لقرآن
{)وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203)
التفسير:
{ 203 } قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لما ذكر الله - تبارك وتعالى - أفعال الحج ذكر ما بعد انتهاء أفعال الحج؛ وهو ذكر الله تعالى في أيام معدودات؛ وهي أيام التشريق الثلاثة: الحادي عشر؛ والثاني عشر؛ والثالث عشر من شهر ذي الحجة؛ والذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من قول أو فعل في هذه الأيام؛ فيشمل التكبير في تلك الأيام مطلقاً، ومقيداً؛ والنحر من الضحايا، والهدايا؛ ورمي الجمار؛ والطواف، والسعي إذا وقعا في هذه الأيام؛ بل والصلاة المفروضة، والتطوع؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»(3)، وقال (ص): «أيام التشريق أيام أكل، وشرب، وذكر لله عزّ وجلّ»(4).
قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } أي من تعجل قبل تمام الأيام الثلاثة، وأنهى حجه فلا إثم عليه.
قوله تعالى: { ومن تأخر فلا إثم عليه }، أي من تأخر إلى اليوم الثالث في منى لرمي الجمرات فلا إثم عليه.
قوله تعالى: { لمن اتقى }: الظاهر أنها قيد للأمرين جميعاً للتعجل والتأخر، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عزّ وجلّ على التعجل أو التأخر.
قوله تعالى: { واتقوا الله }: ما أكثر ما يأمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كتابه العزيز؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة.
قوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون } أي تجمعون إلى الله - تبارك وتعالى؛ وذلك يوم القيامة؛ وصدر هذا بقوله تعالى: { واعلموا } للتنبيه على أنه لا بد من الإيمان بهذا الحشر، والاستعداد له.
الفوائد:
1 ــــ من فوائد الآية: مزية الذكر في هذه الأيام المعدودات؛ لقوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ لأن ذكر الله على سبيل العموم في كل الوقت؛ لكن هذا على سبيل الخصوص.
2 ــــ ومنها: أنه يجوز في هذه الأيام الثلاثة التعجل، والتأخر؛ لقوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه }.
3 ــــ ومنها: سعة فضل الله عزّ وجلّ، وتيسيره في أحكامه، حيث جعل الإنسان مخيراً أن يبقى ثلاثة أيام، أو يتعجل في اليومين.
4 ــــ ومنها: أنّه لا بد أن يكون خروجه من منى قبل أن تغرب الشمس؛ لأن { في } للظرفية؛ والظرف يحيط بالمظروف؛ فلا بد أن يكون التعجل في خلال اليومين بعد الرمي الواقع بعد الزوال.
5 ــــ ومنها: أنه لا يجوز التعجل في اليوم الحادي عشر؛ لأنه لو تعجل في اليوم الحادي عشر لكان تعجل في يوم لا في يومين؛ فكثير من العامة يظنون أن المراد باليومين: يوم العيد، واليوم الحادي عشر؛ وهذا ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قال: { واذكروا الله في أيام معدودات }؛ وهي أيام التشريق؛ وأيام التشريق إنما تبتدئ من الحادي عشر.
6 ــــ ومنها: أن الأعمال المخير فيها إنما ينتفي الإثم عنها إذا فعلها الإنسان على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ دون التهاون بأوامره؛ لقوله تعالى: { لمن اتقى }؛ فمن فعل ما يخير فيه على سبيل التقوى لله عزّ وجلّ والأخذ بتيسيره فهذا لا إثم عليه؛ وأما من فعلها على سبيل التهاون، وعدم المبالاة فإن عليه الإثم بترك التقوى، وتهاونه بأوامر الله.
تنبيه:
لا يستفاد من الآية جواز التأخر إلى اليوم الرابع عشر، والخامس عشر مع أن الله تعالى أطلق: { ... ومن تأخر }؛ لأن أصل الذكر في أيام معدودات؛ وهي ثلاثة أيام؛ فيكون المعنى؛ من تأخر في هذه الأيام المعدودات؛ وهي الأيام الثلاثة.
7 ــــ ومنها: وجوب التقوى؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله }.
8 ــــ ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: { واعلموا أنكم إليه تحشرون }.
9 ــــ ومنها: قرن المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه سيحشر إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سيجازيه فإنه سوف يتقي الله، ويقوم بما أوجب الله، ويترك ما نهى الله عنه؛ وبهذا عرفنا الحكمة من كون الله عزّ وجلّ يقرن الإيمان باليوم الآخر في كثير من الآيات بالإيمان بالله دون بقية الأركان التي يؤمن بها؛ وذلك؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يستلزم العمل لذلك اليوم؛ وهو القيام بطاعة الله ورسوله.
القرآن
{ )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) (البقرة:204)
التفسير:
{ 204 } فيما سبق من الآيات قسم الناس في الحج إلى قسمين؛ منهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 200] ؛ ومنهم من يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} [البقرة: 201] ؛ وهؤلاء لهم نصيب مما كسبوا؛ هنا قسم الناس أيضاً إلى قسمين: إلى مؤمن؛ وإلى منافق؛ فقال تعالى في المنافق: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا }؛ { من } هنا للتبعيض؛ وهي بمعنى بعض الناس؛ ولهذا أعربها بعض النحويين على أنها مبتدأ؛ قال: لأنها حرف بمعنى الاسم؛ إذ إنها بمعنى بعض الناس؛ فيكون { من } مبتدأ، و{ من يعجبك } خبره؛ لكن المشهور أن { مِنْ } حرف جر؛ و{ من الناس} جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يعجبك } مبتدأ مؤخر؛ يعني: ومن الناس الذي يعجبك قوله، والخطاب في قوله تعالى: { يعجبك } إما للرسول (ص)؛ وإما لكل من يتأتى خطابه؛ والأولى الثاني.
وقوله تعالى: { من يعجبك قوله } ذكر بعض النحويين أنه إذا قيل: «أعجبني كذا» فهو لما يستحسن؛ وإذا قلت: «عجبت من كذا» فهو لما ينكر؛ فتقول مثلاً: «أعجبني قول فلان» إذا كان قولاً حسناً؛ و«عجبت من قوله» إذا كان قولاً سيئاً منكراً؛ فقوله تعالى: { من يعجبك قوله } أي من تستحسن قوله.
قوله تعالى: { في الحياة الدنيا } أي إذا تكلم فيما يتعلق بأمور الدنيا كأن يتكلم بشيء، ويتوصل به إلى نجاته من القتل، والسبي؛ لأن هذه الآية في المنافقين؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} [المنافقون: 4] من حسنه، وفصاحته؛ ولكنهم أهل غرور، وخداع، وكذب؛ فإن آية المنافق ثلاث؛ منها: إذا حدث كذب.
وقوله تعالى: { في الحياة الدنيا } متعلق بمحذوف حالاً من { قوله }؛ والتقدير: قوله حال كونه فيما يتعلق بالدنيا؛ لأنه لا يتكلم في أمور الدين؛ ويحتمل أن المعنى: القول الذي يعجب حتى في الدين؛ لكن لا ينتفع به في الآخرة؛ إنما ينتفع به في الدنيا فقط.
قوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ اختلف المفسرون في معناها على قولين: الأول: أن المعنى استمراره في النفاق؛ لأن الله - تبارك وتعالى - يعلم ما في قلبه من هذا النفاق؛ فاستمراره عليه إشهاد لله تعالى على ما في قلبه.
والقول الثاني: أن المعنى: أن يُقسم، ويحلف بالله أنه مؤمن مصدق، وأن الذي في قلبه هو هذا؛ فيشهد الله على ما في قلبه من محبة الإيمان، والتمسك به وهو كاذب في ذلك؛ ويدل لذلك قوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] ، أي لكاذبون في دعواهم أنهم يشهدون بذلك؛ وعندي أن المعنيين لا يتنافيان؛ كلاهما حق؛ فهو منطوٍ على الكفر والنفاق؛ وهو أيضاً يُعلم الناس، ويُشهد الله على أنه مؤمن؛ أما حقيقته قال الله تعالى فيه: { وهو ألد الخصام } يعني: أعوجهم، وأكذبهم؛ و{ الخصام } يحتمل أن يكون مصدراً؛ ويحتمل أن يكون جمعاً؛ إن كان مصدراً ففعله: خاصم يخاصم، مثل: جادل يجادل؛ وقاتل يقاتل؛ وعلى هذا: { ألد الخصام } تكون الإضافة لفظية؛ لأنها صفة مشبهة مضافة إلى موصوفها - أي وخصامه ألد الخصام؛ وإن كان جمعاً فمفرده: خَصِم؛ فيكون المعنى أنه ألد الخصوم - أي أعوجهم، وأشدهم كذباً؛ ويكون أيضاً من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ لأنَّ المعنى؛ وهو من الخصوم الأشداء الأقوياء في خصومتهم؛ وهذا الرجل صار ألد الخصام؛ لأن قوله جيد، وبيِّن يعجبك قوله، فتجده لاعتماده على فصاحته، وبيانه ألد الخصام.
الفوائد:
1- من فوائد الآية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يغتر بظواهر الأحوال؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله }؛ وكذلك من الناس من يعجبك فعله؛ ولكنه منطوٍ على الكفر - والعياذ بالله؛ ولكن لا شك أنه بالنسبة إلينا ليس لنا أن نحكم إلا بما يقتضيه الظاهر؛ لأن ما في القلوب لا نعلمه؛ ولا يمكن أن نحاسب الناس على ما في القلوب؛ وإنما نحاسبهم على حسب الظاهر.
2- ومنها: أن هذا الصنف من الناس يُشهد الله على ما في قلبه إما مما أظهره؛ وإما مما أبطنه - حسب ما سبق.
3- ومنها: الإشارة إلى ذم الجدل، والخصام؛ لقوله تعالى: { وهو ألد الخصام }؛ لأن الخصومات في الغالب لا يكون فيها بركة؛ وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»(1) أي الإنسان المخاصم المجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وما من إنسان في الغالب أعطي الجدل إلا حرم بركة العلم؛ لأن غالب من أوتي الجدل يريد بذلك نصرة قوله فقط؛ وبذلك يحرم بركة العلم؛ أما من أراد الحق فإن الحق سهل قريب لا يحتاج إلى مجادلات كبيرة؛ لأنه واضح؛ ولذلك تجد أهل البدع الذين يخاصمون في بدعهم علومهم ناقصة البركة لا خير فيها؛ وتجد أنهم يخاصمون، ويجادلون، وينتهون إلى لا شيء؛ لا ينتهون إلى الحق؛ لأنهم لم يقصدوا إلا أن ينصروا ما هم عليه؛ فكل إنسان جادل من أجل أن ينتصر قوله فإن الغالب أنه لا يوفق، ولا يجد بركة العلم؛ وأما من جادل ليصل إلى العلم، ولإثبات الحق، وإبطال الباطل فإن هذا مأمور به؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] .
4- ومنها: إثبات علم الله عزّ وجلّ بما في الصدور؛ لقوله تعالى: { ويشهد الله على ما في قلبه }؛ لأن ما في القلب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ.
القرآن
{ )وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة:205)
التفسير:
{205 } قوله تعالى: { وإذا تولى } أي عنك، وذهب { سعى في الأرض }: المراد بالسعي هنا مطلق الحركة؛ وليس المراد بالسعي الركض بالرِّجل؛ { ليفسد فيها } أي بالمعاصي، والكفر، والفتنة.
قوله تعالى: { ويهلك الحرث والنسل } أي يكون سبباً لإهلاكهما؛ لأن المعاصي سبب لذلك؛ لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون} [الروم: 41] ، ولقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] ؛ والمراد بـ{ الحرث } المحروث؛ وهو الزروع، كما يقال: «الغرس» يعني المغروس؛ والمراد بـ{ النسل } مثلها أيضاً ــــ يعني: المنسول؛ وهو الأولاد؛ يعني: يكون سعيه سبباً لفساد الحرث، والحيوانات.
قوله تعالى: { والله لا يحب الفساد } بيان أن عمله هذا مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد؛ وإذا كان لا يحب هذا الفعل فإنه لا يحب من اتصف به؛ ولهذا جاء في آية أخرى؛ {والله لا يحب المفسدين} [المائدة: 64] ؛ فالله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ فالفساد نفسه مكروه إلى الله؛ والمفسدون أيضاً مَكروهون إليه لا يحبهم.
الفوائد:
1 ــــ من فوائد الآية: أن المعاصي سبب لهلاك الحرث، والنسل؛ لقوله تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205] ؛ وهذا كقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} [الأعراف: 96] .
2 ــــ ومنها: إثبات محبة الله عزّ وجلّ للصلاح؛ لقوله تعالى { والله لا يحب الفساد }؛ فإن قيل: هذا نفي، وليس بإثبات؛ قلنا: إن نفيه محبة الفساد دليل على ثبوت أصل المحبة؛ ولو كان لا يحب أبداً لم يكن هناك فرق بين الفساد، والصلاح؛ فلما نفى المحبة عن الفساد علم أنه يحب الصلاح.
3 ــــ ومنها: التحذير من الفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: { والله لا يحب الفساد }؛ ومعلوم أن كل إنسان يجب أن يكون حذراً من التعرض لأمر لا يحبه الله.
القرآن
{)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة:206)
التفسير:
{ 206 } قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله } أي إذا قال له أهل العلم، والإيمان اتق الله ــــ أي اتخذ وقاية من عذاب الله بترك الكفر، والفساد؛ و{ أخذته العزة بالإثم } أي حملته على الإثم؛ و{ العزة } بمعنى الأنفة، والحمية، والترفع؛ والعزة قد تكون وصفاً محموداً؛ وقد تكون وصفاً مذموماً، فالمعتز بدينه محمود، كما قال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] ؛ والمعتز بحسبه ونسبه حتى يكون عنده أنفة إذا أُمر بالدين والإصلاح مذموم.
والمراد بـ {الإثم} الذنب الموجب للعقوبة؛ فكل ذنب موجب للعقوبة فهو إثم.
قوله تعالى: { فحسبه جهنم } أي كافيه؛ وهو وعيد له بها - والعياذ بالله؛ و «الحسْب» بمعنى الكافي، كما قال الله تعالى: {فقل حسبي الله} [التوبة: 129] أي كافيني؛ وقال تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173] أي كافينا؛ فقوله تعالى؛ { فحسبه جهنم } أي كافيته؛ والمعنى: أنه يكون من أهلها - والعياذ بالله و{ جهنم } اسم من أسماء النار؛ قيل: إنها كلمة معربة، وأنها ليست من العربية الفصحى؛ وقيل: بل هي من اللغة الفصحى، وأن أصلها من الجهمة؛ وهي الظلمة؛ ولكن زيدت فيها النون للمبالغة؛ وعلى كلٍّ فإن { جهنم } اسم للنار التي أعدها الله سبحانه وتعالى للكافرين؛ وسميت بذلك لبعد قعرها، وظلمتها - والعياذ بالله -.
قوله تعالى: { ولبئس المهاد }: اللام هنا للابتداء؛ أو موطئة للقسم - أي: وواللَّهِ لبئس المهاد - وهذا أقرب؛ و «بئس» فعل جامد لإنشاء الذم؛ وفاعلها { المهاد }؛ وهي من الأفعال التي تحتاج إلى مخصوص بالذم؛ والمخصوص محذوف؛ أي: ولبئس المهاد مهاده، حيث كانت جهنم.
الفوائد:
1- من فوائد الآية: أن هذا الرجل الموصوف بهذه الصفات يأنف أن يؤمر بتقوى الله؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم } فهو يأنف، كأنه يقول في نفسه: أنا أرفع من أن تأمرني بتقوى الله عزّ وجلّ؛ وكأن هذا الجاهل تعامى عن قول الله تعالى لأتقى البشر: {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ؛ وقال تعالى في قصة زينب: {واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] .
2- ومنها: البلاغة التامة في حذف الفاعل في قوله تعالى: { وإذا قيل له اتق الله }؛ ليشمل كل من يقول له ذلك؛ فيكون رده لكراهة الحق.
3- ومنها: التحذير من رد الناصحين؛ لأن الله تعالى جعل هذا من أوصاف هؤلاء المنافقين؛ فمن رد آمراً بتقوى الله ففيه شبه من المنافقين؛ والواجب على المرء إذا قيل له: «اتق الله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» تعظيماً لتقوى الله.
4- ومنها: أن الأنفة قد تحمل صاحبها على الإثم؛ لقوله تعالى: { أخذته العزة بالإثم }.
5- ومنها: أن هذا العمل موجب لدخول النار؛ لقوله تعالى: { فحسبه جهنم }.
6- ومنها: القدح في النار، والذم لها؛ لقوله تعالى: { ولبئس المهاد }؛ ولا شك أن جهنم بئس المهاد.
القرآن
{ )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207)
التفسير:
لما ذكر الله حال المنافقين الذين يعجبك قولهم في الحياة الدنيا وهم ألد الخصام؛ والذين إذا تولوا سعوا في الأرض فساداً ليهلكوا الحرث، والنسل - والله لا يحب الفساد - ذكر حال قوم على ضدهم؛ وهكذا القرآن مثاني تثَنَّى فيه الأمور؛ فيؤتى بذكر الجنة مع النار؛ وبذكر المتقين مع الفجار... لأجل أن يبقى الإنسان في روضة متنوعة؛ ثم ليبقى الإنسان بين الخوف، والرجاء - لا يغلب عليه الخوف فيقنط من رحمة الله -؛ ولا الرجاء فيأمن مكر الله؛ فإذا سمع ذكر النار، ووعيدها، وعقوبتها أوجب له ذلك الخوف؛ وإذا سمع ذكر الجنة، ونعيمها، وثوابها أوجب له ذلك الرجاء؛ فترتيب القرآن من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى؛ وهو الموافق لإصلاح القلوب؛ ولهذا نرى من الخطأ الفادح أن يؤلف أحد القرآن مرتباً على الأبواب والمسائل كما صنعه بعض الناس؛ فإن هذا مخالف لنظم القرآن، والبلاغة، وعمل السلف؛ فالقرآن ليس كتاب فقه؛ ولكنه كتاب تربية، وتهذيب للأخلاق؛ فلا ترتيب أحسن من ترتيب الله؛ ولهذا كان ترتيب الآيات توقيفياً لا مجال للاجتهاد فيه؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت الآية قال: «ضعوا هذه الآية في مكان كذا من سورة كذا»(1).
{ 207 } قوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه }؛ هذا هو القسيم لقوله تعالى: {ومن الناس من يعجبك...} [البقرة: 204] ؛ وعلى هذا تكون { مِن } للتبعيض؛ والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ و{ من يشري } مبتدأ مؤخر.
وقوله تعالى: { من الناس }: قال بعض المفسرين: إنها تعني شخصاً معيناً؛ وهو صهيب الرومي لما أراد أن يهاجر من مكة منعه كفارها، وقالوا: لا يمكنك أن تهاجر أبداً إلا أن تدع لنا جميع ما تملك؛ فوافق على ذلك، وأنقذ نفسه بالهجرة ابتغاء مرضاة الله؛ وقال بعض العلماء - وهم أكثر المفسرين -: بل هي عامة لكل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله؛ قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} [التوبة: 111] ؛ وهذا القول أصح؛ وهو أنها للعموم حتى لو صح أن سبب نزولها قصة صهيب؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله تعالى: { من يشري نفسه } أي يبيعها؛ لأن «شرى» بمعنى باع، كقوله تعالى: {وشروه بثمن بخس} [يوسف: 20] أي باعوه بثمن بخس؛ أما «اشترى» فهي بمعنى ابتاع؛ فإذا جاءت التاء فهي للمشتري الآخذ؛ وإذا حذفت التاء فهي للبائع المعطي؛ و{ نفسه } يعني ذاته.
قوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله } أي طلباً لمرضات الله؛ فهي مفعول لأجله؛ و{ مرضات الله } أي رضوانه أي يبيع نفسه في طلب رضا الله عزّ وجلّ -؛ فيكون قد باع نفسه مخلصاً لله في هذا البيع.
قوله تعالى: { والله رؤوف } أي ذو رأفة؛ و«الرأفة» قال العلماء: هي أرق الرحمة، وألطفها؛ و{ بالعباد } أي جميعهم.
وفي قوله تعالى: { رؤوف } قراءتان؛ إحداهما: مد الهمزة على وزن فعول؛ والثانية قصرها على وزن فعُل.
الفوائد:
1- من فوائد الآية: تقسيم الناس إلى قسمين؛ القسم الأول: {ومن الناس من يعجبك قوله} [البقرة: 204] ؛ والقسم الثاني: { ومن الناس من يشري نفسه }.
2- ومنها: بلاغة هذا القرآن حيث يجعل الأمور مثاني؛ إذا جاء الكلام عن شيء جاء الكلام عن ضده.
3- ومنها: فضل من باع نفسه لله؛ لقوله تعالى: { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }.
4- ومنها: الإشارة إلى إخلاص النية؛ لقوله تعالى: { ابتغاء مرضات الله }.
5- ومنها: إثبات الرضا لله؛ لقوله تعالى: { مرضات الله }؛ ورضا الله صفة حقيقية لله عزّ وجلّ متعلقة بمشيئته؛ وينكرها الأشاعرة وأشباههم من أهل التعطيل؛ ويحرفون المعنى إلى أن المراد برضا الله إما إثابته؛ أو إرادة الثواب.
6- ومنها: استحباب تقديم مرضاة الله على النفس؛ لأن الله ذكر ذلك في مقام المدح، والثناء.
7- ومنها: إثبات الرأفة لله؛ لقوله تعالى: { والله رؤوف بالعباد }.
8- ومنها: عموم رأفة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { بالعباد }؛ هذا إذا كان { العباد } بالمعنى العام؛ أما إذا قلنا بالمعنى الخاص فلا يستفاد ذلك؛ واعلم أن العبودية لها معنيان: خاص؛ وعام؛ والخاص له أخص؛ وهو خاص الخاص؛ فمن العام قوله تعالى: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93]؛ وأما الخاص فمثل قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} [الفرقان: 63] ؛ المراد بهم عباد الرحمن المتصفون بهذه الصفات؛ فيخرج من لم يتصف بها؛ وأما الأخص مثل قوله تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ؛ هذه عبودية الأخص - عبودية الرسالة -.