الأعشى لقب لعدد من الشعراء في العصر الجاهلي؛ فمنهم أعشى قيس وأعشى باهلة، وأعشى بكر بن وائل، وأعشى بني ثعلبة، وأعشى بني ربيعة، وأعشى همدان، وأعشى بني سليم. لكننا إذا ذكرنا صناجة العرب فإن أعشى قيس يكون هو المقصود؛ لما لشعره من شهرة عالية، وجودة راقية، جعلت الأدباء والنقاد في القديم والحديث يقدمونه على من سواه ويحتفون به احتفاء كبيرا، ويعطونه من الدرس والعناية عطاء وافرا؛ فيبحثون في حياته وشعره؛ ذاكرين ملامح الثراء في تجربته الشعرية من عمق في الفكر، وجمال في الصور وسلاسة في الموسيقى؛ ليُحفظ شعره ويُردد على مر العصور وتروى شهادات النقاد في براعة هذا الشاعر واقتداره.
ومن الشهادات التي تروى عندما يذكر هذا الشاعر ما تدونه أغلب كتب الأدب عن محمد بن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء أنه قال: "سألت يونس النحوي من أشعر الناس قال لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكني أقول امرؤ القيس إذا غضب والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب". وشهادة يونس النحوي تشير إلى الحالات التي يبدع فيها هؤلاء الشعراء؛ فيأتي شعرهم تصويراً لإحساسهم ومشاعرهم؛ فيكون أصدق تعبيرا، وأقوى تأثيراً.
ومن العجيب أن لقب الأعشى الذي ذاع وشاع في النقد العربي هو لقب فارسي؛ حيث إن كلمة صناجة من (صنج) وهي كلمة فارسية لها معنيان مختلفان في شعر الأعشى يوردهما آذرتاش آذرنوش الذي تتبع الألفاظ الفارسية في ديوان ذلك الشاعر الكبير من خلال كتابه (سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم). بقوله: الصنج هي تلك الدائرة النحاسية التي يعلقونها بأصابعهم ويعزفون والظاهر أنها معربة عن اللغة البهلوية فأصلها (الجنك)، وتشير أيضا إلى أن الصناج هو الذي يعزف بالربابة.
لقد حاول النقاد العرب أن يعللوا سبب تلقيب الأعشى بصناجة العرب؛ فيذكر أحدهم بأنه أول من أدخلها إلى نسيج الشعر العربي؛ ويذكر بيته الذي يقول فيه:
ومُستجيبٍ لصوتِ الصَّنْج تَسَمعُهُ
إذا تُرَجِّع فيه القينةُ الفُضلُ
ويورد الأصفهاني في الأغاني أسباباً أخرى لتلقيبه بصناجة العرب فيقول: "قال أبو عبيدة من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره، ويقال هو أول من سأل بشعره وانتجع به أقاصي البلاد، وكان يغنى في شعره؛ فكانت العرب تسميه صناجة العرب".
إن الأعشى ميمون بن قيس، رغم ضعف بصره الذي كان سببا في تلقيبه بأبي بصير -كعادة العرب في تفاؤلها بالأسماء إلى الآن كأن تقول للمريض سليم أو على حد تعبيرنا في العامية عند التعبير عن إنسان مريض بأنه (بعافية شوية)- إلا أنه لم يحبس نفسه في قرية منفوحة باليمامة التي ولد بها بل طاف على الملوك فمدحهم ونال من عطاياهم وقد سجل ذلك في قوله مفتخراً أمام ابنته فقال:
وقد طُفتُ للمالِ آفاقَهُ
عُمانَ فحِمص فأورى شِلمْ
أتيتُ النّجاشيَّ في أرضه
وأرضَ النَّبيط، وأرضَ العجمْ
فنجران، فالسَّروَ من حِمْيرٍ
فأيَّ مرامٍ له لم أَرُمْ
ومن بعدِ ذاك إلى حضرموت
فأوفيت همّي وحينا أَهُمْ
ألمْ تري الحَضْرَ إذ أهلُه
بنَعُمى، وهل خالدٌ من نَعِمْ.
لكن رحلات الأعشى كانت إلى الأكاسرة أكثر من القياصرة وغيرهم من الملوك؛ مما كان سببا في كثرة الألفاظ الفارسية في شعره، ككلمة شهِنْشاهُ وكسرى وديباج التي تعني القماش الحريري ذي النقوش، وكلمة رزق التي دخلت العربية من اللغة السريانية وتعني الوجبة اليومية وتكتب في الفارسية (روزي)، وقد جاءت في القرآن ككثير من الكلمات الفارسية الواردة في القرآن كزنجبيل وإستبرق وسندس...إلخ، ومن ذلك في شعر الأعشى:
وكِسرى شهِنْشاهُ الذي سار مُلكُهُ
له ما اشتهى راحٌ عتيقٌ وزنْبقُ
ورغم فتنة الأعشى بالفرس ورحيله إلى بلاطهم إلا أن شخصيته لم تذب فيهم، بل إنه كان ينتصر للعرب في حالة مواجهتهم مع الفرس، فلقد طرب الأعشى لانتصار العرب على الفرس في يوم ذي قار، وثأر العربي لدم النعمان بن المنذر وكرامة المرأة العربية التي أراد كسرى أن ينتهكها عندما وشى زيد بن عدي بالنعمان عند كسرى؛ ثأرا لأبيه الذي غدر به النعمان وقتله، فذكر جمال بنات النعمان عندما رأى كسرى محبا للجمال وهائما فيه، وأخذ يعدد زيد من صفات الجمال والدلال لنساء النعمان حتى بعثه ليخطب بناته فذهب زيد إلى النعمان يذكر له رغبة كسرى في أن يتزوج بامرأة لها صفات لا توجد إلا عندك فاعتذر النعمان اعتذارا رقيقا وقال له: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته ؟ يا زيد سلّم على كسرى وقل له: إن النعمان لم يجد فيمن يعرفهن هذه الصفات وبلغه عذري.
لكن زيدا رآها فرصة سانحة للانتقام من النعمان فحرف الكلم عن مواضعه وأوصل إلى كسرى ما يوغر صدره فقال: إن النعمان يقول لك ستجد في بقر العراق من يكفينك. فاغتاظ كسرى وبعث إلى النعمان الذي علم أنه قد وشي به وأنه سيهلك لا محالة واستودع نساءه وأمواله عند هانئ بن مسعود الشيباني، قبل أن يودعه كسرى في السجن ليموت به بداء الطاعون.
ودفع كسرى بجيش ليؤتى له ببنات النعمان وأمواله من هانئ بن مسعود الشيباني وخيره إما بأن يرحل عن دياره أو يسلم أمانة النعمان أو الحرب، فاختار الحرب، وجيش لها قبائل العرب في وحدة لم تعرفها من قبل وقادت بكر هذه القبائل وهزمت فارس في صحراء العرب التي كثر فيها الزفت والقار، وقتل قواد كسرى؛ مما كان سببا في موته بعد تلك المعركة بوقت قصير حسرة على هزيمته من العرب في يوم ذي قار الذي قيل إنه وافق ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال عندما بلغه ذلك الخبر (هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم ، وبي نصروا)
لقد صور الأعشى هذا اليوم وافتخر بنصر العرب على فارس فقال:
وجند كسرى غداة الحنو صبحهم
منا كتائب تزجي الموت فانصرفوا
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا
ليعلموا أننا بكر فينحرفوا
قالوا: البقيّة والهندي يحصدهم
ولا بقيّة إلا النار ، فانكشفوا
جحاجح ، وبنو ملك غطارفة
من الأعاجم ، في آذانها النطف
إذا أمالوا إلى النشاب أيديهم
ملنا ببيض فظل الهام يختطف
وخيل بكر فما تنفك تطحنهم
حتى تولوا ، وكاد اليوم ينتصف
لو أن كل معد كان شاركنا
في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف
وعلى كل فإن الأعشى رغم انتمائه لعروبته إلا أنه شنف آذان العالمين بشعره، فكان شعره مفتاحا لأبواب الأمل والرجاء عند كثير من الناس؛ فسئل بأن يكون شعره زلفى لفتح الأبواب، ومن طريف ذلك ما ينقل عن الأصمعي قوله بأن رجلا حدثه أن امرأة جاءت إلى الأعشى فقالت: "إن لي بنات قد كسدن علي فشبب بواحدة منهن لعلها أن تنفق" فشبب بواحدة منهن فما شعر الأعشى إلا بجزور قد بعث به إليه فقال ما هذا فقالوا زوجت فلانة فشبب بالأخرى فأتاه مثل ذلك فسأل عنها فقيل زوجت فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعا".
وهكذا كان صناجة العرب شاهدا على أن العربي من الممكن أن ينهل من كل الحضارات ولا يذوب فيها، فلا حرج عليه أن يعجب بما في حضارات الناس ويستفيد منها في فن أو إبداع يكون لبنة من لبنات حضارته العربية فيهضم ليخرج عسلا سائغا شرابه، ولا يذوب فيكون ملحا أجاجا.