كانَ النّاسُ أُمّةً واحدَةً فبعثَ اللهُ النبيِّينَ مُبشِّرينَ ومُنذرينَ وأنزلَ مَعهُم الكِتابَ بالحقِّ لِيحكُمَ بينَ النّاسِ فيما اختلفوا فيهِ وما اختلفَ فيهِ إلاّ الّذينَ أُوتوهُ من بعدِ ما جاءتهُم البيِّناتُ بَغْياً بينَهُم فهدى اللهُ الّذينَ آمنوا لِما اختلفوا فيهِ من الحقِّ بإذنِهِ واللهُ يَهدي مَن يَشاءُ إلى صِراط مُسْتَقيم ). (البقرة / 213)
تؤرِّخ هذه الآية، كما أفاد بعض المفسرين، أمثال الفقيه الفيلسوف المفكِّر السيّد محمّد حسين الطباطبائي، والفقيه الشهيد المفكِّر الكبير السيّد محمّد باقر الصدر، تؤرِّخ نشأة المجتمع البشري الأولى، وتوضِّح أنّ الإنسان مُنذ وجوده على هذه الأرض مرَّ بثلاث مراحل هي :
1. مرحلة الحياة الفطرية التي كانت تسيّرها الفطرة، وهي مرحلة سلام ووئام، فلم يكن هناك خلاف معاشي، ولا صراع على ما يحتاجه الإنسان، فكل واحد منهم يجد كفايته من الطعام والشراب والمأوى من غير مزاحم في عالم الطبيعة; شأنه شأن الطيور والأسماك والحيوانات الأخرى في هذا المجال.
2. مرحلة الخلاف والنزاع والصراع على الحاجات المادية من الطعام والشراب والحيوانات المدجَّنة والمسخرة لخدمة الإنسان والسيطرة على الآخرين... الخ.
3. مرحلة بعثة الأنبياء، لرفع الاختلاف المادي، وتبليغ الرسالة الإلهية، وبناء المجتمع على أساس القانون الذي ينظم الملكية ويؤسس السلطة السياسية، ويعرِّف الناس بخالق الوجود.
وهكذا يحدِّد القرآن الرأي الإسلامي في نشأة الصراع على الحاجات المادية، ومجيء الرسالات الإلهية لحل عقدة الصراع وتنظيم الملكية الذي صاحبته عملية التبادل بين السلع لإشباع الحاجة، أو للادخار الاحتياطي والاقتناء. ومن المسلَّمات التاريخية لدى الباحثين المختصين أن عمليات تبادل السلع بين الأشخاص كانت تجري على طريقة المقايضة (أي مبادلة سلعة بسلعة أخرى). ولم يدخل الوسيط النقدي كمعادل بين السلع إلاّ بعد تطوّر الحياة الفكرية والاقتصادية للإنسان، فحلَّ بشكل واسع في عمليات البيع والشراء بدلاً من المقايضة لاسباب اقتضاها تطور الحياة المدنية والاقتصادية، أهمّها صعوبة نقل السلع المراد استبدالها بسلع أخرى، وصعوبة خزن السلع وحفظها من التلف، وصعوبة تجزئتها ; فصارت السلع والخدمات والحقوق والمنافع تعادل وتبادل بالنقد.
ولم يعرف الإنسان النقود إلاّ بعد تطور الحياة المدنية والاقتصادية، ونشوء الحاجة إلى وسيط سهل الحمل والتجزئة والخزن والمعادلة في عمليات البيع والشراء.
ويذكر القرآن في قصة أهل الكهف وجود النقود والسوق التجارية، التي يتم فيها التبادل عن طريق النقود في القرن الثالث قبل الميلاد في عهد الملك الروماني، كما أفاد المفسرون ذلك ; وأن هذه النقود كانت هي السبب في انكشافها ; لأنها كانت قد سُكَّت قبل ثلاثة قرون حين عرضت في السوق، وقد تغيرت رموزها ونقوشها. فقد كشف القرآن هذه المعلومة الاقتصادية من خلال عرض القصة بقوله :
(... فابعثوا أحَدكُم بوَرِقِكُم هذه إلى المدينةِ فلْيَنْظُر أ يُّها أزكى طعاماً فليأتِكُم برزق مِنهُ ولْيَتَلَطَّف ولا يُشْعِرَنَّ بكُم أحَداً ). (الكهف / 19)
والوَرِق هي الدراهم ـ أو الدراهم الفضية، فإنّ الفضة تسمّى وَرِقاً أيضاً. وسياق القصّة يفيد أنّ ظهور النقود له تأريخ سابق على هذه المرحلة لانّ النقود الرومانية هذه كانت نقوداً متطوِّرة، وعليها نقوش وصور ; تمّ اكتشاف زمنها وصفاتها حين دخول صاحب الكهف إلى السوق للشراء.
وفي قصّة يوسف الذي عاش قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة آلاف سنة، نقرأ أنه اشتري بدراهم معدودة (أي بنقود)، وليس ضرورياً أن يكون اسم النقود التي اشتري بها هو الدراهم.
غير أنّ القرآن استعمل الدرهم اسماً مستعاراً للنقد، أو ربّما عادلها بما يساويها من النقد المتداول عند العرب في عصر الدعوة والوحي.
قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بثمن بَخْس دراهمَ مَعْدودة ) (يوسف / 20)، وكلمة معدودة هي قرينة على أنه اشتري حقيقة بنقد، وليس بسلعة تقدّر بنقد قليل. وهذا التصريح القرآني هو أحد الوثائق التي تلقي الضوء على مرحلة من مراحل وجود النقد واستخدامه في مصر والجزيرة العربية.
وتفيد الدراسات التاريخية أن أوّل وسيط استعمل في عمليات البيع والشراء هو المعادن، وقد كانت تستعمل على شكل سبائك معدنية كما تستعمل النقود اليوم.
«فاستعمل الحديد في إسبرطة، والبرنز في روما، والنحاس في الصين، ثمّ الفضة والذهب. ولقد استعملت الفضة منذ عام 2255 قبل المسيح في الصين بشكل مجوهرات، وكادت تبقي النقد المعدني الرئيسي حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث تمّ استبدالها بالذهب، واستعملت المعادن، بادئ ذي بدء بشكل سبائك، وكان يترتّب وزنها وتقدير قيمتها بمناسبة كل صفقة تجارية، ثمّ ما لبثت السلطات العامّة أن تدخّلت وحدّدت الأوزان والمعايير وصادقت عليها بوسمها بعلامة رسمية، وبعد هذه المرحلة تحولت السبائك إلى قطع نقود تماثل النقد المستعمل في يومنا هذا. لقد ساد كل من الذهب والفضة عبر التاريخ، كمعادن نقدية، ومردّ ذلك إلى قيمتها النوعية العالية وبالأحرى القيمة بالنسبة لوحدة الوزن وإلى عدم تغيرهما نسبياً، وإلى سهولة تجزئتهما».
ويذكر الدكتور حافظ يقظان:
أنّ «أوّل مملكة سكّت لها نقداً خاصاً هي مملكة (ليديا) التي تقع في المنطقة الجنوبية الغربية من آسيا الصغرى، وذلك في القرن السابع قبل الميلاد»، ثمّ تلتها أثينا في ضرب النقود الخاصة بها ; وهكذا استقرّ العمل بالنقد المعدني قروناً عديدة عبر مراحل متعددة من التاريخ الحضاري للإنسان.
فكانت المعادن هي وحدة القياس المعادل بين السلع، وبواسطتها تحدد قيم الأشياء، لذلك اصطلح فقهاء الإسلام على تسمية النقدين (الذهب والفضة) بالأثمان. وبناءً على ذلك عرّفوا الصرف بأنه : «مبادلة الأثمان بالأثمان» أي بيع النقود بالنقود (الذهبية والفضية) ; لان النقود عندهم أثمان ووحدة قياس للبيع، وليست كالأموال الأخرى، التي تدخل في عمليات البيع كثمن ومثمن.
وهذه النظرية الاقتصادية جديرة بالسيطرة على حفظ قيمة النقد واستقرار السوق ; لثبوت قيمتها الذاتية بالنسبة لتقلّبات أسعار الأشياء الأخرى.
وظائف النقود
لقد كان اكتشاف الإنسان للنقد بمختلف مراحله حدثاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً، ساهم مساهمة واسعة في تبادل السلع والمنافع والخدمات، وتسهيل إشباع الحاجات، وتعميق التواصل بين أفراد المجتمع وشعوب العالم.وعلى مرِّ العصور تطوّرت وظائف النقد، وتجاوزت مهمّة الوسيط في التبادل (وحدة القياس)، حتى صارت له وظائف عديدة أخرى ركّزها الباحثون الاقتصاديون بآلاتي :
1. تستخدم النقود كوسيلة للمبادلة، لسهولة حملها وقابليتها للتجزئة.
2. تسلك النقود كمقياس لقيم الأشياء.
3. تساهم النقود مساهمة فعّالة في الحصول على السلع والخدمات والمنافع بيسر وسهولة.
4. تستخدم النقود كأداة لاداء الديون والتحويل.
5. تقوم النقود بدور حفظ الثروة، فهي أفضل وسيلة للادِّخار، لعدم قابليتها للتلف، ولان قيمتها تعتبر ثابتة نسبياً، فهي أداة ادِّخار، ومستودع للقيم.
تلك هي الوظائف الأساسية للنقد ; غير أن ظلم الإنسان، وسوء تصرّفه الاقتصاديّ، وتلاعبه بقيمة النّقد ووظيفته الطبيعية في الحياة الاقتصادية، وخضوع النّقد لتقلبات اقتصادية وسياسية بسبب تلك التصرّفات الجشعة والظّالمة، حوّلته إلى أداة استغلال، وإخلال في موازنة الحياة الاقتصادية، واضطراب في الأجور والأسعار والخدمات.
لذا فإنّ النظام الإسلامي حرّم تجميد النقد (الاكتناز) والتلاعب بالأسعار، والزم الدولة بتوجيه الحياة الاقتصادية، والتخطيط لها انطلاقاً من قاعدة «لا ضَرر ولا ضِرار» التي ثبّتها الرسول الكريم محمّد (ص)، ودفعاً للظلم والفساد الاجتماعي، وليقوم النقد بدوره الطبيعي وبوظيفته الخدمية في المجتمع.
النقود في الإسلام
لقد عرف العرب قبل الإسلام النقود، واستخدموها في المبادلات والاعواض للسلع والخدمات، فكانوا يستعملون الذهب والفضة نقدين في المعاملة. وكانت عملتهم الذهبية هي الدينار، وأما عملتهم الفضية فهي الدرهم.وكان مصدر الدينار الذهبي والدرهم الفضي دولة الروم القيصرية آنذاك.
وقد سجّل أحمد بن علي المقريزي المتوفّى سنة (845 هـ ) تلك الظاهرة الاقتصادية بقوله :
«وكانت نقود العرب في الجاهلية التي تدور بينها، الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من الممالك، دنانير الذهب قيصرية من قبل الروم، ودراهم فضة على نوعين : سوداء وافية، وطبرية عنقاء...» (1).
وحين بعث الله سبحانه نبيه محمداً (ص) برسالة الهدى، أقرَّ تلك العملة في التداول والمبادلات والمعوضات وأداء الحقوق والديون والتكاليف المالية.
واستمرّ المسلمون يستعملون الدينار والدرهم الرومانيّين في عهد الرسول (ص) وأبي بكر من بعده، غير أن عمر بن الخطاب قام في السنة الثامنة من خلافته بأجراء تغيير في النقود الإسلامية، فضرب الدراهم الفضية على الطريقة الكروية، وأضاف إلى بعضها (لا إله إلاّ الله وحده) وفي بعضها (محمّد رسول الله) وفي بعضها (الحمد لله) وفي بعضها (عمر)، كما أصدر عثمان بن عفان دراهم خاصة في خلافته وجعل نقشها ( الله أكبر ).
وقد توالت التعديلات على العملة وإصدار أنواع مختلفة منها في العهود الإسلامية المتعاقبة.
وتفيد بعض المصادر: «أنّ أوّل من أمر بضرب السكّة الإسلامية على الفضّة عليّ (ع) بالبصرة سنة (40) من الهجرة»
ولعلّ أخطر تغيير حدث في العملة الإسلامية هو التغيير الذي حدث في عهد عبدالملك بن مروان، عندما حدث خلاف بين ملك الروم وبين الخليفة الأموي ; وكانت النقود الرومانية هي النقود المستعملة في البيع وسائر المعاوضات، فهدّد ملك الروم الخليفة الأموي أنّه سيكتب على النقود التي تضرب في بلاده ويتداولها المسلمون شتم النبي محمّد (ص)، فأحسّ عبدالملك بن مروان بالحرج، وتعقيد الموقف، وحاول الخروج من المأزق الاقتصادي هذا، فلم يهتد إلى طريقة منقذة، فأشار عليه بعض من استشارهم بأن يستدعي الامام (الباقر) محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) من المدينة المنوّرة، ويعرض عليه هذه المشكلة الاقتصادية.
فكتب الخليفة الأموي إلى عامله على المدينة المنوّرة، بأن يطلب من الأمام محمّد بن علي الباقر (ع) التوجّه إلى دمشق ولقاء الخليفة الأموي، فتقدّم الأمام والتقى عبدالملك بن مروان، وبحث تلك المشكلة الاقتصادية الخطيرة، فأشار الأمام على الحاكم الأموي أن يتم استبدال النقد الرومي بنقد إسلامي، وتصنع النقود في بلاد المسلمين، وتقطع العلاقة الاقتصادية هذه معهم، وتُحرر بلاد المسلمين وسمعتهم من الضغوط الرومانية، وحدّد له الكيفية والوزن، فاقترح الأمام الباقر (ع) أن توضع سورة التوحيد على أحد وجهي الدرهم، وذكر الرسول محمّد (ص) على الوجه الآخر، وأن يوضع على مدار الدرهم والدينار اسم البلد الذي يصنع فيه والسنّة التي يُضرب فيها .
النّقد الورقي
لقد كان اختراع النقود كوسيلة للتداول ومعادلة السلع عملاً اقتصادياً كبيراً. وكما يذكر الاقتصاديون فانّ النقود قد مرّت عِبر عدّة مراحل خلال نشوئها وتطوّرها.
ومن أبرزها مرحلتين هما :
1. المرحلة المعدنيّة : وهي مرحلة النقد المعدني واستقراره في الذهب والفضّة، أو في الذهب وحده.
2. مرحلة النقد الورقي : وهي آخر مراحل تطوّر النقد. وفي هذه المرحلة اختفى النقد الذهبي (بعد الحرب العالمية الأولى) وحلّ محلّه النقد الورقي الذي تسبّب بأزمات التضخّم واضطراب الحياة الاقتصادية.
وعُرِّف النقد الورقي من قِبَل بعض الاقتصاديين بآلاتي : «النقود الورقية هي عبارة عن العلائم النقدية التي تصدرها الدولة، وتحلّ محل الذهب، وتمثِّله في وظيفته كوسيلة للتداول وكوسيلة للدفع. إنّ النقد الورقي لا يملك عمليّاً أي قيمة خاصّة، ولا يمكنه بالتالي أن يقوم بوظيفة مقياس بقيمة البضائع».
نشوء النقد الورقي
إنّ دراسة تطوّر النقد تشير إلى أنّ هناك أسباباً بدائية لنشوء هذا النقد ثمّ تدرّجه في التطوّر مواكباً النمو والتعقيد الاقتصادي الهائل والحاجة الاقتصادية لتغطية نفقات الدول، فكان لهذا النوع من العملات نتائجه وآثاره الضارّة على الاقتصاد كما كانت له فوائده الاقتصادية أيضاً.
وتشير الدراسات التاريخية لنشوء النقد أنّ الصين كانت أوّل بلد طبع النقود الورقية، كما يُذكر أيضاً أنّ النقد الورقي صدر لاوّل مرّة في أمريكا عام 1690 م وفي روسيا عام 1769 م.
لقد كانت الفكرة الاُولى لنشوء النقد الورقي قد ولدت بين التجّار الذين يتنقّلون من بلد إلى بلد ويحملون نقودهم الذهبية والفضية معهم، فكانت عرضة للضياع والسرقة، فاستعاضوا عنها بوثائق خطِّيّة تُثبت مقدار ملكيّتهم. فكانت تمثِّل البديل الورقي البدائي للعملة المعدنية (الذهب والفضّة) وشهادة بقدرة حاملها على دفع المقدار المثبّت على متنها.
وكانت تلك كالورقة تدفع إلى التاجر الذي تشترى منه بضاعة، وهو بدوره يستطيع أن يتسلّم المبلغ المثبّت على هذه الورقة من الشخص المودع عنده مال التاجر المشتري، ثمّ تطوّر استعمال هذه الأوراق، فصار بالإمكان دفعها إلى أي بائع أو مشتري بشكل متداول ليكون المرجع النهائي في القبض هو المركز المودع فيه المال.
وقد أوضح الدكتور حافظ يقظان ذلك بقوله :
«وبالواقع كانت هذه (الوثائق الورقية) بمثابة شهادة من شخص مشهود له بحُسن السيرة في موطنه، فكان من شأن مثل هذا الشخص من خلال عمله أن يقوم بدور مصرف إصدار بدائي يشهد بأنّ التاجر فلان قد أودع لديه مبلغاً من المال برسم الدفع للبائع المعني عند الطلب، وكانت تلك الرسائل بمثابة المرحلة الاُولى في سياق التطوّر النقدي والمصرفي، ومع تقادم الزمن تطوّرت تلك الرسائل، واكتسبت الوثائق صفة النقود المقبولة في كل مكان».
ومن المعروف اقتصادياً أنّ النقود الورقية المتداولة ألان لم تعد قابلة للتحويل إلى ذهب أو فضّة عند طلب حاملها بما يساوي القيمة الاسميّة المثبّتة عليها ; بل هي نقود تعتمد على ثقة المتداولين لها بالجهة المصدِّرة (الدولة أو البنك المركزي). فهي نقود تعهّدية من قبل الجهة المصدِّرة، كما تعتمد على ثقة المتداول لها بتلك الجهة.
ويعتمد إصدارها على أسس اقتصادية وقانونية وسلطوية، وتوضيحها كآلاتي :
«إلاّ أنّ إصدارها يكون مقابل مبالغ من الذهب، أو كميات من السبائك الذهبية المرصدة، لدى مؤسسة النقد العالمي، أو مقابل ضمانات مقبولة تقدِّمها الدولة المصدِّرة، أو مقابل الاثنين معاً. وقد تكون مثل هذه الأوراق بمثابة أمر رسمي من السلطة يفرض على الشعب النقدية، وجعل تداول الأوراق، والثقة بقدرة الدولة المالية أمراً الزامياً، إلاّ أنّ قبول هذه الأوراق يبقى ضمن حدود الدولة المعنيّة، فتعتبر من الناحية الواقعية نقوداً محليّة، إذ ليس بإمكان الدولة فرض قبولها، والتداول بها خارج حدودها الإقليمية، بل تتمكّن الدولة من جعلها أداة للمضاربات المالية، بواسطة إبدالها بقطع نادرة ; على أمل جني الأرباح في المستقبل عند ارتفاع قيمة تلك القطع».
وهكذا فانّ الأوراق النقدية بعضها يملك رصيداً ذهبياً، أو ضمانات مقبولة تقدِّمها الدولة لدى مؤسّسة النقد العالمي.
وبعضها لا يملك مثل هذا الرصيد أو الضمانات، بل هي مجرّد أوراق إلزامية تصدرها الدولة في حدودها الإقليمية وتجعل الثقة بها وتداولها أمراً إلزاميا، فذا تكون نقوداً محليّة ; لانّ أوامر الدولة لا تكسبها إلزامية الثقة خارج حدودها، وتبقى الدولة ضامنة لهذا النقد، فمتى ما أرادت إسقاط هذا النقد فعليها أن تعوِّض حاملي هذه النقود نقوداً عن النوع الأول تتّفق وما تحدِّد الدولة لها من قيمة.
وهكذا يتّضح أنّ لهذه العملة قيمة تتعهّد بها الدولة من غير أن يكون لها وجود فعلي، وأنّ الثقة بهذه القيمة وقبول هذا النقد يقوم على إلزام الدولة بتداولها ; لذا فانّ هذا الإلزام لا يتعدّى حدودها، وتبقى ملزمة بالوفاء بالتزاماتها تجاه حامل هذه الورقة في حال إسقاط هذه العملة.
والأساس الاقتصادي السليم الذي تعتمد الدولة في تقدير حجم النقد الورقي الذي تصدره هو أن يكون مساوياً لما لديها من موجودات عينية وخدمات مقبولة اقتصادياً. وكلّما كان حجم النقود الورقية مساوياً لما لدى الدولة من موجودات مادية وخدمات، كان وضع النقود الاقتصادي طبيعياً وسليماً. أمّا إذا ازدادت كميات النقود الورقية على ما يقابلها من موجودات عينية وخدمات، فعندئذ تهبط قيمة هذه النقود وقوّتها الشرائية فيحصل ما يسمّى بالتضخّم النقدي.
الأساس الفقهي لمشروعيّة النقد الورقي في الإسلام
اعتمد التشريع الإسلامي الأساس المعدني في إصدار النقود والتعامل بها، وخصوصاً (الذهب والفضة) اللذين سمّيا بمصطلح الفقهاء بـ (الأثمان)، واستعمل مصطلح الصرف كمصطلح خاص لبيع الأثمان بعضها ببعض، وبذا فرّق بين بيع السلع بعضها ببعض. أو بيعها بالنقود، وبين بيع النقدين (الذهب والفضة) بعضهما ببعض من تعاريف الفقهاء ننقل تعريف الشهيد الأول ; قال :
«الصّرف وهو بيع الأثمان بمثلها»، «وهي الذهب والفضة» .
ثمّ استرسل الشهيد الأول يوضح أفكاراً اقتصادية ذات علاقة بموضوع البحث فقال :
«ويشترط فيه التقابض في المجلس، أو اصطحابهما إلى القبض، أو رضاه بما في ذمّته قبضاً بوكالته في القبض فيما اشتراه في ذمته نقداً آخر».
إنّ دراسة أحكام المعاوضات المالية والرِّبا والزكاة والخمس وغيرها من أحكام التشريع المالي، توضِّح لنا أن الشريعة الإسلامية قد اعتبرت النقد الشرعي هو الذهب والفضة. وقد حدّد المسلمون الأوزان والمقادير والأحكام الدقيقة لضبط العملة، وتنظيم مقاديرها، ونظام التبادل بها وتداولها، واعتبروا الدينار الذهبي والدرهم الفضي وحدة قياس نقدية; وعلى ذلك بنيت التكاليف المالية والمسؤوليات ذات العلاقة بمقدار النقد. ننقل من هذه الأحكام : «فصل في زكاة النقدين : وهما الذهب والفضة... وأن يكونا مسكوكين بسكة المعاملة، سواء أكان بسكّة الإسلام أو الكفر بكتابة أو غيرها...».
فالفقه الإسلامي والتشريع المالي في الإسلام يعتبران الذهب والفضة هما النقد الشرعي، وعليهما مدار الحياة المالية، غير أن الفقه المالي ونظام العملة في الإسلام قد اتسع لقبول النقد الورقي المبني على الثقة، علماً بأن النقد الورقي الذي يتداوله الناس يُقسم إلى ثلاثة أقسام :
1. قسم من النقود لها ما يقابلها من الموجودات المالية في خزانة الدولة، بتغطية كاملة من (الذهب والفضة أو الممتلكات الاخرى والمستندات العائدة للدولة التي يمكن أن تحول إلى ذهب أو فضة).
2. قسم من النقود والأوراق المالية ليس لها تغطية كاملة، بل إنّ ما تملكه الدولة يغطِّي نسبة منها، كأن تكون 80 % مثلاً، فتكون النسبة الأخرى 20 % أوراقاً تعهدية مضمونة من قبل الدولة، وهذا يعني أن كل ورقة نقدية هي خاضعة لهذه النسبة من التغطية الحقيقية.
3. قسم من النقود لا يملك تغطية مالية، بل أصدرته الدولة، وتعهدت به، وإن الثقة بالدولة وقدرتها على الأداء هي مصدر قبول النقد الورقي بشتّى أنواعه.
وعند دراسة وتحليل الأصول التشريعية لهذا القبول يمكننا أن نرجعها إلى ثلاثة أصول تشريعية من تشريعات المال في الفقه الإسلامي وهي :
1. الدين.
2. الحوالة.
3. بيع الدّين.