منتديات متيجة
يشرفنا نحن ادارة منتدى متيجة ان نرحب بك زائرنا العزيز في المنتدى ونرجوا منك ان تشرفنا بتسجيلك معنا لتفيدة وتستفيد
منتديات متيجة
يشرفنا نحن ادارة منتدى متيجة ان نرحب بك زائرنا العزيز في المنتدى ونرجوا منك ان تشرفنا بتسجيلك معنا لتفيدة وتستفيد
منتديات متيجة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى متيجة هو منتدى ترفيهي علمي بامتياز هنا تجد كل ما تريده من تطبيقات و سريالات و العاب و فتاوة في الشريعة الاسلامية و تفسير القران و كل ما نستطيع توفيره من كتب علمية .ادبية .انسانية. وعلوم شرعية .بحوث الخ. ويوجد منتدى للفيديو يوتوب ونكت ..الخ وحتى الان
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - د. مها خير بك ناصر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نائب المدير
الادارة العامة
الادارة العامة
نائب المدير


عدد المساهمات : 2120
نقاط : 7058
السٌّمعَة : 15
تاريخ التسجيل : 06/04/2010

اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - د. مها خير بك ناصر Empty
مُساهمةموضوع: اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - د. مها خير بك ناصر   اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - د. مها خير بك ناصر Emptyالثلاثاء يونيو 08, 2010 1:08 am

* أستاذة في الجامعة اللبنانية.
-----------
كثرت الدراسات اللغوية في العصر الحديث، ووضعت نظريات لغوية، تبحث في اللغة، تأصيلاً وتحديثاً، تعريفاً وتنظيماً.

أولاً: كلمة ومفتاح :
واللغة العربية ما زالت تفتقر إلى دراسة تحميها من رغبة الآخر في انقراضها؛ وهذه الفرضية يحاول بعض العرب التأكيد على صحتها، واصفاً لغتنا بالعجز عن التطور، واستيعاب العلوم الحديثة، وعدم قدرتها على مواجهة العولمة، وما تسعى إليه من تمدد وانتشار؛ مما يجعل البعض يقف خائفاً متهيباً هذه المواجهة، منتظراً وقوع ما خطط له الآخر الغريب عن طبيعتنا، وعن قيمنا ومفاهيمنا.
مما لا شك فيه أنّ العولمة تجد طريقها في مجتمعات مفرَّغة من الأصالة والجذور التاريخيّة؛ لأنَّ المخزون الثقافي لهذه المجموعات ضحلٌ، ولا يمكنه تسخير الفكر العالمي لمصلحته القومية، بالتفاعل الصحيح في مختبرات وطنية سليمة من الشوائب والتشويش.
إنّ المخزون الثقافي والحضاري لأمتنا قوة كامنة في أصالة تكوينها، وهو يمنحنا الحصانة الثقافية، التي ترعى قدراتنا وطاقاتنا، وتكسبها فاعلية الحركة للبحث عن الجوهري بلغة عربية، عُرِفَت عبر تاريخها الطويل بمقاومة التيارات، وإثبات الذات، بفضل تمسك أبنائها بها، وبفضل مقوماتها، وخصائصها المتميزة، التي جعلت منها لغة حية قادرة على احتواء منتج الفكر الإنساني، وأداة تعبير وتواصل بين العرب والمستشرقين الذين أكدوا على عظمة اللغة العربية، وعلى أهمية دورها القوميّ والإنساني، وعلى فاعليتها، وأصالتها المتجذرة في التاريخ، هذه الأصالة رأى فيها أحد المستشرقين عريناً، التجأ إليه العرب في أثناء محن التاريخ فقال: "إن العرب في ظل الاستعمار لجأوا لحماية هويتهم وأصالتهم إلى اللغة العربية"(1).
ثانياً: دور اللغة العربية القوميّ :

كانت اللغة العربية ملاذاً لكلّ المفكرين العرب، وما تزال، وبها أثبتوا إبداعاتهم وابتكاراتهم، وبها نشروا الفكر الإسلامي والثقافي العربية، التي ما زالت آثارها في العلوم الحديثة.
يرى الدكتور أسعد علي أنّ اللغة "منزل الكائن البشري، ومرآة فكره، يلجأ إليها لتأكيد وجوده، وينطلق بها لتحقيق رغباته، ولكنّ المنازل تغنى بسكانها، والمرايا تصفو وتجمل بالعيون الناظرة إليها، والوجوه المصورة عليها، فإذا هاجر السكان، أو ماتوا، خلت المنازل، وافتقر غناها، فهم روحها التي بها تحيا"(2).
فاللغة العربية مرتبطة ارتباطاً مصيرياً وحتمياً بأبنائها. فعندما كان العرب في عصورهم الذهبية، أغنت اللغة العربية العالم بالعلوم والمعارف، وأثبتت قدرتها على الانتشار والتوسع والاستيعاب والتواصل الفكري الإنساني. ولكنّ الفرد العربيّ يعيش اليوم أزمة هروب من الذات، وينغمس في حالة تغريب عن أصالته ووجوده، فانعكست الأزمة سلباً على الواقع اللغوي، ووصمت اللغة بالعجز والقصور عن مواكبة التطور العلميّ والحضاريّ؛ والعجز الحقيقيّ، في رأي بعض المفكرين العرب، ليس في اللغة بل بالقيمين عليها، والدليل على ذلك الواقع العربيّ: "عندما كان العرب أقوياء كانت لغتهم قوية، فابتكروا آلاف الكلمات والمصطلحات ومئات العلوم واتسعت لغتهم لكل جديد مهما كان مصدره(3)"؛ فالعجز كامن في ممارسات الإنساني العربيّ، وليس في اللغة التي تحتاج في نماء مفرداتها وتطور دلالاتها، إلى نخبة تؤمن بقدراتها الذاتية، وقابليتها للاكتساب والتطويع، وهذا مرتبطٌ بإعادة الثقة بالانتماء وبطاقات اللغة؛ لأنّ العلاقة بين الإنسان العربي ولغته علاقة تكاملية حتمية فلا وجود له من دونها، ولا وجود لها من دونه، ولذلك نجد أنَّ تخلفنا عن ركب الحضارة ناتج عن جهل المثقف العربي بخصائص لغته التي بها تُدوَّن العلوم والمعارف والمصطلحات، وتُحْفَظْ ثمار الفكر، وتسجَّل الملاحظات وأشكال الابتكارات، وتتحدد قيمة المنتج "لأن انشغال الفكر بالابتكار أو الانتشار المعين تصحبه عادة صور لغوية مهزوزة أو غائمة، وهي بمثابة القوالب أو الأطر التي تصلح لاحتواء الفكر"(4).
ثالثاً: الفكر العربيّ واللغة :

تعاني مؤسساتنا التربوية من قصور في التعبير عن الابتكارات العلمية والتطور التكنولوجي، ويقف أفرادها عاجزين عن الدخول في حقول المعرفة العلمية، والتعبير عن خبراتهم بألفاظ عربية؛ لأن الملكة اللغوية، التي تشكل العامل الأهم في استثمارات مبتكرة إبداعية، غير قادرة على مواكبة متطلبات العصر، فينقل أبناؤنا أفكارهم، وابتكاراتهم بلغة غير لغتهم؛ لأننا لا نهيّئ لهم "اتصالاً وثيقاً باللغة العربية وليس لأنّ العربية عاجزة عن استيعاب هذه الألفاظ، ولقد استطاعت العربية في فترة مبكرة من تاريخها أن تستوعب من هذا القبيل ما هو أكبر ـ في زمانها ـ مما هو في زماننا، وقد كان ذلك ميسوراً لدى العلماء العرب لأنّهم كانوا يعرفون خصائص لغتهم"(5).
يرتبط إنتاج اللغة بالفكر الذي يستوعب الشكل والمعنى الجوهري، ثم يحوّل هذه المرئيات ألفاظاً تشير إلى المعنى الحاصل في العقل أي "الصورة الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان، فكلّ شيء، له وجود خارج الذهن، فإنّه إذا أدرك، حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبِّر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أمام اللفظ المعبَّر به عن هيئة تلك الصورة الذهنية في إفهام السامعين وآذانهم، فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ"(6).
فالصورة الذهنية المتشكلة في الفكر هي الرابط بين اللفظ "الدال"، والشيء الخارجي " المدلول عليه" الحقيقي، فهي إذاً ـ أي الصورة الذهنية ـ الفكرة المتولدة عن الظاهر المرئي والمعبَّر عنه بالصورة اللفظية الخارجية أو الصادرة أو المنعكسة عن الفكرة، فالتعبير اللغوي مرتبطٌ بالمحيط الاجتماعي، وبالقدرات الذاتية للمختبر الذهني اللغوي؛ لأن الألفاظ انعكاسٌ صادرٌ عن اختراق شعاع الصورة المرئية للحواس العقلية، فيتم التعبيرُ عن المعنى الممكن الإحاطة به، من خلال العلاقة بين الرمز والمرموز إليه، المرئي بالشكل والصورة والإدراك العقلي، فعملية تشكلُّ المعنى تتم في ترتيب رياضي هندسي مثلث الرؤوس والزوايا والأضلاع، وهذه العلاقة لا تُدْرَك إلا بالعقل؛ لذلك يستحيل تحقق الإبداع إلا باللغة القومية. ولذلك يمكن القول إنّ عجزنا عن استيعاب مقومات اللغة العربية أفقدنا طاقاتنا الابتكارية.
تشكِّل العلاقة بين الدال والمدلول والمنتج العقلي معادلة رياضية، فأي تغيير في حدِّ من حدود المعادلة يؤدّي إلى تبدُّلِ حتمي في الحدود الأخرى، مما يقود إلى الاعتقاد بضرورة اعتماد هذه المعادلة أساساً في دراسة النظريات اللغوية، فلا تُدرس اللغة إلا من ضمن معطيات اللغة المنبثقة عن حدود المعادلة السابق ذكرها، وكلّ "محاولة تهدف إلى اعتبار اللغة شيئاً يمكن قياسه من الخارج من دون نظرة داخلية بالفكر إنما تبوء بالفشل... وليست اللغة رصفاً من الألفاظ ولا جمعاً لمفردات دون وعي أو انتباه. اللغة "قضايا" مفيدة دالة، والقضية "حكم" ومتى قلنا "بالحكم" فقد قلنا بالربط الفكري"(7). فاللغة أوجدها فكر مبدع، أدرك حقيقة العلاقات بين الشكل والجوهر، رمَز إليها بألفاظ تشير إلى معانيها، وركبَّ منها قضايا تتمظهر في أجسادٍ نصية، تتمايز بتمايز الفكر المُنْتِج.
إذاً، فاللغة نتاج الإدراك العقلي؛ والإدراك العقلي السليم متجسد بمنهجية المنطق، وما يولده من علاقات لغوية، لها دلالاتها في عملية التواصل.
تكتسب الألفاظ دلالاتها في السياق من معانيها المعجمية، ودلالاتها الصرفية والنحوية ذات الخصائص الثابتة التي تمنحها هويتها الشخصية. وهذه الخصائص أثبتها علماء اللغة عن طريق الاستقراء العلميّ لنصوص عربية، ثم هداهم الاستقراء إلى وضع فرضيات بنوا عليها نظرياتهم وقوانينهم اللغوية. فكانت هذه القوانين المعيار الدقيق في الحكم على النصوص وقدرة أصحابها على التعامل الصحيح مع اللغة.
تعتبر القوانين أساساً في البناء الهندسيّ اللغويّ، وعاملاً رئيساً في تنظيم وحداتها الصغرى والكبرى، وحارساً أميناً على سلامة العمليات اللغوية، فاحتفظت هذه القوانين بأسرارِ جمالية البناء النسقي للغة العربية وأشكالها الفنية، وحافظت في الوقت عينه على أصولها وأسسها وأنظمتها. فلم تتغير مذ كان للغة العربية هويتها الذاتية والمستقلة(Cool, ولم تتأثر القوانين بالألفاظ التي زال استخدامها، أو بالألفاظ التي تغيّرت دلالتها مع التطور اللغويّ، أو مع الألفاظ الأعجمية التي دخلت لغتنا وصارت جزءاً منها، ولم يؤثر التبدُّل الشكلي اللغوي في بنيتها النحوية أو الصرفية.
من هذا المنطلق نحن لا نخاف على لغتنا من زحف العولمة، كونها لغةً حيّة، محصَّنة بقوانين تشكلها الداخلي والتي تساعدها على استيعاب ما تنتجه العولمة، وما تقدمه من مصطلحات، يمكن تطويعها ومنحها بعضاً من خصائص اللغة الذاتية، وإكسابها هوية عربية، فتضاف بذلك ألفاظٌ جديدة إلى العائلة اللغوية العربية، وتنمو المفردات، وتتطوَّر الدلالة اللفظية، فينحسر الخوف من المصطلحات الجديدة بالتداول والاستخدام.
أثبتت لغتنا عبر تاريخها بأنها لغة تطويع وتطبيع، وهي قادرة على استيعاب العلوم بألفاظٍ عربية بعد تطعيم اللفظ الأعجمي بجينات ألسنية عربية، تم التوصل إليها بأسلوب علمي قائم على القياس فما جاء قابلاً للقياس دخل في حقل التداول المعجمي العربي. ولم يغفل علماء اللغة الأوائل ذلك فقالوا: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب (...) وما أعرب من أجناس الأعجمية قد أجرته العرب مجرى أصول كلامها"(9).
بهذه المقومات نواجه تحديات العولمة؛ وذلك مرتبط بقدرتنا على كشف جوهر الخصائص اللغوية التي وضعها شيوخنا الأوائل، فنعود إلى الأصول، وما قامت عليه من منطق علمي؛ لنكون قادرين على النهوض بلغتنا، وفق قوانينها الصحيحة، فلا جديد من دون قديم يؤسس للانطلاق نحو المستقبل.
رابعاً: اللغة العربية بين الأصالة والتجديد:

ترتبط اللغة بالبيئة، والإقليم، والطبائع البشرية فهي ملكة مقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم(10) ولا تكون اللغة إلا حيث يتواجد أفراد المجتمع الواحد الذين يكسبونها خصائص تركيبية ودلالية، تتوافق والإدراك العقلي لديهم، وسلوكهم الاجتماعي، فتتمثل الألفاظ في نظام تركيبي، له بنية خاصة، ونظام صوتي متشكل من الأصوات العرفية المنطوقة، ومن تتابعات الأصوات التي تستخدم، أو التي يمكن أن تستخدم في التعامل بين الأفراد، أو عند مجموعة من البشر.
واللغة العربية، لها أصول، تأسست عليها في الشكل الصوتي والبنية التركيبية، وهذه الأصول راسخة ثابتة في أصالتها، وثباتها بيّنٌ في تمسّكها بالشكل الصوتيّ والصرفيّ والنحويّ، إذ "لا يُخفى في العربية صوت من أصواتها مهما تتقلب تصاريف موادها المختلفة، فمادتها الأصلية محفوظة، ورابطتها اللغوية مصونة (...) إن لغتنا العربية تحتفظ بثبات أصواتها، وتبقى فيها المادة الأصلية المشتق منها واضحة مهما تبَدُ مشتقاتها الفرعية متغيرة عنها(11).
وهذه الأصالة قادرة بثباتها ورسوخها أن تكون منطلقاً للتجديد؛ لأن التجديد يفترض حدوثه وجود أصل فيه حياة وقوة كامنة، فيعيد فعل التجديد القوة والنشاط للأصلي(12), ويبعثه في أشكال جديدة لا عهد لنا بها، وهذا الجديد يكون في شكله الأولي على غير مثال، كونه إبداعاً، والإبداع مغايرة وخصوبة ونماء.
هذه الحركة التجديدية الإبداعية مرتبطة بعبقرية فكرية مؤسسة على فهم كامل لقواعد اللغة وقوانينها وأسرارها، فهي مرتبطة بالأصالة اللغوية من حيث الجوهر، ومتجاوزة لأشكالها، التي نظر إليها علماء النحو المحدثون كموروثٍ مقدس لا يمكن المساس به.
مما لا شك فيه أنّ الدراسة الموضوعيّة العلميّة للنحو العربي ترشد الدارس إلى الأصول النحوية التي بنيت على التفسير والتعليل، وتعطيه صورة حقيقية عن المجهود الذي بذله علماؤنا الأوائل، في جمع اللغة وتقعيدها على منهج علميّ، قوامه المنطق الرياضي. فلقد كان أبو الحسن الرمّاني متفنناً في علوم النحو واللغة والفقه والكلام على مذهب المعتزلة، وكان يمزج كلامه بالمنطق(13).
لم يُجمِّد علماء العرب اللغة في قوالب جاهزة، وفي بطون الكتب، بل قاموا باستقراء نصوصها، ووضع مفرداتها في الاستعمال، بما تقتضيه قواعد تراكيبها، فأغنوا اللغة بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير، وأصَّلوا مَهَمَّة اللغة في خلق المعرفة اللغوية ونشرها، والتي تكشف عن سلامة النطق والتعبير وسهولة استخدام المصطلحات العلمية، وأثبتوا قدرتها على التعبير عن الفكر وما يطرحه من موضوعات، أو ما يبحثه من حقائق, "فلو أنَّ علماءنا المحدثين عمدوا إلى مثل هذا النهج لضمنا ثروة لغوية عربية تتناسب تماماً مع ما ينتجون من علم، أو يقدمون من فن(14)".
أثبتت اللغة العربية قدرتها على التلقي، والتفاعل، والتطور، فانبثق عن أصالتها فعل حركي متجه نحو المستقبل المتجدِّد والمتطور، فكانت لغة علم وحضارة إنسانية تنبض بالإخصاب والتوليد والتجديد الإبداعي الوثيق الصلة بأصالته الإبداعية، فنتج عن ذلك إيمان قوي بقدرتها على العطاء والإبداع، لأنَّ اللغة هي المفعِّل الحقيقي للإبداع، وإبداعية اللغة مرتبطة بقوانين النظام الداخلي لتراكيبها "فهو أساس الوصف النحوي السليم، وهو نظام يقرر المعاني على المستوى النحوي في مصطلحات وظيفية مناسبة للغة موضوع البحث"(15).
لم يصدر النحو العربي عن انفعال عاطفي، بل عن ابتكار علميّ، له خصائصه، ومنهجه الرياضي القائم على مجموعة من القواعد، فكان علماً، له أصوله وقدراته ونظراته المؤسسة على مبادئ المنطق الرياضي، وما يقتضيه من ملاحظة المعطيات والظواهر اللغوية وإظهار التشابه بينها، ثم صوغ المعلومات من هذه المعطيات، ووضع الفرضيات المستمدة من المعلومات المكتشفة، ثم التأكد من ملاءمة الفرضيات للواقع اللغوي بإجراء ملحوظات جديدة، فإذا ثبت عدم تناقضها صيغت نظرية لغوية تفسّر ديناميكية اللغة وعملها، ثم صارت قانوناً يفسّر قضايا اللغة كلها. فكان النحو العربي مجموعة من القواعد المعيارية جاءت ثمرة تفكير علميّ منطقيّ عند علمائنا اللغويين.
خامساً: النحو العربي والمنطق الرياضي :
عرّف الشيخ الرئيس ابن سينا، المنطق بقوله: "هو الصناعة التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمّى بالحقيقة حداً، والقياس الصحيح الذي يسميّ بالحقيقة برهاناً(16). فالمنطق حدٌّ، وقياسٌ، وبرهانٌ وتعليل. وعلم المنطق هو المعيار الصحيح للمعرفة، والميزان للحق، يضع القوانين، ويبحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، ويعنى بوجه خاص بتحديد الشروط التي تهيئ لنا الانتقال من أحكام معلومة إلى ما يلزم عنها من أفكار أخرى، فعلم المنطق ينسِّق العمليات العقلية الكلامية.
إنَّ العلم الرياضي علمٌ استنباطيٌ، برهانيّ، يقيني، يقوم على مبادئ الذاتية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع كعِلْمِ المنطق القائم على مبادئ الاستنباط والقياس، فالصلة بينهما صلةُ تكامل وتشابه، ولا يمكن فصل الفكر المنطقي عن الفكر الرياضيّ، وعلوم اللغة منبثقةٌ عن فكرٍ علمي قوامه المنطق؛ وبالتالي لا يجوز فصل قوانينها عن خصائص العلم الرياضي المنطقي.
يقود المنطق الرياضي إلى أفكار منطقيّة، مرتبّة، ومتماسكة، تنتج كل فكرة عما سبقتها ببرهان منطقيّ، ولكن لا بد من أن نصل إلى أفكار، لا يقوم عليها برهان فتنقل كما هي، وهذه الأفكار يسميها العلم الرياضي مفاهيم أو أفكاراً أولية، يبدأ بها، أو ينطلق من قضايا أولية، لا برهان عليها، فتقبل من دون برهان وتسمى مبادئ Axiomes لا تحتاج إلى تعريف، ثم تبرهن كل قضية استناداً إلى قضايا مبرهنة، أو قبلت كأساس من دون برهان.
إن هذا الشكل المنطقي الذي يأخذ به كل علم رياضي يجعل من مجموعة غير مترابطة من الأفكار والتعابير نظاماً متماسكاً، يسمى بالنظام الاستنباطي؛ وهو عملية ننتقل فيها من العلم بقضية معينة، هي المقدسة، إلى قضية أخرى معينة، هي النتيجة. وهذا الانتقال يستلزم وجود علاقة، أو علاقات معينة، بين المقدسات كأساس للوصول إلى النتيجة؛ فالمنطق الرياضي يستند في نظامه إلى فكرتي الثوابت والمتغيرات. والثوابت ينطلق منها العلم البرهاني لإظهار المتغيرات المشتقة من تبدل في العلاقات التي تربط بين هذه الثوابت.
وما نعثر عليه من علاقات Relations في الرياضيات نجدها في اللغة فتكون الفكرة المنطقية في العقل، وصورتها في المستقر، وهي التعابير. ولكي تؤدي هذه التعابير غايتها تساق في علاقات مرتبة ومنظمة يقبلها المنطق.
وكما أن العنصر الرياضي لا قيمة لـه إلا من ضمن العلاقات التي تدخل في نطاق تركيبها كذلك العنصر اللغوي لا قيمة له في ذاته بل في وظيفته الأدائية من خلال علاقته مع غيره.

فاللغة مؤسسة على نماذج كلامية أسلوبية، تتمتع بخاصة تحليلية، جوهرها العنصر اللغوي، وصورتها العلاقات القائمة بين أجزائها.
بالمنهج العلمي يكتشف العالم النحوي حقيقة هذه العلاقات، ويحدد ماهيتها، ويجعلها أساساً يقاس عليه، لذلك قال ابن جني: "إن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه، وأما النحويّ فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه"(17).
كانت مهمة اللغويين العرب نقل ما نطقت به العرب. والذي وصل إلينا لغة كاملة الأداء والتعبير متماسكة البنية والخصائص. فأعانت البنية المتماسكة علماء النحو على تحقيق قوانين الاستقراء Induction فانطلقوا بدراساتهم من الواقع اللغوي، ودرسوا العناصر، والعلاقات بين هذه العناصر؛ ليتوصلوا إلى حكم، ينطبق عليها، ويكون قضية يقاس عليها في عملية البرهان من أجل الوصول إلى قوانين عامة.
قام العالم العربي اللغوي بعمليتي التحليل والتركيب اللتين تشكلان جوهر كل علم منطقي، فهو يعود إلى الوراء Règressive ليدرس جزئيات اللغة، ثم يركب النتائج التي توصل إليها؛ ولكن لا بدّ لكلّ عمل برهانيّ من وضع الفرضيات Hypothèses التي تولدها عملية الاستقراء.
استعان علماء النحو بالفكر المنطقي العلمي التحليلي، فلاحظوا ترابط الألفاظ ودلالاتها المعنوية من خلال عملية التركيب ضمن قواعد منطقية يقبلها العقل؛ لأنّ النحو منطق لغوي، والمنطق نحو عقلي، وهذه العلاقة القائمة بين المنطق والنحو شبهها الفارابي بعلاقة المنطق بالعقل والمعقولات، فقال: "وهذه الصناعة، صناعة المنطق تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ. فكلّ ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات"(18).
إنَّ العلاقة بين المنطق والنحو، بارزة في الدراسات النحوية التي أشارت إلى أن المنطق ميزان الفكر، واللغة هي القالب الذي ينصب فيه الفكر، ولذلك مزجوا النحو بالمنطق، كون القوانين النحوية نتاج تفاعل العلاقات المنطقية بين الألفاظ والمعاني في وسطٍ فكري سليم مفعَّل بأدوات المنطق.
تأسيساً على هذه البدهيات والفرضيات راعى الرمّاني(19) في كلامه على النحو التقسيمات المنطقية، وعللّ الأحكام تعليلاً منطقياً، واشترط على العاملين في الحقل النحوي أن يلموا بأصول المنطق وقواعده، لكي تأتي آراؤهم مقبولة إذا ما أخضعت للمقاييس العقلية.
قاد ارتباط النحو بالمنطق النحويين إلى وضع فرضيات تتبنى صياغة ألفاظ على نسقٍ ألفاظٍ ثابتة، وهذه الألفاظ تتمتع بكفايتها التأصيلية وخصائصها، فكانت الأسس الأولية التي تسهم في استنباط أساليب الصياغة الصحيحة، وكشف علاقاتها؛ فكان ابن جنيّ(20) يضع الفرضية، ويطرح السؤال، ثم يجيب عن سؤاله بالبرهان لإثبات صحة الفرضيات، أو ينقضها؛ كفرضيته الناتجة عن الاستقراء, والقائلة: إن المسند إليه "الفاعل مرفوع". ثم سأل: ما سبب رفع الفاعل؟ فأجاب: ارتفع بفاعله. ثم طرح سؤالاً آخر: لم صار الفاعل مرفوعاً؟ فبرر الرفع بقوله: إن صاحب الحديث أقوى الأسماء، والضمة أقوى الحركات فجُعِل الأقوى للأقوى.
صيغت الفرضيات نظريات، وأنتجت بالتعليل والبرهان قواعد يقاس عليها. ولاحظ علماء اللغة المتقدمون ضرورة استنباط القوانين اللغوية من خلال عملية الاستقراء، فبرّر ابن جنيّ الاتفاق على اللغة وقواعدها، وقال إنّها تتكرس في المجتمعات بعقدٍ بين المتكلمين بها، ثم جاء النحو علماً على ما جاء من قولهم "فهو علم منتزع من استقراء اللغة"(21)؛ وبذلك أثبت ابن جنيّ أن التعامل اللغوي كان مفهوماً فطرياً وطبيعياً بين أفراد المجتمع الواحد ومجرداً عن التوصيف، كمفهوم المجتمع البدائي للعدالة والإنصاف.
صار المفهوم اللغوي المتداول، قانوناً عرفياً يعاب على ما يتجاوزه، على الرغم من تعدد القضايا وتطور أشكالها الناجمة عن حركة الحياة. وبحركية المجتمعات العربية وتطوِّر أنساقها وتعدديتها، تخطّت اللغة العربية الاستخدام العرفي، وصارت لغة التواصل المعرفي والثقافي، واكتسبت خصائص اللغة العلمية الأممية، فكتب بها علماء غير عرب، لهم مفهومهم المنطقي، وإدراكهم العقلي المختلف عن إدراك الإنسان العربي، وغدت اللغة العربية المختبر الأكثر إنتاجاً للخلق والإبداع.
أمام هذا الواقع الجديد أدرك العلماء ضرورة استنباط قاعدةٍ وقانونٍ يحفظان اللغة من الخطأ واللحن، ويكوّنان النظام الفكري، الذي يؤدي إلى كشف الخصائص العلمية للغة العربية، وكيفية استخدام مفرداتها وتراكيبها استخداماً سليماً، يوصل إلى المعاني الجوهرية، ويقوم برسالة التبليغ الفكري والتواصل بين أبناء البشر.
صيغت القوانين العرفية قواعد قانونية تطبق، ويقاس عليها. وإذا اعترض حكم لغوي، لا قاعدة له، قيس على القاعدة القانونية بوجود الشبه بين قضيتي القاعدة القانونية التي صارت أصلاً، والقضية المستجدة، فكان القياس في عرف العلماء: "عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل" وقيل: "هو حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع"(22). وإذا صعب القياس بحثوا عن الشبيه والنظير "فإما أن يعمّ دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير"(23).
وضع العلماء العرب شروطاً للقياس: "الأصل والفرع والعلة والحكم"(24). فكثر كلامهم على العلة، ودعّموا شروحاتهم بالحجج والبراهين المنطقية. فجاء النحو مؤسساً على قضايا منطقية، لها حدودها في تبيان الخصائص العامة. والمراد من "الحد الدلالة على الذات لا العلة التي وضع لأجلها إذ علة الشيء غيره"(25).
كانت الحدود والتعريفات تميز ما بين الأصل والشبيه فيعطي للشبيه توصيفاً يميزه ويوضح سبب عدم إعطاء شبه الفرع خصائص الأصل "فشبه الفرع بالأصل أو المقيس عليه لا يعطي الفرع حقوق الأصل كاملة، إنه يمنحه حقوقه بشروط. فـ "لا" النافية المشبهة بـ"ليس" والتي لها حكمها في الشبه والأعمال، لا تعمل عمل ليس إلا بشروط، فإن لم تتوافر هذه الشروط بطل عملها(26). ولم يأخذوا بالشاذّ المنكر في القياس، فقال سيبويه "لا ينبغي لك أن تقيس على الشاذّ المنكر في القياس"(27)، وكانوا إذا اهتدوا إلى ظواهر لا تخضع إلى القوانين الجامعة، اعتبرت في رأي ابن أبي إسحق: "مما يحفظ ولا يقاس عليه"(28).
اهتم النحويون العرب بالقياس، وصاغوا قوانين اللغة على مبادئ المنطق الرياضي، فشكلت الفرضيات بمجموعها الظواهر اللغوية التي ينطلق منها العالم اللغوي، ثمّ قادتهم صحة الفرضيات إلى وضع دراسة الظواهر، والأسباب الكامنة وراءها. وكان قانون السببية Law of causality الدليل إلى تحليل المعطيات اللغوية، وتعليل أسباب ورودها، ثم صوغ الملاحظات والنتائج قانوناً دقيقاً، له عناصره وخصائصه المميزة، والتي تساعد على تحديد هوية العناصر وتبرير علاقاتها، وكانت القوانين الموضوعة على أصول النصوص اللغوية السليمة تقويماً للسان العربي، وأبعادها عن طبائع الناس المتبدلة والمتغيرة، فتكون القاعدة اللغوية الشكل الأمثل للنظام اللغوي المنطقي المتولد عن إدراك العقل للمعقولات.
لم يعتد النحاة بما جاء خطأً من كلام العرب؛ بل برّروه بخروج البعض على العرف القانوني اللغوي والاندفاع وراء الطبع الخاص. ومن بينهم أبو علي الفارسيّ الذي علل الأخطاء بقوله: "إنما دخل هذا النحو كلامهم؛ لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها، ولا قوانين يستعصمون بها، وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد"(29). واقتصر القياس على ما كان "مطرداً في القياس والاستعمال جميعاً"(30) أما ما اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس "فلا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره"(31).
أكد النحويون على أهمية القياس المنطقي في اللغة، وكان ميزاناً لسلامة العلاقات النحوية، فحافظوا على حجته في النحو؛ لأنه يعصم القانون اللغوي عن الخطأ، ولذلك قال أبو علي الفارسي: "أخطئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس"(32) لأن الخطأ في القياس يعني الخطأ في التفكير المنطقي، ولأن استخدام الفكر، ومعايير القياس الصحيحة، دليل على جوهر العلاقة بين الفكر والمنطق، فربطوا إدراك العلاقات النحوية السليمة بالإدراك العقلي للمرئيات والتعبير عن علاقتها. فالنحو مؤسس في قواعده وقوانينه على منطق علميّ ساعد في تحصين اللغة بنحوٍ عربي يعصم تراكيبها، مهما تبدلت الألفاظ في دلالاتها، وطرق استخدامها، وذلك بتطبيق القياس في النحو، واستخدام المنطق كما قال الكسائي:

إنما النحو قياسٌ يتَّبع * وبه في كلِّ أمرِ ينتفع

فإذا ما نصر النحو الفتى* مر بالمنطق مرّاً فاتسع(33)

لم يكتف العالم اللغوي بتوسيع أصول القياس في اللغة، بل بيَّن الأحكام في تطبيقه، والعلل التي أدت إلى استخدام الأصل نموذجاً يقاس عليه، فكان القياس إما معنوياً وإما لفظياً، فقالوا "عاملٌ لفظي وعاملٌ معنوي"(34) ووضعوا نظرية العامل.
تكلّم النحويون على العلل وبرروها، وعقد ابن جني أبواباً بحث فيها "بتخصيص العلل، والفرق بين العلّة الموجبة والعلّة المجوزة، وتعارض العلل، علّة العلّة، وحكم المعلول بعلتين، والرد على من اعتقد فساد علل النحو"(35). وقرن علماء البصرة والكوفة نظرياتهم النحوية بالحجج والبراهين؛ لإثبات صحّة آرائهم وما كتاب "الإنصاف والانتصاف في مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين" إلا انعكاس صادق عن المنهج الذي كان سائداً في الجدل اللغوي العلمي(36).
ميّز النحويون بين الصرف والنحو، وأكّد ابن جني على ضرورة تعلّم الصرف قبل النحو، لارتباط النحو بأحوال التصريف: "التصريف إنما هو لمعرفة أنفس الكلمة الثابتة، والنحو إنما هو لمعرفة أحواله المتنقلة (...) من الواجب على من أراد معرفة النحو أن يبدأ بمعرفة التصريف، لأن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي لأن يكون أصلاً لمعرفة حالة المنتقلة(37)".
ثم ميزوا بين النحو والإعراب، وجعلوا النحو الجانب النظري، والإعراب الجانب التطبيقي الذي يفسر النظريات، ويبيِّن العلاقات بين الأجزاء ونوعيتها؛ فكان النحو "انتحاء سمت كلام العرب من إعراب وغيره، كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك، ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شذ بعضهم عنها رُدّ به إليها"(38). أما الإعراب في رأيه " فهو الإبانة عن المعاني بالألفاظ"(39) أي الإفصاح عن منزلة اللفظ في التركيب. وما طرأ عليه من عوامل ومؤثرات أدّت إلى تغيُّر في الإعراب بتغير العلامة الدالة على المرتبة في عملية الإسناد وما يتبعها من فضلات ليستقيم المعنى في التركيب.
هذه الفرضية النحوية الإعرابية دفعت بالعلماء اللغويين إلى تعليل وتبرير الحركات الإعرابية، وربطها بمؤثر أوجدها، لأن العقل ـ في رأيهم ـ لا يتصور وجودها من دون مؤثر، فقسموا الحركات إلى مراتب ترتبط بمرتبة الكلمة في التركيب، فوصفوا المرفوعات بأنها تدل على القيمة والارتفاع وقالوا: "هي اللوازم للجملة والعمدة فيها، والتي لا تخلو منها، وما عداها فضلة، يستقل الكلام دونها"، وكان الفاعل أو المرفوعات لأنه "صاحب الفعل"(40) وهو المقتدر عليه، ولذلك قال الرمّاني: "جعل الرفع للفاعل لأنّه أول الأول، وذلك تشاكل حسن، ولأنّه أحق بالحركة اللغوية لأنها ترى بضم الشفتين من غير صوت (...) فأعطى أقوى الحركات"(41).
قسّم ابن جني الحركات بحسب قوتها "المرفوع؛ هو الأقوى، والأثقل، والمنصوبات هي الأضعف والأخف، والفاعل هو المتقدّم، والمفعول هو المتأخر، والضمة أثقل الحركات، وأقواها، فكانت للأثقل والأقوى وهو المرفوع، وجعل الخفيف للأخف والأضعف وهو المنصوب(42)".
أعطوا الحركات تبريراً فيزيائياً منطقياً، فالعرب لا تبدأ بساكن، ولا تقف عند متحرك، لأنّ الحركة الفيزيائية تبدأ بفعلِ ميكانيكي، وليس بانعدام الحركة، ولا يمكن أن تتوقف الحركة الفيزيائية عن فعلها الديناميكي, وهي في حالة من إصدار صوت دال على حركة، وعند توقف الحركة الفيزيائية يحمل الصوت صدى دلالة الوقوف.
تشير الحركة في اللغة إلى فاعليتها بالحرف الذي تدفع به إلى الالتقاء بغيره ليتم معنى التركيب ودلالته "لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقره، وتجذبه إلى جهة الحرف التي هي بعضه"(43).
تأثر علماؤنا بالمنهج المنطقي العلمي في تقعيد اللغة، ووضع النظريات النحوية، وجاءت نظرياتهم عن طريق الاستقراء الذي ساعدتهم مقوماته على وضع الفرضيات، والكشف عن القضايا الأولية التي كانت أساساً في بنية اللغة، فأسسوا قوانينهم على مبادئ المنطق الرياضي. وقسّموا عناصر اللغة في علم النحو إلى ثوابت ومتغيرات، استنبطوها بعملية الاستقراء اللغوي.
كانت الكلمة المؤلفة من أحرف بنائية أول شكل من أشكال اللغة التي لا يمكن البرهان عليها والتثبت من حقيقتها وجوهرها، فقبلها العالم النحوي كما هي واعتبرها في أشكالها بدهيات، انطلق منها للتحقق من صحة تفاعلها بعضها مع بعض في صياغة تعبيرية لا تناقض بين أجزائها، ثم أرشده الاستقراء إلى تركيب الجملة من مسند ومسند إليه مهما تعددت نماذجها، فقبلت بنية الجملة العربية كقضايا أولية لا يقوم عليها برهان.
كشف اتجاه العالم اللغوي العقلي عن أحوال الكلمة، وخصائصها، فصاغ تعريفات، ووضع قوانين بنيت عليها نظريات اللغة العربية. ثم تبين له أن بعض البدهيات أساس لاشتقاق الألفاظ في نظامٍ لغوي محدد لتؤدي دورها في ترتيب القضايا الأولية واتساقها، فتأخذ أشكالاً مميزة ومتعددة مع محافظتها على الحدين الرئيسين "المسند والمسند إليه" وتتكون بالتالي نماذج، لا حصر لها، للبناء النسقي اللغوي.
إذاً، كلما تغيّر أصل موضوع، أو أكثر، في نسق ما، فإنّ النظريات المشتقة ـ وبالتالي البناء النفي كله ـ لا بدّ أن يتغير، ويعطينا نسقاً مخالفاً وجديداً، ومهما تعددت هذه الأنساق، فإنها تبقى خاضعة للنظام النحوي الذي يعصمها عن الخلل.
لاحظ العالم اللغوي أن تركيب القضايا الجديدة يتم بواسطة أدوات العطف، أو أدوات السلب، أو أدوات الشرط... إلخ. فينشأ من جملتين بسيطتين جملة مركبة لا تناقض بين أجزائها، ولا يمكن أن تتضمن الفكرة ونقيضها في آن واحد، وتبقى مقبولة، فكانت هذه الأدوات الروابط المنطقية التي تساعد على فهم الفكرة وبالتالي قبولها.
قام علم اللغة على أسس نظرية الاستنباط، فتوصل العلماء إلى نتائج conclusions من مقدمات Premises باستخدام روابط، تساعد على الوصول إلى هذه النتائج.
سادساً: كلمة أخيرة :
اللغة العربية علم رياضي منطقي، يقوم على فكرتي الثوابت والمتغيرات وقواعد اللغة مرتبطة بقوانين المنطق. وعلينا أن نعود بلغتنا العربية إلى أصالتها، ونكشف عن جوهر المنهج الرياضي الذي تأسست عليه، وننطلق في دراستنا من هذه الأسس العلمية، فنحقق غايتين رئيستين: أولاهما العودة بالفكر العربي النحوي إلى أصالته، وثانيتهما طرح قضايا النحو بشكلٍ علمي، يزيل عنها عملية التلقين التي أبعدت أبناء العربية على النحو العربي، صارت نظرتهم إليها نظرة فوقية، أو نظرة عداء؛ لأنّ الإنسان عدو ما يجهل، فإذا انكشفت أمام الراغبين في دراسة اللغة العربية العلاقات المنطقية، وفهموا المنهج الرياضي الذي تأسست عليه، سهل التعبير بها.
إن مواجهتنا لتحديات العولمة لا تكون برفض دخول ألفاظ غير عربية إلى لغتنا، لأنّ هذه اللغة أثبتت قدرتها على التطويع والاكتساب، وستبقى قادرة على الجديد المؤسس على أصالة لغوية مصانة بقوانينها النحوية، التي تحفظ لها نظامها، وبناءها وخصوصيتها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي - د. مها خير بك ناصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مستقبل اللغة العربية: حوسبة المعجم العربي ومشكلاته اللغوية والتقنية أنموذجاً
» النظام النحوي للغة العربية بين الاستعمال اللغوي والمنطق العقلي - أ.د. حسن منديل حسن العكيلي
» النحو العربي والنص
» فضل اللغة العربية عند العجم - عبد اللطيف المصدق
» الاتجاه الوظيفي في تدريس النحو العربي

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات متيجة :: دراسات ادبية ولغوية :: الدراسات الحديثة :: مقالات وابداعات فكرية-
انتقل الى: