في دخول أن على الفعل دون الإكتفاء بالمصدر ثلاث فوائد
أحدها : أن المصدر قد يكون فيما مضى وفيما هو آت وليس في صيغته ما يدل عليه فجاءوا بلفظ الفعل المشتق منه مع أن ليجتمع لهم الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان .
الثانية : أن أن تدل على إمكان الفعل دون الوجوب والإستحالة .
الثالثة : أنها تدل على مجرد معنى الحدث دون احتمال معنى زائد عليه ففيها تحصين من الإشكال وتخليص له من شوائب الإجمال بيانه أنك إذا قلت كرهت خروجك وأعجبني قدومك احتمل الكلام معاني منها أن يكون نفس القدوم هو المعجب لك دون صفة من صفاته وهيآته وإن كان لا يوصف في الحقيقة بصفات ولكنها عبارة عن الكيفيات واحتمل أيضا أنك تريد أنه أعجبك سرعته أو بطؤه أو حالة من حالاته فإذا قلت أعجبني أن قدمت كانت أن على الفعل بمنزلة الطبايع والصواب من عوارض الإجمالات المتصورة في الأذهان وكذلك زادوا أن بعد لما في قولهم لما أن جاء زيد أكرمتك ولم يزيدوها بغير ظرف سوى لما وذلك أن لما ليست في الحقيقة ظرف زمان ولكنه حرف يدل على ارتباط الفعل الثاني بالأول وأن أحدهما كالعلة للآخر بخلاف الظرف
إذا قلت حين قام زيد قام عمرو فجعلت أحدهما وقتا للآخر على اتفاق لا على ارتباط فلذلك زادوا أن بعدها صيانة لهذا المعنى وتخليصا له من الإحتمال العارض في الظرف إذ ليس الظرف من الزمان بحرف فيكون قد جاء لمعنى كما جاءت لما تركيب لما
وقد زعم الفارسي أنها مركبة من لم وما وقال السهيلي ولا أدري ما وجه قوله وهي عندي من الحروف التي في لفظها شبه من الإشتقاق وإشارة إلى مادة هي مأخوذة منها نحو ما تقدم في سوف وثم لأنك تقول لممت الشيء لما إذا ضممت بعضه إلى بعض وهذا نحو من هذا المعنى الذي سيقت إليه لأنه ربط فعل بفعل على جهة التسبيب أو التعقيب فإذا كان التسبيب حسن إدخال إن بعدها زائدة إشعارا بمعنى المفعول من أجله وإن لم يكن مفعولا من أجله نحو قوله فلما جاءت رسلنا لوطا هود 77 و لما أن جاء البشير يوسف 96 ونحوه وإذا كان التعقيب مجردا من التسبب لم يحسن زيادة أن بعدها وتأمله في القرآن الكريم أن التفسيرية وأن المصدرية
وأما أن التي للتفسير فليست مع ما بعدها بتأويل المصدر ولكنها تشارك أن التي تقدم ذكرها في بعض معانيها لأنها تحصين لما بعدها من الإحتمالات وتفسير لما قبلها من المصادر المجملة التي في معنى المقالات والإشارات فلا يكون تفسيرا إلا لفعل في معنى التراجم الخمسة الكاشفة عن كلام النفس لأن الكلام القائم في النفس والغائب عن الحواس في الأفئدة يكشفه للمخاطبين خمسة أشياء اللفظ والخط والإشارة والعقد والنصب وهي لسان الحال وهي أصدق من لسان المقال فلا تكون أن المفسرة إلا تفسيرا لما أجمل من هذه الأشياء كقولك كتبت إليه أن اخرج وأشرت إليه اذهب ونودي أن بورك من في النار النمل 8 وأوصيته أن اشكر وعقدت في يدي أن قد أخذت بخمسين وزريت على حائطي أن لا يدخلوه
ومنه قول الله عز و جل ووضع الميزان أن لا تطغوا في الميزان الرحمن 87 هي ههنا لتفسير النصبة التي هي لسان الحال وإذا كان الأمر فيها كذلك فهي بعينها التي تقدم ذكرها لأنها إذا كانت تفسيرا فإنما تفسر الكلام والكلام مصدر فهي إذا في تأويل مصدر إلا أنك أوقعت بعدها الفعل بلفظ الأمر والنهي وذلك مزيد فائدة ومزيد الفائدة لا تخرج الفعل عن كونه فعلا فلذلك لا تخرج عن كونها مصدرية كما لا يخرجها عن ذلك صيغة المضي والإستقبال بعدها إذا قلت يعجبني أن تقوم وأن قمت فكأنهم إنما قصدوا إلى ماهية الحدث مخبرا عن الفاعل لا الحدث مطلقا ولذلك لا تكون مبتدأة وخبرها في ظرف أو مجرور لأن المجرور لا يتعلق بالمعنى الذي يدل عليه أن ولا الذي من أجله صيغ الفعل واشتق من المصدر وإنما يتعلق المجرور بالمصدر نفسه مجردا من هذا المعنى كما تقدم فلا يكون خبرا عن أن المتقدمة وإن كانت في تأويل اسم وكذلك أيضا لا يخبر عنها بشيء مما هو من صفة للمصدر كقولك قيام سريع أو بطيء ونحوه لا يكون مثل هذا خبرا عن المصدر
فإن قلت حسن أن تقوم وقبح أن تفعل جاز ذلك لأنك تريد بها معنى المفعول كأنك تقول أستحسن هذا أو أستقبحه وكذلك إذا قلت لأن تقوم خير من أن تقعد جاز لأنه ترجيح وتفصيل فكأنك تأمره بأن يفعل ولست بمخبر عن الحدث بدليل امتناع ذلك في المضي فإنك لا تقول إن قمت خير من أن قعد ولا إن قام زيد خير من أن قعد وامتناع هذا دليل على ما قدمناه من أن الحدث هو الذي يخبر عنه وأما أن وما بعدها فإنها وإن كانت في تأويل المصدر فإن لها معنى زائدا ولا يجوز الإخبار عنه ولكنه يراد ويلزم يؤمر به فإن وجدتها مبتدأة ولها خبر فليس الكلام على ظاهره كما تقدم تركيب لن
وأما لن فهي عند الخليل مركبة من لا ولن ولا يلزم ما اعترض عليه سيبويه من تقديم المفعول عليها لأنه يجوز في المركبات ما لا يجوز في البسائط واحتج الخليل بقول جابر الأنصاري وهو من شعراءالجاهلية
فإن أمسك فإن العيش حلو ... إلي كأنه عسل مشوب يرجى المرء مالا أن يلاقي ... ويعرض دون أدناه الخطوب فإذا ثبت ذلك فمعناها نفي الإمكان ب لن كما تقدم وكان ينبغي أن تكون جازمة ك لم لأنها حرف نفي مختص بالفعل فوجب أن يكون عمله الجزم الذي هو نفي الحركة وانقطاع الصوت ليتطابق اللفظ والمعنى وقد فعل ذلك بعض العرب فجزم بها حين لحظ هذا الأسلوب النفي ب لا وب لن
ولكن أكثرهم ينصب بها مراعاة ل أن المركبة فيها مع لا إذ هي من جهة الفعل وأقرب إلى لفظه فهي أحق بالمراعاة من معنى النفي فرب نفي لا يجزم الأفعال وذلك إذا لم يختص بها دون الأسماء والنفي في هذا الحرف إنما جاءه من قبل لا وهي غير عاملة لعدم اختصاصها فلذلك كان النصب بها أولى من الجزم على أنها قد ضارعت لم لتقارب المعنى واللفظ حتى قدم عليها معمول فعلها فقالوا زيدا لن أضرب كما قالوا زيدا لم أضرب ومن خواصها تخليصها الفعل للإستقبال بعد أن كان محتملا للحال فأغنت عن السين وسوف
وجل هذه النواصب تخلص الفعل للإستقبال ومن خواصها أنها تنفي ما قرب ولا يمتد معنى النفي فيها كامتداد معنى النفي في حرف لا إذا قلت لا يقوم زيد أبدا وقد قدمنا أن الألفاظ مشاكلة للمعاني التي أرواحها يتفرس الفطن فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسه كما يتعرف الصادق الفراسة صفات الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته
وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه قال ابن جني مكثت برهة إذا ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه فقال لي رحمه الله وهذا كثيرا ما يقع لي
وتأمل حرف لا كيف تجد في نهايته ألفا يمتد بها الصوت ما لم يقطعه ضيق النفس فآذن امتداد لفظها بامتداد معناها ولن يعكس ذلك فتأمله فإنه معنى بديع وانظر كيف جاء في أفصح الكلام كلام الله ولا يتمنونه أبدا بحرف لا في الموضع الذي اقترن به حرف الشرط بالفعل فصار من صيغ العموم فانسحب على جميع الأزمنة وهو قوله عز و جل إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت الجمعة 6 كأنه يقول متى زعموا ذلك لوقت من الأوقات أو زمن من الأزمان وقيل لهم تمنوا الموت فلا يتمنونه أبدا وحرف الشرط دل على هذا المعنى وحرف لا في الجواب بإزاء صيغة العموم لاتساع معنى النفي فيها وقال في سورة البقرة ولن يتمنونه فقصر من سعة النفي وقرب لأن قبله قل إن كانت لكم الدار الآخرة البقرة 94 لأن إن وكان هنا ليست من صيغ العموم لأن كان ليست بدالة على حدث وإنما هي داخلة على المبتدأ والخبر عبارة عن مضي الزمان الذي كان فيه ذلك الحدث فكأنه يقول عز و جل إن كان قد وجبت لكم الدار الآخرة وثبتت لكم في علم الله فتمنوا الموت الآن ثم قال في الجواب ولن يتمنوه فانتظم معنى الجواب بمعنى الخطاب في الآيتين جميعا وليس في قوله أبدا ما يناقض ما قلناه فقد يكون أبدا بعد فعل الحال تقول زيد يقوم أبدا قصور المعتزلة في فهم كلام الله
ومن أجل ما تقدم من قصور معنى النفي في لن وطوله في لا يعلم الموفق قصور المعتزلة في فهم كلام الله تعالى حيث جعلوا لن تدل على النفي على الدوام واحتجوا بقوله لن تراني الأعراف 143 وعلمت بهذا أن بدعتهم الخبيثة حالت بينهم وبين فهم كلام الله كما ينبغي وهكذا كل صاحب بدعة تجده محجوبا عن فهم القرآن
وتأمل قوله تعالى لا تدركه الأبصار الأنعام 103 كيف نفى فعل الإدراك ب لا الدالة على طول النفي ودوامه فإنه لا يدرك أبدا وإن رآه المؤمنون فأبصارهم لا تدركه تعالى عن أن يحيط به مخلوق وكيف نفى الرؤية ب لن فقال لن تراني لأن النفي بها لا يتأبد وقد كذبهم الله في قولهم بتأبيد النفي ب لن بقوله وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك الزخرف 77 فهذا تمن للموت فلو اقتضت لن دوام النفي تناقض الكلام كيف وهي مقرونة بالتأبيد بقوله ولن يتمنوه أبدا البقرة 95 ولكن ذلك لا ينافي تمنيه في النار لأن التأبيد قد يراد به التأبيد المقيد والتأبيد المطلق فالمقيد كالتأبيد بمدة الحياة مقيد كقولك والله لا أكلمه أبدا والمطلق كقولك والله لا أكفر بربي أبدا وإذا كان كذلك فالآية إنما اقتضت نفي تمني الموت أبد الحياة الدنيا ولم يتعرض للآخرة أصلا وذلك لأنهم لحبهم الحياة وكراهتهم للجزاء لا يتمنون وهذا منتف في الآخرة .
فهكذا ينبغي أن يفهم كلام الله لا كفهم المحرفين له عن مواضعه قال أبو القاسم السهيلي على أني أقول إن العرب إنما تنفي ب لن ما كان ممكنا عند المخاطب مظنونا أنه سيكون فتقول له إن لن تكون لما ظن أنه يكون لأن لن فيها معنى أن وإذا كان الأمر عندهم على الشك لا على الظن كأنه يقول أيكون أم لا قلت في النفي لن يكون وهذا كله مقول لتركيبها من لا وإن وتبين لك وجه اختصاصها في القرآن الكريم بالمواضع التي وقعت فيها دون لا فائدة إذا الظرفية الشرطية
قولهم إذا أكرمك قال السهيلي هي عندي إذا الظرفية الشرطية خلع منها معنى الإسمية كما فعلوا ذلك بإذ وبكاف الخطاب وبالضمائر المنفصلة وكذلك فعلوا ب إذا إلا أنهم زادوا فيها التنوين فذهبت الألف والقياس إذا وقفت عليها أن يرجع الألف لزوال العلة وإنما نونوها لما فصلوها عن الإضافة إذ التنوين علامة الإنفصال كما فصلوها عن الإضافة إلى الجملة فيه فصار التنوين معاقبا للجملة إلا أن إذ في ذلك الموضع لم تخرج عن الإسمية في نحو قوله ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون الزخرف 39 جعلها سيبويه ههنا حرفا بمنزلة إن
فإن قيل ليس شيء من هذه الأشياء التي صيرت حروفا بعد أن كانت اسما إلا وقد بقي فيها معنى من معانيها كما بقي في كاف الخطاب معنى الخطاب وفي على معنى الإستعلاء فما بقي في إذا من معانيها في حال الإسمية
الجواب أنك إذا قلت سأفعل كذا إذا خرج زيد ففعلك مرتبط بالخروج مشروط به وكذلك إذا قال لك القائل قد أكرمتك فقلت إذا أحسن إليك ربطت إحسانك بإكرامه وجعلته جزاء له فقد بقي فيها طرف من معنى الجزاء وهي حرف كما كان فيها معنى الجزاء وهو اسم وأما إذ من قوله إذ ظلمتم ففيها معنى الإقتران بين الفعلين كما كان فيها ذلك في حال الظرفية تقول لأضربن زيدا إذ شتمني فهي وإن لم تكن ظرفا ففيها معنى الظرف كأنك تنهه على أنك تجازيه على ما كان منه وقت الشتم فإن لم يكن الضرب واقعا في حال الشتم فله رد إليه وتنبيه عليه فقد لاح لك قرب ما بينها وبين أن التي هي للمفعول من أجله ولذلك شبهها سيبويه بها في شواذ كتابه
وعجبا للفارسي حيث غاب ذلك عنه وجعلها ظرفا ثم تحيل في إيقاع الفعل الذي هو النفع فيها وسوقه إليها وأما إذا فإذا كانت منونة فإنها لا تكون إلا مضافا إلى ما قبلها ليعتمد على الظرف المضاف إليها فلا يزول عنها معنى الظرفية كما زال عن أختها حين نونوها وفصلوها عن الفعل الذي كانت تضاف إليه
والأصل في هذا أن إذ وإذا في غاية من الإبهام والبعد عن شبه الأسماء والقرب من الحروف لعدم الإشتقاق وقلة حروف اللفظ وعدم التمكن وغير ذلك فلولا إضافتها إلى الفعل الذي يبنى للزمان ويفتقر إلى الظروف لما عرف فيها معنى الإسم أبدا إذ لا تدل واحدة منهما على معنى في نفسها إنما جاءت لمعنى في غيرها
فإذا قطعت عن ذلك المعنى تمخض معنى الحرف فيها إلا أن إذ لما ذكرنا من إضافة ما قبلها من الظرف إليها لم يفارقها معنى الإسم وليست الإضافة إليها في الحقيقة ولكن إلى الجملة التي عاقبها التنوين وأما إذا فلما لم يكن فيها بعد فصلها عن الإضافة ما يعضد معنى الإسمية فيها صارت حرفا لقربها من حروف الشرط في المعنى ولما صارت حرفا مختصا بالفعل مخلصا له للإستقبال لسائر النواصب للأفعال نصبوا الفعل بعده إذ ليس واقعا موقع الإسم فيستحق الرفع ولا غير واجب فيستحق الجزم فلم يبق إلا النصب ولما لم يكن العمل فيها أصليا لم تقو قوة إخوتها فألغيت تارة وأعملت أخرى وضعفت عن عوامل الأفعال
فإن قيل فهلا فعلوا بها ما فعلوا ب إذ حين نونوها وحذفوا الجملة بعدها فيضيفون إليها ظروف الزمان كما يضيفونها إلى إذ في نحو يومئذ لأن الإضافة في المعنى إلى الجملة التي عاقبتها التنوين
فالجواب أن إذ قد استعملت مضافة إلى الفعل في المعنى على وجه الحكاية للحال كما قال تعالى ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب البقرة 165 ولم يستعملوا إذا مضافة إلى الماضي بوجه ولا على الحال فلذلك استغنوا بإضافة الظروف إلى إذ وهم يريدون الجملة بعدها عن إضافتها إلى إذا مع أن إذ في الأصل حرفان وإذا ثلاثة أحرف فكان ما هو أقل حروفا في اللفظ أولى بالزيادة فيه وإضافة الأوقات إليه زيادة فيه لأن المضاف والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد
وأقوى من هذا أن إذا فيها معنى الجزاء وليس في إذ منه رائحته فامتنع إضافة ظرف الزمان إلى إذا لأن ذلك يبطل ما فيها من معنى الجزاء لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد فلو أضيف إليه والحين إليهما لغلب عليهما حكمه لضعفهما عن درجة حرف الجزاء فتأمله .