إذا كانت اللغة العربية موضوع دراسة تناولها سيبويه في الكتاب فإن قارئ نصه عليه محاولة اكتشاف آلياته للوصول إلى دلالته ومغزاه ، وهذا يتطلب ، طبعا ، إعمال العقل في ترتيب مستويات هيرمنوطيقا النص وتنظيم العمليات التأويلية تنظيما محكما حتى يمكنك فهم النظام اللغوي في تكامله العضوي واكتماله الوظيفي . إن الرجل سيبويه قدم من خلال كتابه "الكتاب" رؤية عامة واسعة وشاملة للنظام اللغوي الذي يتصرف من خلاله المتكلم، وعملية اكتشاف هذا النظام إنما تتم عبر اكتشاف عناصر التشابه وعناصر الاختلاف سواء على المستوى الصوتي أو على المستوى الصرفي أو على المستوى التركيبي أو حتى على المستويين المعجمي و الدلالي. وتعتبر عمليات وطرائق التأويل من صميم النظام اللغوي الطبيعي المعقد.
فإن عدنا إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أستاذ سيبويه، سنجده يؤكد تماما أن الغاية والهدف الأمثل من الدرس اللغوي هو اكتشاف حكمة واضع اللغة التي هي في نظره نظام غاية في الإحكام لابد من اكتشافه ومن سبر أغواره . و في نظره يعتبر كل نظام لغوي بمثابة بنيان المنزل ، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار ، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة .هذا التصور يتجاوب تماما مع تصورات العلوم الأخرى للعالم بوصفه نظاما محكم الدلالة ومعقد في آن مما يترك الباب مشرعا أمام مختلف الرؤى والتاويلات المختلفة . وهذا ما تبين لدى النحاة القدامى أنفسهم من خلال افتراضاتهم العلمية التي تقول إن العرب كمجتمعات وقبائل حينما استخدمت اللغة إنما وظفتها في التواصل اليومي فنطقت بها على سجيتها وسليقتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها وكمون ذلك في الكفاية اللغوية في عقولها ، وفي هذا اعتراف بالنظام المحكم بعلله والموجود في أدمغة العرب . وأما الشروح والتأويلات والتفسيرات لمسائل النحو إنما فيه مقاربة واجتهاد لحقيقة النص اللغوي الذي ما هو إلا نظاما معرفيا يكتشف البناء اللغوي ذاته (نصر حامد أبو زيد ،التأويل في كتاب سيبويه ، الهرمينوطيقا والتأويل ، منشورات ألف ص 85) فتعليلات النحاة إذن هي تعليلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية .
وبالمقابل كان لهذا الفضول العلمي أثر بليغ على وصف الظواهر المشتركة فيما بينها باستخدام آلة اللغة العربية نفسها ولكن دون البحث عن تعليلات أو تفسيرات لهذه الخواص الخارجية لان ذلك سيقود إلى علة العلل وما تطرحه من متاهات أنطولوجية محضة .غير أن الوصفيين تجرأوا على التأمل في علل صنائع الكون ومنها اللغة التي أجهد النحاة فيها بالتأويل فوقعوا في أمرين هما :
1- المعنى الشكلي المستند إلى أحكام وتخريجات لقواعد مضبوطة بشكل تام.
2- و المعنى الفلسفي الذي أدى بهم إلى الظنون والفروض والمتاهات.
وهنا أولوا وفسروا النظام اللغوي انطلاقا من نصه بالتقدير ، مما جعل لغتهم الواصفة هته تكون اعقد من النظام نفسه وهذا حال لغة التفسير والتأويل التي هي الميتالغة النحوية المسايرة لبناء اللغة كما هي . فالمقولات النحوية من قبيل الفاعل والمفعول والاسم والفعل والحرف والنصب والرفع والكسر والعمل ...هي جهاز لتأويل النظام اللغوي عندهم، فهو الأداة التي وحدت اللغات العربية التي شكلت المتن الرئيسي للقران الكريم ، لاسيما وانه وجه آلة النحو لوصف مختلف القراءات القرآنية الموجودة.
ولا ضير في أن من أوائل القراء كان نحويا اسمه عبد الله بن أبى إسحاق الحضرمي وان أول من استخدم لفظة "التأويل" هو محمد بن جرير الطبري صاحب جامع البيان عن تأويل آي القران .وهو المصطلح الأمثل للتعبير عن العمليات الذهنية العميقة التي تستدعيها الظواهر النصية المعقدة ، وبعيدا عن المنظور الأيديولوجي الذي اجتذب هذا المفهوم عند المفسرين في مواجهة الظاهريين فان استخدامه هو عودة لمقارعة قضايا مثيرة وكثيرة الجدل والنقاش في بناء علم العربية حتى طفت على السطح مفاهيم تحليلية ذات طابع تأويلي محض ومنها مفهوم العامل النحوي الذي به اختبر سيبويه نسق اللغة (نصر حامد أبو زيد ،التأويل في كتاب سيبويه ، الهرمينوطيقا والتأويل ، منشورات ألف ص88).
حاول أحد المتأخرين من نحاة الغرب الإسلامي، صاحب الرد عل النحاة ، ابن مضاء القرطبي أن يتعقب مسائل سيبويه الكثيرة ومنها (ليس حصرا) باب الفاعلين والمفعولين الذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل: "ضربت وضربني زيد" و"ضربني وضربت زيدا"، تحمل الاسم على الفعل الذي يليه ، فالعامل في اللفظ أحد الفعلين ، وأما في المعنى فقد يعلم أن الأول قد وقع إلا أنه لا يعمل في اسم واحد نصب ورفع وإنما كان الذي يليه أولى لقرب جواره وأنه لا ينقص معنى وان المخاطب قد عرف أن الأول قد وقع بزيد ( ابن قنبر سيبويه ، الكتاب ، تحقيق عبد السلام هارون ص 73-74). يتصور سيبويه على أن اللفظ يؤثر في لفظ آخر يتجاور معه وهذا هو معنى العامل فقد يأتي الاسم بعد فعلين ويصح أن يقع فاعلا لاحد الفعلين كما يقع مفعولا لفعل آخر.
وهكذا ، فالمقولات تتبادل المواقع في الجملة وهي بذلك عوامل ومعمولات. وإذ استشكل الأمر رُد إلى افتراض ذهني لتفسير الظاهرة لكي لا تبقى عالقة . ومع أن الاتفاق وقع بين علماء البصرة وعلماء الكوفة عما اتفقوا واختلفوا حوله في المسائل النحوية فلانهم احتكموا إلى أن العامل يحدد انطلاقا من سياق الاشتغال سواء بالأسبقية أو بالجوار، وبالعمدة أو بالفضلة .
إن مفهوم "العامل" النحوي هو مجرد تصور ذهني تأويلي عند سيبويه ، يظهر هذا انطلاقا من باب الاشتغال ، ففي مثال " زيد مررت به " يرى أن الرفع في "زيد" هو الأوجه ، وذلك على العكس في مثال " زيدا ضربته " فالنصب في هذا المثال الأخير امثل ، لكن ذلك لا يمنع أن يقاال " زيدا مررت به " وذلك على تأويل فعل مضمر نصب " زيدا " لا على انه منصوب بالفعل التالي له الذي تعدى إلى ضميره –ضمير زيد- بحرف الجر ، فهذا التأويل ضروري . (نصر حامد أبو زيد ،التأويل في كتاب سيبويه ، الهرمينوطيقا والتأويل ، منشورات ألف ص92).
إن التأويل الذي يقدمه سيبويه تأويل هام من حيث انه يكشف عن جانب من البعد الاجتماعي للغة ، فعلاقة القرابة بين القبائل العربية علاقات لها اعتبارها الثقافي واللغوي ولذلك في كثير من الأحيان يلتجأ سيبويه للتاويل من خلال جواز النصب والرفع معا في كلام العرب لانه يعلم جيدا بتلميحاته تلك أن العرب على سجيتها تختلف في إنجازها ونطقها نصبا ورفعا. فتقول : "أهنت زيدا بإهانتك أخاه" (نصب)، "وزيد لقيت أخاه" (رفع).
وفي جانب آخر يعتمد سيبويه في إقناعه لقارئه على عبارات متكررة تحتاج في الحقيقة إلى تعمق كبير ، من قبيل "هذا تمثيل ولا يتكلم به" فهو يورد العبارة الشارحة بافتراض أمثلة يقدر بها المحذوف مثلا وهذا ما يذهب إليه نصر حامد أبو زيد حينما يؤكد أن التأويل لدى سيبويه هو مجرد تصور ذهني لا غير وانه أداة تحليلية لبناء علم النحو وهندسة العامل والمعمول.
على الرغم من هذا البناء الهندسي المحكم لمفهوم العامل ، فان ابن مضاء القرطبي يرفضه على اعتبار أن الفرضية المعتمدة لدى النحاة المتقدمين هي أن لابد للأثر من مؤثر وللمعمول من عامل وللعلة من سبب ، وانهم يقدرون الكلام على المحذوف في النصب والرفع وهذا يتناقض مع مبدئهم المذكور . إن وضع هذه العوامل لا شيء فيه من ذلك ، بل تقدير وتخيل ( ابن مضاء القرطبي ، الرد على النحاة ، ص98) .
في نظر لمذهب الظاهري حمل الكلام على غير ظاهره مرفوض وان النص له القدرة ان يشرح النص ، فلا حاجة لاعمال العقل الانساني لافتراض العامل ، وجلي بين ان يكون ابن مضاء قد نقل تصوره هذا من مجال التاويل في النصوص الدينية الى المجال اللغوي فهو يورد كما يلح على تاكيد ابن جني على ان العامل هو المتكلم نفسه لكي يوضح على ان الاصوات اللغوية هي من فعل الله تعالى ، وهذا جدل ايديولوجي كلامي صرف حول المفهوم الذهني التصوري الى موجود واقعي ، وهذا هو موقف الظاهرية واضح في تاويل النصوص عامة .
أن مفهوم العامل هذا أدى إلى توليد مقولات نحوية أخرى كالإضمار والحذف وظفت في تحليل الكلام وصولا إلى نظام اللغة ، وافتراض محذوف أو مضمر في الكلام يغير الكلام عن ظاهره بإضافة أو زيادة ما يفترض انه محذوف أو مضمر وهذه مسالة خطيرة في زعم الظاهريين حين تطبق على النصوص الدينية ولو علم ابن مضاء مبعدا اسقاطاته الإيديولوجية الدينية أن سيبويه كان حريصا في تأويل أي القران في مثل قوله تعالى " وامرأته حمالة الحطب " لما ذهب مذهب الظاهريين! وذلك في قراءة من قرأ على النصب " حمالة " " لم يجعل الحمالة خبرا للمرأة ، ولكن كأنه قال : أذكر حمالة الحطب شتما لها ، وان كان فعلا لم يستعمل إظهاره " (الكتاب ج2 ص 70)
فالتراث العربي بثقافاته الواسعة لغة وفقها ونحوا وأصولا يتجاوب تجاوبا طبيعيا من حيث المقولات المستخدمة في الوصف لان النظام الأيديولوجي الذي يتحكم في نسق العلوم الفرعية نظام واحد ولذلك أمكن للنحوي كما للفقيه نقل حكم الأصل إلى الفرع بسبب هذه العلة الجامعة .
من المفاهيم التي سخرها النحاة لتنظيم الكلام وتحويله إلى لغة مفهوم القياس ، بفضله قيس الفعل على الاسم في العمل كما قيس الفعل المضارع عل الاسم والصفة على الفعل المضارع ، يستخدم سيبويه مفهوم المضارعة في الكتاب ليقيس الشيء على الشيء كما يريد أن يعني بالقياس في الحكم على أن الاسم والفعل المضارع معربان.
فالاسم والفعل يرجع بعضهما للبعض في العامل ، غير أن للاسم استقلال لغوي ليس عند الفعل ، لان الكلام قد يبنى على اسمين وليس على فعلين . ولهذا لا يستغنى الفعل على الاسم " ويبين لك أنها –الأفعال-ليست بأسماء انك لو وضعتها مواضع الأسماء لم يجز ذلك ، ألا ترى انك لو قلت : أن يضرب يأتينا وأشباه هذا لم يكن كلاما ؟ إلا أنها ضارعت الفاعل (يعني الصفة ) لاجتماعهما في المعنى " (الكتاب ج1 ص 14)
يدرك سيبويه هنا على أن إدراك الاختلاف والتشابه لابد له من قياس للتصنيف والتقسيم والترتيب في أقسام الكلم . وان هذا التحليل لاوجه التشابه واوجه الاختلاف بين الاسم والفعل سواء على مستوى الإعراب أو الإلحاق أو علاقات الاستبدال كما بين الفعل والصفة ، هو الذي جعل سيبويه والنحاة المتقدمين يصوغون مفهوم المضارع الذي تطور بعد ذلك ليدل على البعد الزمني في الصيغة(نصر حامد أبو زيد ،التأويل في كتاب سيبويه ، الهرمينوطيقا والتأويل ، منشورات ألف ص100).
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن مفهوم المضارعة مفهوما لا يقتصر على تحليل علاقة الاسم بالفعل أو الفعل بالصفة ، بل يمتد ليستخدم في تحليل أساليب كثيرة ، فالصفة المشبهة تضارع الصفة في العمل ، وما " تضارع " ليس في العمل عند من يعملونها ، واسماء الأعداد تضارع الصفات في العمل ، وهكذا يتحول مفهوم" المضارعة" الذي أنتجه القياس والمقارنة إلى مفهوم تحليلي واسع هام لبناء علم النحو .( نصر حامد أبو زيد ،نفس الصفحة ).
اللغة هذا النظام الثابت وصف محكم ، أما الكلام فمتغير لهذا النظام ، ومن الطبيعي في تنظيم المعرفة البشرية أن يجر هذا المتغير /المستمر العلم إلى اكتشاف خبايا أخرى مطردة عن المحكم /الثابت ، فظلت التأويلات النحوية /الفقهية تعتبر كل خروج عن المحكم مطرد وشاذ ، وسيبويه لم يكن يجره الاطراد إلى وصفه بالشاذ عن المألوف لانه كان يعلم علم اليقين أن في التعدد اللغوي احتجاج واستدلال متعدد ، وأن المتون اللغوية هي التي أملت تعدد القراءات القرآنية ولهذا ذهب إلى اعتماد مفهومي " القبح والحسن " وكأنه يريد بالكلام الشائع والكثير ذلك الحسن والناذر ذلك القبيح وهو هنا تتحكمه درجة الضعف والقوة في الحجة النحوية ونذكر هنا مثالا أورده سيبويه في الكتاب هو اسم " معد يكرب " هو اسم ممنوع من الصرف لانه ناذر مثل هذا الاسم في العربية.
فالاسم المتمكن هو الذي يقبل الصرف الكامل ولا يقبل ذلك إلا الأسماء المتمكنة في الاسمية ،إن التمكن أو عدمه هو المعيار الذي به يستطيع سيبويه أن يستدل عن الشيوع والكثرة أو النذرة والشذوذ وبه يستطيع أن يستخرج القواعد النحوية ، فالناذر بحسب سيبويه يجب أن يتبع ولا يقاس عليه بالنسبة للمتكلم العادي وان دور عالم النحو هو التفسير والتعليل والتأويل ولذلك اعتبر القبيح جائزا في نظرهم . وان التأويل ليس لتبرير كل خطا بل لرد الناذر في الاستعمال إلى النظام اللغوي .وذلك لاستيعاب كل ما يعدل عن الثابت إلى داخل النظام.
ويكاد الرجل سيبويه أن يضع قاعدة لبعض الشواهد القليلة عند العرب مثل قولهم " جحر ضب خرب " وهي قاعدة الجوار ، فالمفروض أن "خرب " نعت لجحر ، ولذلك فالقاعدة أن ترفع ، ولكنها جرت للاتباع أو الجوار . وعلى مثل ذلك التأويل أيضا ما يسميه سيبويه " الإجراء على الموضع " : قولك ليس زيد بجبان ولا بخيلا ، وما زيد بأخيك ولا صاحبك ، والوجه فيه الجر لانك تريد أن تشرك بين الخبرين ، وليس ينقض إجراؤه عليك المعنى .وان يكون آخره على أوله أولى ، ليكون حالتها في الباء سواء كحالهما في غير الباء مع قربه منه. وقد حملهم قرب الجوار على أن أجروا : هذا جحر ضب خرب ، ونحوه فكيف ما يصح معناه؟ ( الكتاب ج 1 ص : 66-67 .ج3 ص : 90-91).
إن الحقيقة الشاملة التي كانت تحكمت عقول النحاة جميعهم قبيل وضع القواعد تلخصت في أن اللغة بناء محكم فهو بمثابة الدار المحكمة كما يقول الخليل . وأن اللغة ملك جماعي ، و إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، كما كان وعي القدماء كبيرا بصعوبة التفاسير والتأويلات نظرا لبعد الدارس عن موضوعه فإذا حصل إدراك النحاة للغة فإنما يحصل من جانب فقط كما بينا أعلاه.
وعليه فإننا نستنتج أن تعليلات النحاة كانت إلا تأويلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية كما يقول نصر حامد أبو زيد في الهيرمينوطيقا والتأويل ، منشورات ألف دار قرطبة للطباعة والنشر الدار البيضاء 1993.
ولا ريب في أن أسلوب الكتاب فيه كثير من الغموض ، وفي ذلك يقول بن كيسان " نظرنا في كتاب سيبويه فوجدناه في الموضع الذي يستحقه ، ووجدنا ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح ، لانه ألف الكتاب في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ ، فاختصر على مذاهبهم"
قال أبو جعفر النحاس : ورأيت علي بن أبى سليمان يذهب إلى غيره ، قال بن كيسان ، قال عمل سيبويه كتاب على لغة العرب وخطبها وبلاغتها، مما جعله بينا مشروحا ، وجعل فيه مشتبها ، ليكون لمن استنبط ونظر فضل .
وفي تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ذكر في "باب من الابتداء يضمر فيه ما بني على الابتداء " فقد ترك الأخفش والمازني والأصمعي وأبا زيد وأبا مالك في حيرة من أمرهم في تأويل هذه المقولة فقالوا : ما ندري ما هو ؟ إلى أن فسره أبو إسحاق الزجاج فقال : معناه على كلام تقدم ، كأن قائلا قال ليس زيد بغافل . فقال المجيب بلى ما أغفله عنك ، انظر شيئا ، أي تفقد أمرك . فاحتج به على الحذف يريد حذف " أنظره " الناصب "شيئا " . إن أمر فهم الكتاب كمن يركب البحر كما قال المبرد . فلغته ليست هي لغة عصرنا الحالي ، ولذلك فكثير من مصطلحاته تحتاج إلى الإلف والممارسة.
ومن عناوين الكتاب الملتبسة التي أثارت الجدل : " هذا باب الفاعلين والمفعولين الذين كل واحد منها يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به " ومعناه هذا باب التنازع " ومن الأمثلة الأخرى " باب ما ينتصب من المصادر لانه حال صار فيه المذكور " قال السيرافي " هذا باب فيه صعوبة ونقل كلام النحويين من البصريين والكوفيين .وكذلك قال الزجاج : هذا باب لم يفهمه إلا الخليل وسيبويه"
ومهما يكن من أمر فان قراءة الكتاب عبر التاريخ على يد المتخصصين من علماء النحو واللغة جعله متعة ومنفعة لما يؤثر في الشراح والمفسرين ويترك أثره في الخطابات التي تناولت علوم العربية وجعلت بعضهم كالكسائي و الفراء يذهب خلاف سيبويه في ترتيب النحويين من خلال ألقاب الإعراب وتسمية الحروف وهناك من اعترض عليه في مسائل شتى ، وفي الكتاب من المسائل النحوية المثيرة ما كانت تجعل النحاة يتجادلون في التأويل والتفسير ومرد ذلك كله إلى الأصالة في البنيان والمتانة في التكوين . نذكر هنا من شراح ومفسري الكتاب : أبو الحسن سعيد بن مسعدة و أبو عثمان بكر بن محمد المازني البصري وأبو بكر بن السراج و أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل وابن درستويه وأبو سعيد السيرافي وأبى علي الفارسي واحمد بن أبان بن سيد اللغوي وأبو الحسن الرماني علي بن عيسى وأبو العلاء المعري وابن الباذش وأبو القاسم محمود بن عمر وابن خروف والصفار والشلوبين الكبير وابن الحاجب وابن الحاج بن محمد الاشبيلي والخفاف المالقي وابن الضائع وابن أبي الربيع وأبي جعفر احمد بن إبراهيم الغرناطي وابو حيان الأندلسي محمد بن يوسف وأبو العباس احمد بن محمد العتابي الأندلسي. وغيرهم كثير ممن تخصصوا في شرح شواهده و أبياته ونكته وأبنيته. مما كان له الأثر البليغ في كثرة الحواشي والهوامش التي شملت نص الكتاب ففسر بابا بابا حتى كاد قارءوه يعتمدون أقوال المفسرين في تأويل مقولات الكتاب الصعبة الإدراك ( ابن قنبر سيبويه ، الكتاب ، تحقيق عبد السلام هارون الجزء1).
خلاصة :
إن طبيعة بناء علم النحو والتقعيد له استجابة لمنطق نظام اللغة العربية في عصور الاحتجاج جعل النحاة وأولهم سيبويه ومن بعده المبرد وغيره من المتقدمين يقيمون تصورات منطقية لقضاياهم النحوية معتمدين على جهاز متكامل وصفا وشرحا ألا وهو آلة التأويل التي لاقت معارضة شديدة من فبل النحاة المتأخرين والمتأثرين بثقافة النص للنص بدون فهم افتراضات النحاة العلمية وهذا ما ينطبق أيضا على الفكر الفلسفي الإسلامي حين هوجم الفيلسوف العربي الكبير بن رشد في شرح كتب أر سطو الفلسفية وقد تخفت محاولات الهجوم تلك تحت شعارات
براقة تعوق فهم طبيعة المشكلات والقضايا والمسائل العلمية في ثقافتنا العربية.