القرآن
)وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:31)
)قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32)
التفسير:
.{ 31 } قوله تعالى: { وعلم آدم }: الفاعل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ و{ الأسماء } جمع "اسم"؛ و "أل" فيها للعموم بدليل قوله تعالى: { كلها }؛ وهل هذه الأسماء أسماء لمسميات حاضرة؛ أو لكل الأسماء؟ للعلماء في ذلك قولان؛ والأظهر أنها أسماء لمسميات حاضرة بدليل قوله تعالى: { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء }؛ وهذه الأسماء . والله أعلم . ما يحتاج إليها آدم، وبنوه في ذلك الوقت..
قوله تعالى: { ثم عرضهم } أي عرض المسميات؛ بدليل قوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء }، ولأن الميم علامة جمع العاقل؛ فلم تعلم الملائكة أسماء تلك المسميات؛ بل كان جوابهم: { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا }، ثم قال تعالى: { يا آدم أنبئهم بأسمائهم }: وأراد عزّ وجلّ بذلك أن يعرف الملائكة أنهم ليسوا محيطين بكل شيء علماً، وأنهم يفوتهم أشياء يفضلهم آدم فيها..
قوله تعالى: { أنبئوني }: هل هو فعل أمر يراد به قيام المأمور بما وُجّه إليه، أو هو تحَدٍّ؟
الجواب: الظاهر الثاني: أنه تحدٍّ؛ بدليل قوله تعالى: { إن كنتم صادقين } أن لديكم علماً بالأشياء فأنبئوني بأسماء هؤلاء؛ لأن الملائكة قالت فيما سبق: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة: 30] ، فقال تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون }، ثم امتحنهم الله بهذا..
.{ 32 } قوله تعالى: { سبحانك } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بجلالك؛ فأنت يا ربنا لم تفعل هذا إلا لحكمة بالغة..
قوله تعالى: { لا علم لنا إلا ما علمتنا }: اعتراف من الملائكة أنهم ليسوا يعلمون إلا ما علمهم الله، هذا مع أنهم ملائكة مقرَّبون إلى الله عزّ وجلّ .
قوله تعالى: { إنك أنت العليم الحكيم }: هذه الجملة مؤكدة بـ "إن" ، وضمير الفصل: { أنت }؛ والمعنى: إنك ذو العلم الواسع الشامل المحيط بالماضي والحاضر، والمستقبل؛ و{ الحكيم } يعني ذا الحكمة، والحكم؛ لأن الحكيم مشتقة من الحكم، والحكمة؛ فهذان اسمان من أسماء الله عزّ وجلّ: { العليم }، و(الحكيم)
الفوائد:
.1 من فوائد الآيتين: بيان أن الله تعالى قد يمنّ على بعض عباده بعلم لا يعلمه الآخرون؛ وجهه: أن الله علم آدم أسماء مسميات كانت حاضرة، والملائكة تجهل ذلك..
.2 ومنها: أن اللغات توقيفية . وليست تجريبية؛ "توقيفية" بمعنى أن الله هو الذي علم الناس إياها؛ ولولا تعليم الله الناسَ إياها ما فهموها؛ وقيل: إنها "تجريبية" بمعنى أن الناس كوَّنوا هذه الحروف والأصوات من التجارب، فصار الإنسان أولاً أبكم لا يدري ماذا يتكلم، لكن يسمع صوت الرعد، يسمع حفيف الأشجار، يسمع صوت الماء وهو يسيح على الأرض، وما أشبه ذلك؛ فاتخذ مما يسمع أصواتاً تدل على مراده؛ ولكن هذا غير صحيح؛ والصواب أن اللغات مبدؤها توقيفي؛ وكثير منها كسبي تجريبي يعرفه الناس من مجريات الأحداث؛ ولذلك تجد أن أشياء تحدث ليس لها أسماء من قبل، ثم يحدث الناس لها أسماء؛ إما من التجارب، أو غير ذلك من الأشياء..
.3 ومن فوائد الآيتين: جواز امتحان الإنسان بما يدعي أنه مُجيد فيه..
.4 ومنها: جواز التحدي بالعبارات التي يكون فيها شيء من الشدة؛ لقوله تعالى: { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين..
.5 ومنها: أن الملائكة تتكلم؛ لقوله تعالى: ( أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم )..
.6 ومنها: اعتراف الملائكة . عليهم الصلاة والسلام . بأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله عزّ وجلّ..
ويتفرع على ذلك أنه ينبغي للإنسان أن يعرف قدر نفسه، فلا يدَّعي علم ما لم يعلم..
.7 ومنها: شدة تعظيم الملائكة لله عزّ وجلّ، حيث اعترفوا بكماله، وتنزيهه عن الجهل بقولهم: {سبحانك}؛ واعترفوا لأنفسهم بأنهم لا علم عندهم؛ واعترفوا لله بالفضل في قولهم: { إلا ما علمتنا }..
.8 ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما { العليم }، و{ الحكيم }؛ فـ { العليم }: ذو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً لما كان، وما يكون من أفعاله، وأفعال خلقه..
و{ الحكيم }: ذو الحكمة البالغة التي تعجز عن إدراكها عقول العقلاء وإن كانت قد تدرك شيئاً منها؛ و "الحكمة" هي وضع الشيء في موضعه اللائق به؛ وتكون في شرع الله، وفي قدر الله؛ أما الحكمة في شرعه فإن جميع الشرائع مطابقة للحكمة في زمانها، ومكانها، وأحوال أممها؛ فما أمر الله بشيء، فقال العقل الصريح: "ليته لم يأمر به"؛ وما نهى عن شيء، فقال: "ليته لم ينهَ عنه"؛ وأما الحكمة في قدره فما من شيء يقدره الله إلا وهو مشتمل على الحكمة إما عامة؛ وإما خاصة..
واعلم أن الحكمة تكون في نفس الشيء: فوقوعه على الوجه الذي حكم الله تعالى به في غاية الحكمة؛ وتكون في الغاية المقصودة منه: فأحكام الله الكونية، والشرعية كلها لغايات محمودة قد تكون معلومة لنا، وقد تكون مجهولة؛ والأمثلة على هذا كثيرة واضحة..
ولـ { الحكيم } معنًى آخر؛ وهو ذو الحكم، والسلطان التام؛ فلا معقب لحكمه؛ وحكمه تعالى نوعان: شرعي، وقدري؛ فأما الشرعي فوحيه الذي جاءت به رسله؛ ومنه قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [المائدة: 50] ، وقوله تعالى في سورة الممتحنة: { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } [الممتحنة: 10] ؛ وأما حكمه القدري فهو ما قضى به قدراً على عباده من شدة، ورخاء، وحزن، وسرور، وغير ذلك؛ ومنه قوله تعالى عن أحد إخوة يوسف: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } (يوسف: 80).
والفرق بين الحكم الشرعي، والكوني: أن الشرعي لا يلزم وقوعه ممن حُكِم عليه به؛ ولهذا يكون العصاة من بني آدم، وغيرهم المخالفون لحكم الله الشرعي؛ وأما الحكم القدري فلا معارض له، ولا يخرج أحد عنه؛ بل هو نافذ في عباده على كل حال..
القرآن
)قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:33)
التفسير:
.{ 33 } قوله تعالى: { قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم }؛ القائل هو الله عزّ وجلّ؛ و{ آدم } هو أبو البشر؛ والظاهر أن هذا اسم له، وليس وصفاً؛ وهو مشتق لغة من الأُدْمة؛ وهي لون بين البياض الخالص والسواد
قوله تعالى: { فلما أنبأهم بأسمائهم } أي أنبأ الملائكة؛ { قال } أي قال الله؛ { ألم أقل لكم }: الاستفهام هنا للتقرير؛ والمعنى: قلت لكم، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] : والمعنى: قد شرحنا لك صدرك؛ { إني أعلم غيب السموات والأرض } أي ما غاب فيهما . وهو نوعان: نسبي؛ وعام؛ فأما النسبي فهو ما غاب عن بعض الخلق دون بعض؛ وأما العام فهو ما غاب عن الخلق عموماً..
قوله تعالى: { وأعلم ما تبدون } أي ما تظهرون؛ { وما كنتم تكتمون } أي تخفون..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ لقوله تعالى: { يا آدم }؛ وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض..
.2 ومنها: أن آدم . عليه الصلاة والسلام . امتثل، وأطاع، ولم يتوقف؛ لقوله تعالى: { فلما أنبأهم }؛ ولهذا طوى ذكر قوله: "فأنبأهم" إشارة إلى أنه بادر، وأنبأ الملائكة..
.3 ومنها: جواز تقرير المخاطب بما لا يمكنه دفعه؛ والتقرير لا يكون إلا هكذا . أي بأمر لا يمكن دفعه؛ وذلك لقوله تعالى: { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض }..
.4 ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى:
( أعلم غيب السموات والأرض )..
.5 ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى: { السموات }؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12] أي في العدد..
.6 ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون }..
.7 ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ( ما تبدون وما كنتم تكتمون)
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟..
فالجواب: قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} [سبأ: 23
القرآن
)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34)
التفسير:
.{ 34 } قوله تعالى: { وإذ قلنا } يعني اذكر إذ قلنا؛ ومثل هذا التعبير يتكرر كثيراً في القرآن، والعلماء يقدرون لفظ: "اذكر"، وهم بحاجة إلى هذا التقدير؛ لأن "إذ" ظرفية؛ والظرف لا بد له من شيء يتعلق به إما مذكوراً؛ وإما محذوفاً؛ وفي نظم الجُمل:.
لا بد للجار من التعلق بفعل أو معناه نحو مرتقي ومثله الظرف؛ وجاء الضمير في { قلنا } بضمير الجمع من باب التعظيم . لا التعدد . كما هو معلوم..
قوله تعالى: { للملائكة }: سبق الكلام على ذكر الملائكة، ومن أين اشتق هذا اللفظ..
قوله تعالى: { اسجدوا لآدم }: "السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: {تراهم ركعاً سجداً} [الفتح: 29] ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ..
قوله تعالى: { فسجدوا } أي من غير تأخير؛ فالفاء هنا للترتيب، والتعقيب؛ { إلا إبليس } هو الشيطان؛ وسمي إبليساً لأنه أَبلَسَ من رحمة الله . أي أَيِسَ منها يأساً لا رجاء بعده . { أبى } أي امتنع؛ { واستكبر } أي صار ذا كبر؛ { وكان من الكافرين }: زعم بعض العلماء أن المراد: كان من الكافرين في علم الله بناءً على أن
{ كان } فعل ماضٍ؛ والمضي يدل على شيء سابق؛ لكن هناك تخريجاً أحسن من هذا: أن نقول: إن "كان" تأتي أحياناً مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقق اتصاف الموصوف بهذه الصفة؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} [النساء: 96] ، وقوله تعالى: {وكان الله عزيزاً حكيماً} [النساء: 158] ، وقوله تعالى: {وكان الله سميعاً بصيراً} [النساء: 134] ، وما أشبهها؛ هذه ليس المعنى أنه كان فيما مضى؛ بل لا يزال؛ فتكون { كان } هنا مسلوبة الزمان، ويراد بها تحقيق اتصاف الموصوف بما دلت عليه الجملة؛ وهذا هو الأقرب، وليس فيه تأويل؛ ويُجرى الكلام على ظاهره..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له..
.2 ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة..
ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: {فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين} [الصافات: 103 . 105] ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة..
.3 ومن فوائد الآية: أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر؛ إبليس استكبر عن الحق؛ لأنه لم يمتثل أمر الله؛ واستكبر على الخلق؛ لأنه قال: {أنا خير منه} [الأعراف: 12] ؛ فاستكبر في نفسه، وحقر غيره؛ و"الكبر" بطر الحق، وغمط الناس..
تنبيه:
إن قال قائل: في الآية إشكال . وهو أن الله تعالى لما ذكر أمر الملائكة بالسجود، وذكر أنهم سجدوا إلا إبليس؛ كان ظاهرها أن إبليس منهم؛ والأمر ليس كذلك؟..
والجواب: أن إبليس كان مشاركاً لهم في أعمالهم ظاهراً، فكان توجيه الأمر شاملاً له بحسب الظاهر؛ وقد يقال: إن الاستثناء منقطع؛ والاستثناء المنقطع لا يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه..
القرآن.
)وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:35)
التفسير:
.{ 35 } قوله تعالى: { قلنا } فاعل القول هو الله عزّ وجلّ؛ { اسكن أنت وزوجك }: "زوج" معطوف على الفاعل في { اسكن }؛ لأن { أنت } توكيد للفاعل؛ وليست هي الفاعل؛ لأن { اسكن } فعل أمر؛ وفعل الأمر لا يمكن أن يظهر فيه الفاعل؛ لأنه مستتر وجوباً؛ وعلى هذا فـ { أنت } الضمير المنفصل توكيد للضمير المستتر؛ و{ زوجك } هي حواء، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وغيره..
قوله تعالى:{ الجنة } هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟..
الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني..
فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟
فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث؛ وفي هذا يقول ابن القيم في الميمية المشهورة.
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم قال: "منازلك الأولى"؛ لأن أبانا آدم نزلها..
قوله تعالى: { وكُلا }: أمر بمعنى الإباحة، والإكرام؛ { منها } أي من هذه الجنة؛ { رغداً } أي أكلاً هنياً ليس فيه تنغيص؛ { حيث شئتما } أي في أيّ مكان من هذه الجنة، ونقول أيضاً: وفي أيّ زمان؛ لأن قوله تعالى: { كُلا } فعل مطلق لم يقيد بزمن..
قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة } أشار الله تعالى إلى الشجرة بعينها، و "أل" فيها للعهد الحضوري؛ لأن كل ما جاء بـ "أل" بعد اسم الإشارة فهو للعهد الحضوري؛ إذ إن اسم الإشارة يعني الإشارة إلى شيء قريب؛ وهذه الشجرة غير معلومة النوع، فتبقى على إبهامها..
قوله تعالى: { فتكونا }: وقعت جواباً للطلب . وهو قوله تعالى: { لا تقربا }؛ فالفاء هنا للسببية؛ والفعل بعدها منصوب بـ "أن" مضمرة بعد فاء السببية؛ وقيل: إن الفعل منصوب بنفس الفاء؛ القول الأول للبصريين، والثاني للكوفيين؛ والثاني هو المختار عندنا بناءً على القاعدة أنه متى اختلف علماء النحو في إعراب كلمة أو جملة فإننا: نأخذ بالأسهل ما دام المعنى يحتمله..
قوله تعالى: { من الظالمين } أي من المعتدين لمخالفة الأمر..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: إثبات القول لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: ( وقلنا يا آدم )..
.2 ومنها: أن قول الله يكون بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن... } إلخ؛ ولولا أن آدم يسمعه لم يكن في ذلك فائدة؛ وأيضاً هو مرتب؛ لقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك }: وهذه حروف مرتبة، كما هو ظاهر؛ وإنما قلنا ذلك لأن بعض أهل البدع يقول: إن كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بصوت، ولا حروف مرتبة؛ ولهم في ذلك آراء مبتدعة أوصلها بعضهم إلى ثمانية أقوال
.3 ومن فوائد الآية: منّة الله عزّ وجلّ على آدم، وحواء حيث أسكنهما الجنة..
.4 ومنها: أن النكاح سنة قديمة منذ خلق الله آدم، وبقيت في بنيه من الرسل، والأنبياء، ومن دونهم، كما قوله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} (الرعد: 38)
فإن قال قائل: زوجته بنت من؟..
فالجواب: أنها خلقت من ضلعه..
فإن قال: إذاً تكون بنتاً له، فكيف يتزوج ابنته؟..
فالجواب: أن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ فكما أباح أن يتزوج الأخ أخته من بني آدم الأولين؛ فكذلك أباح أن يتزوج آدم من خلقها الله من ضلعه..
.5 ومن فوائد الآية: أن الأمر يأتي للإباحة؛ لقوله تعالى: { وكُلا منها }؛ فإن هذه للإباحة بدليل قوله تعالى: { حيث شئتما }: خيَّرهما أن يأكلا من أيّ مكان؛ ولا شك أن الأمر يأتي للإباحة؛ ولكن الأصل فيه أنه للطلب حتى يقوم دليل أنه للإباحة..
.6 ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: { حيث شئتما }؛ فالتعميم في المكان يقتضي التعميم في الزمان؛ وقد قال الله تعالى في فاكهة الجنة: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة: 32، 33)
.7 ومنها: أن الله تعالى قد يمتحن العبد، فينهاه عن شيء قد تتعلق به نفسه؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }؛ ووجه ذلك أنه لولا أن النفس تتعلق بها ما احتيج إلى النهي عن قربانها..
.8 ومنها: أنه قد يُنهى عن قربان الشيء والمراد النهي عن فعله؛ للمبالغة في التحذير منه؛ فإن قوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة }: المراد: لا تأكلا منها، لكن لما كان القرب منها قد يؤدي إلى الأكل نُهي عن قربها..
.9 ومنها: إثبات الأسباب؛ لقوله تعالى: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..
.10 ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ( ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين..)
القرآن
)فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36)
التفسير:
.{ 36 } قوله تعالى: { فازلهما الشيطان }؛ وفي قراءة: { فأزالهما }؛ والفرق بينهما أن { أزلهما } بمعنى أوقعهما في الزلل؛ و{ أزالهما } بمعنى نحَّاهما؛ فعلى القراءة الأولى يكون الشيطان أوقعهما في الزلل، فزالا عنها، وأُخرجا منها؛ وعلى الثانية يكون الشيطان سبباً في تنحيتهما؛ و{ الشيطان } الظاهر أنه الشيطان الذي أبى أن يسجد لآدم: وسوس لهما ليقوما بمعصية الله كما فعل هو حين أبى أن يسجد لآدم..
قوله تعالى: { عنها } أي عن الجنة؛ ولهذا قال تعالى: { فأخرجهما مما كانا فيه } من النعيم؛ لأنهما كانا في أحسن ما يكون من الأماكن..
قوله تعالى: { وقلنا } أي قال الله لهما؛ { اهبطوا }: الضمير للجمع، والمراد آدم، وحواء، وإبليس؛ ولهذا قال تعالى: { بعضكم لبعض عدو }: الشيطان عدو لآدم، وحواء..
قوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } يعني أنكم سوف تستقرون في الأرض، وسوف تتمتعون بها بما أعطاكم الله من النعم، ولكن لا على وجه الدوام؛ بل إلى حين . وهو قيام الساعة..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: الحذر من وقوع الزلل الذي يمليه الشيطان؛ لقوله تعالى: ( فأزلهما الشيطان عنها ).
.2 ومنها: أن الشيطان يغرّ بني آدم كما غرّ أباهم حين وسوس لآدم، وحواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، وقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؛ فالشيطان قد يأتي الإنسان، فيوسوس له، فيصغر المعصية في عينه؛ ثم إن كانت كبيرة لم يتمكن من تصغيرها؛ منّاه أن يتوب منها، فيسهل عليه الإقدام؛ ولذلك احذر عدوك أن يغرك..
.3ومنها: إضافة الفعل إلى المتسبب له؛ لقوله تعالى: { فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه }؛ وقد ذكر الفقهاء . رحمهم الله . أن المتسبب كالمباشر في الضمان، لكن إذا اجتمع متسبب ومباشر تمكن إحالة الضمان عليه فالضمان على المباشر؛ وإن لم تمكن فالضمان على المتسبب؛ مثال الأول؛ أن يحفر بئراً، فيأتي شخص، فيدفع فيها إنساناً، فيهلك: فالضمان على الدافع؛ ومثال الثاني: أن يلقي شخصاً بين يدي أسد، فيأكله: فالضمان على الملقي . لا على الأسد..
.4 ومن فوائد الآية: أن الشيطان عدو للإنسان؛ لقوله تعالى: { بعضكم لبعض عدو }؛ وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً } (فاطر: 6)
.5 ومنها: أن قول الله تعالى يكون شرعياً، ويكون قدرياً؛ فقوله تعالى: { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها }: هذا شرعي؛ وقوله تعالى: { وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو }: الظاهر أنه كوني؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم أنه لو عاد الأمر إليهما لما هبطا؛ ويحتمل أن يكون قولاً شرعياً؛ لكن الأقرب عندي أنه قول كوني . والله أعلم..
.6 ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل..
.7 ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25] ؛ وبناءً على ذلك نعلم أن محاولة الكفار أن يعيشوا في غير الأرض إما في بعض الكواكب، أو في بعض المراكب محاولة يائسة؛ لأنه لابد أن يكون مستقرهم الأرض..
.8 ومنها: أنه لا دوام لبني آدم في الدنيا؛ لقوله تعالى: { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين }..
القرآن
)فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)
التفسير:
.{ 37 } قوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه } يعني أخذ، وقَبِل، ورضي من الله كلمات حينما ألقى الله إليه هذه الكلمات؛ وهذه الكلمات هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] ؛ فالكلمات اعتراف آدم وحواء بأنهما أذنبا، وظلما أنفسهما، وتضرعهما إلى الله سبحانه وتعالى بأنه إن لم يغفر لهما ويرحمهما لكانا من الخاسرين؛ و{ من ربه } فيه إضافة الربوبية إلى آدم؛ وهي الربوبية الخاصة..
قوله تعالى: { فتاب عليه }: الفاعل هو الله . يعني فتاب ربه عليه؛ و"التوبة" هي رفع المؤاخذة، والعفو عن المذنب إذا رجع إلى ربه عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { إنه هو التواب الرحيم }: هذه الجملة تعليل لقوله تعالى: { فتاب عليه }؛ لأن التوبة مقتضى هذين الاسمين العظيمين: { التواب الرحيم }؛ و{ هو } ضمير فصل يفيد هنا الحصر، والتوكيد؛ و{ التواب } صيغة مبالغة من "تاب"؛ وذلك لكثرة التائبين، وكثرة توبة الله؛ ولذلك سمى الله نفسه "التواب" ؛ و{ الرحيم } أي ذو الرحمة الواسعة الواصلة إلى من شاء من عباده..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: { فتلقى آدم من ربه كلمات }..
.2 ومنها: أن منة الله على أبينا هي منة علينا في الحقيقة؛ لأن كل إنسان يشعر بأن الله إذا منَّ على أحد أجداده كان مانّاً عليه..
.3 ومنها: أن قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" سبب لقبول توبة الله على عبده؛ لأنها اعتراف بالذنب؛ وفي قول الإنسان: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين" أربعة أنواع من التوسل؛ الأول: التوسل بالربوبية؛ الثاني: التوسل بحال العبد: {ظلمنا أنفسنا} ؛ الثالث: تفويض الأمر إلى الله؛ لقوله: {وإن لم تغفر لنا...} إلخ؛ الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة الله ورحمته؛ لقوله تعالى: {لنكونن من الخاسرين} ، وهي تشبه التوسل بحال العبد؛ بل هي توسل بحال العبد؛ وعليه فيكون توسل العبد بحاله توسلاً بحاله قبل الدعاء، وبحاله بعد الدعاء إذا لم يحصل مقصوده..
.4 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى يتكلم بصوت مسموع؛ وجه ذلك أن آدم تلقى منه كلمات؛ وتلقي الكلمات لا يكون إلا بسماع الصوت؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بكلام بصوت مسموع، وحروف مرتبة..
.5 ومنها: منة الله عزّ وجلّ على آدم بقبول التوبة؛ فيكون في ذلك منَّتان؛ الأولى: التوفيق للتوبة، حيث تلقَّى الكلمات من الله؛ و الثانية: قبول التوبة، حيث قال تعالى: { فتاب عليه }..
واعلم أن لله تعالى على عبده توبتين؛ التوبة الأولى قبل توبة العبد؛ وهي التوفيق للتوبة؛ والتوبة الثانية بعد توبة العبد؛ وهي قبول التوبة؛ وكلاهما في القرآن؛ قال الله . تبارك وتعالى: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118] : فقوله تعالى: {ثم تاب عليهم} أي وفقهم للتوبة، وقوله تعالى: {ليتوبوا} أي يقوموا بالتوبة إلى الله؛ وأما توبة القبول ففي قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات} (الشورى: 25)
.6 ومن فوائد الآية: أن الإنسان إذا صدق في تفويض الأمر إلى الله، ورجوعه إلى طاعة الله فإن الله تعالى يتوب عليه؛ وهذا له شواهد كثيرة أن الله أكرم من عبده؛ من تقرب إليه ذراعاً تقرب الله إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة؛ فكرم الله عزّ وجلّ أعلى، وأبلغ من كرم الإنسان..
.7 ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: { التواب }، و{ الرحيم }؛ وما تضمناه من صفة، وفعل..
.8 ومنها: اختصاص الله بالتوبة، والرحمة؛ بدليل ضمير الفصل؛ ولكن المراد اختصاصه بالتوبة التي لا يقدر عليها غيره؛ لأن الإنسان قد يتوب على ابنه، وأخيه، وصاحبه، وما أشبه ذلك؛ لكن التوبة التي لا يقدر عليها إلا الله . وهي المذكورة في قوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} [آل عمران: 135] . هذه خاصة بالله..
كذلك الرحمة المراد بها الرحمة التي لا تكون إلا لله؛ أما رحمة الخلق بعضهم لبعض فهذا ثابت . لا يختص بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(1) ..
القرآن
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38)
التفسير:
.{ 38 } قوله تعالى: { قلنا اهبطوا منها جميعاً }: الواو ضمير جمع، وعبر به عن اثنين لأن آدم، وحواء هما أبَوَا بني آدم؛ فوجه الخطاب إليهما بصيغة الجمع باعتبارهما مع الذرية؛ هذا هو الظاهر؛ وأما حمله على أن أقل الجمع اثنين، وأن ضمير الجمع هنا بمعنى ضمير التثنية فبعيد؛ لأن كون أقل الجمع اثنين شاذ في اللغة العربية؛ وأما قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] فإن الأفصح في المتعدد إذا أضيف إلى متعدد أن يكون بلفظ الجمع . وإن كان المراد به اثنين؛ و{ جميعاً } منصوبة على الحال من الواو في قوله تعالى: ( اهبطوا ).
قوله تعالى: { فإما } أصلها: "فإنْ ما" : أدغمت النون في "ما" ؛ و "إن" شرطية، و "ما" زائدة للتوكيد؛ و
{ يأتينكم } فعل مضارع مؤكد بنون التوكيد؛ ولذلك لم يكن مجزوماً؛ بل كان مبنياً على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد لفظاً، وتقديراً..
قوله تعالى: { مني هدًى } أي علماً: وذلك بالوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى أنبيائه، ورسله..
قوله تعالى: { فمن تبع }: الفاء هنا رابطة لجواب الشرط؛ لأن الجملة بعد الفاء هي جواب الشرط؛ والجملة هنا اسمية؛ و "مَنْ" شرطية؛ و "تبع" فعل الشرط؛ والفاء في قوله تعالى: { فلا خوف } رابطة للجواب أيضاً، و "لا" نافية، و "خوف" مبتدأ؛ وجملة: { فمن تبع هداي فلا خوف} جواب "إنْ" في قوله تعالى: {فإما يأتينكم }؛ وجملة: { فلا خوف } جواب { فمن تبع }..
وقوله تعالى: { فمن تبع هداي } أي أخذ به تصديقاً بأخباره، وامتثالاً لأحكامه؛ وأضافه الله لنفسه لأنه الذي شرعه لعباده، ولأنه موصل إليه..
قوله تعالى: { فلا خوف عليهم } أي فيما يستقبل؛ لأنهم آمنون؛ { ولا هم يحزنون } أي على ما مضى؛ لأنهم قد اغتنموه، وقاموا فيه بالعمل الصالح؛ بل هم مطمئنون غاية الطمأنينة..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية أن الجنة التي أُسكنها آدم أولاً كانت عالية؛ لقوله تعالى: { اهبطوا }؛ والهبوط لا يكون إلا من أعلى..
.2 ومنها: إثبات كلام الله؛ لقوله تعالى: ( قلنا )..
.3 منها: أنه بصوت مسموع، وحروف مرتبة؛ لقوله تعالى: { اهبطوا منها جميعاً }؛ فلولا أنهم سمعوا ذلك ما صح توجيه الأمر إليهم..
.4 ومنها: أن التوكيد في الأسلوب العربي فصيح، ومن البلاغة؛ لقوله تعالى: { جميعاً }؛ وهو توكيد معنوي: لأنه حال من حيث الإعراب؛ لأن الشيء إذا كان هاماً فينبغي أن يؤكد؛ فتقول للرجل إذا أردت أن تحثه على الشيء: "يا فلان عجل عجل عجل" ثلاث مرات؛ والمقصود التوكيد، والحث..
.5 ومنها: أن الهدى من عند الله؛ لقوله تعالى: ( فإما يأتينكم مني هدًى )
فإن قال قائل: "إنْ" في قوله تعالى: { فإما } لا تدل على الوقوع؛ لأنها ليست كـ "إذا" ؟ قلنا: نعم، هي لا تدل على الوقوع، لكنها لا تنافيه؛ والواقع يدل على الوقوع . أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير؛ وممكن أن نقول: في هذه الصيغة . { فإما يأتينكم } . ما يدل على الوقوع؛ وهو توكيد الفعل..
ويتفرع على هذه الفائدة: أنك لا تسأل الهدى إلا من الله عزّ وجلّ؛ لأنه هو الذي يأتي به..
.6 ومن فوائد الآية: أن من اتبع هدى الله فإنه آمن من بين يديه، ومن خلفه؛ لقوله تعالى:
( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
.7 ومنها: أنه لا يتعبد لله إلا بما شرع؛ لقوله تعالى: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
.8 ومنها: أن من تعبد لله بغير ما شرع فهو على غير هدى؛ فيكون ضالاً كما شهدت بذلك السنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة يقول: "وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة(1).
القرآن
)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:39)
التفسير:
.{ 39 } قوله تعالى: { الذين كفروا } مبتدأ؛ وجملة: { أولئك أصحاب النار } خبر المبتدأ؛ وجملة: { هم فيها خالدون } في موضع نصب على الحال . يعني حال كونهم خالدين . ويجوز أن تكون استئنافية لبيان مآلهم..
قوله تعالى: { الذين كفروا } أي بالأمر؛ { وكذبوا } أي بالخبر؛ فعندهم جحود، واستكبار؛ وهذان هما الأساسان للكفر؛ لأن الكفر يدور على شيئين: إما استكبار؛ وإما جحود؛ فكفر إبليس: كفر استكبار؛ لأنه مقر بالله، لكنه استكبر؛ وكفر فرعون، وقومه: كفر جحود؛ لقوله تعالى: { وجحدوا بها }: فهم في ألسنتهم مكذبون، لكنهم في نفوسهم مصدقون؛ لقوله تعالى: { واستيقنتها أنفسهم } [النمل: 14] ..
فقوله تعالى: { والذين كفروا } أي كفروا بالله، فاستكبروا عن طاعته، ولم ينقادوا لها؛ { وكذبوا بآياتنا }أي بالآية الشرعية؛ وإن انضاف إلى ذلك الآية الكونية زاد الأمر شدة؛ لكن المهم الآية الشرعية؛ لأن من المكذبين الكافرين من آمنوا بالآية الكونية دون الشرعية؛ فمثلاً كفار قريش مؤمنون بالآية الكونية مقرون بأن الله خالق السموات، والأرض، وأنه المحيي، وأنه المميت، وأنه المدبر لجميع الأمور؛ لكنهم كافرون بالآية الشرعية..
قوله تعالى: { أولئك } أي المذكورون؛ وأشار إليهم بإشارة البعيد لانحطاط رتبتهم لا ترفيعاً لهم، وتعلية لهم؛ { أصحاب النار } أي الملازمون لها؛ ولهذا لا تأتي "أصحاب النار" إلا في الكفار؛ لا تأتي في المؤمنين أبداً؛ لأن المراد الذين هم مصاحبون لها؛ والمصاحب لابد أن يلازم من صاحبه؛ { هم فيها خالدون } أي ماكثون؛ والمراد بذلك المكث، الدائم الأبدي؛ ودليل ذلك ثلاث آيات في كتاب الله؛ آية في النساء، وآية في الأحزاب، وآية في الجن؛ أما آية النساء فقوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبداً} [النساء: 168، 169] ؛ وأما آية الأحزاب فقوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً} [الأحزاب: 64، 65] ؛ وأما آية الجن فقوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً} [الجن: 23] ..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أن الذين جمعوا بين هذين الوصفين . الكفر، والتكذيب . هم أصحاب النار مخلدون فيها أبداً . كما سبق؛ فإن اتصفوا بأحدهما فقد دل الدليل على أن المكذب خالد في النار؛ وأما الكافر فمن كان كفره مخرجاً عن الملة فهو خالد في النار؛ ومن كان كفره لا يخرج من الملة فإنه غير مخلد في النار..
.2 ومنها: أن الله تعالى قد بين الحق بالآية التي تقطع الحجة، وتبين المحجة..
3 ومنها: انحطاط رتبة من اتصفوا بهذين الوصفين . الكفر، والتكذيب..
.4 ومنها: إثبات النار؛ وقد ثبت بالدليل القطعي أنها موجودة الآن، كما في قوله تعالى: { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } (آل عمران: 131)
القرآن
)يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40)
التفسير:
.{ 40 } قوله تعالى: { يا بني إسرائيل } أي يا أولاد إسرائيل؛ والأصل في "بني" أن تكون للذكور، لكن إذا كانت لقبيلة، أو لأمة شملت الذكور، والإناث، كقوله تعالى: { يا بني آدم }، وقوله تعالى: { يا بني إسرائيل }؛ و{ إسرائيل } لقب يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل؛ ومعناه . على ما قيل . عبد الله؛ وبنوه هم اليهود، والنصارى، ورسلهم؛ لكن النداء في هذه الآية لليهود والنصارى الموجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ووجه الله تعالى النداء لبني إسرائيل؛ لأن السورة مدنية؛ وكان من بني إسرائيل ثلاث قبائل من اليهود في المدينة وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة؛ سكنوا المدينة ترقباً للنبي صلى الله عليه وسلم الذي علموا أنه سيكون مهاجره المدينة ليؤمنوا به، ويتبعوه؛ لكن لما جاءهم ما عرفوا كفروا به..
قوله تعالى: { اذكروا نعمتي } أي اذكروها بقلوبكم، واذكروها بألسنتكم، واذكروها بجوارحكم؛ وذلك؛ لأن الشكر يكون في الأمور الثلاثة: في القلب، واللسان، والجوارح..
وقوله تعالى: { نعمتي } مفرد مضاف، فيعم جميع النعم الدينية، والدنيوية؛ وقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل بنعم كثيرة..
قوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }: أشار بهذه الجملة إلى أن هذه النعم فضل محض من الله عزّ وجلّ..
قوله تعالى: { وأوفوا بعهدي } أي ائتوا به وافياً؛ وعهده سبحانه وتعالى أنه عهد إليهم أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا برسله، كما قال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً} [المائدة: 12] . هذا عهد الله ...
قوله تعالى: { أوفِ بعهدكم } أي أعطكم ما عهدت به إليكم وافياً . وهو الجزاء على أعمالهم . المذكور في قوله تعالى: {لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} [المائدة: 12] ؛ فلو وفوا بعهد الله لوفى الله بعهدهم..
وقوله تعالى: { أُوفِ } جواب الطلب في قوله تعالى: { أوفوا بعهدي }؛ ولهذا جاءت مجزومة بحذف حرف العلة..
قوله تعالى: { وإياي فارهبون } أي لا ترهبوا إلا إياي؛ و "الرهبة" شدة الخوف..
الفوائد:
.1من فوائد الآية: أن الله تعالى يوجه الخطاب للمخاطب إما لكونه أوعى من غيره؛ وإما لكونه أولى أن يمتثل؛ وهنا وجّهه لبني إسرائيل؛ لأنهم أولى أن يمتثلوا؛ لأن عندهم من العلم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها حق ما ليس عند غيرهم..
.2 ومنها: أن تذكير العبد بنعمة الله عليه أدعى لقبوله الحق، وأقوم للحجة عليه؛ لقوله تعالى: { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }؛ فهل هذا من وسائل الدعوة إلى الله؛ بمعنى أننا إذا أردنا أن ندعو شخصاً نذكره بالنعم؟
فالجواب: نعم، نذكره بالنعم؛ لأن هذا أدعى لقبول الحق، وأدعى لكونه يحب الله عزّ وجلّ؛ ومحبة الله تحمل العبد على أن يقوم بطاعته..
.3 ومن فوائد الآية: عظيم منة الله تعالى في إنعامه على هؤلاء؛ لقوله تعالى: { التي أنعمت عليكم }.
4 ومنها: أن من وفى لله بعهده وفى الله له؛ لقوله تعالى: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }؛ بل إن الله أكرم من عبده، حيث يجزيه الحسنة بعشر أمثالها؛ وفي الحديث القدسي: "إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْراً تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً؛ وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعاً تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعاً؛ وَإِذَا أَتَانِي مَشْياً أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(1) ..
.5 ومن فوائد الآية: أن من نكث بعهد الله فإنه يعاقب بحرمانه ما رتب الله تعالى على الوفاء بالعهد؛ وذلك؛ لأن المنطوق في الآية أن من وفى لله وفّى الله له؛ فيكون المفهوم أن من لم يفِ فإنه يعاقب، ولا يعطى ما وُعِد به؛ وهذا مقتضى عدل الله عزّ وجلّ..
.6 ومنها: وجوب الوفاء بالنذر؛ لأن الناذر معاهد لله، كما قال تعالى: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} [التوبة: 75] ..
.7 ومنها: وجوب إخلاص الرهبة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: () وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)(البقرة: من الآية40)
.8 ومنها: أن الرهبة عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بها، وأمر بإخلاصها..
فإن قال قائل: هل ينافي التوحيد أن يخاف الإنسان من سبُع، أو من عدو؟
فالجواب: لا ينافي هذا التوحيد؛ ولهذا وقع من الرسل: إبراهيم . عليه الصلاة والسلام . لما جاءه الضيوف، ولم يأكلوا أوجس منهم خيفة؛ وموسى . عليه الصلاة والسلام . لما ألقى السحرة حبالهم، وعصيهم أوجس في نفسه خيفة؛ ولأن الخوف الطبيعي مما تقتضيه الطبيعة؛ ولو قلنا لإنسان: "إنك إذا خفت من أحد سوى الله خوفاً طبيعياً لكنت مشركاً"، لكان هذا من تكليف ما لا يطاق؛ لأن خوف الإنسان مما يخاف منه خوفٌ طبيعي غريزي لا يمكنه دفعه؛ كل إنسان يخاف مما يُخشى منه الضرر..
فإن قال قائل: لو منعه الخوف من واجب عليه هل يُنهى عنه، أو لا؟
لجواب: نعم، يُنهى عنه؛ لأن الواجب عليه يستطيع أن يقوم به؛ إلا إذا جاء الشرع بالعفو عنه في هذه الحال فلا حرج عليه في هذا الخوف؛ قال الله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175] ؛ لكن إذا كان في الشرع رخصة لك أن تخالف ما أمر الله به في هذه الحال فلا بأس؛ ولهذا لو كان إنسان يريد أن يصلي صلاة الفريضة، وحوله جدار قصير، ويخشى إن قام أن يتبين للعدو؛ فله أن يصلي قاعداً؛ وهذا لأن الله تعالى عفا عنه: قال الله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] ؛ ولو كان العدو أكثر من مثلَي المسلمين فلا يلزمهم أن يصابروهم، ويجوز أن يفروا..
القرآن
)وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة:41)
التفسير:
.{ 41 } قوله تعالى: { وآمنوا } معطوف على قوله تعالى: ( اذكروا )
.{ بما أنزلت }: هو القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم { مصدقاً لما معكم } أي مصدقاً لما ذُكر في التوراة، والإنجيل من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم ومن أوصاف القرآن الذي يأتي صلى الله عليه وسلم به؛ وكذلك أيضاً هو مصدق لما معهم: شاهد للتوراة، والإنجيل بالصدق؛ فصار تصديق القرآن لما معهم من وجهين؛ الوجه الأول: أنه وقع مطابقاً لما أخبرت التوراة، والإنجيل به؛ والوجه الثاني: أنه قد شهد لهما بالصدق؛ فالقرآن يدل دلالة واضحة على أن الله أنزل التوراة، وأنزل الإنجيل . وهذه شهادة لهما بأنهما صدق .؛ وكذلك التوراة، والإنجيل قد ذُكر فيهما من أوصاف القرآن، ومن أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم حتى صاروا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ فإذا وقع الأمر كما ذُكر فيهما صار ذلك تصديقاً لهما؛ ولهذا لو حدثتك بحديث، فقلت أنت: "صدقتَ"، ثم وقع ما حدثتك به مشهوداً تشاهده بعينك؛ صار الوقوع هذا تصديقاً أيضاً..
قوله تعالى: { ولا تكونوا أول كافر به } يعني لا يليق بكم وأنتم تعلمون أنه حق أن تكونوا أول كافر به؛ ولا يعني ذلك كونوا ثاني كافر؛ والضمير في قوله تعالى: { تكونوا } ضمير جمع، و{ كافر } مفرد، فكيف يصح أن تخبر بالمفرد عن الجماعة؟
والجواب: قال المفسرون: إن تقدير الكلام: أول فريق كافر به؛ لأن الخطاب لبني إسرائيل عموماً . وهم جماعة ...
قوله تعالى: { ولا تشتروا } أي لا تأخذوا؛ { بآياتي ثمناً قليلاً } أي الجاه، والرئاسة، وما أشبه ذلك؛ لأن بني إسرائيل إنما كفروا يريدون الدنيا؛ ولو أنهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لكانوا في القمة، ولأوتوا أجرهم مرتين؛ لكن حسداً، وابتغاء بقاء الجاه، والشرف، وأنهم هم أهل كتاب حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم (، فلم يؤمنوا به..
قوله تعالى: { وإياي فاتقون } أي لا تتقوا إلا إياي؛ و "التقوى" اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ ففي الآية الأولى: { وإياي فارهبون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها عصياناً؛ وفي هذه الآية: { وإياي فاتقون } أمر بالتزام الشريعة، وألا يخالفوها لا في الأمر، ولا في النهي..
الفوائد:
.1 من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالقرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم )
.2 ومنها: أن الكافر مخاطب بالإسلام؛ وهذا مجمع عليه، لكن هل يخاطب بفروع الإسلام؟
الجواب: فيه تفصيل؛ إن أردت بالمخاطبة أنه مأمور أن يفعلها فلا؛ لأنه لا بد أن يُسلم أولاً، ثم يفعلها ثانياً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة"(1) ..
إذاً هم لا يخاطبون بالفعل . يعني لا يقال: افعلوا .؛ فلا نقول للكافر: تعال صلِّ؛ بل نأمره أولاً بالإسلام؛ وإن أردت بالمخاطبة أنهم يعاقبون عليها إذا ماتوا على الكفر فهذا صحيح؛ ولهذا يقال للمجرمين: {ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين} [المدثر: 72 . 47] يعني هذا دأبهم حتى ماتوا؛ ووجه الدلالة من الآية أنه لولا أنهم كانوا مخاطبين بالفروع لكان قولهم: {لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين} [المدثر: 43 . 44] عبثاً لا فائدة منه، ولا تأثير له..
3 ومن فوائد الآية: أن من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ففيه شبه من اليهود؛ فالذين يقرؤون العلم الشرعي من أجل الدنيا يكون فيهم شبه باليهود؛ لأن اليهود هم الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة"(1) يعنى ريحها؛ وحينئذ يشكل على كثير من الطلبة من يدخل الجامعات لنيل الشهادة: هل يكون ممن اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؟
والجواب: أن ذلك حسب النية؛ إذا كان الإنسان لا يريد الشهادة إلا أن يتوظف ويعيش، فهذا اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وأما إذا كان يريد أن يصل إلى المرتبة التي ينالها بالشهادة من أجل أن يتبوأ مكاناً ينفع به المسلمين فهذا لم يشتر بآيات الله ثمناً قليلاً؛ لأن المفاهيم الآن تغيرت، وصار الإنسان يوزن بما معه من بطاقة الشهادة..
.4 ومن فوائد الآية: أن جميع ما في الدنيا قليل، ويشهد لهذا قوله تعالى: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلًا} [النساء: 77] ..
.5 ومنها: أن شرائع الله من آياته لما تضمنته من العدل، والإصلاح . بخلاف ما يسنُّه البشر من الأنظمة والقوانين فإنه ناقص:.
أولاً: لنقص علم البشر، وعدم إحاطتهم بما يُصلح الخلق..
ثانياً: لخفاء المصالح عليهم: فقد يظن ما ليس بمصلحة مصلحة؛ وبالعكس..
ثالثاً: أننا لو قدرنا أن هذا الرجل الذي سن النظام، أو القانون من أذكى الناس، وأعلم الناس بأحوال الناس فإن علمه هذا محدود في زمانه، وفي مكانه؛ أما في زمانه فظاهر؛ لأن الأمور تتغير: قد يكون المصلحة للبشر في هذا الزمن كذا، وكذا؛ وفي زمن آخر خلافه؛ وفي المكان أيضاً قد يكون هذا التشريع الذي سنه البشر مناسباً لأحوال هؤلاء الأمة في مكانهم؛ ولكن في أمة أخرى لا يصلح؛ ولهذا ضل كثير من المسلمين مع الأسف الشديد في أخذ القوانين الغربية، أو الشرقية، وتطبيقها على مجتمع إسلامي؛ لأن الواجب تحكيم الكتاب، والسنة؛ والعجب أن بعض الناس . نسأل الله العافية . تجدهم قد مشوا على قوانين شرعت من عشرات السنين، أو مئاتها، وأهلها الذين شرعوها قد عدلوا عنها، فصار هؤلاء كالذين يمشمشون العظام بعد أن ترمى في الزبالة؛ وهذا شيء واضح: هناك قوانين شرعت لقوم كفار، ثم تغيرت الحال، فغيروها، ثم جاء بعض المسلمين إلى هذه القوانين القشور الملفوظة، وصاروا يتمشمشونها..
.6 . ومن فوائد الآية: وجوب تقوى الله عزّ وجلّ، وإفراده بالتقوى؛ لقوله تعالى: { وإياي فاتقون }..
فإن قال قائل: أليس الله يأمرنا أن نتقي أشياء أخرى، كقوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] ، وقوله تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} [آل عمران: 131] ، وقوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال: 25] ؟
فالجواب: بلى، ولكن اتقاء هذه الأمور من تقوى الله عزّ وجلّ . فلا منافاة ... *تابع*.