فضيلة العلامة محمد بن صالح العثيمين : الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
أيها الإخوة : إلى أين نسير !؟ وإلى أين نتجه !؟ أنحن نعيش كما تعيش البهائم !؟ أنعيش كما تعيش الأنعام ليس لنا هم إلا ملء البطن وشهوة الفرج !؟ إلى أين !؟ الواقع أن هذا سؤال عظيم ، تنبني عليه حياة الإنسان الحاضرة والمستقبلة ، إننا في الحقيقة نعلم أين نذهب ، ونعلم إلى أي شيء نعيش ، ونعلم لماذا وجدنا في هذه الحياة من كلمة واحدة من كلام الله - عز وجل - ألا وهي قول الله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) . [ الذاريات : 56 ] . لم يخلق الله الجن والإنس إلا لعبادته ، وعبادته توحيده والقيام بطاعته فعلاً للمأمور وتركًا للمحظور .
ولقد أكرم الله تعالى بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً ، خلق لهم ما في الأرض جميعًا لينتفعوا به ويستعينوا به على ما خلقوا من أجله وهي العبادة ، ولقد أكرم الله بني آدم وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً حين سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض ، كما قال الله - عز وجل - : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) . [ البقرة : 29 ] . وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ) . [ الجاثـية : 13 ] . ولكن هل نحن استخدمنا هذا المسخر لنا والمخلوق لنا فيما خلقنا له ، أم أننا ألغينا ما خلقنا له واشتغلنا بما خلق لنا !؟
الجواب : إن كثيرًا من بني آدم على هذا الوضع ، تركوا ما خلقوا له ، واشتغلوا بما خلق لهم ، ويدلك على هذا قول الله تبارك وتعالى : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) . [ الأنعام : 116 ] .
من أكثر من في الأرض !؟ الكفرة ، الكفار هم أكثر من في الأرض إن أطعناهم أضلونا عن سبيل الله : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا ) . [ النساء : 89 ] . ( وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) . [ الممتحنة : 2 ] . ( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) . [ آل عمران : 69 ] . ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ) . [ البقرة : 109 ] .
أكثر أهل الأرض ضُلَّال ليسوا على هدى : ( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) . [ الأنعام : 116 ] . ولكن تدرون هل من في الأرض من هؤلاء يصدرون الأوامر بلفظ : افعلوا !؟ لا ، لا يصدرون الأوامر بلفظ : افعلوا كذا ، ولو أنهم أصدروا ذلك لكشفوا عن أنفسهم ، ولتبين خطأهم ، لكنهم يسرون في جسم الأمة الإسلامية كما تسري النار في الفحم أو كما يسري السم في البدن ، إنهم يأمروننا أمرًا غير مباشر بسخافة الأخلاق ، ونحاتة الأفكار ، وفساد الأديان بما يغزوننا به من أنواع الغزو الفكري والخلقي والمالي والاقتصادي والاجتماعي ، في كل ما يستطيعون من قوة ؛ لأنهم يعلمون أنه لو كان الميدان بيننا وبينهم في الأخلاق والعبادة لكان الظفر للمسلمين ، يعلمون ذلك ، لكنهم لم يجابهونا مجابهةً نعلم بها حقدهم وعداوتهم وبغضاءهم ، إنما دسوا لنا هذه الأخلاق عبر وسائل الإعلام ؛ ولهذا تجدهم جادِّين ليلاً ونهارًا في اختيار الأساليب المغرية والصور الفاضحة التي يبثونها عبر الأقمار الصناعية ، ولا شك أن هذا من فتنة الله - عز وجل - لعباده : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) . [ الأنبياء : 35 ] .
الذي يسر هذه السبل حتى أوصلوا أخلاقهم الرذيلة وأفكارهم المنحرفة إلى بلادنا ، إلى حجرنا ، إلى غرفنا ، إلى مدارسنا إنما ذلك لحكمة ؛ امتحانًا من الله - عز وجل - ، والله تعالى يمتحن عباده بتيسير أسباب المعصية ليبلوهم أيهم يصبر أو أيهم ينحدر .
ألم تعلموا إخوانكم وسلفكم حين ابتلوا بتسهيل أسباب المعصية ولكنهم امتنعوا ، امتحن الله الصحابة - رضي الله عنهم - وهم محرمون بشيء من الصيد ، ونحن نعلم جميعًا أن المحرم يحرم عليه الصيد ، حتى ولو كان خارج الحرم ؛ لأن الصيد يشغف القلب ، ولو استرسل الإنسان وراءه لنسي أنه محرم ، فحرم من أجل ألا يشتغل به عن إحرامه ، حرم الله عليهم الصيد لكنه ابتلاهم بشيء من الصيد تناله أيديهم ورماحهم ، واحد يمسك الصيد بيده أو برمحه ، قال العلماء : ( ينالون الصيد الزاحف باليد مثل الأرنب ، وينالون الصيد الطائر بالرمح بدون سهم ليبلوهم - عز وجل - أيهم يصبر عن هذا الصيد أو لا يصبر ) .
هذا تسهيل لطرق المعصية حتى يبتلى العبد أيصبر عنها أو لا !؟ فماذا كان منهم !؟ أن صبروا وهجروها وتركوها ، وربما يكونون جياعًا يحتاجون إلى الأكل لكن الله حرم ذلك .
نحن في زمننا الآن في فتنة ، ومحنة ، هذه الأقمار الصناعية التي يبث فيها أعداؤنا من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم ما يدمرون به عقائدنا وأخلاقنا ، ويدمرون به مجتمعاتنا من أكبر الفتن ، هذه الوسائل الإعلامية القوية الزاحفة أضلت أناسًا كثيرين إما مباشرة وإما غير مباشرة ، إننا تكلمنا قبل جمعتين أو أكثر على موضوع الدشوش ، وبينا أنها مدمرة للأخلاق ، وأنها مدمرة حتى للعقيدة ؛ لأن الشعوب إذا دمرت أخلاقها ، وارتفع حياؤها ، دمر دينها وعقيدتها ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان ) .
أين الحياء من قوم يبثون بيننا شبابًا وشابات سافرات متبرجات !؟ تجد هذه تعانق الشاب ، إذا رأى الشاب والشابة هذا المنظر فهو بشر تعصف به الشهوة إلى مكان سحيق ، إنهم يأتون بالشبهات حتى فيما يتعلق بالعقيدة كما سمعنا أنهم يشبهون السحب المتراكمة وفوقها شيخ كبير يصب عليها براميل الماء !! وكأنهم يقولون : هذا الشيخ هو الله - والعياذ بالله - قاتلهم الله ، إلى غير ذلك من الأشياء المزعجة المخزية .