تأليف د محمد محمد يونس علي
خلافا لأداة التعريف الإنجليزية "the" التي يعتقد بأنها مأخوذة من اسم الإشارة "that"،[78] يبدو أن صلة "ال" بأسماء الموصول أكثر من صلتها بأسماء الإشارة من جهتي اللفظ، والمعنى. أما من حيث اللفظ فالظاهر أن "ال" تطورت من الكلمات الآتية: "الذي"، "التي"، "اللذان"، "اللتان"، "الذين"، "الألى"، "اللات"، "اللاء"، "اللائي"، فهي تؤلف الجزء الأول من كل منها، وقد أجمع النحاة القدامى على أن هذه الأداة هي "ال" التي للتعريف.[79] وأما من حيث المعنى، فإن "ال" مازلت تؤدي وظيفة اسم الموصول في بعض المواضع كما في:
(81) قبضت الشرطة على القاتل بعد أن قفز من إحدى نوافذ شقة المقتول.
فـ"ال" في كل من "القاتل" و"المقتول" تؤدي وظيفة اسم الموصول، ولذا يمكن تأويل كلمة "القاتل" بـ "من قتل" بالبناء للمعلوم، و"المقتول" بـ"من قُتل" بالبناء للمجهول.
ومن جهة أخرى يبدو أن العلاقة وثيقة بين "ال" والضمير حتى إنها تنوب عنه أحيانا في الربط، كما في قوله تعالى:
(82) "فإن الجنة هي المأوى".[80]
أي مأواه، وهذا يؤكد صحة الجمع بينهما في موضوع الإحالة، ويعزز القول بوظيفتهما في ربط الكلام بعضه ببعض، وإضافة سمة التماسك على النص.
والظاهر أن اللغة العربية تشتمل على ثلاثة أنواع من "ال":
أ- "ال" الموصولة، وقد مثلنا لها.
ب-""ال" الجنسية التي تشير إلى كل الجنس المتحدث عنه،[81] ويشمل هذا النوع ثلاثة فروع:
1- "ال" التي تفسر بـ"كل فرد من أفراد" الجنس، وهي المسماة بـ"ال" الاستغراقية، كما في (83) التي تفيد أن كل أسد من فصيلة القطط، و(84) التي تفيد أن كل السمك يعيش في الماء.
(83) الأسد من فصيلة القطط.
(84) السمك يعيش في الماء.
2- "ال" التي تفسر بـ"الجنس في عمومه، بغض النظر عن الأفراد المنضوين تحته"، كما في (85)، و(86).
(85) الرجل أطول من المرأة.
(86) الأوروبي أطول عمرا من الأفريقي.
فالكلمات التي تحتها خط في المثالين السابقين لا تشير إلى كل فرد من أفراد الجنس، بل المقصود أن الرجال في عمومهم (لا كل رجل) أطول من النساء في جملتهم، إذ قد نجد من النساء من هن أطول من الرجال، وبعبارة أخرى فإن معدل طول الرجال أكبر من معدل طول النساء، وهكذا في المثال الثاني.
3- "ال" التي تشير إلى "الشخص بوصفه ممثلا للجنس كله"، كما يذكر هاليدي ورقية حسن عند حديثهما عن أداة التعريف الإنجليزية،[82] كما في (87)، و(88).
(87) إذا خرجت إلى الغابة، فسيأكلك الذئب.
(88) مهما اشتد بي المرض، ومهما ساءت حالتي الصحية، فإني لا أحب الذهاب إلى المستشفى، ولا رؤية الطبيب.
فـ"ال" هنا لا تشير إلى كل ذئب، ولا إلى كل مستشفى، ولا إلى كل طبيب، ولا إلى الذئاب والمستشفيات والأطباء في عمومهم، بل إلى أفراد ممثلين للجنس الذي ينتمي إليه كل من ذكر، وقد كان هذا النوع من "ال" مثار جدل كبير في البلاغة العربية إلى الحد الذي صعب معه توحيد مصطلح متفق عليه يشير إليها.[83]
ب-"ال" العهدية، التي تشير إلى مرجع معين معهود للمتكلم والمخاطب،[84] وتتوقف قدرة المخاطب على تحديد المرجع المقصود على واحد من الآتي:
1- العهد الذهني: ولنمثل لذلك فلنتصور أن اثنين ينتظران الحافلة، فيقول أحدهما للآخر ما ورد في (89)، فيفهم المخاطب أن المتكلم يقصد بالحافلة الحافلة القادمة.
(89) يبدو أن الحافلة ستتأخر.
ومن ذلك أيضا قولنا: ذهبت إلى الجامعة، الذي يفهم منه الجامعة التي أدرس أو أعمل فيها.
وهذا الفهم محكوم بما يسميه الأصوليون مبدأ "التبادر" الذي ينزع السامع بمقتضاه إلى حمل كلام المتكلم في ضوء المعرفة المتبادلة بينه وبين مخاطبه، وتفاعلاتهم السابقة، والمقام الحالي الذي وقع فيه التخاطب.[85] وبناء عليه فإن المتبادر من الحافلة في (89) هو الحافلة المعهودة بين المتكلم ومخاطبه بحكم الاشتراك في انتظارها.
وقد صاغ براون Brown ويول Yule مبدأ مشابها أسمياه بـ "مبدأ الحمل المحلي" principle of local interpretation الذي يحكم المتكلم بألا "يصوغ سياقا أكبر مما يحتاج إليه للوصول إلى حمل ما. وبناء عليه، إذا سمع المخاطب شخصا ما يقول له: "أغلق الباب"، فسينظر إلى أقرب باب له؛ ليغلقه".[86] وبمقتضى هذا المبدأ، فإننا نحمل أسماء العملات، ونحوها، على العملة المستخدمة في البلد الذي نحن فيه، فالدرهم والدينار والريال مثلا تستخدم في عدد من الدول العربية، ولكن تحديد المقصود بكل من هذه العملات محكوم بالمكان الذي تستخدم فيه.
وبطبيعة الحال، فإن هناك مقامات يضطر فيها المخاطب إلى توسيع السياق بحيث يشمل أشياء ليس لها صلة مباشرة بالمتخاطبين. ولذا، فإن كلمة الشمس في (90) و(91) و(92) تحيل جميعها على ذلك النجم الذي يضيء الأرض، ويدفئها، وأينما قيلت هذه الكلمة فستحمل عليه، وما يحكم هذا الحمل هو الاعتقاد بوجود شمس واحدة فقط.
(90) عيناي تعانيان من حساسية شديدة حتى إنني لا أستطيع النظر إلى أشعة الشمس الخافتة في فصل الشتاء.
(91) يقوم العلماء بدراسات عديدة لتطوير طرق استغلال الشمس في توليد الطاقة.
(92) يقول المثل: الغرفة التي لا تدخلها الشمس لا يدخلها الطبيب.
2- العهد الذكري، ويقصد به سبق ذكر المرجع المحال عليه، ومن ذلك ما ورد في (93)، حيث تشير كلمة المتهم المعرفة بـ"ال" إلى كلمة "متهم" التي وردت نكرة، فحدث الربط بين الكلمتين، وكذلك الجملتان، بسبب أحادية المرجع الذي تشيران إليه.
(93) أطلق صباح اليوم سراح متهم من ذوي السوابق بعد أن ثبتت براءته من تهمة السطو على أحد البنوك، وقد رحّب المتهم بقرار المحكمة مؤكدا براءته من التهم المنسوبة إليه.
ومن الواضح أن "ال" التي للعهد الذكري هي أنسب أنواع "ال" وسيلةً لتماسك النص؛ لأن إحالتها إحالة داخلية، وهو ما يجعلها قادرة على ربط جملتين بعضهما ببعض.
وعلى الرغم من أن كلا من "ال" وأسماء الإشارة تبين لنا أن المرجع الذي تحيل عليه موجود في مكان ما في السياق بمفهومه العام الذي يشمل السياق الداخلي والخارجي، فإن الفارق بين "ال" من جهة، وأسماء الإشارة من جهة أخرى، هو أن أسماء الإشارة -خلافا لـ"ال"- تبين لنا بالتحديد المكان الذي نجد فيه المرجع، حيث تصرح بكون المرجع قريبا أو متوسطا أو بعيدا من المتكلم، ومما يسهل علينا المهمة أيضا أنها تبين لنا جنسه، وعدده. أما "ال" فلا تعطي أي معلومات محددة عن المرجع، بل كل ما تستلزمه أنه يمكن معرفة المرجع من خلال الرجوع إلى معارفنا عن العالم الخارجي (في حالة "ال" الجنسية)، أومن خلال النظر في السياق الداخلي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذكري) أو في السياق الخارجي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذهني).[87]