارة شخصياتها المتقلبة فكريا، من أجل أن تصل إلى جدليات مباشرة بقصد التعبير عن رؤية ومفهوم الواقع وتراجعه... أو بقاءه على ما هو عليه... دون أن يسجل أي تقدما ملحوظا ربما بسبب تكرار الحروب والاحتلالات التي جاءت في قصصها على هيئة أشكال أعمدة مريضة آيلة للسقوط
ما تسبب بتلك المواجع الإنسانية والفكرية والسياسية لهذا الوطن المنهك،... موضحة لنا بعضا من ضحايا المجتمع الغير قابل للاستيعاب بسبب ضيق الأفق في الحياة اليومية التي تفقد المجتمع حماسته.
كالشخصيات التي حصرتها في ( دراما وكوميديا ): لتكتمل المشاهد لدينا وتبدو كمصباح معلق في حديقة قديمة وتريد القاصة نهيل ترميمه بطريقة كوميدية. تاركة لنا تقدير المسافة الزمنية لكثير من قصص كتابها ( حياة في متر مربع).
إذن عبر هذه القصص المسربة من أجزاء القاصة وغرائزها وأحلامها ومكوناتها الأنثوية وتعاطيها مع ثيمات جيلها وتعاملها مع صفاته من خلال علاقاتها بالعالم المحيط بها، وبتناقضاته الإيديولوجية برسم صور ممتلئة بالشعارات المتحركة في عالم كلما اقترب من الواقع.. هرب منه.
نتمنى على القاصة نهيل أن تستمر في إبداعاتها مستخدمة أدواتها المجهرية لفحص الأشياء بعدسات مكبرة وأجهزة فكرية تصل إلى أكثر طبقات الإنسان سريةً، حيث يصير الفحص بحثا عن العمق وليس عرضا.. كما اعتاد عليه بعض الكتاب المتأثرين بفلمنة قصصهم، ونقل الواقع كما هو.. وأن تطور أدواتها بما يتلاءم ورؤيتها المتقدمة، ولا تقع في تكرار الذات.
ليبقى الجدال قائما حول إبداع القاصة نهيل وغيرها بجميع أنواعه وجدواه، ولأننا نحتاج في مجتمعنا المزيد من بلورة الإجابات وتوليد الأسئلة و الأجوبة المستنتجة لتعزيز السعي والنهوض بادوار الأدب الجديدة كما أبدعت الكاتبة نهيل بطاقتها الداخلية التي تسكنها. وهي وحدها القادرة على التعبير عن رغباتها في الإبداع أو ما تريد إنتاجه بتحدي مستمر لتجعل من إبداعها قضية مهمة وأساسية.
ولتبق نهيل مع زميلاتها المبدعات يتفردن بنتاجهن الأدبي المتميز، ونعتقد أننا أمام أعمال أدبية تحتاج إلى مزيداً من الحوار والنقاش لإبداعات المرأة لأنها تعيش في ظل مجتمع غير قابل للتغير أو على الأقل ما زالت المرأة تتحرك فيه ببطء بسبب تشويه البنية الاجتماعية، والقبلية، والعقائدية والقمع العائلي، واضطهاد الزوج، والملكية، والتغيرات السياسية الغير مساعدة على خروج الفرد من هذا المتر الضيق لتوسيع إبداعه وآفاقه الفكري والاجتماعي.... ليصبح موضوعـا لكتـاب.