قال ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام
" الميم" حرف شفهي يجمع الناطق به, فوضعته العرب علما على الجمع, فقالوا للواحد, " أنت" فإذا جاوزه إلى الجمع قالوا: " أنتم" و قالوا للواحد الغائب: " هو" فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: " هم", وكذلك في المتصل يقولون: ضربت, ضربتم, و إياك, و إياكم, و إياه, و إياهم, نظائره نحو: به و بهم, و يقولون للشيء الأزرق أزرق فإذا اشتدت زرقته و اجتمعت و استحكمت قالوا: " زرقم" و يقولون للكبير الأست: " ستهم".
وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف نجد الجمع معقودا بها مثل: " لم الشيء يلمه" إذا جمعه, و منه: " لم الله شعثه" أي ما تفرق من أموره, ومنه قولهم: "دار لمومة" أي تلم الناس و تجمعهم, ومنه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} الفجر:19, جاء في تفسيرها: يأكل نصيبه ونصيب صاحبه, و أصله من "اللم" وهو الجمع, كما يقال: " لفه يلفه", ومنه : " ألام بالشيء" إذا قارب الاجتماع به و الوصول به, ومنه: " اللمم" وهو مقاربة الاجتماع بالكبائر, ومنه:" الملمة"وهي النازلة التي تصيب العبد, ومنه:"اللُمة" وهي الشعر الذي قد اجتمع و تقلص حتى جاوز شحمة الأذن, ومنه: " تم الشيء" وما تصرف منها, ومنه : "بدر التم" إذا كمل واجتمع نوره, و منه: " التوأم" للوالدين المجتمعين في بطن, ومنه: " الأم" وأم الشيء أصله الذي تفرع منه فهو الجامع له, و به سميت مكة أم القرى, والفاتحة أم القرآن, واللوح المحفوظ أم الكتاب, قال الجوهري: أم الشيء أصله, ومكة أم القرى, و أم مثواك : صاحبة منزلك, يعني التي تأوي إليها, و تجتمع معها, أم الدماغ: الجلدة التي تجمع الدماغ, و يقال لها: أم الرأس, و قوله تعالى في الآيات المحكمات:{ هُنَّ أُمُ الكِتَاب}آل عمران: 7, والأمة: الجماعة المتساوية في الخلقة أو الزمان, قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}الأنعام: من38.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها".
ومنه الإمام الذي يجتمع المقتدون به على اتبعه ومنه: " أم الشيء يأمه" إذا جمع قصده وهمه إليه, ومنه: " رم الشيء يرمه" إذا أصلحه وجمع متفرقه, و قيل: ومنه سمي " الرمان" لاجتماع حبه وتضامه.
ومنه:" ضم الشيء يضمه" إذا جمعه, ومنه " هم الإنسان وهمومه و هي إرادته و عزائمه التي تجتمع في قلبه.
ومنه قولهم للأسود: " أحم", والفحمة السوداء, " حممة", و حمم رأسه إذا اسود بعد حلقه, كل هذا لأن السواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرق, و لهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقة, ليجمع عليه بصره, فتقوى القوة الباصرة, و هذا باب طويل فلنقتصر منه على هذا القدر.
و إذا علم هذا من شأن الميم, فهم ألحقوها في آخر هذا الاسم الذي يسأل الله سبحانه به في كل حاجة و كل حال, إيذانا بجميع أسمائه و صفاته, فالسائل إذا قال : " اللهم إني أسألك" كأنه قال أدعوا الله الذي له الأسماء الحسنى و الصفات العلى بأسمائه و صفاته, فأتى بالميم بمؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " ما أصاب عبدا قط هم و لا حزن فقال: اللهم إني عبدك و ابن عبدك, و ابن أمتك, ناصيتي بيدك, ماض في حكمك, عدل فيّ قضاؤك, أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك, أو أنزلته في كتابك, أو علمته أحد من خلقك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني, و ذهاب همي و غمي, إلا أذهب الله همه وغمه, و أبدله مكانه فرحا" قالوا: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ قال : "بل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".
فالداعي مندوب إلى أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته كما في الاسم الأعظم: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات و الأرض يا ذا الجلال و الإكرام يا حي يا قيوم".
وهذه الكلمات تتضمن الأسماء الحسنى كما ذكر في غير هذا الموضع.
و الدعاء ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تسأل الله تعالى بأسمائه و صفاته, و هذا أحد التأويلين في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}لأعراف: من الآية180.
والثاني: أن تسأله بحاجتك و فقرك وذُلك, فتقول: أنا العبد الفقير المسكين البائس الذليل المستجير ونحو ذلك.
والثالث: أن تسأل حاجتك و لا تذكر واحدا من الأمرين, فالأول أكمل من الثاني, والثاني أكمل من الثالث, فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل.
وهذه عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم, و في الدعاء الذي علمه صديق الأمة ذكر الأقسام الثلاثة وفإنه قال في أوله: " ظلمت نفسي كثيرا" وهذا حال السائل, ثم قال: " و إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" و هذا حال المسؤول, ثم قال : "فاغفر لي" فذكر حاجته, و ختم الدعاء باسمين من الأسماء الحسنى تناسب المطلوب وتقتضيه.
وهذا القول الذي اخترنا, قد جاء عن غير واحد من السلف.
قال الحسن البصري: " اللهم " مجمع الدعاء.
وقال أبو رجاء العطاردي: إن الميم في قوله: " اللهم" فيها تسعة وتسعون اسما من أسماء الله تعالى.
وقال النضر بن شميل: من قال: " اللهم" فقد دعا بجميع أسمائه.
وقد وجه طائفة هذا القول بأن الميم هنا بمنزلة الواو الدالة على الجمع فإنها من مخرجها, فكأن الداعي بها يقول: يا الله الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى و الصفات العليا, و لذلك شددت لتكون عوضا(1) عن علامة الجمع, و هي الواو والنون في " مسلمون" ونحوه.
وعلى الطريقة التي ذكرناها أن نفس الميم دالة على الجمع, لا يحتاج إلى هذا.
يبقى أن يقال: فهلا جمعوا بين " يا" و بين هذه الميم على المذهب الصحيح؟
فالجواب أن القياس يقتضي عدم دخول حرف النداء على هذا الاسم (الله (2 )), لمكان الألف واللام منه, و إنما احتملوا ذلك فيه لكثرة استعمالهم دعاءه و اضطرارهم إليه, و استغاثتهم به, فإما أن يحذفوا الألف و اللام منه, و ذلك لا يسوغ للزومهما له, و إما أن يتوصلوا إليه بـ: "أي" (3), و ذلك لا يسوغ لأنها لا يتوصل بها إلا إلى نداء اسم الجنس المحلى بالألف و اللام, كالرجل, و الرسول, و النبي, و أما في الأعلام فلا, فخالفوا قياسهم في هذا الاسم لمكان الحاجة, فلما أدخلوا الميم المشددة في آخره عوضا عن جميع الأسماء, جعلوها عوضا عن حرف النداء, فلم يجمعوا بينهم, و الله أعلم.