ما من شك في أن المتأمل لطبيعة الحياة العربية، منذ الجاهلية، وللدور الهام للشعر العربي، الذي صاغ تلك الحياة صياغة شعرية، وخلق وحدة شعورية جمالية عربية باهرة، سيقف على الدور المتعاظم ـ وعلى مدى التطور الاجتماعي الخلاق ـ لظاهرة علاقة الشعر بالغناء منذ الأسلاف الأوائل، من سومريين وبابليين وآشوريين … الخ، وعلى تكاثر الموسيقيين والمغنين.
غير أن ذلك يبرز بخصوصية منفردة في العصر الأموي، حيث انزاح مركز السلطة من «مكة» و«المدينة» إلى «دمشق» في الشام، الأمر الذي يؤكد دائما على التصاق الشعر بالغناء. والعكس صحيح، ليصبحا معا وحدة لا يمكن للواحد منهما أن يتطور بمعزل عن الآخر، إلا بمرور فترة طويلة من الزمن، حيث انطلق الشعر العربي إلى عوالمه الخاصة به ليجدد نفسه شكلا ومضمونا،
موضوعات وإيقاعات وأنغاما، فإذا به يمتلك تقنياته الحديثة، كما جرى للشعر العربي الحديث منذ أربعينيات القرن العشرين، على أيدي رواده الأوائل «بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي» وغيرهم في مصر ولبنان وسوريا من بعد، فنهضت القصيدة الشعرية الحديثة، المفارقة للقصيدة التقليدية وللشعر العمودي، لتصارع قيما وتقاليد راسخة، فإذا بها تفتح جبهة عريضة وعميقة.
وأما الموسيقا، فقد ظلت وفية في جانب كبير منها للنص الشعري (قصيدة فصيحة، زجل، قد، موال، دور … الخ) بمعنى أنها ظلت رهينة الكلمة الشعرية، دون أن تمنح نفسها فرصة وجودها المستقل على الأوتار من دون الكلمات، أي من دون غناء، وبذلك فقدت هذه الموسيقا فرصة لكي تخرج من ثوبها القديم، فتقارب بقية الفنون الأخرى، كالرسم والزخرفة والخط العربي، وعلى رأس ذلك الشعر، لتغدو نمطا مستقلا ذاته.
ولعل الرؤية للموسيقا والغناء، كان لها السبب الأوفر في منع الموسيقا من الولوج في تطورها المستقل، بالرغم من أن تاريخنا الموسيقي يحفل بأسماء لمطربين موسيقيين أفذاذ، من أمثال «سعيد بن مسحج، ابن مجرز، الغريض، معبد، وابن عائشة، وجميلة المغنية … الخ» فإذا ما تطور الغناء بسبب الاحتكاك الحضاري العظيم للدولة العربية الإسلامية، أموية وعباسية، برز مبدعون أفذاذ آخرون من أمثال «إبراهيم الموصلي وابنه اسحق، وإبراهيم بن المهدي الأمير العباسي، ودنانير وعلية أخت إبراهيم بن المهدي عمة الأمين والمأمون».
ولقد نسبت إلى هؤلاء المبدعين تطويرات غنائية كثيرة، كان على رأسها تطوير الآلات والمعازف.
غير أن أساليب الغناء العربي، كانت أيضا قد تزامنت مع تطوير الآلات وتطورات الشعر، وبخاصة في العصر العباسي المترف بالغنى والثراء والرفاهة والثقافات المتنوعة، ولعل مدرسة الغناء الحديثة التي قادها الأمير «إبراهيم بن المهدي» تعبر عن تلك التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
ولكن مفارقة الشعر للغناء لاحقا ـ وقد تطورت جماليات الشعر وتقنياته بسبب نهوض تحولات اجتماعية ـ ستلعب دورا هاما في جعل الغناء مجرد وعاء أو أداة لإظهار جماليات الشعر قديمة وحديثة، في مجالس السمر والطرب والأدب، وبخاصة مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، والتي تضم أيضا جملة من المبدعين في اللغة والنحو والتفسير والفلسفة وعلم الكلام.
ولكننا في الوقت نفسه ندرك ما قام به الشعراء من تطوير وتحديث امتثالا لتلك التحولات الاجتماعية التي تكللت بمجالس وأندية ودور للغناء، وبذلك فان تطور الغناء أيضا ساهم في تطور الشعر بل إن تطور الحياة الفنية كاستجابة للحياة الاجتماعية المترفة، دفع المغنين والمغنيات إلى طلب كتابة قصائد (أغنيات) مخصوصة، وذلك ما فعله المغني «ابن عائشة» «بعروة ابن أذنيه» الشاعر إذ طلب منه أن يصنع له قطعة من الهزج فصنع.
كما نلمس ما فعله بعض الشعراء حين عمدوا إلى تعلم الغناء وأصوله وأصول الموسيقا، لكي يؤلفوا أشعارا تتفق وألحان المغنين وطبيعة أصواتهم، من حيث مساحتها وطبقاتها وقوتها، ومكامن جمالها كل ذلك ابتغاء تحقيق ضروب من الجمال واللذة، تفوق حدود المعقول.
ويشير الدكتور «شوقي حنيف» إلى «عروة بن أذنيه» الذي كان موسيقا شعره تمتاز بأنها مصفاة تصفية شديدة.
وفي جانب آخر، تمكن المغنون المثقفون، العارفون بفنون الشعر وبحوره وعلومه، من أن ينجزوا أنماطا من الشعر الإيقاعي الخالص، يقصد منه إشاعة البهجة والرقص والتواصل الحركي الحسي.
واللافت للأمر أن تلك التطورات الشعرية، إنما انصبت على الموضوعات تماما، كما انصبت على المضامين، فإذا هي تطال اللغة الشعرية فتجددها، وتجدد بلاغتها، وهذا ما نلمسه عبر الأوزان الخفيفة المجزوءة والمشطورة، حيث يسمح هذا للغة المتداولة أن تعبر عن تلك الاحتياجات اليومية أيضا، من العشق والحب.
ومن المؤكد أن العصر العباسي يشكل قمة من قمم الحضارة الإنسانية الخالدة، لاحتفاله بالعلوم والفلسفات وعلوم اللغة والدين، وعلى رأس كل ذلك الفنون المختلفة وأولها الشعر والغناء.
ولكننا نلاحظ أن الموسيقا رفيقة الشعر تاريخيا، قد عجزت في مراحلها المتأخرة عن فعل شيء حيال طبيعتها ووظيفتها التقليديتين، نعني هاجس التطريب باعتباره غاية، ومسائل اللهو والسمر.. بعد أن فارقت هذه الموسيقا مهامها الباهرة في مراحلها الأولى.
رغم ما بين إيقاعات الموسيقا وإيقاعات الشعر من توافق وتطابق من حيث البنية ولكن التطورات اللاحقة التي حصلت للشعر العربي على مدى تاريخه، تدل بجلاء على أن الشعراء كانوا أكثر قدرة وحيوية على التجديد والتغيير والثورة بفضل ما كان من استجاباتهم للتحولات الاجتماعية، بينما لم يكن تطوير الموسيقا العربية هاجسا فكريا للأعم الأغلب من موسيقيي العصر العباسي، الذين كانوا أقل ثورية من الشعراء لتظل الموسيقا الحامل الأول للشعر، كوعاء فذ له، ولم تحرز شرف الشعر اجتماعيا،
برغم كل مظاهر تكريم الموسيقيين في القصور، كونها ليست ديوان العرب، ولا هي مستودع لغتهم ومشاعرهم وتاريخهم وأنسابهم ومفاخراتهم وهجائهم، بل هي صناعة ممسوسة في جانبها الاجتماعي والأخلاقي، متذكرين أن الأعم الأغلب من المشتغلين بالموسيقا والغناء، كانوا مملوكين لأولي السلطة بمعنى أن الفنانين كانوا بضاعة وتجارة وأدوات لذة ومتعة،
في الوقت الذي ندرك فيه أن الموسيقا هي صنعة طبقة خاصة من الناس، وهي تستهلك من قبل طبقة خاصة من الناس، وبذلك يصبح تطوير هذه الموسيقا مرهونا بذوق وفكر وفاعلية وتاريخية هذه الطبقة.
لكن برغم تلك الملاحظات التي تسلب الموسيقا بعضا من التقدير الجدير بها كفن إبداعي، فإنها أيضا تسلب الموسيقيين الكثير من التقدير لفنهم، غير أن ذلك لا يحط من قدرها، أو قدر أحد من المشتغلين بها، ولعل ذلك الأمر يعود إلى أن المرء ـ أيا كان مستواه الاجتماعي ـ لم يكن في مقدوره أن يسمع موسيقا دون شعر، أي دون لغة، وهذا من طبيعة معظم شعوب العالم،
باستثناء بعض الشعوب التي أنجزت موسيقا خالصة من اللغة في مرحلة من مراحل تطورها الحضاري، وبذلك فان الموسيقا مازالت تقوم على الشعر بالرغم من محاولات كثيرة قام بها «محمد عبد الوهاب، عطية شرارة، أحمد فؤاد حسن، الأخوان رحباني» وغيرهم لإبداع موسيقا آلية، ارتبطت لدى الموسيقيين المصريين في الأعم الأغلب بالرقص الشرقي، وربما برقصات محددة.
ولعل نظرة سريعة إلى عصرنا العربي الراهن، تضعنا مباشرة أمام ذات المسألة القديمة، وهي مسألة أن الموسيقا العربية في الاصطلاح الدارج هي الغناء، لان واقع الحال الموسيقي لا يرى الموسيقا إلا باعتبارها وظيفة فقط، وكأن شيئا لم يتغير منذ أكثر من ألف سنة على الأقل.
لكن وبالتأمل الهادئ يمكن للمتابع أن يكتشف ويكشف عمق العلاقة بين الشعر والموسيقا، ليس من حيث ارتباطهما التاريخي، بل من حيث ارتباطهما البنيوي وائتلافاهما الإيقاعي والنغمي والوزني والصوتي من جهة ثانية.
ولهذا فان البدء بالموسيقا درسا وفحصا وتحليلا، سوف يساعدنا على وعي العلاقة العميقة تلك والتدقيق فيها وتحليلها كظاهرة تاريخية.