الرؤى والأحـلام عند أهـل السنة إنَّمَا هي اعتقادات يخلقها الله U فيراها الإنسان في نومه .
قال الله تعالى: )اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ( [الزمر: 62] .
وتكون هذه الاعتقادات على ثلاثة أنواع :
النوع الأول: اعتقادات تكـون علامات على أمـور أخرى سوف يخلقها الله -جل وعلا - أو كان قد خلقها .
النوع الثاني: اعتقادات يحدث المرء بِهَا نفسه، أو يهم بِهَا في اليقظة .
النوع الثالث: اعتقادات يتدخل فيها الشيطان تدخلاً من نوع ما؛ ليخوِّفَ بِهَا الإنسان ويحزنه .
روى الشيخـان عن أبي هـريرة، عن النبي r قال: ((الرُّؤْيَا ثَلاثَةٌ: فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ))([1]) .
قال المازري: ((كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة؛ لأنَّهُم حاولوا الوقوف على حقائق لا تُدركُ بالعقل، ولا يقوم عليها برهان. والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان -وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة- فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها عَلَمًا على أمور أُخر يخلقها في ثاني الحال -أو كان قد خلقها-. فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره، كما يكون خلق الله I الغيم عَلَمًا على المطر وقد يتخلف ...))([2]) .
علم النفس والأحــلام
لقد استرعت ظاهرة الأحلام اهتمام الحالمين والمفسرين على حد سواء عبر عصور التأريخ كلها، وقد نجم عن هذا الاهتمام ظهور الكثير من النظريات التي تفسر ظاهرة الأحلام، كما نشأ الكثير من الاجتهادات التفسيرية لمحتوى الأحلام، وبالرغم من تباين الآراء حول هذه التفاسير والاجتهادات، إلا أن الأحلام ظلت ظاهرة معقدة وعصية على الفهم والتأويل.. وهناك انبعاث جديد من الاهتمام بظاهرة الأحلام في القرن الأخير، ويتركز هذا الاهتمام على تفسير ظاهرة الأحلام.. ومع أن العلم الحديث قد كشف بعض نواحي الغموض عن ظاهرة الأحلام، إلا أنه في الوقت ذاته قد أوقع من الضوء عليها ما كشف عن هوة عميقة من الغموض حول هذه الظاهرة([3]) فإنه لَم يستطع الوصول إلى جوهرها، ولا الإجابة على الكثير مما تفترض الإجابة عليه، خاصة فيما يتعلق بتكوين الأحلام ومعانيها، ومن ثم يبقى حديث الإسلام عن الرؤى والأحلام معصومًا من الزلل والخطأ؛ لأنه بمعزل عن تلك الاجتهادات البشرية المتباينة التي لا تستند على دليل علمي صحيح .
فقد قدم علم النفس نظريات عدة لتفسير الأحلام وبيان حقيقتها وتوضيح وظيفتها، هاك أهم هذه النظريات([4]).
1- نظرية التحليل النفسي:
يرى فرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي أن الأحلام لا تتنبأ بالمستقبل، بل إنَّهَا ظاهرة تكشف عن صراعات جنسية أو وجدانية يعانيها الحالِم في الوقت الحاضر، أو أنَّهَا تعبر عن رغبات مكبوتة منذ الطفولة المبكرة. كما أن الحُلْم له وظيفته "حراسة النوم" بمعنى معاونة النائم على الاستمرار في نومه، فيجنبه ما يُحتمل أن يزعجه من منبهات خارجية، فكأن الحلم هو محاولة لاستبعاد ما يؤدي إلى اضطراب النوم، ووسيلته في ذلك هو تحقيق رغبة لدى النائم أو إرضاء دوافعه إرضاءً وهميًّا خياليًّا يعفي النائم من الاستيقاظ .
ولا ريب في أن كثيرًا من أحلام الناس هي تنفيس عن أشياء مكبوتة، أو تعبير عن رغبة مشتهاة كما يفسرها فرويد... ولكن تبقى بعد ذلك أحلام كثيرة لا يمكن أن تفسر على هذا الأساس، لاسيما تلك التي تتنبأ بالمستقبل، والتي لا يمكن أن تفسر إلا على أساس الإيمان بعالَم الغيب.. الأمر الذي ينسف الفكر المادي نسفًا .
وأتباع هذه المدرسة يظنون أن الرموز تظل حتمًا ثابتة دائمًا، بمعنى أن الشيء يمثله رمز واحد دائمًا في الأحلام .
كما أنَّهُم حمَّلوا هذه الرموز تفسيرات جنسية مبالغًا فيها، فيتصورون كل ما هو مستدير في الحلم رمزًا لقبل المرأة (مثل الكهف والدائرة والعلبة والخاتم..) وكذلك كل ما هو مستطيل رمزًا لقبل الرجل (مثل العصا والقلم والسيف) وكل حركة في الحلم هي رمز للعملية الجنسية، كالجري والتسلق والسباحة.. وما إلى ذلك مما أثار العاصفة من نقد علماء النفس أنفسهم، حتى أكثر المقربين من رفاق فرويد .
2- نقد يونج لمدرسة التحليل النفسي:
يقرر يونج أنه ليس هناك فقط (لا شعور شخصي) -كما يرى فرويد- ولكن يوجد أيضًا (لا شعور جمعي). وهو يتكون من تركيبات فطرية موروثة، تعبر عن نفسها في الأحلام بواسطة صور ذات طُرُز بدْئية .
لقد اكتشف أن الأجزاء الملتزمة بحمل الأحلام هي أقدم الأجزاء في المخ -إن لَم يكن الجهاز العصبي السبمتاوي- فإذا كانت الأحلام متصلة بِهَذه التركيبات القديمة للمخ، فإنه من المتوقع لها -في نظره- أن تستعير لغتها أيضًا من الإنسان القديم البدائي: لغة صـور ومقارنات مزخرفة، وإشارات أسطورية .
وهذه النظرية هشة ليس عليها أثارة من علم، وعلى فرض صحة اتصال الأحلام بالتركيبات القديمة للمخ، فإنه من الخطأ بمكان أن يلزم ذلك أن تستعير الأحلام لغة الإنسان القديم، ثم إن الزعم بأن لغـة الإنسان القديم كانت صـورًا ومقارنات مزخرفة... زعْمٌ مجرد من الدليل، والحق أن الله U قد علم آدم اللغـة والبيان، قال تعالى: )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا( [البقرة : 31] أي علمه أسماء الأشياء كلها ذواتِها وصفاتِها وأفعالها. وقال عز من قائل: )عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ( [الرحمن: 4]، يعني النطق قاله الحسن([5]) . وفي حديث الشفاعة : ((فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ..)) ([6]) الحديث .
3- نظرية التنبيهات الخارجية:
يرى البعض أن الأحلام قد تنشأ عن تنبيهات حِسِّيَّةٍ خارجية، ويتوقف مضمون الحلم على طبيعة هذه المنبهات، لتوضيح ذلك يسوقون الواقعة التالية :
كان على الأم أن تستيقظ في الصباح عند سماع جرس الساعة أو(المنبه)، وتُوقظ أطفالها؛ ليستعدوا للذهاب إلى المدرسة، وتعد لهم طعام الإفطار، ولما كانت الأم تود الاستمرار في النوم سعيًا للراحة، فقد حدث أن دَقَّ الجرس، وحلمت الأم أنَّهَا سمعت صوت الجرس، وأنَّهَا قامت في الحال كالمعتاد، وأعدت الإفطار، وأيقظت أطفالها الذين وضعوا ملابسهم، وتناولوا إفطارهم، وودعتهم، ثم أكملت نومها حتى أخذت قسطها من الراحة .
وحينما استيقظت الأم وجدت أن الأطفال ما زالوا نائمين، وأن كل ما فعلته كان حلمًا فحسب.
وقد يصح أن تفسر بعض الأحلام على هذا الأساس، لكن تبقى الجمهرة الغالبة من أحلام الناس لا تقدم هذه النظرية لها تفسيرًا مقنعًا.
وقد كان ابن حجر العسقلاني أبعد نظرًا من أصحاب هذه النظرية وأشد ذكاءً حين عدَّ ما قاله أولاء نوعًا من أنواع الرؤى والأحلام التي أوصلها إلى سبعة كما سيأتي، فقال :
ونوع سادس: وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن عادته أن يأكل في وقت فنام فيه، فرأى أنه يأكل، أو بات طافحًا من أكلِ وشرب،ِ فرأى أنه يَتَقَيَّأ(
4- نظريات فسيولوجية:
وهي ترى أن الأحلام تنشأ عن اضطرابات فسيولوجية مثل سوء الهضم، أو أوجاع جسمية، أو نتيجة تَهيُج خلايا معينة في المخ، كما يحدث في هلوسات الحُمَّى، بما يؤدي إلى ظهور الذكريات المخزونة في هذه الخلايا في بؤرة الشعور..
ولكن إذا كان بعض الأحلام من قبيل الذكريات، فإن كثرة كاثرة من الأحلام ليست من هذا القبيل..
والحق أن ثمة تخبطًا في الآراء التي قدمها علم النفس -بل وحيرة- وجاءت تفسيراته قاصرة، بل وبعضها غير مقبولة عقليًّا أو واقعيًّا... ولا يخفى أن كثيرًا من معارف علم النفس إن هي إلا مجموعة أفكار ظنية !!
الاتجاه التجريبي في دراسة الأحلام:
بقي أن نشير إلى الاتجاه التجريبي في دراسة الأحلام، وهو اتجاه يهتم بالكشف عن الشروط الفسيولوجية اللازمة لحدوث الأحلام، وبعبارة أخرى تحديد المنطقة الدماغية التي تضبط عملية الأحلام، ومعرفة العوامل البيوكيميائية التي تنشط هذه المنطقة أثناء الحلم أو تعمل على كفها .
ففي سلسلة من التجارب وجد أن حركات العين أثناء النوم لها صلة بفترات الأحلام، في (130) من (160) حالة درست، استطاع الاشخاص أن يسترجعوا الأحلام بعد إيقاظهم عقب توقف حركات العين... وبعض الأشخاص أوقظوا بعد خمس دقائق، والبعض بعد خمس عشرة دقيقة من انتهاء الحُلْم، ويشير إلى ذلك توقف حركات العين... هؤلاء الذين أوقظوا بعد خمس دقائق أمكنهم تذكر قدر من الحلم أكبر مما تذكره الذين أوقظوا بعد خمس عشرة دقيقة .
ولقد سبق الإسلام إلى الإشارة إلى مثل هذا، فقد صح أن النبي r كان إذا صلى الصبح أقبل عليهم بوجهه فقال: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا))، وقد أخذ العلماء المسلمون من هذا الحديث استحباب السؤال عن الرؤيا، والمبادرة إلى تأويلها وتعجيلها أول النهار؛ ولأن الذهن جمع قبل أن يتشعب بإشغاله في معايش الدنيا؛ ولأن عهد الرائي قريب لَم يطرأ عليه ما يُهوِّش الرؤيا عليه([8]) .
وقرر الباحثان كلايتمان وديمنت أن اتجاه العين يرتبط بمحتوى الحلم. فالحركة الرأسية مرتبطة بالصعود، بينما الحركة الأفقية -يمنيًا ويسارًا- ترتبط في الأحلام بنشاطات أفقية .
وتشير دراسات جامعة شيكاغو أيضًا إلى أن الأحلام تختلف في الطول، وقد تبقى لمدة ساعة، بعكس الآراء القديمة لبعض علماء النفس التي كانت ترى أن الأحلام دائمًا قصيرة حتى قيل: إن أطول حلم لا يستغرق أكثر من ثلاث دقائق !!
وقد أصبح في الإمكان إيجاد علاقة طردية بين إفراز العرق والشدة الانفعالية في الحلم، والقياس المستمر لقابلية التوصل الكهربي للجلد يعطي منحنى في الحلم .
إن خاصية الحلم تنعكس أيضًا في الرسوم الكهربية للدماغ، فهناك أحلام هادئة لا تحدث اضطرابًا في إيقاع التيارات الدماغية بأي حال.. كما أنه أصبح من الممكن اكتشاف الحلم المزعج بواسطة الذبذبات التي تظهر في منحنى الرسام الكهربائي الدماغ .
ولا يحتاج الإنسان إلى جهد ليدرك أن نظرياتِهم مادية بحتة، تريد أن تعامل الإنسان معاملة المادة الجامدة، فالأساس الذي يقيمون عليه تجاربَهم يوحي بأنَّهُم يفترضون أن النفس كالمادة، تستجيب بطريقة واحدة للمؤثر الواحد إذا اتحدت الظروف، ولا شك أن هذا غير صحيح إلا في محيط ضيق جدًّا من النشاط الإنساني، هو ما يتصل بالجسد وحده، أو ما يكون الجسد هو العنصر الفعال فيه -كما رأينا في التجارب السابقة- . أما بقية جوانب النفس فلا يفترق فيها فرد عن فرد فحسب، بل إن الفرد الواحد يختلف عن نفسه ولو اتحدت الظروف جميعًا، وأبسط أنواع الاختلاف أن كل لحظة تمر تضيف إلى الإنسان جديدًا من المعرفة ومن التجربة يُحسَب حسابه في اللحظة التالية، فلا يمكن بذلك أن يمر إنسان واحد بحالة واحدة مرتين .
ومفهوم أنَّ الحلم التنبؤي لا يمكن أن يدخل المعمل؛ لأن فيه عنصرًا غيبيًّا لا تدركه الحواس.. إنه من أسرار الخالق العظمى، التي لَم يكشف بعد عنها لبني الإنسان، وبدلا من أن يعلن التجريبيون عجزهم عن تفهم تلك الأسرار؛ لأن وسائلهم لا تصل إليها، راحوا في جرأة عجيبة ينفون وجودها؛ لمجرد أنَّهُم هم لا يستطيعون إثباتَها .
وإنَّهَا لحقائق ثابتة يدركها الإنسان حين يتخلص من قيود العقلية المادية الضيقة، ويفتح قلبه وبصيرته لهذا الكون العريض، فيتدبره بنظرة واسعة الأفق، وإيمان بكل القوى المذخورة فيه، وسيجد حينئذ ظواهر عجيبة في حياة الإنسان، لا يمكن تفسيرها إلا على فرض وجود الروح .
وعلى الرغم من أن التخاطر عن بعد -التليباثي- وهو من معجزات الروح الباهرة، قد تقرر حقيقة علمية، إلا أن التجريبيين ما يزالون على عنادهم في إنكار الروح، يحاولون عبثًا أن يفسروه بطريقة مادية، تتسق مع نظريتهم المادية .
إن عدم وصول العلم حتى اليوم إلى تفسير هذه الصلة الخفية الدقيقة التي تربط الإنسان بالكون الكبير والغيب المجهول لا تعني حتمًا أن هذه الصلة غير موجودة، وكل ما تعنيه أن العلم لَم يصل إليها بعـد، ومن يدري لعله يصل إليها بعد حين