من الحقائق التي حملها إلينا التاريخ ، وسرت مسرى الأمثال قولهم " العرب أمة شاعرة " ، وكذلك قولهم " الشعر ديوان العرب " . ولا مبالغة في ذلك : فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم ومسيرة حياتهم .
**********
عزيزي القاريء في هذا الجو الحار أعتقد أنك توافقني على أن نعيش في البحر ، وما قاله فيه الشعراء . واسمح لي أن أبدأ بما قيل في البحر من شعر حديث ، فعلي محمود طه يقول من قصيدة " الملاح التائه" :
أيـهـا الـهـاجر عز iiالملتقى
أدرك الـتـائـه في بحر الهوى
وارع فـي الـدنيا طريدا iiشاردا
ضـل فـي الليل سراه iiومضى
فـاجـعـل الـبحر أمانا iiحوله
وامـسـح الآن عـلـى iiآلامه
وقُـد الـفـلـك إلى بر iiالرضا
وأذبـت الـقلب صدا iiوامتناعا
قـبـل أن يقتله الموج iiصراعا
عنه ضاقت رقعة الأرض اتساعا
لا يُـرى فـي أفـق منه iiشعاعا
وامـلأ الـسهل سلاما iiواليفاعا
بـيـد الرفق التي تمحو iiالدماعا
وانـشر الحب على الفلك شراعا
ومطلع القصيدة:
أيها الملاح قم واطو الشراعا
لِم نطوي لجة الليل سراعا ؟
**************
ومن قصيدة له بعنوان " إلى البحر " :
ذلـك الـبـحـر هـل تشاهد iiفيه
ظـلـمـات مـن فـوقـها iiظلمات
لا تـرى تـحـتـهـن غير iiوجود
* * ii*
ويـك يـا بـحر ما أنينك في iiالليـ
امـض حـتى ترى المدائن iiغرقى
امـض عبر السماء واطغ على iiالـ
ذاك أو يـهـتـك الـظلام دياجيـ
وتـرى الـشـمس في مياهك iiتلقي
غـيـر لـيـل من وحشة iiواكتئاب
تـتـرامـى بـالـمـائج iiالصخاب
مـن عـبـاب وعـالم من iiضباب
* * ii*
ل أنـيـن الـمـروع iiالـهـيـاب
وتـرى الـكـون زخرة من iiعباب
أفلاك واغمر في الجو مسرى العقاب
ه ويـنـضـو ذاك الـسواد الكابي
خـالـص الـتـبر واللجين iiالمذاب
***************
واسترسالا مع هذا التصوير الرومانسي الأخاذ الذي يعتمد بصفة خاصة على ظاهرة التشخيص يتحدث علي محمود طه عن الشواطيء المصرية ، فمما قال :
صـور فواتن يا شواطيء iiصاغها
فـتـنـظـريه على شعابك iiمثلما
كم ظل يضرب في صخورك موجُه
فـخذي الحديث عليه واستمعي iiله
لـك ذلـك الـبحر الصَّناع iiرواءَ
رجـع الـغـريب إلى حماه iiوفاء
مـمـا أجـن مـحـبـة iiووفـاء
كـم مـن جـمـاد حذث iiالأحياء
***************
ونرى أمير الشعراء أحمد شوقي يخاطب البحر الأبيض المتوسط قائلا :
أي الـمـمـالـك iiأيـهـا
يـا أبيض الآثار iiوالصفحا
إن البيان ، وإن حسن iiالـ
أبـدا تـذكـرنـا iiالـذي
وبـنـوا مـنـارك iiعاليا
وتـحـكموا بك في iiالوجو
حـتـى إذا جـئـت iiالأنا
والـيـوم عـق iiكـأنـما
فـابـلـغ فـديتك كل iiما
في الدهر ما رفعت شراعك
ت ضُـيـع مـن iiأضاعك
عـقـل مـا زالا مـتاعك
ن جلوا على الدنيا iiشعاعك
مـتـألـقـا وبنوا قلاعك
د تـحـكـما كان iiابتداعك
م بـأهـل حكمته iiأطاعك
يـنسى جميلك iiواصطناعك
ئـك فالملا ينوي iiابتلاعك
***************
ومعذرة أيها القاريء أن نترك الشعر الحديث الأن . ونمضي إلى عشرات القرون السابقة ، فنقرأ لأمير شعراء الجاهلية امريء القيس :
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
وقال شاعر آخر في حبيبته:
ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
ونحن نرفض هذا التصوير لسببين :
1-
عبارة "والبحر مالح" تزيد لا قيمة له .
2-
أنه يظهر الحبيبة في منظر مقزز وهو التفل والبصق.
وأنا أقترح أن تكون الصياغة كالآتي :
ولو أن ماء البحر لامس ثغرها لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
**********
وقال أحد الشعراء القدامى :
يلا م أبو الفضل في جوده وهل يملك البحر ألا يفيضا؟
وقال آخر مادحا :
هو البحر إلا أنه عذب مورد وذا عجب أن العذوبة في البحر
ولابن الرومي تشبيه رائع نراه في قوله :
دهر علا قدرُ الوضيع به وهوى الرفيع يحطه شرفهْ
كالبحر يرسب فيه
لؤلؤه سفلا ويعلو فوقه جيفُه
وفي بيت آخر يقول :
ألا فارجه واخشه إنه هو البحر فيه الغِِنى والغرقْ
وقال آخر :
كمثل البحر يغرق فيه حي ولا ينفك تطفو فيه جيفهْ
ويمدح المتنبي كافورا الإخشيدي قائلا :
قواصد كافور توارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا
ويقول عمرو بن كلثوم في ختام معلقته :
ملأنا البر حتى ضاق عنا وظهر
البحر نملؤه سفينا
ألا لا
يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
***************
ونعود للعصر الحديث فنرى خليل مطران وقد اشتدت به الأزمات النفسية لا يجد من يشكو إليه إلا البحر ، فنراه يسيطر على ابياته نهج الرومانسيين من تشخيص ومزج بين النفس والطبيعة إلى آخره ، فيقول في قصيدة له بعنوان " المساء" :
إنـي أقـمـت على التعلة iiبالمنى
عـبـث طـوافي في البلاد iiوعلة
مـتـفـرد بـصـبـابـتي iiمتفرد
ثـاو عـلى صخر أصم وليت iiلي
يـنـتـابـها موج كموج iiمكارهي
شاك إلى البحر اضطراب خواطري
والـبـحـر خفاق الجوانب iiضائق
فـي غـربـة قـالوا تكون iiدوائي
فـي عـلـة مـنـفـاي لاستشفاء
بـكـآبـتـي مـتـفـرد iiبعنائي
قـلـبـا كـهذي الصخرة iiالصماء
ويـفـتـها كالصخر في iiأعضائي
فـيـجـيـبـني برياحه iiالهوجاء
كـمـدا كـصدري ساعة iiالإمساء
**********
ونختم هذه الحلقة من ديوان العرب بما قاله الشاعر طاهر زمخشري في قصيدته " أنشودة الملاح " التي يهديها لعلي محمود طه صاحب ديوان " الملاح التائه " :
الـدجـى بـحر وقلبي iiفلكه
والـمـجـاديف بكف iiبضةٍ
وصفير الريح نايٌ iiوالصدى
والـسماء الصحو في iiزرقتها
وأنـا الملاح يجري iiزورقي
وصدى الذكرى بنفسي مِرجلٌ
فـمـتى ترسو سفيني iiإنني
وشـراعي من نسيج iiالأبدية
تـلـطم الموج بعزمات iiقوية
يـمـلأ الأجواء أنغاما iiشجية
مـقـلـة ترقب دنيا البشرية
حـامـلا أشباح أيامي الشقية
عـاش حتى بالأماني iiالذهبية
حـائـر سـارٍ يريد iiالأبدية
**********
عزيزي القاريء إن البحر والوقوف أمامه يحتاج أكثر مما كتبنا بكثير ، ولكننا حرصا على الإيجاز نكتفي بما قدمناه . وإلى اللقاء على حق وخير في حلقة أخرى من ديوان العرب .