القرءان كتاب الله الخالد الباقي مند نزوله على سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة ، فقد تعهد المولى عز وجل بحفظه فقد قال عز من قائل { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
وقد سخر الله تعالى لحفظ كتابه أناسا اختارهم وجعلهم من خاصته لهذه المهمة ، حيث قاموا بتلك المهمة أفضل قيام وذلك من عصر الصحابة عليه سحائب الرضوان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، حيث شرفهم الله بأن جعل صدورهم أوعية لحفظ كتابه الكريم .
وقد اختلفت طرق حفظ هؤلاء الناس لكتاب الله باختلاف أمكنتهم وأزمنتهم ، وقد اشتهرت طريقة الألواح في بلاد الغرب الإسلامي بين ردح الزمن ، حيث عرفت بلادنا ليبيا هذه الطريقة مند فترة لا تقل عن ستمائة (600 ) سنه .
وأود في هذه العجالة أن أعرف بهذه الطريقة التي جعلت بلادنا ليبيا من أكثر الدول المحافظة على كتاب الله حفظا وإتقانا وتلاوة ورسما ، وأسهمت إسهاما بالغا في حفظ كتاب الله حتى باتت بلادنا إذا ما ذكر حفظ القرءان ذكرت ، وإذا أقيمت مسابقات لذلك كان لها أوفر النصيب إذ لا يمكن إغفاله أو تجاهله ، ولهذا فإني أقدم فكرة بسيطة حول هذه الطريقة في هذه العجالة حتى يتمسك النشء الجديد بها لكي يحافظوا على كتاب الله كما فعل أسلافهم.
وفى البداية أود أن أتعرض إلى الأدوات المستخدمة في التحفيظ بهذه الطريقة والتي أشهرها ( اللوح ) التي سميت الطريقة باسمه على اعتبار أنه أهم المعدات المستخدمة .
اللوح :- وهو عبارة عن قطعة من الخشب تصنع من الزيتون أو الزان أو غيرهما من الأشجار حسب نوع الأشجار المتوفرة والمتاحة في المنطقة .
وقد ورد ذكر اللوح بالإفراد والجمع في كتاب الله فقد جاء بالإفراد في قوله تعالى { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } وأما بالجمع ( الألواح ) في أكتر من موضع عند تعرض القرءان لنبي إسرائيل وموسى عليه السلام قال تعالى { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } الآية (150) سورة الأعراف ، وقوله تعالى { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } . الآية (154) سورة الأعراف
وأما الأداة الثانية التي تلي اللوح في الأهمية هو القلم ، وقد جاء ذكر القلم في الآيات الأولى التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.
وسميت سورة باسم القلم ( سورة القلم ) قال تعالى { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون }
وقد اقترن القلم بالتعليم في هذه الآيات ، أي أن التعليم لابد أن يكون بالقلم .
والقلم المقصود في طريقة حفظ القرءان هو عبارة عن قطعة خشبية تصنع من شجر القصب لا يتجاوز طولها 15 سم وعرضها بضعة سنتمتر عادة ، وتدبب وتشق من مقدمتها .
وأما المداد فيصنع من الصوف حيث يحرق ويدق تم يصب عليه بعض الماء ويسمى بالاسم الشعبي ( الصمغ ) ويوضع دلك المداد في أوعية صغيره كالقنينة وتصنع من الفخار كسائر الأدوات المستخدمة وتسمى تلك القنينة في مصطلح الطلبة ( الدواية ) .
وأما سير الدراسة وفق الطريقة التي نحن بصدد الحديث عنها فإنها كالأتي :-
فقد تعارف الأهالي سابقا وكذلك الآن على أنه عندما يبلغ الولد السنة السادسة من عمره ويتبين لأهله بأنه أصبح قادرا للتعلم يرسله والده إلى الكٌتاب حيث يتعهده شيخه بأن يوليه هو وأقرانه عناية خاصة .
وأول ما يتعلم في بداية رحلته مع كتاب الله كيفية كتابة الحروف الأبجدية وكذلك نطقها بحركتها المختلفة بطريقة جماعية تساعد على الحفظ .
والكتابة على الألواح أول ما تبدأ بطريق التتبع ( الرشيمه ) وهى أن يخط الشيخ على اللوح بمؤخرة القلم ويتتبع الطالب ذلك الخط بالقلم والمداد ، وبعد حفظ الطالب للحروف حفظا جيدا ينتقل به شيخه إلى حفظ قصار السور وذلك بنفس الطريق وهى الرشيمه حيث يبدأ شيخه بتحفيظه من سورة الناس ، وذلك لأن قصار السور أبسط وأسهل في الحفظ على الطالب في بداية حفظه نظرا لصغر سنه ، وهكذا يتدرج في الحفظ وتعلم الكتابة ، وبعد أن يتأكد شيخه من تعلمه للكتابة وباستطاعته أن يكتب بالإملاء فينتقل من طريقة الرشيمة إلى طريقة الإملاء .
ويتوقف مقدار ما يملى على الطالب على مقدرته على الحفظ فيبدأ معه الشيخ ببضع آيات ويتدرج به شيئا فشيئا فإذا تبين أنه أصبح قادرا على حفظ ثمن فعندئذ يملى عليه ثمنا كاملا ، والطالب الذي يكتب بالإملاء يكون برنامجه التعليمي كالأتي :-
يأتي الطالب في بداية الفترة الدراسية من اليوم وقد جهزا وجها من لوحه للكتابة عليه من اليوم السابق بعد ما عرضه على شيخه وقام بمحو تلك الجهة من اللوح التي حفظها ، فيأتي في ذلك اليوم ويدخل حلقة الكتابة وتتكون تلك الحلقة ( حلقة الإملاء ) من عدد من الطلبة المنتسبين لتلك الزاوية أو الكٌتاب ، حيت تتكون في بعض الكتاتيب من عشرين طالبا وقد تكون أقل أو أكثر من مختلف المستويات من أول القرءان إلى أخره والشيخ يملى على الجميع كل في ثمنه دون ما أي تأخر أو تردد ولا ارتباك ، ثم يقوم بعد ذلك الشيخ (الفقيه) بتصحيح الألواح حيث يصحح لكل طالب لوحه ويعلمه قراءته (( التلقين )) ويقوم بالشرح لتلاميذه ما يكون في لوحه من حيث الكتابة والقراءة فيبين له من حيث الكتابة الكلمة التي يكون فيها المحذوف والأخرى التي يكون بها المخصص والإقلاب , وما إلي ذلك من أصول الكتابة والرسم ويبين له التنزيل فيقول له هذه غريبة مثلا أي أنها لا توجد في القران إلا في هذه السورة , ويبين له الأخوات فيقول له هذه ذكرت مرتين أو ثلاثة واحده هنا والأخرى في سورة كذا وكذا , ويبين له مخارج الحروف والأحكام ، وبعدها يقرأ الطالب على شيخه اللوح قراءة سليمة خالية من الأخطاء ويقوم الطالب بعدها بحفظ لوحه , فتتكرر هذه العملية مع كل طالب على حدا , حتى يصحح الفقيه الألواح لكل تلاميذه .
ويوضح الشيخ لتلاميذه أصول الرسم بالأقوال المأثورة فمثلا قولهم ( ما يطلق التاء من الرباط إلا الجزمة أو العياط ) ومنها قولهم ( إذا أتتك الخاء قبل الدال فانقط ولا تخف من الإشكال إلا يخادعون خدك الأخدود أخدان في النساء والعقود ) أي إذا أتى حرف الخاء قبل الدال فتكتب الدال ذال أي معجمه ( إلا في الخمسة الموضوع المذكورة )
وغيرها من الأمثلة الكثيرة مما لا يسعني ذكرها في هذا المقال .
وبعد توضيح الفقيه لتلاميذه ما يستحق التوضيح ،و يحثهم علي حفظ ألواحهم ومراجعة وتلاوة ما تم حفظه إلى أن يأتي وقت ( العريضة ) وهو تسميع ما تم حفظه من علي اللوح الذي كتبه في اليوم الماضي , وبعد ما يتأكد الشيخ من حفظ تلاميذه لألواحهم يأذن لهم بالمحو ( المحي ) :- وهو مسح اللوح من الكتابة التي تم حفظه والاستعداد للكتابة عليه في اليوم التالي ويكون المحو علي ( المحاية) وهى عبارة عن حوض يكون فيه الماء والطين.
تم يأذن الفقيه لتلاميذه بالانصراف مذكرا لهم بالرجوع عند المساء لتلاوة ما تم حفظه ولقراءة ألواحهم وكما يقولون له ( عشي اللوح ) أي يقوم بقراءة لوحه عدة أشواط كناية عن العشاء , ودائما يكون الفقيه مربيا لطلبته ومحذرا لهم من نسيان ما تم حفظه ويقول للذي يحفظ ثم ينسي مثالا مشهورا عند طلبة القرءان الكريم ( امح وسند تلقاه امبند ) أي إن محيت اللوح ولم تراجعه فسوف يتراكم عليك ويصعب بعدها حفظه .
ودائما يوصي المشايخ بالتلاوة وخاصة تلك السور القريبة من لوحك أي موضع ما وصلت إليه من الحفظ ويقال لها ( المحايات ) فهي دائما تريد التكرار في كل يوم حتى يرسخ حفظها ، وعادة يكون مقدار( المحايات ) حزبين (جزء) أو ثلاث أحزاب ( نقزه ) .
ويستمر الطالب بعد ختمه في الكتابة مرة أخرى والتي يقال لها ( أخت الشقة ) فأول كتابة لكتاب الله يقول لها ( الشقة ) والكتابة مرة ثانيه يقال لها ( أخت الشقه ), وبعد ذلك القلم الثاني والثالث , إلي أن يختم كتاب الله حفظا وإتقانا وكتابة ورسما , ويقوم بعدها بالتدريس مع شيخه إلي أن يزكيه شيخه ويكون له حلقة كتًاب لوحده ويكون بعدها شيخا حافظا لكتاب الله معلما له .
وتستمر هذه السلسلة المباركة الطيبة في التعليم والتعلم لكتاب الله أجيالا تلو الأجيال .
ولكن هل يستمر التدريس بالألواح في الوقت الحاضر أو في المستقبل !!! أو قد يتأثر بالتقنية الجديدة !!
أما في وقتنا الحاضر فما زالت بعض المدن الليبية متمسكة بطريقة التدريس بالألواح تمسكا شديدا أذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر مدينة مسلاته التي تشتهر بحفظ كتاب الله وتعلمه وتعليمه وكذلك مدينة زليطن , وغيرها من المدن الليبية الأخرى .
اللهم اجعلنا ممن يقرأ القرءان فيرقى ولا تجعلنا ممن يقرأه فيشقى ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .