تبلور الخطاب الفكري في عصر النهضة في خضم الصراع بين تيارات مختلفة، تحاول تأصيل أفكارها من أجل تجاوز الأزمة الحضارية. فلقد برزت مجموعة من التيارات التي تنادي باعتناق الفكر الغربي كأساس منهجي علمي، يساعد العقل العربي على تخطي أزماته الفكرية واللحاق بركب الحضارة العالمية ،وهناك من رفض هذا الفكر وحاول الرجوع إلى التراث، باعتباره القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع الحفاظ على الهوية العربية ،أما التيار التوفيقي فقد نادى بضرورة التوفيق بين الفكر الغربي و الموروث العربي لضمان التحديث والسير بالفكر العربي في مسار التقدم و العلمية ، وقد انقسمت الساحة النقدية والفكرية إلى :
تيار علمي علماني وتيار سلفي، يتجاذبان العقل العربي و يحاولان صياغة الخطاب الفكري العام صياغة إيديولوجية في أغلب الأحيان، فالتيار العلماني يدعو إلى اعتناق الفكر الغربي و نبذ التراث الذي أصبح في نظرهم قاصرا عن احتواء الإشكاليات الفكرية الراهنة، أما التيار الإصلاحي فقد رأى في التراث العربي ضالته،لأنه يحمل من الفكر الحداثي العربي ما يماثل الفكر الغربي، لذلك دعو إلى تبنيه . ومن هذا المنطلق عرفت الثقافة العربية الحديثة مجموعة من المفكرين و النقاد الذين حاولوا بلورة الخطاب الثقافي العام من منطق فكري و منهجي ، حيث شكل التراث القاسم المعرفي المشترك بينهم.
وقد تعددت آراؤهم واختلفت مناهجهم، فمنهم من درس التراث من منطلق عقلاني ، محاولا تغيير نمطية الدراسات الفكرية وإخراج الإرث الثقافي من دائرة الاستهلاك والاجترارية، ويعتبر محمد عابد الجابري من أهم المفكرين الذين نادوا بهذه الفكرة ، كما نادى آخرون بضرورة التخلص من الفكر الاستشراقي و إعادة صياغة الموقف الفكري الراهن انطلاقا من إعادة استيعاب الذات العربية و جعلها المدار الأساس في الدراسة، و قد حمل محمد أركون لواء هذه الفكرة ،أما نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي فقد حاولا إعادة تأويل النص الديني ، و الخطاب الديني من منطلق تاريخي ، و على أسس مختلفة.
أما النقاد فقد اختلفت مناهجهم و تنوعت،فمنهم من نادى بالخرق و رأى فيه معيارا نقديا، يبرز الجوانب الحداثية في التراث العربي و يعتبر أدونيس من أهم ممثليه ، أما بالنسبة لعبد الله الغذامي فقد رأى بأن التراث تتحكم فيه مجموعة من الأنساق الثاوية بين أرجاء نصوصه الإبداعية و التي تمارس إشعاعها الجمالي و الفني ، على النص و على متلقيه لذلك يدعو إلى اكتشافها من خلال آلية النقد الثقافي ،أما عبد العزيز حمودة فهو يرى بأن التراث زاخر بمختلف الإشارات التي تصلح أن تكون مبادئ لنظرية عربية أصيلة .
ولكن مهما اختلفت الرؤى والإجراءات المنهجية المتبعة من ناقد إلى آخر ومن مفكر إلى آخر، فإن هؤلاء جميعهم حاولوا إثراء الموقف الثقافي العام، وانتشال الفكر العربي من براثن الجمود والتبعية
-1التراث في كتابات محمد عابد الجابري :
النظرة العقلانية للتراث :
ينطلق الجابري في مشروعه الفكري من نقد مقومات العقل العربي ومرتكزا ته المعرفية ،متجاوزا بذلك فكر المصلحين النهضويين لتأسيس وعي نقدي قائم على الديمقراطية والليبرالية والحداثة، محاولا بذلك إرساء دعائم الفكر التراثي الأكثر نضجا وعلمية ،وإعادة قراءته من منطلق حداثي ، مستثمرا بذلك المناهج الغربية لدراسته .
ويرى الجابري أن التراث يتطلب قراءة نقدية جديدة و جدية ، تسعى إلى الكشف عن مكامن قصوره ومحاولة تخطيها ، وذلك بالاستفادة من المواقف التراثية التي شهد لها بالعلمية والتفوق و القدرة على التحقق في الواقع الفكري الراهن ،من خلال إعادة صياغتها من جديد .
ويرى بأن هذه الإمكانية لا تتحقق إلا من خلال تطبيق بعض المناهج الغربية باعتبارها أدوات منهجية علمية تساعده على كشف أغوار التراث، " لذلك استحضر أطرا مرجعية مختلفة ، من الديكارتية إلى فلسفة الأنوار التي تظهر جليا في تركيزه على فكرة التقدم والعقلانية ، كما نلمس حضورا متميزا لفلسفة فوكو M .Faucoult و التو سير L.Athusser و غراميشي A Gramissi و الماركسية في صورتها النقدية و ليس في شكلها العقائدي" 1.
وهو بذلك يقول بفكرة عالمية الثقافة،وإن الفكر الغربي بحداثته ما هو إلا جزء من المورث الحضاري الإنساني،حيث يستطيع الناقد العربي استثماره بما يخدم رؤاه وخلفياته المعرفية، ،وبذلك فإن هذا المفكر يدعو إلى تطويع المناهج الغربية ،وإعادة صياغة بعض أسسها بما يخدم خصوصية النص التراثي ،انطلاقا من فكرة قابلية المنهج للتغيير،ولا يعني هذا اجتثاث المنهج الغربي من سياقاته المعرفية وإنما هي دعوة علمية رصينة تحاول تأطير المناهج الغربية ضمن فضاء فكري و ثقافي عربي، من خلال إعادة البلورة المنهجية العلمية الدقيقة ، فهو بهذا يضع الحداثة الغربية في ، " سياقها التاريخي و ملابساتها السوسيوثقافية ،ومن خلال هذه الرؤية النقدية المتبصرة،يحاول استثمار انجازاتها المعرفية و المادية بما يتماشى وخصوصية الواقع العربي"2 .
فالتراث في فكر الجابري قد شكل القاعدة الأساس التي من خلالها نستطيع تغيير الموقف الفكري الراهن ، لذلك يطرح هذا المفكر العقلانية كرهان نقدي و فكري ، يساعد على تأصيل حداثة فكرية، بدل حداثة عصر النهضة العربية المستلبة التي زادت من تعميق هوة الاغتراب الذاتي للمفكر العربي ، و ضياعه ضمن قطبين متعاكسين ، إما الانبهار بالفكر الغربي و رفض الموروث بصفة مطلقة ، أو الارتماء في محراب الماضي و تقديسه و رفض الفكر الغربي رفضا مطلقا ، وقد أدى هذا التشتت في المواقف حسب الجابري ، إلى افتقار الساحة الفكرية لمنهج علمي دقيق، يساعد الباحث على رصد الظواهر الفكرية بطريقة علمية دقيقة واعية حيث يقول : "إنه بدون التعامل العقلاني مع تراثنا لن نتمكن قط من تعميم الممارسة العقلانية على أوسع قطاعات العقل العربي المعاصر ، القطاع الذي ينعت بالأصول حينا و السلفي حينا آخر ، كما انه يبدو بدون هذه الممارسة العقلانية على معطيات تراثنا ، لن يكون في إمكاننا قط ، تأصيل العطاءات الفكرية التي يقدمها أو بالإمكان أن يقدمها قطاع آخر من فكرنا العربي المعاصر ." 3
فتغيير مكونات فهمنا للخطاب الديني ،حسب الجابري يفرض علينا تحريره من سلطة الإديولوجيا السياسية ،التي كانت توجهه و تفرض عليه دعمها ،ومن هنا تحددت فاعلية العقل العربي في إنتاج وعيها بما يخدم الساسة و أفكارهم ،وبالتالي تأطير جميع العلوم العربية بسياج سياسي، أدى إلى تحويل مبدأ الفاعلية إلى مفعولية سالبة، حجرت العقل العربي وحجزته ضمن منظور إيديولوجي مغلق لذلك فإن رهان العقلانية الذي طرحه بديلا يساعد حتما على ترميم تلك الفجوة الإبستيمولوجية العميقة التي خرفت العقل العربي جراء تحكم السياسة في مجاله المعرفي، " لقد كانت المواقف السياسية وهي جزئية بطبيعتها يبحث لها عن سند من الدين وكان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد اسم علم الكلام،إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجرد الكلام في العقيدة بل كان ممارسة للسياسة في الدين، وعندما اتجهت المعارضة ثم من بعدها الدولة على الموروث كان هدفها هو توظيفه في نفس الممارسة السياسية في الدين " 4.
وحتى نجتاز تلك الحواجز الإيديولوجية التي صنعها المتقدمون يجب علينا أن لا نقيد أنفسنا بقضايا التراث الماضية دون تعديل ولا نقد،لأن الساحة النقدية والفكرية لطالما أعادت قضايا تراثية واهتمت بجردها واستهلاكها كما هي ، وبالتالي شغل العقل العربي* المعاصر نفسه بإشكاليات التراث القديم وهمومه الماضية دون أن يشارك في حل أزماته "إن الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غريبة حقا إن القضايا الفكرية السياسية الفلسفية والدينية التي تطرح فيها الاستهلاك والنقاش قضايا غير معاصرة لنا،إنها قضايا الماضي تجتر اجترارا من طرف قسم كبير من الفقهاء والعلماء والأدباء أولئك الذين يعيشون مغتربين بعقولهم عن الماضي محكومين بكل سلطاته الظاهرة منها والخفية السياسية والإيديولوجية " 5.
وانطلاقا من هذه الفكرة فإن التراث في بعده المعرفي،أصبح يشكل حلقة إيديولوجية ضخمة أعاقتنا عن استيعاب واقعنا وماضينا بالطريقة الصحيحة، لذلك يدعو إلى قراءته قراءة عقلانية تساعده على التبلور فكرا وإرثا ثقافيا له وزنه في حاضرنا بعيدا كل البعد عن التعصب ولأدلجة .
و نجده يصر على إعادة فهم ابن حزم والشاطبي اللذين أسسا بحق وعيا علميا جديدا بالنص القرآني وعلم أصول الفقه إذ أخرجاه من دائرة المتعارف والمألوف وصبغاه بصبغة عقلانية ترمي إلى إعادة تفعيل الفكر العربي الذي اختصر في مجال توليد النصوص وتفسيرها .
فإبن حزم من خلال منهجه الظاهري حاول أن يقطع الحبل السري مع مجمل الثقافة السائدة، حيث دعا إلى التنصل من سلطة السلف أي التخلي عن التقليد وسلطة القياس التي تعتبر أهم مكونات الفكر العربي. فالقياس أدى إلى الابتعاد عن الأصول وتشعب النزاعات والخلافات حول القضايا والأمور الدينية لأن أهل القياس"جميعهم مختلفون في قياساتهم ،لاتكاد توجد مسألة إلا توجد طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته وتعارض بت قياس أخرى وكلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا "6
فالجابري يرى أن ابن حزم استطاع أن يعقلن فهمنا للدين ،حيث استوعب الخطاب الديني من منطلق منطقي رافضا بذلك فكرة العلة الفقهية التي أحل محلها فكرة العقل التكويني أي" الانتقال من المقدمتين إلى نتيجة تلزم عنهما لزوما ضروريا،أو الانتقال من لازم إلى ملزوم أومن كلي لجزئي إلى غير ذلك من القواعد المنطقية التي يجتهد ابن حزم في تطبيقها بل وفي تبييئتها مع موضوعه، والشيء الأساس الذي استبعده ابن حزم استبعادا تاما هو التعليل الذي يبنى عليه القياس الفقهي" 7.
وانطلاقا من الاتجاه الظاهري الذي سلكه ابن حزم في تعامله مع البيان العربي فإن الجابري يدعو إلى التعامل مع التراث من منطلق عقلاني لأنه المنهج الأنسب الذي من خلاله نستطيع أن نكتشف الدرر الحسان في الفكر العربي التراثي،وأن نطوع هذه الدرر بما يخدم الواقع الراهن .
فتجديد العقل عند الجابري إذن هو ذلك التفاعل بين مرحلتين تاريخيتين على المستوى الفكري، فالتراث هو الوسيلة التي من خلالها نتخطى الأزمة الفكرية الراهنة ،لأنه يحمل مكونات العقل العربي و يعتبر نتاجا له فاعلية إيجابية ، من خلال إعادة تمثله تمثلا عقلانيا واعيا.
- نصر حامد أبو زيد :
-القراءة التاريخية:
يرفض نصر حامد أبو زيد النظرة السكونية المتوارثة و يدعو إلى صياغة الفكر العربي عامة، انطلاقا من خلخله البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية،فهو يحاول بلورة نظرته الشمولية على أساس فكرة البعث، أي انه يحاول أن يصوغ التراث خصوصا الديني صياغة جديدة باستخدام الآليات والمناهج العلمية بطبيعة الحال الغربية ،هذه الصياغة إنما كانت مستندة إلى أفكار عصر النهضة الغربي خصوصا فكرة "العلمانية" ، و قد تحولت هذه الفكرة عند أبي زيد إلى رغبة جامحة في إلغاء القداسة عن التراث و فصل التراث كمعطى فكري إنساني عن القرآن "و بعبارة أخرى أدى التوحيد بين الدين والتراث إلى إضفاء القداسة على ذلك التراث، وإلى تحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية واقتصرت مهمة العقل على التكرار والشرح والترتيب، وقد أدى هذا كله إلى ركود الثقافة التي عززت بدورها ركود الواقع العربي المنتج لهذه الثقافة"8.
لذلك نجده يؤكد على التحرر من سلطة السلف الدينية التي تحولت في وقتنا الراهن إلى ايدولوجيا فكرية ودينية ألغت مبدأ العلمية، وفسحت المجال أمام "مبدأ الحاكمية"، الذي أنتج بدوره أنماطا خاصة في التفكير ، قولبت الفكر العربي الإسلامي ضمن مجموعة من الآليات التي يعد الخروج عنها ضربا من الإلحاد و الكفر .
وانطلاقا من هذه النقطة فإن أبا زيد يقوم بالتفرقة بين الخطاب الديني والدين باعتباره مجموعة من النصوص التي على ضوئها يفسر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فهذه النصوص هي التي تساعد على فهم النص القرآني، أما الدين في نظره فهو عبارة عن نص مقدس ثابت تاريخيا.
و بالتالي فهو يحاول تأسيس منظومته الفكرية على نقد تلك النصوص التراثية "التفسير،الاجتهاد، الاستنباط "، و التي يرى بأنها غيبت العقل و الوعي العلمي العربي و جعلت الثقافة العربية ككل تختزل في آلية تفسير النصوص و شرحها، حيث يقول:" هكذا تحددت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سلطة النصوص وأصبحت مهمة العقل العربي محصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة"9 . لقد أصبحت أقوال العلماء واجتهاداتهم نصوصا مشرعة وانحصرت بذلك مشروعية العقل العربي في مجال محدد وهو مجال توليد النصوص وشرحها، و قد استفحلت هذه الظاهرة لتشمل العلوم العربية برمتها، حيث يقول :" واقتصرت المؤلفات على أن تكون شروحا لمؤلفات سابقة و قد يوضع المتن في الهامش الجانبي و يتناول الشرح عبارة الأصل المشروح عبارة عبارة بشرحها اللغوي والفقهي و بيان ما غمض من شأنها ثم تكثر الشروح على الشروح، ولم تنج العلوم العقلية من المصير ذاته وصارت كتب علم الكلام المتأخرة شروحا على متن قديمة " 10 .
ومما ساعد على تثبيت هذه الآلية و تعميقها في الفكر العربي إلى وقتنا الراهن هو نمطية الخطاب الديني المعاصر الذي يحاول تأصيل السلفية لخدمة أغراضه الايدولوجيا " وجعل الإسلام الإطار المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل ممارسة وسلوك" (11) ، لمواجهة الآخر المسيحي الذي أصبح يشكل أحد طرفي المعادلة النهضوية،وقد استغل هذا الأخير موقف"الإطارالمرجعي الوحيد" ورسخ فكرة أن الإسلام هو العامل الأساس لتخلف العرب والمسلمين، و قد قامت الجماهير العربية باحتضان هذه الصورة السلبية وأعادت صياغتها في ذلك التشتت الفكري الذي شهده عصر النهضة العربي حيث انقسمت الساحة الفكرية إلى تيار علمي علماني و إلى تيار ديني إصلاحي.
ويرجع أبو زيد فشل النهضة العربية إلى غياب وعي علمي بالتراث و تعقد علاقتنا بالآخر، بالإضافة إلى إهدار التاريخية من السياق الثقافي العام. فالتاريخية كمفهوم إجرائي حسب أبي زيد يستطيع أن يحرر الفكر العربي من سطوة التراث وشمولية الفكر الديني،الذي اختزل العقل العربي في مفهوم ماضوي سلبه إمكانية التطور و التقدم.
فالخطاب الديني منذ عصر التدوين سطر طرائق خاصة في التفكير،وتعتبر القداسة والسلطة من أهم إفرازاته ،لذلك فإن أبا زيد يبدأ من المسلمات التي رسخها الخطاب الديني التراثي و جعلها قواعد شرعية،وذلك بنسفها و إلغاء القداسة عنها و أول قاعدة يبدأ بها هي قضية"خلق القرآن".
فهو يرى بأن القرآن باعتباره خطابا إلاهيا لا يعني عدم قابليته للتحليل وفقا للمناهج العلمية الغربية ،لأنه تجسد باللغة الإنسانية "العربية"،و بالتالي فهو نص تاريخي له وجوده الفعلي في الزمان والمكان،لذلك يجب علينا أن نفهم القرآن فهما مغايرا ومحايدا عما ورثناه،لأن الخطاب الديني المعاصر يهدف إلى ترسيخ الماضي في الحاضر كما هو، بالإضافة إلى أنه ضاق عن استيعاب الواقع المعاصر وعجز عن التعبير عت مشاكله، وبالتالي فإن تغيير واقعنا حسب أبي زيد مرهون بتغيير موقفنا من التراث، و بتجديد طريقة فهمنا للقرآن.
-محمد أركون :
الإسلاميات التطبيقية :
خطا نقد الفكر العربي والإسلامي بصفة عامة عند أركون خطوات نحو إقامة قطيعة معرفية مع الكتابات الإيديولوجية التي قرأت التراث،وذلك بإرساء أسس المناهج الغربية كتقنيات إجرائية تساعد على بتر الصلة مع التيارات السلفية العربية والثقافة السائدة ، بغية إقامة منهج علمي حديث يتجاوز نظام الفكر المؤسس،و ذلك لتحقيق التغيير الاجتماعي و الفكري على حد السواء.
وفي هذا الإطار ينطلق محمد أركون من نقد الإسلاميات الكلاسيكية ( الاستشراق) التي يرى بأنها تناولت الفكر العربي الإسلامي تناولا خارجيا وظيفيا لا يتعدى حدود الدراسة الشكلية البحتة ، فهي لم تدرس ذلك الفكر من"خلال عملية انخراط ابستمولوجي كاملة " (12) ، بهدف الوصول إلى مكامن الضعف في الثقافة العربية الإسلامية، وإيجاد الحلول المناسبة لتخطيها, و إنما كان هدفها هو تثبيت مركزية الفكر الغربي،"و من الواضح أن منهجية الاستشراق لا تؤدي في معظم الأحيان إلى تعرية المشاكل وآليات الهيمنة والتسلط السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية و هي تبدو في معظم الأحيان متواطئة مع الأرثوذوكسية و الفئات المهيمنة داخل هذه المجتمعات بالذات، فهي باختصار لا تؤدي إلى تحرير الفكر وهو آخر شيء تفكر فيه " 13.
يدين أركون الإسلاميات الكلاسيكية لقصور منهجها عن احتواء الفكر العربي الإسلامي بطريقة علمية تساعده على تجاوز محنه الكثيرة و مآزقه الابستمولوجية ، لذلك نجده يرفض آليات الفكر الاستشراقي لأنها تحصر التراث العربي و الإسلامي في مجال الدراسة السطحية الخالية من أي محاولة نقدية جدية ،وبالتالي اختزال فاعلية الفكر العربي الإسلامي في بوتقة المبدأ الاختياري، الذي شنه المستشرقون كأساس لدراسة ذلك الفكر. ومن هنا فإن الاستشراق –حسبه- يساهم في " ترسيخ ما يدعوه أركون بالسياج الدوغمائي المغلق ، في حين ينبغي على الباحث أن لا يكتفي بنقل التراث كما هو ولكن بعد نقله يبتدئ بتفكيكه و تشريحه عن طريق الدراسة النقدية حتى تستفيد منه المجتمعات بصورة إيجابية "14 .
فدراسة الموروث الفكري العربي من قبل المستشرقين حجب الكثير من التفاعلات الفكرية العربية وسار بالموروث في اتجاه الموقف الإخباري ،لأن الباحث الغربي حرم الفكر العربي و الإسلامي من الدراسة العلمية القائمة على أساس تطبيق الإجراءات المنهجية الحداثية كالألسنية و الأنتروبولوجيا والتفكيكية وغيرها من الإجراءات العلمية، التي تساعد على كشف حقائق الفكر التراثي العربي الإسلامي والمساهمة في تغيير واقعه الفكري المتأزم، اكتفى بسجنه في إطار الاثنوغرافيا (النظرة الفلكلورية الإحتقارية) كمنهج الدراسة .
لذلك يندد أركون بتلك المواقف الغربية خصوصا ،"بالموقف السائد للفكر الغربي اتجاه الثقافات الأخرى التي يتحكم بمسارها و تطورها عن طريق فرض نماذجه و قوالبه... أقول إن عليه أن يتراجع من النظرة الإثنوغرافية التي يحملها اتجاه الثقافات الأخرى, في الوقت الذي ينبغي عليه أن يطبق على المجتمعات الغربية نفسها و على تراثاتها الثقافية منهجية المقاربة الأنثروبولوجيا ضمن الخط الذي افتتحه، (George blindiez) جورج بلانديه أو ( pierre Bourdieu) بيير بوروديو،ينبغي أن نلاحظ أن الفكر الغربي يرفض الانخراط في خط كهذا"15.
فالفكر الغربي إذن يزاوج بين منهجين للدراسة أحدهما علمي دقيق يطبقه على ثقافته وموروثه الفكري، والآخر إيديولوجي يهدف من خلاله إلى تثبيت مركزيته الفكرية والإعلاء من شأن صورته العلمية، وهذا بدراسة الموروث العربي الإسلامي دراسة إسترجاعية، تقوم على سرد المواقف السالبة في هذا الفكر بالإضافة إلى حصره في التجليات الأصولية المتزمتة للدين، أي تأطيره ضمن (سياج دوغمائي مغلق.
يقصد أركون بهذه الفكرة سيطرة الفكر الديني السكولاستيكي على واقع الثقافة العربية الإسلامية، وخلوها من أي فكر فلسفي أو علمي يساعد على تطوير الواقع الثقافي وبالتالي سجن العقل العربي والإسلامي بصفة عامة في عملية استنباط الأحكام من النص المؤسس "القرآن"، ومحاولة تطبيقها على الواقع مما أدى إلى تنميط فاعلية العقل العربي في آلية توليد النصوص كما يقول أبو زيد.
ويثور أركون على هذه الآلية محاولا إقامة بديل فكري يساعد العقل العربي والإسلامي على تخطي أزمته،وهذا البديل يطرحه في فكرة الإسلاميات التطبيقية،* وهي حسبه عبارة عن "قراءة ماضي الإسلام وحاضره انطلاقا من خطابات المجتمعات العربية الإسلامية وحاجاتها الحالية".16
فهو يسعى إلى تحليل الواقع الفكري والاجتماعي بعيدا عن سلطة السياج الدوغمائي المغلق و ذلك بتطبيق مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية والتي يعتبرها وسيلة ناجعة لإبطال مقولة أن التراث هو ذلك المعطى الفكري المكتفي بذاته،والذي نستطيع توظيفه في واقعنا المعاصر لحل أزماتنا الفكرية الراهنة،لذلك يحاول النفاد إلى عمق المشكلات من خلال ، "عملية انخراط ابستيمولوجي كاملة "17.
ومن خلال نقد العقل العربي والإسلامي يحاول أركون صياغة الموقف الإشكالي العام، والذي يتمثل في تلك العلاقة القائمة بين التراث والحداثة فهذه الإشكالية حظيت طيلة سنوات كثيرة باهتمام كبير من قبل النقاد و المفكرين، الذين ترصدوها منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، و قد صيغت هذه الإشكالية بطرق مختفة أدت إلى ثراء الساحة النقدية والفكرية بالكثير من المواقف المختلفة والمتضاربة في أغلب الأحيان، ويحاول أركون حل هذه الإشكالية من خلال إرساء (وعي تاريخي) الذي أحله محل التفسيرات اللاهوتية والأسطورية، و ذلك حتى يكتسب الفكر العربي الإسلامي بعدا علميا أكثر،و نجده في هذا الصدد يميز بين مصطلحين متقاربين (الحداثة و التحديث) ،و يرى بأن هذا الأخير (التحديث) مقتصر فقط على تطبيق المناهج الغربية و الفكري الغربي بطريقة آلية على الواقع الفكري الإسلامي العربي دون أي خلق أو محاولة تعديل، أما الحداثة التي يعنيها هذا المفكر فهي التي تتخطى حدود الزمن و تلغي حواجزه لأن الحداثة أكبر من أن تؤطر بسياج التاريخ فهي "موقف للروح أمام مشكلة المعرفة .)18("
ومن هنا فإن أركون يدعو إلى حداثة علمية واعية تتجاوز كل أنماط التحديث السطحي،و ذلك من خلال قراءة الموروث و الواقع الفكري قراءة إنسية "*" Humanisme جديدة بعيدة كل البعد عن الاتجاه القروسطي،الذي يشكل نوعا من الوصايا الفكرية على النتاج العقلي العربي الإسلامي، فإذا استطعنا التحلل من ذلك الاتجاه حسب أركون استطعنا أن نتحرر من قبضة الثقافة الموروثة و أن نعتلي أول درجة في سلم التطور الفكري و العقلي.