إذا كان من معاني المهرجان هو الاحتفال الذي يقام ابتهاجا بحادث سعيد ، أو إحياء ذكرى عزيزة ، فإن هذا الديوان الذي حمل عنوان (مهرجان القصيد ) للدكتور الشاعر عدنان علي رضا النحوي ، قد حفل بكل هذه المعاني ! فهو إلى جانب مقدمته الضافية ، قد ضم أبوابا عديدة صنفت القصائد بحسبها ، مثل : في ميادين الحياة – من الملاحم – مع الأصدقاء و لكننا سنقف عند جانب النقد الاجتماعي الذي يبدو واضحا في عدد من القصائد برؤية شمولية متوازنة تبرز موقف الشاعر من الحياة و الأحياء :
فالشاعر في نظرته إلى الجمال – مثلا – لا يتوقف عند الجانب الحسي الذي يأخذ بألباب الكثيرين ، و يتمثل بالفتنة التي تعصف بالقلوب ، و كما يراه المقنع الخراساني :
خلقتَ الجمال لنا فتنة و قلت لنا : يا عبادي اتقون
فأنتَ جميل تحب الجمال فكيف عبادُك لا يعشقون
و لكنه عند النحوي جمال مبثوث في كل ناحية ، و هو جمال يراه المؤمن الذي يعلم أن الله خلق الجمال للتفكر في آياته ، لا للسقوط في مهاوي الشهوات :
سيبقى الجمال لنا آية يرى اللهََ في صدقها العالمون
و مَنْ عَرَف الحُبَّ لله علمه الحبُ ترْكَ المجون
و أما الفتاة التي غرها جمالها، ففتنت بنفسها ، و فتنت غيرها فهي في منظار الشاعر المؤمن ليست سوى ( خضراء الدمن ) حسن منظرها ، و قبح جوهرها :
كم شقي ٍتاه فيها جاهلا ً و شقي كان من خطابها
كم فتى غرّ ٍ جرتْ أنفاسُه خلفها تلهث في طلا َّبها
غرّها الحُسْنُ فلم تحفلْ بهم و جرتْ تختال في أترابها
لم يكن حسْنا ًعلى أعطافها ما بدا ، بل كان مِنْ كِذ ّابها
و أما الحسن الحقيقي فهو ما ارتفع بالإنسان عن حمأة الطين ، و سما به إلى مراقي المثل :
روعة ُالحُسن عفاف ٌ يتقي زلة ََ العين و لا يشقى بها
و رداءُ الطهر أحلى زينة ً و سنىً لو ماج في آدابها
و جمال العُري في خضرتهِ دِمَنٌ تقتل من أصحابها
و خضراء الدمن هذه التي تمثلت في فتاة غرها جمالها ، و خدعها بريق حسنها فخدعت و انخدعت تظهر في صورة أخرى بأشكال متعددة يخشى الشاعر منها على الأمة أن تغتر بها و تسير خلفها ، فيحثها على النجاة منها في قصيدة تحت عنوان ( هي النجاة أدركيها ،أو النجاة من حضارة الغرب) لا في جوانبها التقنية و العلمية ، و لكن في جوانبها الفكرية و العقدية و منهج حياتها ؟! و يرتفع صوته : النجاء .. النجاء فقد كثر الغارقون و الهالكون الذين أضلتهم شعارات الحرية الكاذبة ، و خلط عليهم المخلطون الأمور ، و فتحوا لهم أبواب الفتن ، و ألبوا المذاهب الهدامة ، فهتف الضائعون للحضارة ، و لم يعرفوا لها إلا وجها واحدا و هو الوجه الذي لا يبني أمة ، و لا يوقر خلقا /
ما قيمة ُ العلم الذي يلهبُ حُمى السَّبق ِ
يلهب من جنونه ِ و من هوى أو شَبق ِ
يبني و يعلي ما بنى شواهقا ً في أفق ِ
ثم تراه ينثني في لحظة من نزَق
يهدمها إلى الثرى كأنها لم تسمَق ِ
فهذه حضارة ٌ واهية ٌ من ورق
ماتت مروءاتُ الرجا ل و انطوتْ عن مَلق
يا أمتي لا تركني لظالم أو أحمق
هي النجاة ُ أدركيها أو ذريها فاغرقي
و عن الزخرف الذي سحر الكثيرين ، و غشى أبصارهم ، و قلب كثيرا من الحقائق يتوقف الشاعر عند فقير من فقراء المسلمين في الهند ، و قد شاهد في تلك البلاد من مظاهر البؤس البئيس فيصف بؤسه و حاجته، و هو يمد يده الواهنة ليتناول درهما بعد أن ألجأته الحاجة إلى ذلك ، و ما كان حق الإنسان الذي كرمه الله تعالى على العالمين أن يصل إلى هذه الدرجة من الفاقة و قد كادت تخفي إنسانيته :
فقلتُ له : من أنت َ؟ قال : جهلتني و إني أنا الإنسانُ أصلا و منزلا
أبي آدم ٌخَرَّتْ ملائكة ُ السما سجودا ً له ! مَنْ كان أعلى و أفضلا
و كرّمني ربي فيا لفضيلة ٍ و صبري على ما قد قضاه و عجلا
و أسعى جهادا ً في الحياة و ربما طغى ظالمٌ فيها فآذى و عطلا
و أمضي مع الدنيا أؤدي أمانة و أطلب في الأخرى نجاة ً و موئلا
و هكذا قدم نفسه للشاعر كما خلقه الله ، بوصفه المخلوق المكرم الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض ، و تلك هي الحقيقة !
و لم يقدم نفسه في صورته الراهنة فقيرا كدّه الجوع و التعب ، و لم يفته أن يطلب من السائل أن يعرفه بنفسه ، بحقيقة نفسه :
و لكن ترى مَن أنت َ؟ فيم سألتني و أنكرتني ، هلا عرِفتكَ أوَّلا؟!
عليك ثياب قد تخفيتَ تحتها و طيب ٌ، فما أحلى الثياب َ و أجملا!
و يكتشف الشاعر حقيقة ، و هي أن بين هذه الأطمار إنسانا لم تخف تلك الأطمار حقيقته ، و إن كانت قد شوهتها ؟!
فحِرتُ و لم أدر الإجابة عَلني سمعتُ مقالا ً ما أجلَّ و أعدلا !
و ما كنتُ قبل اليوم فكرتُ مَن أنا و لا سألتْ نفسي السؤال المؤملا
ظننتُ به جهلا ً، فلما سمعته علمتُ بأني كنت أعيا و أجهلا
و أما قصيدته (الإنسان بين الذهب و النحاس ) فيرمز فيها إلى القيمة الحقيقية للأشياء ، و أن شرف الشيء لا يعني انعدام قيمة الأشياء الأخرى ، و أن الأمور في نهاية المطاف بنتائجها فلا يخدعن أحد بمكانته ، ولا يبخس الناس أشياءهم !
يقول الشاعر على لسان الذهب :
أنا الذهبُ الغالي ، فأي ُّ مكانة ٍ تنافسني فيها ، و أنتَ نحاسُ
مكانيَ تيجانُ الملوك و حِلية ٌ و يزهو بحسني مِعصَمٌ و لِباس
و أنا مع علية القوم أسعدهم و أبهجهم بينما أنت مع عامة الناس ؟!
و لكن النحاس على الرغم من عظم الفرق بينه و بين الذهب يرى الأمور من غير هذه الزاوية ، فهو لم يفتن الورى ، و لا هاجت الحروب ، و انتشرت الشرور و طغت بسببه ، و ليس زينة شهوة لذوي الثراء ؟! و إنه و إن لم يكن بغية الموسرين ، و هم قلة ؛ فهو مع مجموع الناس ،فخيره يعم الجميع ، و ينتفع منه العدد الأكبر :
و لكنني خيرٌ على كل حالة لذي ثروة إن شئت َ أو فقراء ِ
أسُدُّ مع الأخلاطِ حاجة َ أمة ِ و أدفع عنها من شرور بلاء ِ
و بي زينة ٌ لا يرهق الناس حملها و ما أنا فتانٌ و لا بمرائي
و يبقى الذهب في غروره ،و يعد النحاس حاسدا ، إلا أنه يعترف بجزء من الحقيقة ، و هي أن الفساد الذي يصيب بعض من يحمله لا بسببه ، و لكنه نابع منهم لأنهم اغتروا به ، و انخدعوا ببريقه و وضعوه في غير مكانه :
و لو عرف الإنسانُ ، كلٌّ مكانه لهانتْ أمور أو نجا من كبائر ِ
فمنزلة ُ الإنسان أ َوْفى لقدره إذا ناله في صدقه و المآثر ِ
و لو وافقتْ أهواؤه قدْرَ نفسه لعَزَّ على خصم و طاب لذاكر
كذلك أشكالُ المعادن كلها منازلُ فضل ٍ أو منازلُ خاسر ِ
ولا بد للإنسان المستخلف في الأرض أن يعرف قيمة الأشياء و منزلتها الحقيقية ، و أن الدنيا متاع زائل ، و أن ما فيها : قل أو كثر ، عز أو هان ما هو إلا مطية يستعين بها ليصل إلى غاية ،عرفها أهل البصائر ، و غفل عنها من غطت أبصارهم زخارف الفتنة !
و ما هو مجدٍ في الحياة تنافسٌ إذا كان في دنيا الهوى ، و المخاطرُ
سنطوى جميعا في التراب يضمنا ظلامُ قبور أو تضم الأزاهرُ
فذلك ميدان التنافس تُجتلى على البر و التقوى هناك المآثرُ
و هكذا نجد النقد لدى الشاعر عدنان النحوي ، ليس مجرد إبراز للعيوب ، أو هزء من المواضَعات الخاطئة ، أو سخرية من سلوك معين ؛ و لكنه نقد يتوخى توضيح الخلل ، و إظهار الصواب ! فذلك أجدى في بناء المجتمع و إصلاح الخطأ و تعديل الخُطا .