خلاصة ما يمكن أن يقدمه النحو العربي بصورته المعروفة إلى نحو النص في المجال الأدبي، تتمثل في : المناسبة الصوتية في الصيغ، وكيفية تعليق الوظائف النحوية بعضها ببعض، والربط بصوره المختلفة، والاستعمال العدولي. وتوضيح هذا على النحو الآتي :
أ ـ كثير من أمثلة المناسبة الصوتية في الصيغ يدخل في إطار ما سماه ابن جني " قوة اللفظ لقوة المعنى "، ومن هذا مناسبة "مقتدر" لمعنى التفخيم والدلالة على الجزاء وشدة الأخذ به في قوله تعالى: " فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر " [القمر:42] وهي في هذا أبلغ من "قادر" ، وكذلك مناسبة خفة لفظ "كسبت" للحسنات ومناسبة التفخيم والزيادة في لفظ "اكتسبت" للسيئات في قوله تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " [البقرة:286] وذلك لثقل وقع السيئات وعظم استنكارها وقبحها ([1])، وحذف التاء في الفعل "اسطاع" فيه إشعار بنقصان القدرة ووجودها دليل على كمالها، ولذا كان حذف التاء فيه وهو منفي في سورة الكهف دالاً على ذهاب القدرة وكان وجود التاء فيه وهو منفي دالاً على ذهاب كمالها وإمكانها بصعوبة ، نلحظ ذلك في قوله تعالى : "لن تستطيعَ" ـ " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا" ـ " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً [الكهف : 75،82، 97] ، وكذلك مناسبة خفة الفتحة في لفظ "الحَزَن" لموقف الحمد والشكر في قوله تعالى :" وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن إن ربنا لغفور شكور " [فاطر: 34] ومناسبة ثقل الضمة فيه لموقف الضيق والألم في الحديث عن يعقوب : " وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحُزن فهو كظيم" [يوسف: 84] . ومن هذا الباب أيضاً استعمال القرآن الفعل (مات) مسنداً إلى ضمير الرفع المتصل في الماضي مضموم الميم في مواقف التعظيم والتشريف ومكسورها في مواضع الهوان والصغار، ومن الأول قوله تعالى:"ولئن قُتلتم في سبيل الله أو مُتم لمغفرة من الله ورحمة خيرٌ مما يجمعون، ولئن مُتم أو قُتلتم لإلى الله تُحشرون" [آل عمران : 157،158] ومن الثاني قوله تعالى: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً" [مريم : 23] وكذلك الدلالة الواضحة للتضعيف " في نحو " اثّاقلتم " على التباطؤ وشدة الالتصاق بالأرض، ودلالة تضعيف الكاف والباء في " فكُبْكِبوا فيها " على قلب الكفار بعضهم على بعض وإلقائهم على وجوههم مرة بعد أخرى في جهنم حتى يستقروا في قعرها. وقد تكون المناسبة الصوتية لمجرد الخفة كما في القراءة الواردة بجر "خُضْر" في قوله : " عاليهم ثيابُ سندسٍ خضرٍ " [الإنسان : 21] وكذلك الحديث : " ارجعن مأزورات (بدل موزورات أي مذنبات) غير مأجورات " ([2]) .
ب ـ وتعليق الوظائف النحوية هو صلب مهمة النحو، ومعناه توزيع الأبواب النحوية بقرائنها اللفظية والمعنوية على الجملة وأجزائها بحيث تترابط الأجزاء وتتكامل المعاني، ويكون هذا مناط النظم على نحو ما وضح عبد القاهر في نظريته المشهورة في هذا.
ج ـ قدم النحو العربي للربط صوراً متعددة، هي: الربط بالأداة والربط بالمطابقة والربط بتكرار اللفظ أو المعنى والربط بالإحالة (الضمير أو الإشارة أو الموصول الاسمي أو الحرفي) .
فالربط بالأداة قد يكون عن طريق : أدوات الجمل (ولنا أن نتخيل أهمية هذه الأدوات عندما نعرف أن أنواع الجمل العربية أربعة وعشرون نوعاً منها تسعة عشر تتقدمها الأداة) وأدوات الأجوبة، وأدوات المفردات مثل حروف الجر والاستثناء والعطف والمعية، وهذه قد تربط بين الاسم والاسم أو الاسم والفعل أو الفعل والفعل . وتكمن أهمية الربط بالأداة ـ كما وضحت من قبل ـ أن الأدوات معانيها نصية سياقية لأنها لا تكون في ألفاظها وإنما تكون في غيرها. وتكمل وسائل الربط بأن يضاف إلى ما سبق: الربط بتكرار المطلع والربط بالموصول والربط بالوصف، فمثال الربط بتكرار المطلع قوله تعالى: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا ... إن ربك من بعدها لغفور رحيم " [النحل : 110] والربط بالموصول يقصد به وضع الاسم الظاهر موضع الضمير ومثاله قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " [الكهف:30] ، والربط بالوصف يقصد به اللفظ الواصف للمرجع بحيث يدل عليه ولا يكون اسماً له مثل قوله تعالى : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " [التوبة:14] أي ويشف صدوركم ([3]).
د ـ مجمل نصيب النقد الأدبي من النحو أمران : نقد صحة النص على المستوى الأصولي (أي مستوى ما تقتضيه أصول القواعد) ([4])، ونقد أسلوب النص على مستوى الاستعمال العدوليّ ([5]). والاستعمال العدولي (وهو ما يسمي في مجال النقد والدراسات الأسلوبية بالانحراف) معناه اختيار أسلوب مغاير لأصل القاعدة يكون مسموحاً به في الغالب ويكون هو مكمن البلاغة وسر تميز أسلوب عن أسلوب وأداء عن أداء، وقد وضع النحاة الأسس والأركان لهذا المبدأ ثم سخرت البلاغة العربية نفسها لخدمته وتطويره وتفصيله، وأصبح شغلها الشاغل. ومن النحاة الذين أصلوا لذلك ومهدوا سبيله ابن جني وقد سماه "شجاعة العربية"، قال في مقدمة الباب الذي يحمل هذا الاسم : " اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى، والتحريف "([6]). والأهم من هذا عنده أنه ربط هذا المبدأ (أي شجاعة العربية) بالمجاز، وفائدته ـ كما رأى ـ تحقيق ثلاثة معان: الاتساع والتوكيد والتشبيه؛ " ألا ترى أنك إذا قلت : بنو فلان يطؤهم الطريق، ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما يصح وطؤه ... ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه، فشبّهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم فكأنه هم. وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم. وذلك أن الطريق مقيم ملازم، فأفعاله مقيمة معه وثابتة بثباته، وليس كذلك أهل الطريق، لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه ..." ([7]).
وبناءً على ما سبق في مفهوم العدول وشجاعة العربية، مثال الحذف قوله تعالى : " فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " [البقرة:6] أي فضرب فانفجرت ، وكذلك " فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية" [البقرة:196] أي فحلق فعليه فدية، ومن أمثلة الزيادة : قوله تعالى : " ليس كمثله شيء" [الشورى : 11] فالكاف زائدة للتوكيد ([8])، ومن أمثلة التقديم تقديم الحال على عاملها في : " خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث " [القمر:7 ]. ويتعلق بالتقديم والتأخير ما يسمى بالفصول والفروق كالفصل بين الظرف والمصدر العامل فيه بالخبر في قوله : " إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر " [الطارق:8،9] فالمعنى : إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر. والحمل على المعنى باب واسع جداً، منه تذكير المؤنث وتأنيث المذكر وتصور معنى الواحد في الجماعة ومعنى الجماعة في الواحد والعطف على التوهم والتضمين ، فمن تذكير المؤنث مثلاً : " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " [الأنعام:78] أي هذا الشخص أو المرئي، ومن عكس ذلك ـ وهو تأنيث المذكر ـ تأنيث "الصوت" مراداً به معنى الاستغاثة في قول الشاعر:
يأيها الراكب المُزجي مطيّـته سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصوتُ
ومن العطف على التوهم : " لولا أخرتني إلى أجل قريبٍ فأصدَّقَ وأكنْ " [المنافقون:10] فأكن مجزوم لأنه محمول في العطف على معنى : إن تأخّرْني أصدّقْ وأكنْ . ومن التضمين : " أحِلّ لكم ليلة الصيامِ الرفثُ إلى نسائكم " [البقرة : 187] فقد عديَّ الرفث بإلى لما كان معناه الإفضاء . والتحريف يكون في الاسم والفعل والحرف، ومن أمثلة ذلك في الحرف قراءة تخفيف الميم في "لما" في قوله تعالى : " إن كل نفسٍ لما عليها حافظ " ([9