يتفق النقاد على أن ميلاد الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية قد جاء متأخرا بكثير عن ميلاد الرواية العربية في المشرق، لذا يؤرخ لميلاد الرواية الجزائرية الفنية ببداية السبعينيات مع ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة والزلزال للطاهر وطار، وقد كان للاستعمار الفرنسي أثر كبير في تأخر الرواية العربية في الجزائر من خلال محاربته اللغة العربية، والتضييق عليها، وعزل الجزائر عن البلدان العربية الأخرى. وطبيعي والحالة هذه أن يكون ميلاد الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية أسبق بكثير من ميلاد الرواية العربية.
تناولنا رواية الزلزال للطاهر وطار والتي تعتبر من أوائل الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية وهي تمثل مرحلة التأسيس، وقد اختار الروائي مرحلة من مراحل التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الجزائر لتكون موضوع روايته.
تطرح رواية الزلزال مسألة الإقطاع بأسلوب فني قلما استطاعت الرواية الجزائرية أن تتجاوزه حتى بعد السبعينيات. ولعل ما أهل الطاهر وطار لذلك هو تكوينه التراثي الذي سمح له بالإطلاع على الأساليب العربية، وانفتاحه على الثقافات الأخرى. وطار كثيرا ما شوه بقراءات إيديولوجية لم ترق إلى مستوى إبداعاته قراءات تبحث عن ذاتها، وخطابها في الرواية أكثر مما تبحث عن جماليات وخطاب الرواية الوطارية. وكثيرا ما كانت هذه القراءات تحاول استخدام الرواية الوطارية كورقة اجتماعية أو سياسية لإدانة طرف ما في المجتمع حتى وإن اضطرت إلى ليّ عنق النص.
وطار في هذه الرواية يشدك بأسلوب فني راق، سلس حتى يجعلك تتابع الأحداث بشغف وشوق بل يجرفك شيئا فشيئا إلى المشاركة الوجدانية، ويقذف بك داخل النص الروائي لتصبح وكأنك جزء من الرواية، تتفاعل مع الشخصيات الورقية، وكأنها أشخاص من لحم ودم. في رواية الزلزال يحس القارئ بالشخصية تتسابق مع الزمن إذ يصبح القبض عليه والرغبة في توقيفه هاجس الشخصية.
إن الإحساس بانفلات الزمن من الشخصية انعكس على حركة السرد الروائي ووسمها بميسمه فيجعلها متسارعة مضطربة متشابكة.
في المنهـج:
تقوم هذه الدراسة على فحص بعض العناصر السردية وتتبع علاقاتها بمكونات العناصر الروائية الأخرى:
- فعل الحكي.
- السرد.
- السارد.
تشكل هذه العناصر المرتكزات الأساسية التي نستند عليها في تحليلنا لرواية الزلزال للأديب الطاهر وطار.
وقد اعتمدنا في هذه الدراسة المنهج السميائي وحاولنا استثمار بعض المفاهيم والآليات الإجرائية التي ترتكز عليها نظرية السرد عند غر يماس أي سميولوجيا الفعل وسميولوجيا التنشيط والإيعاز:
- المشروع السردي.
- الإنجاز.
- الإيعاز.
- الفواعل الوظائفية. [1]
يقول غريماس إن المسار السردي يشتمل على مجموعة من الأدوار للفواعل بالقدر الذي يشتمل على وحدات (أو مشاريع) سردية. ومجموعة الأدوار التي يقوم بها الفاعل ضمن مسار سردي معين يمكن أن نطلق عليه تسمية الفاعل الوظائفي، فهذا الفاعل الوظائفي ليس مفهوما جامدا وإنما هو مجموع الوظائف والأدوار التي يقوم بها الفاعل ضمن مسار سردي.
ونجد أنفسنا هنا إزاء شكل من أشكال المراتبية النحوية فعبر كل وحدة من هذه الوحدات تتحدد هوية الفاعل الوظيفي أي أدواره، فالفواعل النحوية تكون الوحدات السردية، كما أنه يمكن حصر الأدوار الوظائفية ضمن مسار سردي. أما الفواعل الوظائفية فلا يمكن حصرها إلا ضمن المسار السردي في شموليته ككل.
وبناء على هذا المعطى النظري سنتناول بنية السرد في رواية الزلزال.
سيميائية العنوان:
يدخل العنوان والرواية في علاقة تكاملية وترابطية الأول يعلن والثاني يفسر يفصل ملفوظا مبرمجا إلى درجة إعادة إنتاج أحيانا، وفي الخاتمة عنوانه لكلمة في النهاية ومفتاح نصـه. [2]
وعلى هذا الأساس يعتبر عنوان الرواية "الزلزال" النواة الدلالية الأصلية التي تتفجر منها الدلالات الفرعية الأخرى.
و يلاحظ قارئ رواية الزلزال أن العنوان يرتبط بالمتن الروائي ارتباط السبب بالنتيجة، إنه يمثل فعلا مفتاح النص إنه البداية الكتابية "التي تظهر على واجهة الكتاب كإعلان إشهاري ومحفز للقراءة" [3].
والنهاية المتوقعة التي يرمي إليها النص، إن الزلزال يوحي بحدوث التغيير والتحول "قسنطينة" الحقيقة انتهت، أقول زلزلت زلزالها، لم يبق من أهلها أحد كما كان .[4] "لم يبق من الحياة السابقة إلا الآثار. هدموا عالما وأقاموا آخر" [5]
هكذا تتخذ الرواية من موضوع التغيير مشروعا وبرنامجا سرديا لها.
العنـوان/المتـن:
إن إشارة الزلزال تحيل على ظاهرة طبيعية أرضية انفجارية، والمتن الروائي يحاول تعرية فئة اجتماعية تتخذ من الأرض قاعدتها الأساسية لاستمرار بقائها وهيمنتها، فالزلزال من هذا المنظور فعل إيجابي يكسر ويفتت القاعدة الخلفية للإقطاع. ففعل التأميم يقع على نفس الإقطاعي موقع الزلزال الذي يدمر الكيان ويهدد الوجود "هناك مشروع خطير يهيأ في الخفاء، ينتزعون الأرض من أصحابها يؤممونها..أقسم في الورق الأرض على الورثاء"[6].
إن الشخصية "بولرواح" تتحرك في رواية الزلزال وفق حافز مضمر لإنجاز برنامج مضاد للزلزال/التأميم "اقسم في الورق الأرض".
وإذ يعجز الإقطاعي بولرواح، ويتعبه البحث عن إيجاد مساعدين افتراضيين لتحقيق مشروعه المضاد للزلزال يتحول فعل الزلزال إلى إحساس داخلي يحطم مناعة الذات، ويقذف بها في بحر التوترات الداخلية، وتفتقد الشخصية معالم الطريق وتدخل في عجز تام عن تحديد مكان تواجدها وتحديد الوجهة التي تدفع إليها "لم يعد يدري أين يوجد؟ وهل يحدث أحدا أم لا؟ وهل أن الدفع يدفعه إلى الأمام أم إلى الخلف أم يلولبه ويلولبه في موضع واحد؟".[7]
فعل الحكي:
يميز جينات جرار GENETTE في كتابه أمثلة FIGURES ثلاث أبعاد لكل واقع قصصي:
أ. الحكاية:DIEGESE OU HISTOIRE أي جملة الأحداث التي تدور في إطار زمني، ومكاني ما،و يتعلق بشخصيات من نسج خيال سارد تنتج لديه ردود فعل وتصرفات هي على نطاق الدراسة من مشمولات التحليل الوظائفي "[8].
فالحكاية إذن هي جملة من الأفعال/الأحداث المتخيلة والفواعل/ الشخصيات التي تمثل عصب المسار السردي للرواية.
والحكي يقوم به راو أو رواة وفق رؤيتهم للعالم - إذا سلمنا باستقلال رؤيتهم عن رؤية الناص السارد - ويشكل فعلهم هذا لحمة ونسيج الخطاب الروائي "و ليس الخطاب غير الطريقة التي تقدم بها المادة الحكائية في الرواية"[9].
السـرد: وهي العملية التي يقوم بها السارد أو الحاكي (الراوي) وينتج عنها النص القصصي المشتمل على اللفظ (أي الخطاب القصصي) والحكاية (أي الملفوظ القصصي)[10]
السارد/الراوي المتواري: في رواية الزلزال يتولى السارد/ الراوي المتواري فعل القيام بالحكي وبث الخطاب الروائي (حاسة الشم تطغى على باقي الحواس في قسنطينة في كل خطوة وفي كل التفاتة، وفي كل نفس تبرز رائحة متميزة صارخة الشخصية تقدم نفسها لأعصاب وقلب المرء.
علق الشيخ بولرواح، وهو يفتح باب السيارة التي فرغ من مهمة إيقافها.[11]
في هذه الوحدة السردية يقدم الراوي/السارد المتواري أحداث الرواية، ويتحول إلى باث للخطاب الروائي ينوب عن الشخصية في عرض الأحداث ويتكلم عنها وبلسانها (حاسة الشم تطغى على باقي الحواس في قسنطينة…علق الشيخ بولرواح).
هذا الخطاب الذي يرسله الباث الثاني، الذات الثانية للكاتب كما يسميها بوث both إلى قارئ مفترض يعتمد على شفرات خاصة تعمل على تحقيق برنامج سردي يؤدي وظيفتي : التعريف والتخصيص.
الفواعل النحوية الوظائفية : الاسم/الصفة :
1. التعريف: إن الخطاب الروائي يتولى التعريف بالشخصية من خلال التسمية "والاسم متكلم يعلن عن الشخص الذي يحمله من خلال إسناد مكانة له وصفات"[12].
وإذ يأخذ الشخص اسما معناه، أن يعرف ويميز في المجتمع عن باقي أفراد الجماعة التي ينتمي إليها فالتسمية ميثاق اجتماعي يدخل بموجبه المسمى دائرة التعريف الذي تؤهله لاستغلال ذلك الاسم في التعاملات الخاصة مع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين. وللاسم دلالة اجتماعية فلقد ذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أن العرب كانت تسمى أبناءها بأسماء يتوخى منها التأثير النفسي على العدو: كليث، أسد وضرغام، وكانوا أيضا يسمون عبيدهم بأسماء تحمل دلالة التفاؤل كمحمود، ومسعود، ومبروك.
2. التخصيص: الصفة/الاسم :
يقدم السارد الشخصية المحورية من خلال صفة من صفاتها التي تلازمها طيلة تحركها عبر الرواية حتى أن الصفة لتطغى على الاسم وتغيبه، وإذا يصبح الاسم الحقيقي مجهولا، ومغيبا تتولى الصفة التسمية وتتحول إلى دال مسمى، ومميز للشخصية الروائية.
وفي الحالة هذه يتراجع الاسم عن وظيفته الأصلية: التسمية، ويفقد صفته العلمية، والتعريفية، وتصبح الصفة/الاسم تؤدي ما لم يؤديه الاسم المجهول أو المتجاهل. .فالاسم تعريف، وتسمية، وتميز للذات -أو للشيء- عن مثيلاتها في النوع أو الجنس، أما الصفة فتخصيص، ووسم للذات بعلامات محسوسة إن كانت الصفة خِلقية دائمة ملازمة للشخص أو عارضة، أو انفراد بأفعال وسلوكات إن كانت الصفة مكتسبة بتكرار الفعل أو التعود. إن الصفة/الاسم "بولرواح" تجعلنا نبحث في مدلولاتها المحتملة وعلاقاتها مع شخوص الرواية وبالمكان والزمان والسرد، ذلك أن الصفة إذ تغدو اسم شهرة أو كنية تتحول إلى قرينة "ولكي نعلم لأي شيء تصلح إشارة قرينة فينبغي الانتقال إلى مستوى أعلى (أفعال الشخصيات أو السرد)". فإشارة "بولرواح" التي تحل محل الاسم في الرواية قد نقرأها على مستوى الأفعال على أنها إحالة على ماض مثقل بالخطايا وسلوكات تنبعث منها رائحة القتل، إنها تضمر التعدد والتكرار في الفعل، ونقرأها من خلال السرد على أنها إشارة تضمر فعل التخفي وراء الشبيه الذي لا يمكن إدراكه إلا بقرائن سردية.
التعدد والتكرار :
الأنا الساردة/الأنا الراوية:
في رواية الزلزال يتناوب الراوي/السارد مع الشخصية "بولرواح" في تقديم أحداث الرواية، وإذ تتولى الشخصية القيام بالسرد يتحول فعل الحكي إلى إدانة للذات، وفضح ، وكشف للمستور من ماضي العائلة، واعتراف بالخطيئة، ففعل الإجرام يصبح من هذا المنظور وراثيا لدى العائلة، ومتفقا مع رأي عالم الإجرام الإيطالي لوم بروزوه الذي يرى أن المجرم يلد مجرما فلا جدوى من معالجته وبالتالي إما أن يعزل ، أو يقتل، وقد فضل الطاهر وطار عزل بولرواح في نهاية الرواية وأدخله المستشفى "ارتميت عليها. انبهرت استسلمت إزرورق وجهها، وارتسمت أثار أصابعي في عنقها [13] (ارتسمت أصابعي على عنقك المزرورق مثلما ارتسمت أصابع أبي على عنق عائشة" [14] والكاتب لا يبرر فعل القتل لدى "بولرواح" أو يبحث له عن مبررات لتكييف أفعاله المنجزة بإدراجها في خانة الأفعال اللاإرادية وإنما يضعه في موقف/حالة نفسية ويترصد ردود أفعاله"… عندما رجعت في الصيف وجدت عائشة زوجتي غير موجودة …قالوا ماتت أبوك قتلها. خنق أنفاسها. في صباح الغد وجدناها ميتة… وجدنا الدم في قميصها كان عنقها أزرق كان وجهها أزرق كانت أثار الأصابع في عنقها [15].
في هذا المقطع السردي يبدأ اختيار ردود أفعال الشخصية بالعودة من السفر، وما تحمله هذه العودة من شوق ، وحنين ، ورغبة في لقاء الآخر/الزوجة.
1/ يتم تعطيل إشباع هذه الرغبة بغياب أو تغييب الزوجة (قتلها),
2/ تلقى خبر قتل الزوجة من رواة مجهولين متخفين تحت ضمير الغائب(قالوا)
3/ تحديد هوية القاتل وعلاقته بالشخصية بولرواح.(الأب).
4/ سرد كيفية القتل والتركيز على جانب الفضاعة (الخنق-الدم في قميصها-عنقها المزرورق- آثار الأصابع في عنق الزوجة)
هكذا يضع الناص الشخصية في اختبار فعلي ويتحول إلى محلل نفساني يغوص في نفسية الشخصية ويحفر في لا وعيها يبحث عن تفسيرات لسلوكها.
الإيعاز/الإنجاز:
يبدأ مشروع القتل بتلقي الإيعاز بالقتل من باث يسكن لا شعور الشخصية إذ تتحول (عائشة) الزوجة المقتولة إلى موعز متخف في اللاشعور يحرره الحلم ويدفعه إلى الخارج ويصبح "بولرواح" موعزا له بإنجاز برنامج القتل وهو في حالة اللاوعي، ويقوم بفعله لاإرادي، ففعل القتل يحدث تحت تأثيرات خارجة عن إرادة الفاعل/الشخصية وفي هذا المقطع السردي يتحول بولرواح من سـارد إلى مسـرود له "خدمي يقولون أننـي وأنا لا أذكر"[16].• اكتب كوم