ـ مـظـاهـر الـتـنـاول اللـسـانـي للـبـحـث الـنـحـوي القديـم :
كان من الآثار الواضحة لتطور الدرس اللساني المعاصر في الغرب واقتباس مناهجه من طرف ثلة من الدارسين العرب ، أن تمت العودة إلى التراث اللغوي القديم بكل معارفه وعلومه ، إما بحثا عن شرعية للوجود اللساني في الذاكرة العربية ، وإما بغية إخضاعه للفحص اللساني المعاصر حتى يتم تطويعه لخدمة أهداف الحداثة . لذا أصبح لزاما على كل من رام البحث في حقائق العربية واستعمالاتها اللجوء للذاكرة النحوية إما على سبيل انتقاء معطيات الدراسة أو انتقاد التجربة التراثية . وفي كلتا الحالتين يظل جوهر الدرس النحوي مغيبا . وليس قصدنا في هذا المجال رفض النماذج اللسانية المعاصرة فيما سماه الفاسي الفهري : دعوى التجريبوية الساذجة8. لكننا نود تقديم قراءة معرفية ومنهجية للجهود اللسانية المعاصرة تبحث في أسس التداول المعاصر لقضايا النظر النحوي القديم .
فمن الثابت أن القراءات المتناولة للنحو العربي ظلت سجينة التصورات الحديثة ، حيث كانت تحاول تطبيق المفاهيم المعاصرة على الدرس القديم مما أبعدها عن جوهره . لأن الأسئلة المعرفية والمنهجية التي شغلت النحاة تختلف عن الأسئلة اللسانية المعاصرة . لذا فكل معالجة ينبغي لها أن تتناول النحو داخل نظام الفكر الذي ولد فيه ، لتكتشف الكيفية التي تشكلت بها المعرفة النحوية . والأمر نفسه ينطبق على المحاولات " الاجترارية " التي تكرر أقوال القدماء تحت دعوى اكتشاف منهجي مثل : أصول النحو العربي لخير الحلواني ، أو تجميع معطيات موجودة في ثنايا الكتب النحوية مثل أغلب البحوث المتعلقة بأعلام الدرس النحوي . وفي الحالتين معا تظل المحاولات المعاصرة بعيدة عن إضافة إجابات حديثة للدرس القديم ، وذلك يبرز من خلال المادة الدراسية ومنهج البحث وأسئلة المعرفة ومفهوم النحو .
2. 1ـ معطيات الدراسة أو اللغة الموصوفة : أول الإشكالات التي طرحت أمام اللسانيات العربية الناشئة هو إشكال المادة المدروسة. فعن أية عربية نتحدث ؟ وهل هناك عربية واحدة أو عربيات عديدة ؟... ولم تخرج الإجابة عن هذه الأسئلة ـ ونحوها ـ عن شكلين دراسيين :
أ ـ الحفاظ على المعطيات اللغوية التي جمعها وصنفها اللغويون القدامى ، وتركيز النقاش حول منهج تناولهم للغة الموصوفة .
ب ـ الادعاء بوجود عربيتين : عربية قديمة كلاسيكية فصحى هي التي تداولها رواد عصر التدوين وبعده ، وعربية حديثة متداولة في نصوص شفوية أو مكتوبة معاصرة .
فقد ظلت الأبحاث اللسانية منذ ظهورها في العالم العربي على شكل دراسات وصفية تركز البحث على مقاربة النحاة للمعطيات اللغوية القديمة ، أي التركيز على منهج الدراسة لا المادة المدروسة . يقول أحدهم : "وينبغي التنبه إلى أن هناك فرقا بين البحث في اللغة واللغة نفسها ، فاللغة المدروسة لا يغيرها اختلاف النظر إليها بمنهج دون آخر"9 . ويبدو الهدف من هاته المحاولة هو إثبات شرعية المنهج اللساني الحديث بدل المنهج القديم ، الذي اعتبر بعيدا عن العلمية للأسباب التالية :
أولا :عدم رسم حدود زمانية ومكانية للفصاحة العربية التي هي الشرط الأساسي في المتن المجموع . فالحد الزماني يمتد من القرن الرابع قبل الهجرة إلى القرن الرابع بعدها ، حيث تبدأ مرحلة الحداثة اللغوية الممنوع الإستشهاد بشعرها أو نثرها . لهذا رفض النحاة الاحتجاج بأشعار المولدين أمثال أبي نواس والبحتري وأبي تمام ، وإن كان بعض المتأخرين قد خرقوا هذه القاعدة10. وقد اعتبر هذا التحديد من طرف الوصفيين المعاصرين إنكارا لدورالعامل الزمني في التطور اللغوي ، وخرقا لمبدإ أساسي هو اعتبار اللغة ظاهرة اجتماعية تخضع لما يخضع له المجتمع من تغير و تطور ، وكان من الواجب فتح باب الدراسة للغة في فتراتها المتعاقبة .
أما الحد المكاني فقد رسم بموجبه المجال الجغرافي للقبائل التي تؤخذ عنها والتي كانت في وسط شبه الجزيرة العربية لابتعادها عن الأمم الأجنبية فحافظت على نقاء اللغة و صفائها11. كما اعتمدوا الأخذ عن سكان البوادي دون سكان المدن الذين فسد لسانهم وخرج عن أصل الفصاحة . وعند ابن جني فصل خاص تحت عنوان : "باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر"12 . وقد قرر العديد من الدارسين بأن هذا التحديد المكاني جعل العربية المدروسة ليست كل العربية ، وإنما جزءا منها ، كما أنهم لم يكونوا على حق في ربطهم الفصاحة بالبداوة ، لأن اللغة بنت الحاجة والاستعمال . وبهذا الاعتبار فالنحو العربي نحو ناقص لأنه يقدم مادة ناقصة 13.
ثـانـيـا : حصر المادة المدروسة في مستوى لغوي واحد هو اللغة الأدبية ممثلة في النصوص القرآنية والشعرية والأمثال والخطب ، في الوقت الذي أهملت فيه لغة التداول اليومي التي يستعملها الناس في شؤونهم14. والحقيقة أن العلماء العرب لم يهملوا هذا الصنف اللغوي في دراستهم كما يتبين في القراءات القرآنية والمخاطبات العامة ، مما دفع أحد الدارسين إلى عكس الآية وانتقاد التجربة النحوية بالخلط بين المستويين الأدبي واللهجي في التناول 15 .
و بالرغم من هذه الشوائب التي تصور الوصفيون وجودها في المنهج النحوي القديم ، ومن نعتهم لغة النحاة باللاتطورية واللازمانية، فقد اكتفوا بالإشارة السطحية لمفاهيم التطور اللغوي ولم يستطيعوا طرح جوهر مشكل مادة الدراسة . يقول الفاسي الفهري :"حتى الوصفيون الذين انتقدوا النحاة القدامى أشد ما يكون الانتقاد وعابوا عليهم إفسادهم للنحو بإدخال أدوات ومفاهيم منطقية فيه ، وانتصارهم للقياس واصطناع أمثلة وتراكيب كثيرة لم تكن موجودة في اللغة ولم تسمع عن العرب وإنما أوردوها لتزكية أصولهم ، حتى هؤلاء اكتفوا بالاحتفاظ بما أتى به القدماء من معطيات ولم يحاولوا وصف لغة أخرى بالاعتماد على جرد مواد جديدة انطلاقا من نصوص شفوية أو مكتوبة "16. أي أنهم بالرغم من نقدهم للمنهج النحوي ومعطياته الدراسية ، بقوا محافظين على معطيات القدامى ، حيث رسخ في اعتقادهم أن إشكال المعطيات قد حل في عصر التدوين .
و جملة القول ، إن احتفاظ المعاصرين بمادة القدماء قد وضعهم أمام إشكال منهجي ، خاصة أنه لا يمكن الفصل بين منهج ومادة النحاة ، مما أدى بهم إلى تقديم بدائل وصفية تغري بالحداثة والجدة وبتوظيف المناهج اللسانية الحديثة . لكنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون "مَحوَرَة" لكلام القدماء إما عن طريق مزجه ببعض الآراء اللسانية المعاصرة ، وإما بهدم الحدود بين علوم اللسان العربي ، كما فعل تمام حسان عند مزجه علم المعاني بعلم النحو حتى يجد للمستوى الدلالي بمعناه العام مكانا في البحث النحوي 17. ومن أمثلة هذا التذبذب المنهجي تطالعنا المحاولات الإصلاحية للنحو العربي نحو :"النحو الجديد" لشوقي ضيف ،و "أصول النحو العربي " لمحمد عيد ، و"دراسات نقدية في النحو العربي " لعبد الرحمن أيوب .. وغيرها كثير. وكلها لا تعدو، بالرغم من مقدماتها النظرية المغرية ،أن تكون إعادة تنظيم الأبواب النحوية أو حذفا لبعض المفاهيم القديمة ، مما جعلها محاولات مبتورة . وللخروج من هذا الإشكال المنهجي أقر العديد من الدارسين بوجود اختلاف كبير بين اللغة العربية الموروثة عن متون عصر التدوين وعربية المحاضرات والندوات والإعلام في عصرنا الحالي . ويجرنا هذا التصور إلى التخلي عن وساطة الآلة النحوية والتعامل المباشر مع النصوص اللغوية . " فبناء نحو اللغة القديمة مثلا لا يحتاج ضرورة إلى المعطيات الموجودة في النحو القديم ، بل يمكن أن يستغنى عنها باستعمال النصوص القديمة"18. أما بناء نحو العربية الحديثة ولهجاتها المنتشرة فتعتمد على المعطيات المعاصرة شفهية كانت أم كتابية والتي تجمع كل مستويات النحو من معجم وتركيب ودلالة وصواتة . لكن يذهب بعض الباحثين إلى أن الإقرار بوجود عربيتين هو طرح شكلي ، بحيث أن الاختلاف الذي قد نصادفه بين المتن القديم والتداول الحديث لا يمس الجانب التوزيعي للألفاظ بقدر ما ينحصر في الجانب التحويلي . " ذلك لأن بعض التحويلات التي كانت معروفة في العربية القديمة قد عزف عنها الاستعمال وعوضت بتحويلات أخرى ، من ذلك مثلا ظاهرة الاشتغال في اللغة ، حيث أصبح الناس يكتفون بتقديم الفاعل تاركين المفعول به مكانه "19. لذا فالانشغال الأساسي ينبغي أن يكون هو تتبع مسار التحويلات ، وليس الانكباب على الأصول الرتبية الأولى التي لازالت تحافظ على نسقها. وفي الحالتين معا غدا القول بالفصل بين صنفين لغويين من العربية لازما في البحوث اللسانية المعاصرة ، وذلك لسببين رئيسيين :
أولهما القياس على اللغات الأوربية التي تخضع لتغييرات دائمة في مفرداتها وأشكالها الصرفية والتركيبية ، ما دام المعجم يخضع لمنطق الاستعمال اليومي . في حين ظلت العربية جامدة منذ عصر التدوين في قوالب صرفية ونحوية ، مما دفع أحد المفكرين المعاصرين إلى وصفها بأنها لغة لا تاريخية وذات طبيعة حسية تنقل في ثناياها عالم الصحراء والأعراب ، لذا "فالأعرابي هو صانع العالم العربي "20 .
ثانيهما عدم خضوع العربية ،كما هي واردة في متون النحو العربي القديم ، للعديد من القواعد اللسانية المعاصرة ، مثل :التنغيم والنبر، وبعض الحالات التركيبية كالاستفهام بأصنافه المختلفة 21 .
2.2 ـ إشكاليـة المـنـهـج ومسـتـويات الـدراسـة : من أزمات البحث اللساني المعاصر أزمة المنهجية . فبأي منهج علمي يمكننا دراسة اللغة العربية ؟ وكيف يمكننا قراءة جهود القدماء على المستويين التصنيفي والمنهجي ؟.
لقد تبلورت إجابات الدارسين المعاصرين عن هذه الإشكالات في ثلاثة قراءات : تبسيطية ووصفية وتنظيرية.
أـ الـمنـهـج الإنـتـقائـي التبسـيـطي : ما انفك التراث النحوي يحظى بالقراءة منذ بزوغ فجر العصر الحديث . حيث انكب عليه المستشرقون والدارسون العرب بحثا فيه عن مواطن القوة وعن إمكانية التبسيط . فقد كان الهم الذي حرك دعاة التجديد هو جعل قواعد النحو العربي في متناول المتعلم بعيدا عن نقاشات المدارس وتعليلات النحاة وأقيستهم . ويكفي أن نقوم بإطلالة على كتاب "في إصلاح النحو العربي"، حيث يورد فيها صاحبه جردا لجل المحاولات التبسيطية التي اقترح فيها أصحابها بدائل نحوية جديدة."ويترتب عن هذه النظرة أن التراث النحوي لا يفِ بخصائص العربية ولا يحيط يأساليبها المتنوعة ولا يكشف عن مقدرتها في التعبير"22. فمن هذه المحاولات، ومن أبرزها محاولة إبراهيم مصطفى في "إحياء النحو" حين حدد هدفه بقوله: "أطمع أن أغير منهج البحث النحوي للغة العربية وأن أرفع عن المتعلمين إصر هذا النحو و أبدلهم منه أصولا سهلة يسيرة تقربهم من العربية "23. ولذا، استحدث تصنيفات جديدة محاولا استبعاد مفاهيم العلة والعامل . وعلى هذا المنوال سارت محاولات العديد من دعاة التجديد والتبسيط باستبعاد المظاهر 'العقلية' والخلافية داخل الكتابة النحوية ، وخاصة جهود المجامع اللغوية في إنشاء كتب مدرسية قريبة من أفهام الطلاب . لكن حقيقة النحو كآلة معرفية ظلت هي الغائب في كل هذه الجهود ، فظلت محاولات 'المجددين' مبتورة عن سياقها وعن مجال تطبيقها. فالنحو ليس أداة لغوية فحسب ، بل هو رؤية خاصة للعالم تلتحم كل أجزائه للتعبير عن صيغة التأويل المثلى .
ب ـ الـمـنـهـج الـوصـفـي: إضافة إلى الإنتقادات التي وجهها رواد المنهج الوصفي لقاعدة معطيات النحو القديم ، صوبوا كذلك نقدهم نحو المنهج النحوي 'التقليدي' نجملها فيما يلي :
1-كان التقعيد النحوي تقعيدا منطقيا متأثرا بالمنطق الأرسطي منذ مراحله الأولى. وازداد هذا التأثير في القرون المتأخرة . ويبرز هذا الأمر في تصنيف المقولات وفي استعمال الوسائل الإجرائية كالقياس و التعليل والعامل. يقول أحد رواد الوصفية: " أما النحو العربي فإن أثر المنطق فيه يبدو من جانبين اثنين :أولهما جانب المقولات وتطبيقها في التفكير النحوي ، وثانيهما الأقيسة و التعليلات في المسائل النحوية الخاصة مع ما يساير ذلك من محاكاة التقسيمات اللغوية التي جاء بها أرسطو في دراساته "24. وهذا هو الذي جعل النحو يأخذ صبغة معيارية هدفها ضبط مواطن الصواب والخطأ في التعليم اللغوي ، فترضخ له كل الاستعمالات اللهجية.
2 ـ اختلاف المستويات الدراسية في البحث النحوي القديم . فاللغة كما يقدمها الدرس اللساني الحديث نسيج من الأنظمة ." فلها نظامها الأصواتي الموزع توزيعا لا يتعارض فيه صوت مع صوت ولها نظامها التشكيلي (الفونولوجي) الذي لا يتعارض فيه موقع مع موقع ، ولها نظامها الصرفي الذي لا تتعارض فيه صيغة مع صيغة ،ولها نظامها النحوي الذي لا يتعارض فيه باب مع باب ،ولها بعد ذلك نظام للمقاطع و نظام للنبر و نظام للتنغيم، فهي منظمة من النظم على حد تعبير بعضهم "25. واعتقادا بهذا الشكل الدراسي وتسلسل مستوياته في كل مقاربة لغوية حكم دعاة الوصفية العرب على جهود النحاة القدماء ومناهج كتاباتهم بالاضطراب ، حيث لم يتبعوا خطة منهجية تبدأ من أبسط العناصر التحليلية إلى أكثرها تركيبا26. إضافة إلى أن مفهوم القدماء للنحو كان مفهوما عاما يتناول كل المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية قبل أن يخصص ـ مع النحاة المتأخرين ـ في قضايا العمل والإعراب . وقد جعل تداخل هذه المستويات البحث النحوي غير خاص بمجال التركيب كما تعارف عليه أهل اللسانيات التصنيفية ، بل كان عاما وشاملا لكل قواعد اللسان العربي ، وهذا ما لا يقبله علم اللغة الحديث 27 .
ج ـ الـمـنـهـج الـتـنـظـيـري : لقد قدم رواد المدرسة التحويلية في العالم العربي إجابات واضحة عن الإشكالين المركزيين للبحث اللغوي : إشكال المنهج وإشكال القراءة . فبعد ردح من الزمن طغت فيه الدراسة الوصفية على المقاربات اللغوية حاملة معول الهدم على كل المظاهر العقلية في النحو العربي تحت شعار التبسيط ، أتت التوليدية في ثوبها العقلاني الفلسفي لتعيد للدرس اللساني العربي جوهره الفكري . وكانت بداية عمل الدارسين هو البحث عن مواطن التشابه بين اللغويات العربية القديمة والدراسات التوليدية الحديثة . وهكذا " إذا تجاوزنا خصوصيات السياق التاريخي و الثقافي لكل منهما وجدنا البحث اللغوي الحديث يضارع البحث اللغوي عند العرب من جهة أنه يستوي لكل منهما تراث عريض تقلب خلاله في مراحل تأثر بالمعطيات الثقافية و ما تهيأ معها من أدوات حادثة " 28 . وقد ساهم التطور المتسارع للنماذج التوليدية في خلق اعتقاد راسخ بالتماثل بين المنهج الشومسكاوي والمنهج النحوي القديم لدى اللسانيين، فراحوا يبحثون في ثنايا هذا الأخير عن مظاهر تحويلية وتوليدية تسعف الموافقة بين المنهجين . وهكذا نجد الدكتور عبده الراجحي يحدثنا عن "الجوانب التحويلية في النحو العربي "، والتي حددها في جملة من العناصر هي29:
ـ قضية الأصلية و الفرعية التي تماثل البنية العميقة و السطحية في اللسانيات الحديثة .
ـ قضية العمل التي نجدها حاضرة في التراثين معا.
ـ قواعد الحذف و الزيادة وإعادة الترتيب .
ويخصص حماسة عبد اللطيف بحثا منفردا لمعالجة "الأنماط التحويلية في النحو العربي" ، متتبعا سلك التحويلات المختلفة التي تعرض للعربية تركيبا وإفرادا30. في حين يتجه مازن الوعر وجهة تركيبية خالصة محاولا تحديد أنماط التراكيب الأساسية في العربية في جمع فريد بين معطيات النحو القديم و معطيات النماذج التوليدية31.
وعلى هذا المنوال سارت محاولات الدارسين بتقديم المقترحات التحويلية وتطبيقها على التراث النحوي معتقدين تماثلا منهجيا في أسس التحليل. وقد وصل الأمر بالبعض تأويل هذا التقارب بمطالعة شومسكي لقضايا العربية أثناء بحوثه في اللسانيات العامة وفي النحو العبري 32. لكن بالرغم من كل هذا تبقى قراءة التوليديين على أهميتها وجديتها قراءة انتقائية للتراث النحوي تبحث عن مظاهر التلاؤم والانسجام مع معطيات البحث المعاصر دون النفاذ إلى مساءلة الأساس المعرفي لقيام النحو العربي . بمعنى أن المعالجة التوليدية كانت ردا على تعسف وصفي على النموذج القديم، لكنه لم يزد على أن وجه البحث نحو الصورنة والتجريد .
ونحن نتحدث عن التطبيق اللساني التوليدي في عالم العربية لا يمكن إغفال محاولة ، أو محاولات، الدكتور الفاسي الفهري التي تبقى مميزة ببحثها عن الشمول والإبداع ، عكس المحاولات الأخرى التي كانت إما جزئية تبحث في قضية محددة ، وإما تكرارية تجتر المفاهيم والآراء التوليدية . حيث وضع صاحبنا لمنهجه هدفا مركزيا هو وصف اللغة العربية الحالية وصفا كافيا يمكن من بناء نحو يمثل الملكة الباطنية للمتكلم/المستمع العربي 33. واستنارة بالنماذج التوليدية يفترض وصف العربية وصفا كافيا مجموعة من المسلمات المنهجية :
ـ توجيه العمل الدراسي نحو اللغة العربية المتداولة ، في نفس الوقت الذي تدرس فيه المعطيات القديمة .
ـ اعتبار العربية لغة كباقي اللغات الطبيعية تشاركها في العديد من الخصائص والمكونات ،لأن كل المخلوقات البشرية تشترك في بنية معرفية محددة هي القدرة التي يمكن تمثلها على شكل قواعد كلية." وكونها عربية لا يعني أنها تنفرد بخصائص لا توجد في أية لغة من اللغات ،بل لا نكاد نجد ظاهرة في اللغة العربية إلا ونجد لها مثيلا في لغة أو لغات أخرى "34.
ـ التمييز بين اللغة الموصوفة وآلة الوصف ، مما يمكننا من الخروج من أسر المنهج النحوي القديم ."فبناء نحو اللغة القديمة مثلا لا يحتاج ضرورة إلى المعطيات الموجودة في النحو القديم ، بل يمكن أن يستغنى عنها باستعمال النصوص القديمة "35.
و خلاصة القول ، إن النهج التوليدي عمل على تأصيل نظرية لسانية عربية تعالج قضايا العربية القديمة والحديثة ، وذلك باعتماد آلة واصفة صورية تدرس القدرة اللغوية العربية . لذا واجهت التراث النحوي بالنقد المنهجي وبانتقاء المعطيات الدراسية منه . إلا أن الظواهر التي عالجها اللسانيون العرب كانت 'استنساخا' لقضايا معالجة في اللغات الأوربية بوحي من معطياتها ، مما جعلها تركز على قضايا دون أخرى. وهذا ما ينفي عنها صفة الشمولية والكلية 36 .