هل تحملُ حروفُ المُعجَمِ المُفْرَدةُ دلالة في ذاتِها ؟
***************************************
حروف المعجَم في ذاتِها ، تتركّب منها الكلماتُ
ولكنّ هناك مذهَباً يذهَب إلى أنّ الأصواتَ المنفردة لَها دلالة فطريّة
كدلالة الفَرَح والألم والغضب والخوفِ ...
وقد عثرْتُ على كلامٍ جميلٍ للأستاذ محمود شاكِر رحمه الله ، ذكَرَه في مقالَةٍ لَه ، عنوانُها :
« عِلْم مَعاني أصواتِ الحروف، سرّمن أسرارِ العربيّة،
نرجوأن نصلَ إلى حقيقتِه في السليقةِ العربيّة»
و نُشِرَ المَقال بكتابِ "جَمْهرَة مَقالات الأستاذ محمود شاكِر
جمع وتقديم: د. عادِل سُليْمان جَمال
نشر مكتبة الخانجي، القاهِرَة، الشركة الدوليّة للطّباعَة، 2003م
ج2، ص717-724
والجديدُ في الأمرِ أنّ الأستاذ محمود شاكِر رحمه الله ربَط بين الصّوتِ المفرَد
وما يحتملُه من معنى فطريّ ، وسأختصرُ بعض كلامِه المُفيد، ههنا اختصاراً
تعميماً للفائدَة :
« لا شكّ أن اللغة العربية من أدق اللغات احتفاظا بالمعاني الفِطريّة للحروف ،
أي بحركة الإنسان الأول في الإشارة إلى المعاني ؛ ذلك أن كثيرا من الحروف
لها دلالة في ذاتها قبل أن تقترن بغيرها من الحروف ؛ فمن ذلك دلالات النداء
والتعجب و التأوّه والأنين و الإشارة و التنبيه و غير ذلك من المعاني التي تدعو إليها
معاناة الحياة الفطرية الأولى ؛ فالنداء يعتمد على أصوات الحلق المقذوفة من الجوف
مُطلَقَةً في الهواء لتبلُغَ بالصوت أقصى ما يُطيقه تدافُع النّفَس ، و كذلك الإشارةُ و التّنبيه
يتطلَّبان من صاحِبَيهِما إرسال الصوت خارجا من الحلق إلى المُشار إليه أو المُنبَّه ،
و هكذا في أكثر الحروف المجرَّدة: فالهمزة الممدودة هي الصدى الصوتي
الذي يراد به التنبيه و الإشارة و النداء، وحروف النداء تعتمد على الهمزة ،
أما الياء الممدودة فهي تسهيل لمجرى الهمزة و تليين لها، و تأتي الهمزة
للدلالة على الاستفهام و التعجُّبِ من طريق الاستفهام، و تثبُتُ الهمزة في أول التعجب
كقولِك : "ما أكرمه" و "هو أكرم من فلان" ، و يشترك مع الهمزةِ حرفُ الهاء،
و احتفظت العربيّةُ بالهمزة في أكثر حروف الاستفهام نحو أين و أنّى .
و أما الهاء فأكثر مَوْرِدها على التنبيه و الدلالة و الإشارة ، مثلما وقعت
في أسماء الإشارة "هذا وهذه وهؤلاء" و ما كان نحوَهنّ ، و في ضمائر الرفع المنفصلة
التي تدلّ على الغيبة نحو "هو وهي وهما و هم و هنّ" ، التي فيها معنى
الإشارة إلى الغائبين .
هذا ، و قد ذكر العلماء و الباحثون لكل جمهور من حروف العربية مجرىً ودرباً
تتفرع منه شُعَبُه و يسهل معه الإبانة عن الأصوات و حكايتها و أسمائها،
التي جعلتها اللغةُ لها في أعمال الإنسان و الحيوان و الجماد .
و إذا توالت الأصوات، مع ما في كلّ صوت من معنى فِطريّ غُفْلٍ ساذَج نشأ معه
بغير صنعة، أعطت سِياقاً صوتيا مركَّبا ذا دلالة مركَّبة،
و للأصوات و الحروفِ حرارة و توهّجٌ يضيء المعنى المراد ؛ فكانت كل كلمة
بما تتألف به من أصوات، مُناسِبةً لصورتها الذّهنيّة؛ فما كان يستلذّه السّمعُ و يستميلُ النّفْسَ
فحظّه من الأصوات الرّقّة و العذوبة، وما كان يُخيفها و يُزعجها فحظّه من الأصوات الشّدّة،
و هذا التّناسب الصّوتي بين اللّفظ والمعنى وسيلة سياقية من وسائل تنبيه مشاعر الإنسان الباطنة
و استثارة المعاني النفسية المناسِبة للموقف الخارجي .