القرآن
)زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212)
التفسير:
{ 212 } قوله تعالى: { زين } مبني لما لم يسم فاعله؛ ونائب الفاعل { الحياة الدنيا }؛ والتزيين جعل الشيء بهياً في عين الإنسان، أو في سمعه، أو في مذاقه، أو في فكره؛ المهم أن أصل التزيين جعل الشيء بهياً جميلاً جذاباً؛ والمزَيِّن إما أن يكون الله، كما في قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم} [النمل: 4] ؛ وإما أن يكون الشيطان؛ لقوله تعالى: {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} [النمل: 24] ؛ ولا منافاة بين الأمرين؛ فإن الله زين لهم سوء أعمالهم؛ لأنهم أساءوا، كما يفيده قوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} [الصف: 5] ؛ والتزيين من الله باعتبار التقدير؛ أما الذي باشر التزيين، ووسوس لهم بذلك فهو الشيطان.
قوله تعالى: { للذين كفروا }، وفي آية أخرى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة...} [آل عمران: 14] إلخ؛ فإما أن نحمل «الناس» على { الذين كفروا }، ونقول: هو عام أريد به الخاص؛ أو نقول: إن ذكر بعض ألفاظ العام لا يقتضي التخصيص؛ فيكون {زين للناس} عموماً؛ وهنا ذكر الله تعالى تزيينه لبعض أفراد هذا الجنس وهم «الذين كفروا» .
قوله تعالى: { الحياة الدنيا } يعني ما فيها من الشهوات، والملذات؛ وقد بين الله ذلك بقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} [آل عمران: 14] ؛ و{ الدنيا } فُعلى - يعني أنه اسم تفضيل مؤنث مأخوذة من الدنو الذي هو ضد العلو -؛ ووصفت هذه الحياة بالدنيا لوجهين: الأول: دنوّ مرتبتها؛ الثاني: سبقها على الآخرة؛ فهي أدنى منها لقربها، ودنوّ منزلتها؛ أما قربها وهو سبقها على الآخرة فظاهر معلوم لكل أحد؛ وأما دنوّ مرتبتها فلقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها»(1)؛ وموضع السوط مقدار متر تقريباً.
قوله تعالى: { ويسخرون من الذين آمنوا }؛ هذه الجملة يقولون: إنها حالية؛ يعني: زينت لهم والحال أنهم يسخرون من الذين آمنوا؛ و{ يسخرون } يعني يجعلونهم محل سخرية، وازدراء، واحتقار؛ إما لِما يقومون به من الأعمال الصالحة؛ وإما لكونهم لم يؤتوا من الدنيا ما أوتي هؤلاء - على زعمهم -، كما قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون} [المطففين: 29 - 32] .
قوله تعالى: { والذين اتقوا } أي اتقوا ربهم عزّ وجلّ؛ و «التقوى» كثيراً ما ترد في القرآن الكريم؛ وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، عن علم وبصيرة.
قوله تعالى: { فوقهم يوم القيامة } أي فوقهم مرتبة، ومنزلة؛ وهذا ما أعاضهم الله به، حيث كان أولئك الذين كفروا يسخرون بهم في الدنيا، فجعلهم الله فوقهم يوم القيامة؛ وهذا كقوله تعالى: {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون} [المطففين: 34، 35] .
قوله تعالى: { والله يرزق من يشاء بغير حساب } أي يعطي من يشاء من فضله بغير محاسبة على ذلك؛ فهم يأخذون أجرهم يوم القيامة مجاناً؛ لأن العوض قد سبق؛ ويحتمل أن المعنى بغير تقدير - أي لا يقدَّر لهم ذلك -؛ بل يعطون ما تشتهيه أنفسهم، كما قال تبارك وتعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون} [الانشقاق: 25] أي غير مقطوع؛ لأن رزق الله لا نهاية له لا سيما الرزق في الآخرة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: انخداع الكافرين بالحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: { زين للذين كفروا الحياة الدنيا }.
2 - ومنها: أن الكفار عاشقون لها، وأنها هي همهم، وغرضهم؛ لأن ما زين للشخص فلا بد أن يكون الشخص مهتماً به طالباً له.
3 - ومنها: أن المؤمنين ليست الدنيا في أعينهم شيئاً؛ لقوله تعالى: { للذين كفروا }؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه في الدنيا يقول: «لبيك! إن العيش عيش الآخرة»(2) لتوجيه النفس إلى إجابة الله؛ لا إلى إجابة رغبتها، ثم يقنع النفس أيضاً: أني ما صددتك وأجبت الرب عزّ وجلّ إلا لخير؛ لأن العيش عيش الآخرة؛ والعجيب أن من طلب عيش الآخرة طاب له عيش الدنيا؛ ومن طلب عيش الدنيا ضاعت عليه الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} [الزمر: 15] ؛ هذه هي الخسارة: خسروا أنفسهم؛ لأن مآلهم النار - والعياذ بالله -؛ وأهلوهم أيضاً الذين في النار لا يهتم بعضهم ببعض؛ كل - والعياذ بالله - شقيّ فيما هو فيه؛ والحاصل أنا نقول: ينبغي لكل إنسان حين يرى في الدنيا ما يعجبه أن يقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 - ومن فوائد الآية: حقارة الدنيا؛ لوصفها بالدنيا؛ وهي من الدنوّ زمناً، ورتبة؛ زمناً؛ لأنها قبل الآخرة؛ ورتبة؛ لأنها قليل بالنسبة للآخرة؛ ولهذا لا تجد في الدنيا حال سرور إلا مشوباً بتنغيص قبله، وبعده؛ لكن هذا التنغيص بالنسبة للمؤمن خير؛ لأن له فيه أجراً، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «عجباً للمؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له؛ وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له»(1)؛ والمؤمن إذا ابتلي بالبلاء الجسمي، أو النفسي يقول: هذه نعمة من الله يكفِّر الله بها عني سيئاتي؛ فإذا أحس هذا الإحساس صار هذا الألم نعمة؛ لأن الإنسان خطّاء دائماً؛ وهذه الأشياء لا شك أنها - والحمد لله - تكفير للسيئات؛ فإن صبر واحتسب صارت رفعة للدرجات؛ فالآلام، والبلايا، والهم، والغم، تكفير بكل حال؛ ولكن مع الصبر والاحتساب يكون عملاً صالحاً يثاب عليه، ويؤجر عليه.
5 - ومن فوائد الآية: أن لا نركن إلى هذه الحياة، ونطمئن إليها؛ بل نجعل همتنا منصرفة إلى الدار الآخرة؛ وهذا لا ينافي أن نتمتع وننعم بما أحل الله لنا مع الاستقامة في ديننا.
6 - ومنها: أن الكفار لا يزالون يسلطون أنفسهم على المؤمنين؛ لقوله تعالى: { ويسخرون } بالفعل المضارع؛ لأن المضارع يدل على الاستمرار، والحال، والاستقبال؛ فهم دائماً في سخرية من الذين آمنوا.
7 - ومنها: أن العبرة بكمال النهاية؛ لقوله تعالى: { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة }.
8 - ومنها: تثبيت المؤمنين، وترسيخ أقدامهم في إيمانهم؛ لقوله تعالى: { ويسخرون من الذين آمنوا } يعني: اصبروا؛ فإن هذا دأبهم وشأنهم أن يسخروا منكم؛ فما دمتم تعرفون أن هذه عادة الكفار فإن الإنسان يصبر؛ إذا عرف الإنسان أن هذا شيء لا بد منه يكون مستعداً له، وقابلاً له، وغير متأثر.
9 - ومنها: البشرى للمؤمنين الذين اتقوا أنهم فوق الكفار يوم القيامة.
10 - ومنها: إثبات أفعال الله سبحانه وتعالى المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { والله يرزق من يشاء } فتسمى هذه الأفعال في كتب العقائد الأفعال الاختيارية - يعني المتعلقة بمشيئة الله -؛ وهي ثابتة لله عزّ وجلّ على وجه الحقيقة؛ وأمثلتها في القرآن كثيرة.
11 - ومنها: إثبات المشيئة لله؛ وكل ما في الكون واقع بمشيئة الله؛ والمشيئة تختلف عن الإرادة بأنها لا تنقسم إلى كونية، وشرعية؛ بل هي كونية محضة؛ فما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن سواء كان مما يحبه، أو مما لا يحبه؛ قوله تعالى: {من يشأ الله يضلله} [الأنعام: 39] ؛ فهذا لا يحبه؛ وقوله تعالى: {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] : فهذا يحبه؛ وكل فعل علقه الله بالمشيئة فإنه مقرون بالحكمة؛ ودليل ذلك سمعي، وعقلي؛ فمن السمع: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 3]؛ فدل هذا على أن مشيئته مقرونة بالحكمة؛ وأما العقل فلأن الله سبحانه وتعالى سمى نفسه بأنه «حكيم» ؛ والحكيم لا يصدر منه شيء إلا وهو موافق للحكمة.
12 - ومن فوائد الآية: كثرة رزق الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بغير حساب } بمعنى أنه يعطي عطاءً لا يبلغه الحساب، كما قال تعالى: {والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [البقرة: 261] .
القرآن
)كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)
التفسير:
{ 213 } قوله تعالى: { أمة } خبر { كان }؛ و{ مبشرين } حال من المفعول به؛ وهو { النبيين }.
قوله تعالى: { كان الناس أمة واحدة }؛ { أمة } هنا بمعنى طائفة؛ و{ كان } أي فيما مضى من قبل أن تبعث الرسل إليهم كانوا طائفة واحدة على دين واحد؛ وهذا الدين الواحد هو دين الإسلام؛ لأن آدم نبي موحًى إليه بشريعة يتعبد بها؛ فصار يتعبد بها، واتبعه أبناؤه على ذلك؛ ثم بعد مدة من الزمن كثر الناس، واختلفت الأهواء، فاختلفوا؛ فحينئذ صاروا بحاجة إلى بعث الرسل؛ فبعث الله الرسل مبشرين، ومنذرين.. إلخ.
قوله تعالى: { فبعث الله النبيين }: الفاء هنا عاطفة؛ والمعطوف عليه محذوف معلوم من السياق اللاحق، كقوله تعالى: { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } [يونس: 19] ؛ وعلى كل حال لا بد أن يكون المعنى أنهم اختلفوا؛ فبُعث الرسل؛ ونظير هذا من المحذوف الذي يعينه السياق قوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة} [البقرة: 185] : فالمريض والمسافر ليس عليهما العدة لو صاما؛ إذاً لا بد أن نقدر: فأفطر فعليه عدة؛ و «بعث» بمعنى أرسل، كقوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} [الحديد: 25] ؛ والمراد بـ{ النبيين } هنا الرسل؛ لقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين }.
وقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين }: هذان حالان؛ لأن الرسل يأتون بالبشارة والنذارة في آن واحد؛ يعني: ليس بعض الرسل مبشراً، والآخر منذراً؛ بل كل واحد جامع بين التبشير، والإنذار؛ أي مبشرين بثواب الله عزّ وجلّ لمن استحقه؛ ومنذرين بعقاب الله من خالف أمره؛ قال الله - تبارك وتعالى -: {لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً} [الكهف: 2] ؛ فهنا بينت الآية المبشَّر، والمبشَّر به؛ فالمبشَّر: المؤمنون الذين يعملون الصالحات؛ والمبشَّر به: أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً؛ {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} [الكهف: 4، 5] ؛ فالمنذَر: هم الكفار؛ والمنذر به: العذاب.
قوله تعالى: { وأنزل معهم الكتاب }؛ المعية هنا للمصاحبة؛ والمعية كلما أطلقت فهي للمصاحبة؛ لكنها في كل موضع بحسبه؛ و{ الكتاب } هنا مفرد يراد به الجنس؛ فيعم كل كتاب؛ إذ لكل رسول كتاب؛ وقد زعم بعض المفسرين أن قوله تعالى: { أنزل معهم } أي مع بعضهم؛ وقال: ليس كل الرسل معهم كتاب؛ ولكن هذا خلاف ظاهر القرآن؛ وقد قال الله تعالى في سورة الحديد: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [الحديد: 25] ؛ فظاهر الآية أن مع كل رسول كتاباً؛ وهذا هو مقتضى الحال حتى يكون هذا الكتاب الذي معه يبلغه إلى الناس؛ ولا يرد على هذا أن بعض الشرائع تتفق في مشروعاتها - وحتى في منهاجها -، ولا يكون فيها إلا اختلاف يسير، كما في شريعة التوراة والإنجيل؛ فإن هذا لا يضر؛ المهم أن كل رسول في ظاهر القرآن معه كتاب؛ و «كتاب» بمعنى مكتوب؛ فمنه ما نعلم أن الله كتبه؛ ومنه ما لا نعلم أن الله كتبه لكن تكلم به.
قوله تعالى: { بالحق } الباء للمصاحبة متعلقة بـ{ أنزل } أي ما جاءت به الكتب فهو حق؛ ويحتمل أن المعنى أن الكتب نفسها حق من عند الله؛ وليست مفتراة عليه؛ وكلا المعنيين صحيح؛ فهي حق من عند الله؛ وما جاءت به من الشرائع، والأخبار فهو حق؛ و «الحق» أي الثابت النافع؛ وضده الباطل الذي يزول، ولا ينفع؛ والحق الثابت في الكتب المنزلة من عند الله: بالنسبة للأخبار هو الصدق المطابق للواقع؛ وبالنسبة للأحكام فإنه العدل المصلح للخلق في معاشهم، ومعادهم، كما قال الله - تبارك وتعالى -: {وتمَّت كلمة ربك صدقاً وعدلًا } [الأنعام: 115] .
قوله تعالى: { ليحكم } الضمير يعود على الكتاب؛ أو على النبيين؛ أو على الله؛ يعني: ليحكم هو - أي الله -؛ أو ليحكم الكتاب باعتبار أنه وسيلة الحكم؛ أو ليحكم النبي باعتبار أنه الذي معه الكتاب؛ ولكن هنا إشكال: وهو أن { ليحكم } مفرد؛ و{ النبيين } جمع؛ لكن قالوا: لما كان النبيون جمعاً؛ والجمع له أفراد، صار { ليحكم } أي كل فرد منهم.
قوله تعالى: { بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ فبعضهم قال: الحق كذا؛ وبعضهم قال: الحق كذا؛ خصمان لا بد بينهما من حَكَم؛ وهو ما جاءت به الرسل؛ ولهذا قال تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ و «ما» اسم موصول؛ واسم الموصول من ألفاظ العموم؛ فيشمل كل ما اختلف فيه الناس من الدقيق والجليل، في مسائل الدين والدنيا.
قوله تعالى: { وما اختلف فيه } أي في الكتاب؛ { إلا الذين أوتوه }، { الذين } فاعل { اختلف }؛ لأن الاستثناء مفرغ. { اوتوه } أي أعطوه؛ والمراد بهم هنا الأمم؛ { من بعد ما جاءتهم } متعلقة بقوله تعالى: { وما اختلف } أي وما اختلف فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً إلا الذين أوتوه؛ أي من بعد ما جاءت هذه الأمم الذين اختلفوا؛ { البينات } أي الآيات البينات الدالة على صدق الرسل؛ وهذا كقوله تعالى: { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [البينة: 4] .
قوله تعالى: { بغياً بينهم } مفعول لأجله عامله { اختلف }؛ و «البغي» هو العدوان.
قوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا }: المراد بالهداية هنا: هداية التوفيق المسبوقة بهداية العلم، والإرشاد؛ لأن الجميع قد جاءتهم الرسل بالكتب، وبينت لهم؛ لكن لم يوفق منهم إلا من هداهم الله؛ و «الإيمان» في اللغة: التصديق؛ ولكنه في الشرع التصديق المستلزم للقبول، والإذعان؛ وليس مجرد التصديق إيماناً؛ إذ لو كان مجرد التصديق إيماناً لكان أبو طالب مؤمناً لأنه كان يقر بأن محمداً (ص) صادق، ويقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل لكنه لم يَقبل، ولم يُذعن، فلم يكن مؤمناً.
قوله تعالى: { لما اختلفوا فيه } أي للذي اختلفوا فيه؛ والضمير في قوله تعالى: { اختلفوا } يعود إلى الذين أوتوا الكتاب؛ وعلى هذا فيكون قوله تعالى: { من الحق } في موضع نصب على الحال بياناً لـ «ما» التي هي اسم موصول؛ ويبين أن الجار والمجرور بيان لها أنك لو قلت: «فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه» يستقيم المعنى؛ ومن هنا نعرف أن { مِن } في قوله تعالى: { من الحق } ليس للتبعيض؛ ولكنها لبيان الإبهام الكائن في «ما» الموصولة؛ و{ بإذنه } أي بمشيئته، وإرادته؛ ولكنه سبحانه وتعالى لا يشاء شيئاً إلا لحكمة.
قوله تعالى: { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }: الهداية هنا بمعنى الدلالة، والتوفيق؛ فهي شاملة للنوعين؛ وقوله تعالى: { من يشاء } يعني ممن يستحق الهداية؛ لأن كل شيء علق بمشيئة الله فإنه تابع لحكمته؛ فهو سبحانه وتعالى يهدي من يشاء إذا كان أهلاً للهداية؛ كما أنه سبحانه وتعالى يجعل الرسالة في أهلها فإنه يجعل الهداية في أهلها، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] ، كذلك هو أعلم حيث يجعل هدايته.
وقوله تعالى: { الصراط } فيها قراءتان: بالصاد، والسين؛ وهما سبعيتان؛ و{ الصراط } في اللغة هو الطريق الواسع؛ وسمي صراطاً - وقد يقال -: «زراطاً» بالزاي؛ لأنه يبتلع سالكه بسرعة دون ازدحام، ولا مشقة، كما أنك إذا بلعت اللقمة بسرعة يقال: «زرطها»؛ وقال بعضهم: هو الطريق الواسع المستقيم؛ لأن المعوج لا يحصل فيه العبور بسهولة؛ وجعل قوله تعالى: { مستقيم } صفة مؤكدة؛ وعلى كل حال «الصراط المستقيم» الذي ذكره عزّ وجلّ بينه سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم ولا الضالين }؛ فهو الصراط الذي يجمع بين العلم، والعمل؛ وإن شئت فقل: بين الهدى، والرشد؛ بخلاف الطريق غير المستقيم الذي يحرم فيه السالك الهدى، كطريق النصارى؛ أو يحرم فيه الرشد، كطريق اليهود.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن دين الإسلام هو الفطرة؛ لقوله تعالى: { كان الناس أمة واحدة }؛ فقبل أن يحصل ما يفتنهم كانوا على دين واحد - دين الإسلام -.
2 - ومنها: الحكمة في إرسال الرسل؛ وهي التبشير، والإنذار؛ لقوله تعالى: { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين }.
3 - ومنها: أن النبوة لا تنال بالكسب؛ وإنما هي فضل من الله؛ لقوله تعالى: { فبعث الله النبيين }.
4 - ومنها: أن من يوصف بالتبشير إنما هم الرسل، وأتباعهم؛ وأما ما تسمى به دعاة النصرانية بكونهم مبشرين فهم بذلك كاذبون؛ إلا أن يراد أنهم مبشرون بالعذاب الأليم، كما قال تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } [آل عمران: 21] ؛ وأحق وصف يوصف به هؤلاء الدعاة أن يوصفوا بالمضللين، أو المنَصِّرين؛ وما نظير ذلك إلا نظير من اغتر بتسمية النصارى بالمسيحيين؛ لأن لازم ذلك أنك أقررت أنهم يتبعون المسيح، كما إذا قلت: «فلان تميمي»؛ إذاً هو من بني تميم؛ والمسيح ابن مريم يتبرأ من دينهم الذي هم عليه الآن كما قال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق...} [المائدة: 116] إلى قوله تعالى: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم...} [المائدة: 117] الآيتين؛ ولأنهم ردوا بشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكفروا بها؛ فكيف تصح نسبتهم إليه؟!! والحاصل أنه ينبغي للمؤمن أن يكون حذراً يقظاً لا يغتر بخداع المخادعين، فيجعل لهم من الأسماء، والألقاب ما لا يستحقون.
5 - ومنها: أن الشرائع التي جاءت بها الرسل تنقسم إلى أوامر، ونواهي؛ لقوله تعالى: { مبشرين ومنذرين}؛ لأن الإنذار: عن الوقوع في المخالفة؛ والبشارة: لمن امتثل، وأطاع.
6 - ومن فوائد الآية: أن الكتب نازلة من عند الله؛ لقوله تعالى: { وأنزل معهم الكتاب }.
7 - ومنها: علو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كانت الكتب نازلة من عنده لزم أن يكون هو عالياً؛ لأن النزول يكون من فوق إلى تحت.
8 - ومنها: أن الواجب الرجوع إلى الكتب السماوية عند النزاع؛ لقوله تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وإلا لضاعت فائدة الكتب المنزلة؛ ومن المعلوم أن الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الكتاب، ومهيمن عليه؛ فيجب الرجوع إليه وحده؛ لأن ما سبقه منسوخ به.
9 - ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالعباد، حيث لم يكلهم إلى عقولهم؛ لأنهم لو وكِلوا إلى عقولهم لفسدت السموات والأرض، كما قال تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71] ؛ فكل إنسان يقول: العقل عندي؛ والصواب معي؛ ولكن الله تعالى بعث النبيين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
10 - ومنها: أن الناس لو رجعوا إلى الكتاب المنزل عليهم لحصل بينهم الاجتماع، والائتلاف.
11 - ومنها: أن الخلاف بين الناس كائن لا محالة؛ لقوله تعالى: { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه }؛ ويدل على ذلك قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 118، 119] ، وقوله تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] ؛ ولولا هذا ما قامت الدنيا؛ ولا الدين؛ ولا قام الجهاد؛ ولا قام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ ولم يمتحن الصادق من الكاذب.
12 - ومن فوائد الآية: أن أولئك الذين اختلفوا في الشرع كانوا قد أوتوا الكتاب؛ لقوله تعالى: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم }.
ويتفرع على هذه الفائدة أن الحجة قد قامت عليهم؛ لقوله تعالى: { إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات
13 - ومن فوائد الآية: كمال التوبيخ واللوم على هؤلاء ما هو ظاهر؛ لأنه كان الواجب، والأحرى بهؤلاء الذين أوتوه ألا يختلفوا فيه؛ بل يتفقوا عليه؛ لكنهم اختلفوا فيه مع تفضل الله عليهم بإيتائه؛ لقوله تعالى: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه }.
14 - ومنها: بيان ضعف ما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة»(1)؛ فالاختلاف ليس برحمة؛ ولهذا قال تعالى: {ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك} [هود: 118، 119] ؛ نعم، دخول المختلفين تحت عفو الله رحمة إذا اجتهدوا، حيث إن الله عزّ وجلّ لم يعذب المخطئ؛ فالمختلفون تسعهم الرحمة إذا كانوا مجتهدين؛ لأن من اجتهد فأصاب فله أجران؛ ومن اجتهد فأخطأ فله أجر؛ أما أن نقول: «إن الخلاف بين الأمة رحمة» فلا.
15 - ومنها: أن فعل الذين اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات إنما كان ذلك بغياً منهم؛ لقوله تعالى: { بغياً بينهم }؛ فالذين اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى إنما كان اختلافهم بغياً وعدواناً؛ لأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم؛ وكذلك الذين اختلفوا في محمد صلى الله عليه وسلم من قريش كان كفرهم بغياً وعدواناً.
16 - ومنها: أن كل مخالف للحق بعد ما تبين له فهو باغٍ ضال - وإن قال: أنا لا أريد البغي، ولا أريد العدوان -.
17 - ومنها: أنه متى تبين الحق وجب اتباعه - ولو كان قد قال بخلافه من قبل -؛ فيدور مع الحق حيث دار.
18 - ومنها: رحمة الله عزّ وجلّ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }.
19 - ومنها: أن الإيمان سبب للهداية للحق.
20 - ومنها: أنه كلما قوي إيمان العبد كان أقرب إلى إصابة الحق؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا... }؛ لأن الله علق الهداية على وصف الإيمان؛ وما علق على وصف فإنه يقوى بقوته، ويضعف بضعفه؛ ولهذا كان الصحابة أقرب إلى الحق ممن بعدهم لا في التفسير، ولا في أحكام أفعال المكلفين، ولا في العقائد أيضاً؛ لأن الهداية للحق علقت بالإيمان؛ ولا شك أن الصحابة أقوى الناس إيماناً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»(1)، ولهذا ذهب الإمام أحمد - رحمه الله - إلى أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف النص؛ فإن خالف نصاً فليس بحجة؛ أو يخالفه صحابي آخر؛ فإن خالفه صحابي آخر نظر في الترجيح أيهما أقرب إلى الصواب.
21 - ومن فوائد الآية: أنه يجب على المرء الذي هداه الله ألا يعجب بنفسه، وألا يظن أن ذلك من حوله، وقوته؛ لقوله تعالى: { فهدى الله }، ثم قال تعالى: { بإذنه } أي أمره الكوني القدري؛ ولولا ذلك لكانوا مثل هؤلاء الذين ردوا الحق بغياً وعدواناً.
22 - ومنها: الإيماء إلى أنه ينبغي للإنسان أن يسأل الهداية من الله؛ لقوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا }.
23 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله؛ لقوله تعالى: { فهدى الله }، وكذلك لقوله تعالى: { بإذنه }.
24 - ومنها: أن أفعال العباد واقعة بإرادة الله وخلقه.
25 - ومنها: أن إذن الله نوعان: كوني، وشرعي؛ وسبق بيانهما في قوله تعالى: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله} [البقرة: 97] .
26 - ومنها: إثبات مشيئة الله في أفعال العباد؛ لقوله تعالى: { والله يهدي من يشاء }.
27 - ومنها: أن كل ما سوى الشرع فهو طريق معوج؛ لقوله تعالى: { إلى صراط مستقيم }.
28 - ومنها: أن الشرع لا ضيق فيه، ولا اعوجاج، ولا تعب؛ لأنه صراط واسع، ومستقيم.
29 - ومنها: الإشارة إلى الطرق الثلاثة التي ذكرها الله تعالى في سورة الفاتحة؛ وهي طريق الذين أنعم الله عليهم؛ وطريق المغضوب عليهم؛ وطريق الضالين؛ الذين أنعم الله عليهم: هم الرسل، وأتباعهم؛ والمغضوب عليهم: اليهود، وأمثالهم؛ والضالون: النصارى، وأمثالهم؛ وهذا بالنسبة للنصارى قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أما لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذبوه صاروا من المغضوب عليهم كاليهود بالنسبة لدين المسيح؛ لأن اليهود كانوا مغضوباً عليهم، حيث جاءهم عيسى فكذبوه بعد أن علموا الحق؛ وبعد ما بعث عيسى واتبعه النصارى وطال الأمد، ابتدعوا ما ابتدعوا من الدين، فضلُّوا؛ فصاروا ضالين؛ لكن لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه، وأنكروه؛ فصاروا من المغضوب عليهم؛ لأنهم علموا الحق، وخالفوه.
القرآن
)أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214)
التفسير:
{ 214 } قوله تعالى: { أم حسبتم }؛ { أم } من حروف العطف؛ وهي هنا منقطعة بمعنى «بل»؛ يقدر بعده همزة الاستفهام؛ أي: بل أحسبتم؛ فهي إذاً للإضراب الانتقالي؛ وهو الانتقال من كلام إلى آخر؛ و{ حسبتم } بمعنى ظننتم؛ وعلى هذا فتنصب المفعولين؛ قال بعض النحويين: إن { أنْ }، وما دخلت عليه تسد مسد المفعولين؛ وقال آخرون: بل إن { أنْ }، وما دخلت عليه تسد مسد المفعول الأول؛ ويكون المفعول الثاني محذوفاً دل عليه السياق؛ فإذا قلنا بالأول فالأمر واضح لا يحتاج إلى تقدير شيء آخر؛ وإذا قلنا بالثاني يكون التقدير: أم حسبتم دخولكم الجنة حاصلاً...
والخطاب في قوله تعالى: { أم حسبتم } يعود على كل من يتوجه إليه الخطاب: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى الصحابة، وإلى من بعدهم.
قوله تعالى: { أن تدخلوا الجنة }؛ «الجنة» في اللغة: البستان كثير الأشجار؛ وفي الشرع: هي الدار التي أعدها الله للمتقين فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قوله تعالى: { ولما يأتكم }؛ { لما } حرف نفي، وجزم، وقلب؛ والفرق بينها وبين «لم» : أن «لما» للنفي مع توقع وقوع المنفي؛ و «لم» للنفي دون ترقب وقوعه؛ مثاله: إذا قلت: «لم يقم زيد» فقد نفيت قيامه من غير ترقب لوقوعه، ولو قلت: «لما يقم زيد» فقد نفيت قيامه مع ترقب وقوعه؛ ومنه قوله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} [ص~: 8] .
وقوله تعالى: { مثل الذين خلوا من قبلكم } أي صفة ما وقع لهم؛ و«المثل» يكون بمعنى الصفة، مثل قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} [الرعد: 35] أي صفتها كذا، وكذا؛ ويكون بمعنى الشبه، كقوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 17] أي شبههم كشبه الذي استوقد ناراً؛ و{ خلوا } بمعنى مضوا؛ فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: { من قبلكم } إذا كانت { خلوا } بمعنى مضوا؟ نقول: هذا من باب التوكيد؛ والتوكيد قد يأتي بالمعنى مع اختلاف اللفظ، كما في قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} [البقرة: 60] ؛ فإن الإفساد هو العثو؛ ومع ذلك جاء حالاً من الواو؛ فهو مؤكد لعامله.
ولما كانت { مثل } مبهمة بيَّنها الله تعالى بقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا }؛ و«المس» هو مباشرة الشيء؛ تقول: مسسته بيدي، ومس ثوبه الأرض؛ فـ{ مستهم } يعني أصابتهم إصابة مباشرة؛ وهذه الجملة استئنافية لبيان المثل الذي ذكر في قوله تعالى: { مثل الذين خلوا من قبلكم }.
وقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا } هذه ثلاثة أشياء؛ { البأساء }: قالوا: إنها شدة الفقر مأخوذة من البؤس؛ وهو الفقر الشديد؛ و{ الضراء }: قالوا: إنها المرض، والمصائب البدنية؛ و{ زلزلوا }: «الزلزلة» هنا ليست زلزلة الأرض؛ لكنها زلزلة القلوب بالمخاوف، والقلق، والفتن العظيمة، والشبهات، والشهوات؛ فتكون الإصابات هنا في ثلاثة مواضع: في المال؛ والبدن؛ والنفس.
قوله تعالى: { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله }؛ في { يقول } قراءتان: النصب، والرفع؛ أما على قراءة الرفع فعلى إلغاء { حتى }؛ وأما على قراءة النصب فعلى إعمالها؛ وهي لا تعمل إلا في المستقبل؛ فإن قيل: ما وجه نصبها وهي حكاية عن شيء مضى؟
فالجواب: ما قاله المعربون: أنه نصب على حكاية الحال؛ وإذا قدرنا حكاية الحال الماضية صار {يقول } مستقبلاً بالنسبة لقوله تعالى: { مستهم البأساء والضراء وزلزلوا }؛ و{ الرسول }: المراد به الجنس - أي حتى يقول الرسول من هؤلاء الذين زلزلوا، ومستهم البأساء، والضراء -؛ و{ معه } المصاحبة هنا في القول، والإيمان - أي يقولون معه وهم مؤمنون به -؛ { متى نصر الله }: الجملة مقول القول؛ والاستفهام فيها للاستعجال - أي استعجال النصر -؛ وليس للشك فيه.
قوله تعالى: { ألا إن نصر الله قريب }: يحتمل أن يكون هذا جواباً لقول الرسول، والذين آمنوا معه: متى نصر الله؛ ويحتمل أن يكون جملة استئنافية يخبر الله بها خبراً مؤكداً بمؤكدين: { ألا }؛ و{ إن }؛ وكلاهما صحيح.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: عناية الله عزّ وجلّ بهذه الأمة، حيث يسليها بما وقع بغيرها؛ لقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم... } إلخ؛ وهكذا كما جاء في القرآن جاء في السنة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أصحابه يشكون إليه بمكة فأخبرهم: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه، وعظمه؛ ما يصده ذلك عن دينه»(1) تثبيتاً للمؤمنين.
2 - ومن فوائد الآية: إثبات الجنة.
3 - ومنها: أن الإيمان ليس بالتمني، ولا بالتحلي؛ بل لا بد من نية صالحة، وصبر على ما يناله المؤمن من أذًى في الله عزّ وجلّ.
4 - ومنها: حكمة الله عزّ وجلّ، حيث يبتلي المؤمنين بمثل هذه المصائب العظيمة امتحاناً حتى يتبين الصادق من غيره، كما قال تعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} [محمد: 31] ؛ فلا يُعرف زيف الذهب إلا إذا أذبناه بالنار؛ ولا يُعرف طيب العود إلا إذا أحرقناه بالنار؛ أيضاً لا يعرف المؤمن إلا بالابتلاء والامتحان؛ فعليك يا أخي بالصبر؛ قد تؤذى على دينك؛ قد يستهزأ بك؛ وربما تلاحَظ؛ وربما تراقَب؛ ولكن اصبر، واصدق، وانظر إلى ما حصل من أولي العزم من الرسل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ساجداً لله في آمن بقعة على الأرض - وهو المسجد الحرام -؛ فيأتي طغاة البشر بفرث الناقة، ودمها، وسلاها، يضعونها عليه وهو ساجد؛ هذا أمر عظيم لا يصبر عليه إلا أولو العزم من الرسل؛ ويبقى ساجداً حتى تأتي ابنته فاطمة وهي جويرية - أي صغيرة - تزيله عن ظهره فيبقى القوم يضحكون، ويقهقهون(1)؛ فاصبر، واحتسب؛ واعلم أنه مهما كان الأمر من الإيذاء فإن غاية ذلك الموت؛ وإذا مت على الصبر لله عزّ وجلّ انتقلت من دار إلى خير منها.
5 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان ألا يسأل النصر إلا من القادر عليه - وهو الله عزّ وجلّ -؛ لقوله تعالى: { متى نصر الله }.
6 - ومنها: أن المؤمنين بالرسل منهاجهم منهاج الرسل يقولون ما قالوا؛ لقوله تعالى: { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله }؛ يتفقون على هذه الكلمة استعجالاً للنصر.
7 - ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { ألا إن نصر الله قريب }.
8 - ومنها: حكمة الله، حيث يمنع النصر لفترة معينة من الزمن - مع أنه قريب -.
9 - ومنها: أن الصبر على البلاء في ذات الله عزّ وجلّ من أسباب دخول الجنة؛ لأن معنى الآية: اصبروا حتى تدخلوا الجنة.
10 - ومنها: تبشير المؤمنين بالنصر ليتقووا على الاستمرار في الجهاد ترقباً للنصر المبشرين به.
11 - ومنها: الإشارة إلى ما جاء في الحديث الصحيح: «حفت الجنة بالمكاره»(2)؛ لأن هذه مكاره؛ ولكنها هي الطريق إلى الجنة.
12 - ومنها: أنه لا وصول إلى الكمال إلا بعد تجرع كأس الصبر؛ لقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم... } إلخ.
القرآن
)يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:215)
التفسير:
{ 215 } قوله تعالى: { يسألونك } أي الصحابة رضي الله عنهم؛ والخطاب للنبي (عليه السلام.
قوله تعالى: { ماذا ينفقون }؛ { ما } اسم استفهام مبتدأ؛ و{ ذا } اسم موصول خبره؛ وجملة: { ينفقون } صلة الموصول؛ والعائد محذوف؛ والتقدير: ماذا ينفقونه؛ وهذا إذا لم تُلْغَ { ذا }؛ فإذا ألغيت صار الإعراب كالتالي: { ماذا } اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول مقدم لقوله تعالى: { ينفقون }؛ و{ينفقون } فعل مضارع؛ والفاعل الواو؛ والمفعول ما سبق؛ والمعنى لا يختلف على الإعرابين؛ والسؤال هنا عن المنفَق؛ لا على المنفق عليه؛ أي يسألونك ماذا ينفقون من أموالهم جنساً، وقدراً، وكيفاً.
قوله تعالى: { قل ما أنفقتم من خير فللوالدين }؛ { ما } شرطية؛ فعل الشرط: { أنفقتم }؛ وجوابه؛ {فللوالدين }؛ قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن الله إنما أجابهم عن محل الإنفاق - لا عن { ماذا ينفقون } -؛ لكن من تأمل الآية تبين له أن الله أجابهم عما ينفقون؛ وعما ينفقون فيه؛ لقوله تعالى: { ما أنفقتم من خير }؛ ففي هذا بيان ما ينفقون؛ وفي قوله تعالى: { فللوالدين... } بيان ما ينفقون فيه.
وقوله تعالى: { فللوالدين } أي الأب، والأم - وإن علوا -؛ {والأقربين } جمع أقرب؛ وهو من كان أدنى من غيره إلى المنفِق؛ فأخ، وابن أخ: فالأقرب الأخ؛ وعم، وابن عم: فالأقرب العم؛ وابن أخ، وعم: فالأقرب ابن الأخ؛ ولهذا اتفق أهل العلم على أنه إذا اجتمع عم، وابن أخ في مسألة فرضية فيقدم ابن الأخ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فما بقي فلأولى رجل ذكر»(1)؛ والقرابة لهم حق؛ لأنهم من الأرحام؛ لكن الأقرب أولى من الأبعد؛ ويدخل في { الأقربين } الأولاد من بنين، وبنات - وإن نزلوا -.
قوله تعالى: { واليتامى } جمع يتيم؛ وهو مشتق من اليتم، والانفراد؛ والمراد به من مات أبوه ولم يبلغ؛ وإنما أوصى الله به في كثير من الآيات جبراً لما حصل له من الانكسار بموت الوالد مع صغره؛ فهذا إذا بلغ استقل بنفسه، فلم يكن يتيماً.
قوله تعالى: { والمساكين } جمع مسكين؛ وهو المعدم الذي ليس عنده مال؛ سمي كذلك؛ لأن الفقر قد أسكنه، وأذله؛ والمسكين هنا يدخل فيه الفقير؛ لأنه إذا ذكر المسكين وحده دخل فيه الفقير؛ وإذا ذكر الفقير وحده دخل فيه المسكين؛ وإذا اجتمعا صار الفقير أشد حاجة من المسكين؛ فيفترقان؛ وتجد في القرآن أن الفقير يأتي وحده، والمسكين يأتي وحده؛ والفقير، والمسكين يجتمعان؛ ففي قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} [الحشر: 8] يشمل المساكين؛ وفي قوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32] يشمل المساكين؛ وفي قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} [المائدة: 89] يدخل فيه الفقير؛ وكذلك هنا؛ وفي قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} [التوبة: 60] ذكر الصنفين جميعاً.
قوله تعالى: { وابن السبيل } هو المسافر الذي انقطع به السفر؛ والسبيل هو الطريق؛ وسمي ابناً للسبيل؛ لأنه ملازم له - أي للسبيل -؛ وكل ما لازم شيئاً فهو ابن له، كما يقال: «ابن الماء» لطير الماء؛ لأنه ملازم له؛ وإنما ذكر الله ابن السبيل؛ لأنه غريب في مكانه: قد يحتاج ولا يُعلَم عن حاجته.
قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم } هذه الجملة شاملة لكل خير: هم سألوا ماذا ينفقون من أجل الخير؛ فعمم الله؛ والجملة شرطية: فعل الشرط فيها: { تفعلوا }؛ وجوابه جملة: { فإن الله به عليم }؛ والغرض منها بيان إحاطة الله علماً بكل ما يفعلونه من خير، فيجازيهم عليه.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال عن العلم؛ وقد وقع سؤالهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في القرآن أكثر من اثنتي عشرة مرة.
2 - ومنها: أن من حسن الإجابة أن يزيد المسؤول على ما يقتضيه السؤال إذا دعت الحاجة إليه؛ فإنهم سألوا عما ينفقون، وكان الجواب عما ينفقون، وفيما ينفقون؛ ونظير ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء بماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»(2).
3 - ومنها: فضل الإنفاق على الوالدين، والأقربين؛ وأنه مقدم على الفقراء، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم؛ ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم.
4 - ومنها: أن لليتامى حقاً في الإنفاق - ولو كانوا أغنياء -؛ لأنه خصهم بالذكر، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ فإن كانوا يتامى، ومساكين اجتمع فيهم استحقاقان: اليتم، والمسكنة؛ وإذا كانوا أقارب، ويتامى، ومساكين اجتمع فيهم ثلاثة استحقاقات؛ وإذا كانوا مع ذلك أبناء سبيل اجتمع فيهم أربعة استحقاقات.
5 - ومنها: عموم علم الله؛ لقوله تعالى: { وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم }.
6 - ومنها: أن كل فعل خير سواء كان إنفاقاً مالياً، أو عملاً بدنياً، أو تعليم علم، أو جهاداً في سبيل الله، أو غير ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وسيجازي عليه؛ لأن { من خير } نكرة في سياق الشرط؛ فتكون للعموم.
7 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان ألا يحقر من المعروف شيئاً؛ لقوله تعالى: { وما تفعلوا من خير }؛ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»(3).
مسألة :
هل يعطى ابن السبيل إذا سأل، أو يعطى وإن لم يسأل؟ هذا على أوجه:
1 - أن تعلم أنه لا يحتاج، كما لو كان غنياً تعرف أنه غني، ومر بالبلد عابراً؛ فهذا لا حاجة إلى أن تعطيه؛ حتى لو أعطيته لرأى في ذلك نقيصة له.
2 - أن يغلب على ظنك أنه محتاج؛ ولكنه متعفف يستحيي أن يسأل؛ فالأولى إعطاؤه - وإن لم يسأل -؛ بل قد يجب.
3 - أن تشك في أمره هل يحتاج أم لا؛ فأعرض عليه الإيتاء؛ ثم اعمل بما يقتضيه الحال.
شكرا لكم.