قال البغوي: واعلم أن تأويل الرؤيا ينقسم أقسامًا:
· فقد يكون بدلالة من جهة الكتاب.
· أو من جهة السنة.
· أو من الأمثال السائرة بين الناس.
· وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني.
· وقد يقع على الضد والقلب.
فالتأويل بدلالة القرآن:
كالحبل يُعبَّر بالعهـد؛ لقـوله I: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ( [آل عمران: 103].
والسفينة تعبَّر بالنجاة؛ لقـوله I: )فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ( [العنكبوت: 15].
والخشب يُعبِّر بالنفاق؛ لقوله U: )كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ( [المنافقون: 4].
والحجارة تعبر بالقسوة؛ لقوله -جل ذكره-: )فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً( [البقرة: 34].
والمريض بالنفاق؛ لقوله تبارك وتعالى: )فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ( [البقرة: 10].
والبيض يعبر بالنساء؛ لقوله I: )كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ( [الصافات: 49].
وكذلك اللباس؛ لقـوله I: )هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ( [البقرة: 187].
واستفتاح الباب يُعَبَّر بالدعاء؛ لقوله I: )إِنْ تَسْتَفْتِحُوا( [الأنفال: 19]. أي: تدعو.
والماء يعبر بالفتنة في بعض الأحـوال؛ لقوله U: )لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ( [الجن: 16-17].
وأكل اللحم النَّيِّئ يعبَِّر بالغيبة؛ لقوله I: )أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا( [الحجرات: 12].
ودخول الملك محلة، أو بلدة، أو دارًا تصغر عن قدره، وينكر دخول مثله مثلها، يعبر بالمصيبة والذل ينال أهلها؛ لقوله تبارك تعالى: )إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا( [النمل:34].
وأمــا التــأويــل بـدلالــــة الـحــديـث:
كالغراب، يعبر بالرجل الفاسق؛ لأن النبي r سماه فاسقًا.
والفأرة تعبر بالمرأة الفاسقة؛ لأن النبي r سماها فويسقة.
والضلع يعبر المرأة، لقول النبي r: ((إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ))([1]) والقوارير تعبر بالنساء لقوله r: ((يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ))([2]).
والتــــأويــــل بالأمثــــــــال:
كالصـائغ يعبر بالكذب، لقولهم: أكـذب الناس الصواغون.
وحفر الحفرة يعبر بالمكر، لقولهم: من حفر حفرة وقع فيها. قال الله تعالى: )وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ( [فاطر: 43].
والحاطب يعبر بالنَّمام، لقولهم لمن وشى: إنه يحطب عليه، وفسـروا قوله I: )حَمَّالَةَ الْحَطَبِ( [المسد: 4]. بالنميمة.
ويعبر طول اليد بصنائع المعروف؛ لقولهم: فلان أطول يدًا من فلان.
ويعبر الرمي بالحجارة وبالسهم بالقذف، لقولهم: رمى فلانًا بفاحشـة، قال الله U: )وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ( [النور: 4].
ويعبر غسل اليد باليأس عما يأمل، لقولهم: غسلت يدي عنك.
والتــأويــل بـالأســــامــي:
كمن رأى رجلاً يسمى راشدًا يُعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالمًا يعبر بالسلامة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ((رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لَنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ)).
هذا حديث صحيح([3]).
قال ابن سيرين: نوى التمر: نية السفر، وقد يُعبَّر السفرجل بالسفر إذا لَمْ يكن في الرؤيا ما يدل على المرض؛ لأن أوله سفر، والسُّوسن بالسوء؛ لأن أوله سوء إذا عُدل به ينسب إليه في التأويل .
والتــأويــل بالـمـعـنـى:
كالأترج يعبر بالنفاق، لمخالفة باطنه ظاهره إن لَمْ يكن في الرؤيا ما يدل على المال، وكالورد والنرجس يعبر بقلة البقاء إنْ عدل به عما ينسب إليه لسرعة ذهابه، ويعبر الآس بالبقاء؛ لأنه يدوم.
حُكي أَنَّ امرأة سألت معبرًا بالأهواز: إني رأيت في المنام كأن زوجي ناولني نرجسًا، وناول ضرة لي آسًا.
فقال: يُطلقك ويتمسك بضرتك، أما سمعت قول الشاعر:
ليس للنرجـس عهـدٌ
إنَّمَـا العهـد لـلآس
وأمــا التــأويــل بالضــــد والقــلـب:
فكما أن الخوف في النوم يعبر بالأمن؛ لقوله سبحانه وتعالى: ) وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا( [النور: 55]، والأمن فيه يعبر بالخوف.
ويعبر البكاء بالفرح إذا لم يكن معه رنة.
ويعبر الضحك بالحزن، إلا أن يكون تبسمًا.
ويعبر الطاعون بالحرب، والحرب بالطاعون، ويعبر العجلة في الأمر بالندم، والندم بالعجلة.
ويعبر العشق بالجنون، والجنون بالعشق.
والنكاح بالتجارة، والتجارة بالنكاح.
ويعبر الحجامة بكتبة الصك، وكتبة الصك بالحجامة.
ويعبر التحول عن المنْزل بالسفر، والسفر بالتحول عن المنْزل .
ومن هذا القبيل أن العطش في النوم خير من الري، والفقر خير من الغنى، والمضروب، والمجروح، والمقذوف أحسن حالاً من الضارب، والجارح، والقاذف.
وقد يتغير حكم التأويل بالزيادة والنقصان كقولهم في البكاء: إنه فرح، فإن كان معه صوت ورنة، فهو مصيبة.
وفي الضحك: إنه حزن، فإن كان تبسمًا فصالح.
وكقولهم في الجوز: إنه مال مكنوز، فإن سمعت له قعقعة، فهو خصومة .
والدهن في الرأس زينة، فإن سال على الوجه فهو غمٌّ.
والزعفران ثناء حسن، فإن ظهر له وزن أو جسد، فهو مرض أو هَمٌّ.
والمريض يخرج من منْزله ولا يتكلم، فهو موته، وإن تكلم برئ.
والفأر نساء، ما لَمْ يختلف ألوانُهَا، فإن اختلف ألوانُهَا إلى بيض وسود، فهي الأيام والليالي.
والسمك نساء إذا عرف عددها، فإن كثر فغنيمةٌ.
وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه، وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر.
وكان ابن سيرين يقول في الرجل يخطب على المنبر: يصيب سلطانًا، فإن لَمْ يكن من أهله يصلب.
وسأل رجل ابن سيرين قال: رأيت في المنام كأني أؤذن قال: تحج، وسأله آخر، فأول بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيماء حسنة، فأولت قوله سبحان وتعالى: )وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ( [الحج: 27]. ولم أرض هيئة الثاني، فأولت قوله U: )ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ( [يوسف: 70].
وقد يرى الرجل في منامه فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية أو حج أو قدوم غائب أو خير أو نكبة، فقد رأى النبي r الفتح، فكان ذلك، قال الله -سبحانه وتعالى-: )لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ( [الفتح: 27].
عن ابن خزيمة بن ثابت، عن عمه: أن خزيمة رأى فيما يرى النائم، أنه سجد على جبهة النبي r، فأخبره فاضطجع له وقال: ((صَدِّقْ رُؤْيَاكَ)) فسجد على جبهته([4]).
وقد يُرى الشيء في المنام للرجل، ويكون التأويل لولده أو قريبه أو سميِّه، فقد رأى النبي r في النوم مبايعة أبي جهل معه، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال عليه الصلاة والسلام: ((هُوَ هَذَا))، ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي r مكة([5]).
واعلم أنه لم يتغير من أصول الرؤيا القديمة شيء، لكن تغيرت حالات الناس في هممهم وآدابِهِم وإيثارهم أمر دنياهم على آخرتِهِم، فلذلك صار الأصل الذي كان تأويله همة الرجل وبغيته، وكانت تلك الهمة دينه خاصة دون دنياه، فتحولت تلك الهمة عن دينه وإيثاره إياه، فصارت اليوم في دنياه وفي متاعها وغضارتِهَا، وهي أقوى الهمتين عند الناس اليوم إلا أهل الدين والزهد في الدنيا.
وقد كان أصحاب رسول الله r يرون التمر، فيتأولونه حلاوة دينهم، ويرون العسل، فيتأولونه قراءة القرآن والعلم والبر، وحلاوة ذلك في قلوبِهِم، فصارت تلك الحلاوة اليوم والهمة في عامة الناس في دنياهم وغضارتِهَا إلا القليل ممن وصفت([6]).