جذور فن الكاريكاتير في العالم
يعتبر قدماء المصريين هم أول من تنبه إلى هذا الفن الذي يحقق مآربهم في السخرية والتعريض بالحاكم وكل ذي سلطة مستبدة،
فكان الفرعوني يستخدم الحيوانات والرموز البسيطة للتعبير عن رأيه الحقيقي في أصحاب العروش، ففي إحدى الأوستراكا (الشقفات) القديمة نرى تصويرًا كروكيًّا لصراع بين القطط والفئران،
ويدور ملك الفئران على عجلة حربية تممنوعها كلبتان ويهجم على حصن تحرسه القطط، ولم يكن هذا بالطبع من فراغ،
فلا بد لموقف هام أو أحداث جمَّة وقعت رأى فيها الفنان أن الأعداء أو غيرهم من الصغار الشأن قد تجرءوا
وحاربوا من هم أقوى منهم، بل من هم أكثر منهم منعة وحجم.
وكان الرسام المصري القديم يُظهر عيوب مجتمعه أملاً في إصلاحها،
فعلى إحدى هذه الشقفات نرى رسمًا لفرس النهر وقد جلس فوق شجرة عالية بينما يحاول النسر الصعود إليها بسلم.
ونرى إلى أي مدى توصل المصري القديم إلى نقد النظام الحاكم بشكل مبسط مستتر ولكنه فعَّال من خلال صورة كروكية لثعلب يرعى قطعانًا من الماعز ويممنوع الذئب الأوز.
وفي اليونان في ذلك العهد القديم نرى أيضًا بذور ذلك الفن من خلال رجل يُدعى بوستن ذكره أرسطو وأرستوفانيس
بوصفه شخصًا يرسم رسومات ساخرة للناس وقيل إنه قُتل وهو يعذَّب بسبب تلك السخرية.
هذا عن جذور ذلك الفن في العصور القديمة، أما في العصر الحديث في أوائل القرن السابع عشر فقد انتشر هذا الفن في هولندا،
وفي أوائل القرن الثامن عشر ذاع في إنجلترا وخاصة على يد جورج توتسهند، حيث استخدمه في التحريض السياسي
ثم خلفه في هذا المجال وليم هوجارت الذي عبر برسوماته الساخرة عن حقبة من التاريخ الإنجليزي،
وكانت أعماله سببًا في ظهور مدرسة لفن الكاريكاتير على أيدي فنانين عظام أمثال توماس رولاندسون وجيمس
جيلراي، وكانت رسوماتهم الكاريكاتيرية سلاحًا في وجه خصومهم السياسيين، وكانت رسوماتهم مطبوعة باللونين الأبيض والأسود،
ثم يلونونها بأيديهم ويوزعونها على المكتبات، حيث كانت أعمالهم تؤدي دورًا سياسيًّا بارزًا في هذه الآونة.
وفي إيطاليا: ظهر ينبال كاراتشي كفنان كاريكاتيري ومن قبله جيروم بوش الذي رسم
الجحيم بتفصيلات مضحكة، ويُعَدُّ أحد المبشرين بالسريالية، ويُعِدُّ الكثير من المؤرخين ليونارد دي دافنشي أبًا لفن الكاريكاتير في إيطاليا.
وفي فرنسا: في القرن التاسع عشر شهد هذا الفن تطورًا كبيرًا على يد مجموعة من الفنانين
أهمهم هو شارل نيليبون الذي أصدر مجلة كاريكاتيرية، ثم جريدة يومية باسم الشيفاردي 1830م،
ثم أظهر أثر هذه المطبوعات التي كانت معارضة للحكومة بشكل هزلي الفنان أندريه دومييه الذي تميزت أعماله الكاريكاتيرية بعمق اللمسة وحيويتها،
وقد سجن في عهد الملك لوي فيليب بسبب رسوماته الساخرة من الطبقة الأرستقراطية والملك نفسه.
ويعتبر دومييه أول من استخدم الصورة الكاريكاتيرية كشكل إعلاني مستقل،
وظهر هذا الفن البسيط في الاتحاد السوفييتي على يد بنيه ستروب ولورسي إيفيموف اللذين لعبت رسوماتهما
الكاريكاتيرية دورًا تحريضيًّا سياسيًّا في ثورة أكتوبر والحرب العالمية الثانية.
وفي أمريكا: شهد هذا الفن طفرة تطور من خلال الكتب الفكاهية والرسوم الساخرة المطبوعة في العديد من المجلات والجرائد، ومع بداية القرن العشرين كان الأشهر في هذا المجال
هو الألماني جورج كابروت.
أما في العالم العربي: وإذا كان الفراعنة هم أول من برع في تصميم فن الرسم الكاريكاتيري واستخدامه وسيلة لنقد الحاكم،
فإن أولاد العرب تأخر ظهورهم في مجال هذا الفن في العصر الحديث، وكان تأثرهم بالعالم الأوروبي.
وكان أول من رسم وكتب تعليقات كاريكاتيرية هو الصحفي يعقوب صنوع، وأصدر جريدة هزيلة تسمى "أبو نضارة".
ثم توالى ظهور رسامي وفناني الكاريكاتير منذ ذلك الحين وأسسوا فنًّا عربيًّا قائمًا على بنية ثقافية واجتماعية عربية وأبدعوا في مجالهم.
وظهرت رسوم كاريكاتيرية في عهد الاحتلال الإنجليزي لمصر بيد الفنان رضا أو كما يطلقون عليه العم الكبير،
ثم جاء بعده الفنان عبد السميع؛ ليصدر كراسة كاريكاتيرية باللونين الأبيض والأسود تدعو إلى التحرر الوطني.
وفي نفس ذلك الوقت عاش في القاهرة الرسام الألماني الكبير سانتيز ورفقي التركي وصاروخان الأرمني،
وهؤلاء سادت أعمالهم نبرة السخرية من الأوضاع الاجتماعية، ومن رحم هؤلاء خرج صلاح جاهين وجورج
البهجوري وناجي العلي وبهجت عثمان وكان هؤلاء هم الدفعة التي غيرت وجه الكاريكاتير العربي في أوائل الخمسينيات،
فقد نجحوا في ابتكار شخصيات عبروا من خلال حركاتها وسكناتها عن همومهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية،
وجعلوها دعوة للتغير والتحرر من السيطرة المستبدة للحكام.
وتزامن مع فناني الكاريكاتير المصريين فنانون في كل أرجاء الوطن العربي، فكان في العراق الكاريكاتيري اللامع غازي
الذي ابتكر شخصية البغدادي الذكي الذي يسخر من الأوضاع المقلوبة بسبب الحكام،
ويسخر من الاستعمار، وفي سوريا ظهرت زمرة من فناني الكاريكاتير على رأسهم عبد اللطيف ماديني وسمير كحالة وعلي فرزات.
وتكتمل الدائرة الكاريكاتيرية في الوطن العربي بمحمد الزواوي في ليبيا وخليل الأشقر في لبنان، وكلهم كانت أعمالهم دعوة صريحة ضد طغيان الاستعمار.
وبهذا نرى أن فن الكاريكاتير منذ نشأته على اختلاف منشئه تجمَّع في طرق تعبير محددة،
وهي إما أن يكون بالتشكيل فقط أو بالتعليق مع التشكيل،
ومن خلال تاريخ هذا الفن ظهرت عدة مدارس كلاسيكية يتبلور خلالها مفهوم ومضمون فن الكاريكاتير.
1 - المدرسة الأوروبية الشرقية:
وهي تعتمد بالرسم فقط، حيث تقدم الرسوم الفكرة من خلال اهتمام بالغ بتفصيلات الرسم ذاته حيث لا وجود لتعليق.
2 - المدرسة الأوروبية الغربية:
الرسم تخطيطي بسيط، ولا بد فيها من وجود تعليق على شكل نكتة أو حوار ضاحك،
ومن خلاله علاقة الحوار بالتشكيل الرسمي تظهر المفارقة والفكرة المراد توصيلها.
3 - المدرسة الأمريكية:
تمتاز هذه المدرسة بالجمع بين المدرستين السابقتين، حيث إن اهتمامها منصب على إعطاء الرسم
مضامين ودلالات تتضح أكثر بالحوار.
* ومن هذا العرض لنشأة هذا الفن الساخر يجب أن ندلف إلى التعريف بأنواع هذا الفن.
أنواع الكاريكاتير
إن الصورة الكاريكاتيرية هي رسالة من الفنان إلى المتلقي من خلال سياق مشترك قائم على بنية الواقع الذي
يعيشونه معًا، ومن هذا المنطلق فإن الفكرة الكاريكاتيرية تنقسم إلى أنواع منها:
الكاريكاتير الاجتماعي الذي يبرز من خلال قضايا وتناقضات الواقع الاجتماعي،
وهذا النوع سخريته لاذعة وتهكمه شديد وتأثيره محدود.
أما النوع الآخر من الكاريكاتير وهو الأكثر شيوعًا وانتشارًا هو الكاريكاتير السياسي
ومهمته تحريضية بحتة لنقد الواقع السياسي المحلي أو العالمي.
والكاريكاتير المحلي يصلح أن يكون به تعليق، أما العالمي فيفضل أن يكون مفهومًا ومعبرًا بالرسم فقط،
فالحوار قد يكون غير ذي جدوى بسبب الترجمة التي قد تؤدي إلى أن يفقد الحوار معناه المستمد من أرضية ثقافية معينة.
ويوجد نوع آخر من الكاريكاتير هو الكاريكاتير الرياضي وهو نوع صحفي، ويعتبر فرعًا من الكاريكاتير الاجتماعي،
ومن خلال هذه الأنواع تظهر وظيفة الكاريكاتير كفن تحريضي دعائي قائم على وجود مرسل ومستقبل للرسم،
ومن ثَمَّ قيام فاعليات إنسانية بسبب الفكرة التي يطرحها الرسم.
وهكذا نرى أن الكاريكاتير يلعب دورًا أساسيًّا في الدفاع عن حقوق الإنسان،
فبهذه الخطوط البسيطة ينتقل المعنى والمضمون، ومن ثَمَّ يؤدي إلى حركة فاعلة تقدمية بشأن الحدث الكاريكاتيري
الهزلي الساخر، وهذه الحرمة تفتح أفقًا جديدة للمستقبل والواقع إما بمحاولة التغيير أو محاولة الصنع الجديد للواقع على أسس اجتماعية وإنسانية جديدة،
وهذا الفن البسيط القوي التأثير يتمتع بروح استقتها منه العديد من الفنون الأخرى استقت هذه الروح الكاريكاتيرية
الساخرة؛ لتُظهر عيوب المجتمع الشائنة في صورة ساخرة ممتعة تدعونا إلى التغيير،
تغيير الثوابت الراسخات في جذور الواقع التي تحتاج إلى التجديد والبعث. وليدة متأثرة بحركة عجلة الزمن.