فضيلة العلامة عبد المحسن بن حمد العباد : هذه طائفة من أقوال المنصفين في معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنه - . قال الموفق ابن قدامة المقدسي في " لمعة الاعتقاد " : ( ومعاوية خال المؤمنين ، وكاتب وحي الله ، وأحد خلفاء المسلمين - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم - ) .
وقال شارح " الطحاوية " : ( وأول ملوك المسلمين معاوية ، وهو خير ملوك المسلمين ) .
وقال عنه الذهبي في " سير أعلام النبلاء " : ( أمير المؤمنين ، ملك الإسلام ) .
وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال : ( الخلفاء : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي . فقيل له : فمعاوية !؟ قال : لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي ، ورحم الله معاوية ) .
وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قال : ( رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، وأبو بكر ، وعمر جالسان عنده ، فسلمت عليه وجلست ، فبينا أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية ، فأدخلا بيتًا وأجيف الباب وأنا أنظر ، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول : قُضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول : غفر لي ورب الكعبة ) .
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل : إني أبغض معاوية . فقال له : ( ولِمَ !؟ ) قال : لأنه قاتل عليًا . فقال له أبو زرعة : ( ويحك ! إن رب معاوية رب رحيم ، وخصم معاوية خصم كريم ، فإيش دخولك أنت بينهما - رضي الله تعالى عنهما - ) .
وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . [ البقرة : 134 ] ، وكذا قال غير واحد من السلف .
وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال : ( ما أقول في رجل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سمع الله لمن حمده ، فقال معاوية خلفه : ربنا ولك والحمد ) .
ومعلوم أن ( سمع ) بمعنى : استجاب ، ومعاوية حصل له هذا الفضل ، وهو الصلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يصلي : ( سمع الله لمن حمده ) ، ومعاوية - رضي الله عنه - ممن كان يصلي وراءه ويقول : ( ربنا ولك الحمد ) . فقيل له - أي : ابن المبارك - : ( أيهما أفضل : هو أو عمر بن عبد العزيز !؟ فقال : لتراب في منخري معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز ) .
وسئل المعافى بن عمران : ( أيهما أفضل : معاوية أو عمر بن عبد العزيز !؟ فغضب ، وقال للسائل : أتجعل رجلاً من الصحابة مثل رجل من التابعين !؟ معاوية صاحبه وصهره ، وكاتبه وأمينه على وحي الله ) .
وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له : رافضي !؟ فقال : ( إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء ، ما انتقص أحد أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء ) .
وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية ؛ فإنه ضربه أسواطًا .
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي : ( معاوية ستر لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه ) .
وقد عقد الإمام البخاري رحمه الله في كتاب : " فضائل الصحابة " من " صحيحه " بابًا ، قال فيه : " باب ذكر معاوية - رضي الله تعالى عنه - " . وأورد فيه ثلاثة أحاديث : أحدها : ( عن ابن أبي مليكة قال : أوتر معاوية بعد العشاء بركعة ، فأتى ابن عباس فسأله فقال : دعه فإنه قد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . وثانيها : ( عن ابن أبي مليكة : قيل لابن عباس : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ، فإنه ما أوتر إلا بواحدة !؟ قال : إنه فقيه ) . وثالثها : ( عن معاوية - رضي الله تعالى عنه - قال : إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليها ، ولقد نهى عنها ) . يعني : الركعتين بعد العصر .
قال الحافظ ابن حجر في " شرحه " : ( عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله : ( ذِكْر ) ولم يقل : فضيلة ، ولا منقبة ؛ لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب ، إلا أن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير . وقد صنف ابن أبي عاصم جزءً في مناقبه ، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب ، وأبو بكر النقاش ، وأورد ابن الجوزي في " الموضوعات " بعض الأحاديث التي ذكروها ، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال : ( لم يصح في فضائل معاوية شيء ) .
فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادًا على قول شيخه ، لكنه بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رؤوس الروافض .
وورد في " صحيح مسلم " : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في معاوية : ( لا أشبع الله بطنه ) .
فروى بسنده إلى ابن عباس قال : ( كنت ألعب مع الصبيان ، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتواريت خلف باب ، قال : فجاء فحطأني حطأة - يعني : ضرب بيده بين كتفي - وقال : اذهب وادع لي معاوية ، قال : فجئت فقلت : هو يأكل . ثم قال : اذهب فادع لي معاوية . قال : فجئت فقلت : هو يأكل . قال : لا أشبع الله بطنه ) .
وقد ختم مسلم - رحمه الله - بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلاً لذلك أن يجعله له زكاة ، وأجرًا ، ورحمة ، وذلك كقوله : ( تربت يمينك ) ، ( ثكلتك أمك ) ، ( عقرى حلقى ) ، ( لا كبرت سنك ) ، فقد أورد في " صحيحه " عدة أحاديث أحدها هذا الحديث ، وقبله حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال : ( كانت عند أم سليم يتيمة - وأم سليم هي أم أنس - فرآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أأنت هي !؟ لقد كبرت لا كبر سنك . فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي ، فقالت أم سليم : مالك يا بنية !؟ قالت الجارية : دعا علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يكبر سني أبدًا . أو قالت : قرني . فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مالك يا أم سليم !؟ قالت : يا رسول الله ! أدعوت على يتيمتي !؟ قال : وما ذاك يا أم سليم !؟ قالت : زَعَمت أنك دعوت ألا يكبر سنها ولا يكبر قرنها . قال : فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : يا أم سليم ! أما تعلمين أني اشترطت على ربي فقلت : إنما أنا بشر ، أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ، أن يجعلها له طهورًا ، وزكاة ، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة ) .
وعَقِبَ هذا الحديث مباشرة أورد مسلم - رحمه الله - الحديث الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاوية : ( لا أشبع الله بطنه ) .
وهذا من حسن صنيع مسلم - رحمه الله - ، وجودة ترتيبه لـ " صحيحه " ، وهو من دقيق فهمه ، وحسن استنباطه - رحمه الله - .
وقد قال النووي - رحمه الله - في " شرحه " : ( وقد فهم مسلم - رحمه الله - من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقًا للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب ، وجعله غيره من مناقب معاوية - يعني : وجعله غير مسلم من مناقب معاوية - لأنه في الحقيقة يصير دعاء له ) .