القرآن
)وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:224)
التفسير:
{ 224 } قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }، أي لا تصيروا الحلف بالله معترضاً بينكم، وبين البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ فـ «البر» فعل الخيرات؛ و «التقوى» هنا اجتناب الشرور؛ و «الإصلاح بين الناس» التوفيق بين المتنازعين حتى يلتئم بعضهم إلى بعض، ويزول ما في أنفسهم.
قوله تعالى: { والله سميع عليم }، أي سميع لما يقال عليم بكل شيء.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: نهي الإنسان عن جعل اليمين مانعة له من فعل البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ والنهي للتحريم إذا كانت مانعة له من واجب؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير»(1).
2 - ومنها: الحث على البر، والتقوى، والإصلاح بين الناس؛ وجهه: أنه إذا كان الله نهانا أن نجعل اليمين مانعاً من فعل البر فما بالك إذا لم يكن هناك يمين.
3 - ومنها: فضيلة الإصلاح بين الناس؛ لقوله تعالى: { وتصلحوا بين الناس }؛ فنص عليه مع أنه من البر؛ والتنصيص على الشيء بعد التعميم يدل على العناية به، والاهتمام به؛ ولا ريب أن الإصلاح بين الناس من الأمور الهامة لما فيه من رأب الصدع، ولمّ الشعث، وجمع الشمل؛ وهذا خلاف من يفعلون ما يوجب القطيعة بين الناس، مثل النميمة - فهي توجب القطيعة بين الناس -؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمام»(2).
4 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «السميع» و «العليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وما تضمناه من حكم، وأثر.
5 - ومنها: تحذير الإنسان من المخالفة؛ وجهه: أنه إذا كان الله سميعاً عليماً فإياك أن تخالف ما أمرك به؛ فإنك إن خالفته بما يُسمَع سَمِعك؛ وبما يُعلَم عَلِمك؛ فاحذر الله عزّ وجلّ.
القرآن
)لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (البقرة:225)
التفسير:
{ 225 } قوله تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم }؛ «يؤاخذ» لها معنيان؛ أحدهما: المؤاخذة بالعقوبة؛ والثاني: المؤاخذة بإلزام الكفارة؛ و «اللغو» في اللغة الشيء الساقط؛ والمراد به هنا اليمين التي لا يقصدها الحالف، كقول: «لا واللَّهِ»؛ «بلى والله» في عرض حديثه؛ ويبين ذلك قوله تعالى في سورة المائدة: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] أي نويتم عقده؛ و «الأيمان» جمع يمين؛ وهو القسم؛ والقسم: تأكيد الشيء بذكر معظَّم بصيغة مخصوصة - هي الواو، والباء، والتاء -؛ مثل: «والله»، و«بالله»، و«تالله».
قوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، يفسره قوله تعالى: {بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] .
قوله تعالى: { والله غفور حليم }؛ لما ذكر اللغو من اليمين، والمنعقد منهما ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين؛ وسبق معنى «الغفور» ؛ و «الحليم» هو الذي يؤخر العقوبة عن مستحقها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: عدم مؤاخذة العبد بما لم يقصده في لفظه؛ وهذه الفائدة قاعدة عظيمة يترتب عليها مسائل كثيرة؛ منها لو جرى لفظ الطلاق على لسانه بغير قصد لم تطلق امرأته؛ ولو طلق في حال غضب شديد لم تطلق امرأته؛ ولو قال كفراً في حال فرح شديد لم يكفر، كما في حديث: «للَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم...»(3) الحديث؛ ولو أكره على كلمة الكفر فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر؛ وأمثلتها كثيرة.
2 - ومن فوائد الآية: أن المدار على ما في القلوب؛ لقوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }.
3 - ومنها: أن للقلوب كسباً، كما للجوارح؛ فأما ما حدَّث به الإنسان نفسه دون اطمئنان إليه فإنه لا يؤاخذ به؛ لأنه ليس بعمل؛ ولهذا جاء في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم»(1).
4 - ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين؛ وهما «الغفور» ، و «الحليم» ؛ وما تضمناه من وصف، وحكم.
5 - ومنها: الإشارة إلى أن من مغفرة الله وحلمه أن أسقط المؤاخذة باللغو في الأيمان.
6 - ومنها: أن لا نيأس من رحمة الله؛ لأنه غفور؛ وأن لا نأمن مكر الله؛ لأنه حليم؛ فيكون العبد سائراً إلى الله بين الرجاء والخوف.
القرآن
)لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:226) )وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:227)
التفسير:
{ 226 } قوله تعالى: { للذين } خبر مقدم؛ و{ تربص } مبتدأ مؤخر؛ وبعد هذا بين الله الحال بعد هذا التربص.
قوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم }: اللام يحتمل أن تكون للإباحة؛ ويحتمل أن تكون للتوقيت؛ يعني: أنه يباح للمولين أن يتربصوا أربعة أشهر؛ أو أن لهم وقتاً محدداً بأربعة أشهر؛ و{ يؤلون } أي يحلفون على ترك وطء زوجاتهم؛ و{ مِن }: قيل إنها بمعنى «عن»؛ يعني يحلفون عن وطء نسائهم؛ وقيل: إنها على بابها؛ فهي مبينة لموضع الإيلاء - يعني: الحلف -؛ و{ نسائهم } أي زوجاتهم.
قوله تعالى: { تربص } أي انتظار؛ وهو شبيه بـ«الصبر» لموافقته إياه في الحروف - وإن خالفه في الترتيب -؛ و«الصبر» بمعنى حبس النفس، وانتظارها؛ { أربعة أشهر } أي مدة أربعة أشهر؛ فينتظرون لمدة أربعة أشهر ابتداءً من إيلائهم.
قوله تعالى: { فإن فاءوا } أي رجعوا إلى نسائهم بعد أن آلوا منهن؛ { فإن الله غفور } أي يغفر لهم ما تجرؤوا عليه من الحلف على حرمان الزوجات من حقوقهن؛ لأن حلفهم على ألا يطؤوا لمدة أربعة أشهر اعتداء على حق المرأة؛ إذ إن الرجل يجب عليه أن يعاشر زوجته بالمعروف؛ وليس من العشرة بالمعروف أن يحلف الإنسان ألا يطأ زوجته مدة أربعة أشهر؛ فإن فعل فقد عرض نفسه للعقوبة؛ لكنه إذا رجع غفر الله له؛ و{ غفور } أي ذو مغفرة، كما قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} [الرعد: 6] ؛ والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه مأخوذة من «المغفر»؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب لاتقاء السهام؛ وفي المغفر تغطية، ووقاية؛ و{ رحيم } أي ذو رحمة، كما قال تعالى: {وربك الغني ذو الرحمة} [الأنعام: 133] ؛ فهو مشتق من الرحمة المستلزمة للعطف، والحنوّ، والإحسان، ودفع النقم.
{ 227 } قوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق } أي قصدوه بعزيمة تامة؛ ويدل على أن العزم هنا بمعنى القصد أنه تعدى بنفسه إلى الطلاق؛ ولو كان العزم بمعناه الأصلي لتعدى بـ«على»؛ فإنك تقول: «عزم على كذا»؛ ولا تقول: «عزم كذا».
قوله تعالى: { فإن الله سميع عليم } أي سميع لأقوالهم - ومنها الطلاق -؛ عليم بأحوالهم - ومنها مفارقة زوجاتهم -.
الفوائد:
1 - من فوائد الآيتين: ثبوت حكم الإيلاء؛ لأن الله تعالى وقَّت له أربعة أشهر.
2 - ومنها: أن الإيلاء لا يصح من غير زوجة؛ لقوله تعالى: [ من نسائهم }؛ فلو حلف أن لا يطأ أمته لم يثبت له حكم الإيلاء؛ ولو حلف أن لا يطأ امرأة، ثم تزوجها، لم يكن له حكم الإيلاء - لكن لو جامع وجبت عليه كفارة يمين -.
3 - ومنها: أن المولي يضرب له مدة أربعة أشهر من إيلائه؛ لقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر }؛ فيفيد أن ابتداء المدة من الإيلاء.
4 - ومنها: حكمة الله عزّ وجلّ، ورحمته بعباده في مراعاة حقوق الزوجة؛ وكما أنه حق للزوجة فهو من مصلحة الزوج أيضاً حتى لا يضيع حق المرأة على يده، فيكون ظالماً.
5 - ومنها: أن المولي يوقف عند مضي أربعة أشهر، ويقال له: إما أن تفيء؛ وإما أن تطلق؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }.
6 - ومنها: أن الطلاق بيد الزوج؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق }؛ والضمير يعود على «الذين يؤلون من نسائهم» .
7 - ومنها: صحة الإيلاء من غير المدخول بها؛ لقوله تعالى: { من نسائهم }؛ والمرأة تكون من نساء الإنسان بمجرد العقد الصحيح.
8 - ومنها: أن الإيلاء من أربعة أشهر فما فوق محرم؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }؛ فإن المغفرة لا تكون إلا في مقابلة ذنب.
9 - ومنها: أن رجوع الإنسان عما هو عليه من المعصية سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم }.
10 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا يحب الطلاق؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم
11 - ومنها: أن الطلاق لا يقع بمجرد تمام مدة الإيلاء؛ لقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق }؛ فإن قيل: لو امتنع عن الفيئة، والطلاق فهل يجبر على أحدهما؟
فالجواب: نعم؛ يجبر على أحدهما إذا طالبت الزوجة بذلك؛ لأنه حق لها؛ فإن أبى فللحاكم أن يطلق، أو يفسخ النكاح؛ والفسخ أولى من الطلاق لئلا تحسب عليه طلقة، فيضيق عليه العدد - أي عدد الطلاق -.
مس-أل-ة:
هل يصح الإيلاء من الصغير الذي لم يبلغ؟
الجواب: لا يصح؛ لقوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم }؛ والصبي لا تنعقد منه اليمين؛ لأنه غير مكلف.
12 - ومنها: إثبات أربعة أسماء من أسماء الله سبحانه وتعالى؛ وهي «الغفور» ، و «الرحيم» ، و «السميع» ، و «العليم» ؛ وما تتضمنه هذه الأسماء من الصفات، والأحكام.
13 - ومنها: الإشارة إلى أن الفيئة أحب إلى الله من الطلاق؛ لأن ذلك نوع من التهديد
القرآن
)وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:228)
التفسير:
{ 228 } قوله تعالى: { والمطلقات } أي اللاتي طلقهن أزواجهن؛ { يتربصن بأنفسهن } أي ينتظرن في العدة، ويَحبسن أنفسهن عن الزواج؛ لأن المرأة بطبيعتها تطلب النكاح؛ فقيل لها: تربصي بنفسك؛ انتظري، مثلما أقول: ارفق بنفسك - أي هوِّن على نفسك -؛ وما أشبهها؛ وأما قول من قال: إن «أنفسهن» توكيد للفاعل في { يتربصن } زيدت فيه الباء، وجعل معنى الآية: يتربصن أنفسُهن؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الأصل عدم الزيادة؛ ولأن مثل هذا التعبير شاذ في اللغة العربية؛ فلا يحمل كلام الله على الشاذ؛ وعلى هذا فالمعنى الصحيح: أن ينتظرن بأنفسهن فلا يعجلن.
قوله تعالى: { ثلاثة قروء } جمع قَرْء بفتح القاف؛ وهو الحيض على أرجح القولين؛ وهو رأي الجمهور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: «تجلس أيام أقرائها»(1) أي حيضها؛ فقوله تعالى: {ثلاثة قروء } أي ثلاث حيض.
قوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن } أي يخفين { ما خلق الله في أرحامهن } أي من الحمل؛ فلا يحل لها أن تكتم الحمل؛ و{ أرحامهن } جمع رحم؛ وهو مقر الحمل؛ وسمي رحماً؛ لأنه ينضم على الجنين، ويحفظه؛ فهو كذوي الأرحام من انضمامهم على قريبهم، وحنوهم عليه، وعطفهم عليه.
قوله تعالى: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } هذه الجملة فيها إغراء لالتزام الحكم السابق؛ وهي تشبه التحدي؛ يعني إن كن صادقات في الإيمان بالله، واليوم الآخر فلا يكتمن حملهن؛ والمراد بـ{ اليوم الآخر } يوم القيامة؛ وإنما سمي اليوم الآخر؛ لأنه لا يوم بعده؛ فالناس إذا بعثوا يوم القيامة فليس هناك موت؛ بل إما خلود في الجنة؛ وإما خلود في النار؛ وذكر اليوم الآخر؛ لأن الإيمان به يحمل الإنسان على فعل الطاعات، واجتناب المنهيات؛ لأنه يعلم أن أمامه يوماً يجازى فيه الإنسان على عمله؛ فتجده يحرص على فعل المأمور، وترك المحظور.
قوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك }؛ البعل هو الزوج، كما قال الله تعالى عن امرأة إبراهيم: {قال يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً} [هود: 72] أي زوجي؛ وسمي بعلاً مع أنه مطلِّق؛ لأن الأحكام الزوجية في الرجعية باقية إلا ما استثني؛ و{ أحق } اسم تفضيل؛ واسم التفضيل لا بد فيه من مفضل، ومفضل عليه؛ يعني: أن بعولتهن أحق بردهن من أنفسهن؛ و «ذا» اسم إشارة؛ والمشار إليه التربص المفهوم من قوله تعالى: { يتربصن } - وهو مدة العدة -.
قوله تعالى: { إن أرادوا إصلاحاً } أي إن أراد بعولتهن إصلاحاً في ردهن؛ و{ إصلاحاً } أي ائتلافاً، والتئاماً بين الزوج، وزوجته، وإزالة لما وقع من الكسر بسبب الطلاق، وما أشبه ذلك.
قوله تعالى: { ولهن } أي للزوجات سواء كن مطلقات، أو ممسكات { مثل الذي عليهن بالمعروف }: فكما أن على الزوجة أن تتقي الله تعالى في حقوق زوجها، وأن تقوم بما فرض الله عليها؛ فلها أيضاً مثل الذي له في أنه يجب على الزوج أن يعاشرها بالمعروف، وأن يقوم بحقها الذي أوجب الله عليه.
ولما كانت المماثلة تقتضي المساواة أخرج ذلك بقوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة } أي فضل في العقل، والحقوق؛ وهذا من باب الاحتراس حتى لا يذهب الذهن إلى تساوي المرأة، والرجل من كل وجه.
قوله تعالى: { والله عزيز } أي ذو عزة؛ وأظهر معانيها: الغلبة، كقوله تعالى: {وعزني في الخطاب} [ص: 23] ؛ و{ حكيم } أي ذو الحكم التام، والحكمة البالغة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب اعتداد المطلقة بثلاث حيض؛ لقوله تعالى: { والمطلقات يتربصن }؛ وهي جملة خبرية بمعنى الأمر؛ قال البلاغيون: إذا جاء الأمر بصيغة الخبر كان ذلك توكيداً له؛ كأنه أمر واقع صح أن يخبر عنه.
2 - ومنها: قوة الداعي في المرأة للزواج؛ لقوله تعالى: { يتربصن بأنفسهن }؛ فكأن النفس تحثها على أن تنهي علاقتها بالأول، وتتزوج؛ فقيل: «تربصي بنفسك» أي انتظري؛ مثل أن تقول: تربصتُ بكذا، وكذا، وكذا.
3 - ومنها: وجوب العدة بثلاث حيض على كل مطلقة سواء كان طلاقها بائناً أم لا؛ لعموم قوله تعالى: {والمطلقات }.
ويستثنى من ذلك: من لا تحيض لصغر، أو إياس: فعدتها ثلاثة أشهر؛ لقوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق: 4] .
ويستثنى أيضاً من طلقت قبل الدخول، والخلوة: فليس عليها عدة؛ لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب: 49] .
ويستثنى أيضاً الحامل؛ فعدتها إلى وضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق: 4] .
فهذه ثلاث مسائل مستثناة من عموم قوله تعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }.
4 - ومن فوائد الآية: أن من فارق الزوجة بغير طلاق فليس عليها أن تعتد بثلاث حيض، كالمختلعة؛ وعليه فيكفي أن تستبرئ بحيضة؛ وهذا هو القول الراجح.
5 - ومنها: أنه لو طلقها في أثناء الحيض لم يحتسب بالحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ وجهه: أن الحيض لا يتبعض؛ فتلغى بقية الحيضة التي وقع فيها الطلاق؛ ولا بد لها من ثلاث حيض جديدة؛ وإلا يلزم على ذلك أن تكون عدتها ثلاثة قروء وبعض القرء؛ وهو خلاف النص؛ وهذا على القول بأن طلاق الحائض واقع؛ ولكن الصواب أن طلاق الحائض لا يقع؛ لحديث ابن عمر(1)؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(2)؛ ولنصوص أخرى دلت على عدم وقوع طلاق الحائض.
6 - ومن فوائد الآية: أن الطلاق لا يقع قبل النكاح منجزاً كان، أو معلقاً؛ معيناً كان، أو مطلقاً؛ فلو قال لامرأة: «إن تزوجتك فأنت طالق» فتزوجها لم تطلق؛ لقوله تعالى: { والمطلقات }؛ ولا طلاق إلا بعد قيد - وهو عقد النكاح -.
7 - ومنها: أنه يرجع إلى قول المرأة في عدتها؛ لقوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن }؛ وجه ذلك أن الله جعل قولها معتبراً؛ ولو لم يكن معتبراً لم يكن لكتمها أيّ تأثير؛ فإذا ادعت أن عدتها انقضت، وكان ذلك في زمن ممكن فإنها تصدق؛ وهي مؤتمنة على ذلك؛ أما إذا ادعت أن عدتها انقضت في زمن لا يمكن فإن قولها مردود؛ لأن من شروط سماع الدعوى أن تكون ممكنة؛ ودعوى المستحيل غير مسموعة أصلاً.
8 - ومن فوائد الآية: أن المطلقة البائن عدتها ثلاثة قروء؛ لعموم قوله تعالى: { والمطلقات }؛ فيشمل حتى البوائن؛ وهو قول جمهور العلماء؛ حتى لو كانت بائناً بالثلاث؛ فإنها لا بد أن تعتدّ بثلاثة قروء؛ وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: إن كانت المسألة إجماعية فالإجماع معتبر، وهو حجة؛ وإن لم تكن إجماعية فإن القول بأن المبانة تعتد بحيضة واحدة قول وجيه؛ فعلق القول به على وجود مخالف؛ وقد وجد؛ ويؤيد هذا القول قوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك }؛ فإن هذا الحكم إنما هو للرجعيات؛ فيكون العموم مخصصاً بذكر الحكم المختص ببعض أفراده؛ وهذه المسألة فيها نزاع بين العلماء - وهي أنه إذا ورد لفظ عام، ثم فرع عليه حكم يتعلق ببعض أفراده فهل يكون ذلك مخصصاً لعمومه -؛ أو يقال: إن ذكر حكم يختص ببعض الأفراد لا يقتضي التخصيص؛ ومن أمثلته حديث جابر: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة»(3)؛ إذا نظرنا إلى أول الحديث: «في كل ما يقسم» وجدنا أن الشفعة تجري في كل شيء؛ وإذا نظرنا إلى آخره: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق» ، قلنا: إن الشفعة لا تجري إلا فيما كان له حدود، وطرق - وهو الأرض -.
و«الشفعة» أن ينتزع الشريك حصة شريكه التي باعها لطرف ثالث؛ مثال ذلك: زيد شريك لعمرو في أرض؛ فباع عمرو نصيبه لخالد؛ فلزيد أن يأخذ هذا النصيب من خالد بالثمن الذي يستقر عليه العقد؛ فإذا كان لشخصين سيارة واحدة، وباع أحدهما نصيبه من هذه السيارة لشخص ثالث فللشريك أن يأخذ هذا النصيب ممن اشتراه بثمنه على مقتضى أول الحديث العام؛ لكن قوله تعالى: «فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» يقتضي أن لا شفعة له في نصيب شريكه في السيارة؛ لأنه لا حدود، ولا طرق فيها؛ والمسألة ذات خلاف معروف في كتب الفقه.
9 - ومن فوائد الآية: أنه ينبغي ذكر ما يوجب القبول، والعمل؛ لقوله تعالى: { إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }.
10 - ومنها: أنه ينبغي تحذير المؤتمن الذي لا يعلم بأمانته إلا الله عزّ وجلّ من عذاب يوم الآخر إن هو لم يقم بواجب الأمانة؛ لقوله تعالى: { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر }.
11 - ومنها: إثبات اليوم الآخر.
12 - ومنها: أن الرجعية في حكم الزوجات؛ لقوله تعالى: { وبعولتهن أحق }؛ فأثبت أنه بعل.
فإن قال قائل: ألا يمكن أن يقال: { بعولتهن } فيما مضى؛ لأن الشيء قد يعبر عنه بعد انتهائه، كقوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم} [النساء: 2] ؛ وهم لا يؤتونها إلا بعد زوال اليتم؛ كما أنه قد يعبر عن الشيء قبل وجوده، كقوله تعالى: {إني أراني أعصر خمراً} [يوسف: 36] ؛ وهو إنما يعصر عنباً ليكون خمراً؟
فالجواب: أن الأصل خلاف ذلك؛ ولا يصار إلى خلاف الأصل إلا بدليل؛ لأن الأصل أن الوصف متحقق في الموصوف حتى يتبين زوال الوصف عنه؛ ولهذا قال أهل العلم: إن الرجعية زوجة في حكم الزوجات؛ وينبني على ذلك أن كل ما يترتب على الزوجية فهو ثابت للرجعية إلا أنهم استثنوا بعض المسائل.
13 - ومن فوائد الآية: أنه لا حق للزوج في الرجعة إذا لم يرد الإصلاح؛ لقوله تعالى: { إن أرادوا إصلاحاً}؛ وقال بعض أهل العلم: «إن هذا ليس على سبيل الشرط؛ ولكنه على سبيل الإرشاد»؛ وهو خلاف ظاهر الآية؛ والواجب إبقاء الآية على ظاهرها؛ فليس له أن يراجع إلا بهذا الشرط.
14 - ومنها: أنه لا رجعة بعد انقضاء العدة؛ لقوله تعالى: { أحق بردهن في ذلك }.
15 - ومنها: أن للزوجة حقاً كما أن عليها حقاً؛ لقوله تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن }.
16 - ومنها: إثبات الرجوع إلى العرف؛ لقوله تعالى: { بالمعروف }؛ وهكذا كل ما جاء، ولم يحدد بالشرع فإن مرجعه إلى العرف.
17 - ومنها: استعمال الاحتراس؛ وأنه لا ينبغي الإطلاق في موضع يخشى فيه من التعميم؛ لقوله تعالى: { وللرجال عليهن درجة } أي حقوق الرجال أكثر من حقوق النساء؛ ولهذا كان على الزوجة أن تطيع زوجها؛ وليس على الزوج أن يطيع زوجته؛ لقوله تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} [النساء: 34] ؛ وهذا من معنى الدرجة؛ ودرجة الرجال على النساء من وجوه متعددة؛ فالدرجة التي فضل بها الرجال على النساء في العقل، والجسم، والدين، والولاية، والإنفاق، والميراث، وعطية الأولاد.
الأمر الأول: العقل ؛ فالرجل عقله أكمل من عقل المرأة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن؛ قلن: ما نقصان العقل يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة الرجل بشهادة امرأتين؟ فذلك نقصان عقلها»(1).
الأمر الثاني: الجسم ؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الجسم؛ فهو أنشط من المرأة، وأقوى في الجسم.
الأمر الثالث: الدين ؛ فإن الرجل أكمل من المرأة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: «إنها ناقصة في الدين» ؛ وفَسر ذلك بأنها إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم ؛ ولهذا يجب على الرجل من الواجبات الدينية ما لا يجب على المرأة، كالجهاد مثلاً.
الأمر الرابع: الولاية ؛ فقد فضل الرجل على المرأة في الولاية؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل الرجل قواماً على المرأة؛ فالرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض؛ ولهذا لا يحل أن تتولى المرأة ولاية عامة أبداً - لا وزارة، ولا غير وزارة -؛ فالولاية العامة ليست من حقوق النساء أبداً، ولا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة.
الأمر الخامس: الإنفاق ؛ فالزوج هو الذي ينفق على المرأة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى»(2)؛ و «اليد العليا» : هي المعطية؛ و «السفلى» : الآخذة.
الأمر السادس: الميراث، وعطية الأولاد ؛ فإن للذكر مثل حظ الأنثيين.
18 - ومن فوائد الآية: أن الذين لهم درجة على النساء هم الرجال الذين هم جديرون بهذا الوصف؛ وأما من جعل نفسه بمنزلة النسوة فهذا يكون شراً من المرأة؛ لأنه انتكس من الكمال إلى الدون؛ ومن ثم لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء؛ والمتشبهات من النساء بالرجال(1)؛ حتى لا يعتدي أحد على حق؛ أو على اختصاصات أحد.
19 - ومنها: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله: «العزيز» ، و «الحكيم» ؛ وما تضمناه من صفة - وهي العزة في «العزيز» -؛ والحكمة، والحكم في «الحكيم» ؛ وما يترتب على ذلك من أثر.
القرآن
)الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة:229)
التفسير:
{ 229 } قوله تعالى: { الطلاق مرتان } يعني أن الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان: بأن يطلق مرة، ثم يراجع، ثم يطلق مرة، ثم يراجع.
قوله تعالى: { فإمساك بمعروف } مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فعليكم إمساك بمعروف - أي بما يتعارفه الناس من العشرة الطيبة الحسنة -.
قوله تعالى: { أو تسريح بإحسان } أي إطلاق لهن؛ وهو كقوله تعالى في سورة الطلاق: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} [الطلاق: 2] ؛ والمراد بـ «الإحسان» هنا أن يمتعها بشيء يجبر كسرها، ويطيب قلبها.
قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } أي أعطيتموهن؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول الهاء في قوله تعالى: { آتيتموهن }؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: مما آتيتموهن إياه؛ وهو العائد على الموصول؛ أما { شيئاً } فهي مفعول: { تأخذوا }؛ وهي نكرة في سياق النفي، فتعم كل ما آتاها من مهر، وغيره.
قوله تعالى: { إلا أن يخافا } بمعنى يتوقعا، ويخشيا { ألا يقيما حدود الله } أي شرائع الله - بما يلزمهما لكل واحد على الآخر -؛ فإن خافت الزوجة ألا تقوم بحق الزوج؛ أو خاف الزوج إلا يقوم بحق الزوجة { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }؛ هذا على قراءة { يَخافا } بالبناء للفاعل؛ وأما على قراءة { يُخافا} بالبناء للمفعول فالخائف هنا غير الزوجين؛ أي إلا أن يخشى غيرُهما ألا يقيما حدود الله؛ فالخوف يرجع هنا على ولي الأمر كالقاضي، أو الأمير؛ أو على أهل الزوجين؛ أو على كل من علم بحالهما ممن يمكنه إصلاح الحال: فله أن يتدخل، ويعرض الخلع؛ ولهذا قال تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما }؛ وهذا يؤيد القراءة التي بالبناء للمفعول؛ والخطاب في قوله تعالى: { فإن خفتم } وإن كان ظاهره أنه يعم جميع الأمة فالظاهر أن المراد به من له صلة بالزوجين من قرابة، أو غيرها.
قوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } أي لا إثم على الزوجين فيما بذلته فداءً لنفسها عن المقام معه؛ فإن قيل: لماذا جاءت الآية بنفي الجناح عليهما؟ فالجواب أن طلب الفداء والطلاق حرام على الزوجة بدون سبب؛ وحرام على الزوج أيضاً أن يأخذ شيئاً مما آتاها بدون سبب.
قوله تعالى: { تلك حدود الله }؛ المشار إليه ما سبق من الأحكام، والشرائع؛ و{ حدود الله } أي شرائعه.
قوله تعالى: { فلا تعتدوها } أي لا تتجاوزوها؛ وقال العلماء: إذا كانت الحدود مما يجب فعله قال تعالى: { فلا تعتدوها }؛ وأما إذا كانت الحدود من المحرمات فإنه تعالى يقول: { فلا تقربوها }.
قوله تعالى: { ومن يتعد } أي يتجاوز { حدود الله } المراد بها هنا أوامره؛ والجملة: اسم الشرط، وفعل الشرط؛ وقوله تعالى: { فأولئك هم الظالمون }: جواب الشرط؛ ولم يذكر مفعول { الظالمون } ليفيد العموم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: حكمة الله عزّ وجلّ ورحمته في حصر الطلاق بالثلاث بأنه لا رجعة بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يطلِّق الإنسان زوجته عدة طلقات؛ فإذا قاربت انتهاء العدة راجع، ثم طلق، فتستأنف العدة؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع، ثم طلق؛ فإذا شارفت الانقضاء راجع ثم طلق... وهكذا؛ فتبقى المرأة معذبة: لا مزوجة، ولا مطلقة؛ فتبقى معلقة؛ فجعل الله الأمر في ثلاث طلقات فقط.
2 - ومنها: اعتبار التكرار بالثلاث؛ وهذه لها نظائر كثيرة؛ فالسلام ثلاث؛ والاستئذان ثلاث؛ ورد الكلام إذا لم يفهم من أول مرة ثلاث؛ وفي الوضوء والعبادات أيضاً تكرار الثلاث كثير؛ فإذاً الثلاث تعتبر تكراراً يكتفى به في كثير من الأمور.
3 - ومنها: الإشارة إلى أن الطلاق المكرر بلفظ واحد ليس بطلاق؛ بمعنى أنه لا يتكرر به الطلاق؛ لأن قوله تعالى: { الطلاق مرتان } وصف يجب أن يكون معتبراً؛ فإذا طلقت امرأتك؛ فقلت: أنت طالق؛ فقد طلقت؛ فإذا قلت ثانية: «أنت طالق» فكيف تورد طلاقاً على مطلقة؛ لأن الطلاق لا يرد إلا على من كانت غير مطلقة حتى يقال: طلقت؛ وهنا قال تعالى: { الطلاق مرتان }؛ ولهذا قال الفقهاء - رحمهم الله -: لو أن الرجل طلق امرأته، وحاضت مرتين، ثم طلقها بعد الحيضة الثانية لا تستأنف عدة جديدة للطلقة الثانية؛ بل تبني على ما مضى؛ وإذا حاضت الثالثة، وطهرت انقضت عدتها؛ لأن الطلاق الثاني ليس له عدة؛ وهذا مما يؤيد اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الطلاق المكرر لا عبرة به إلا أن يصادف زوجة غير مطلقة؛ ولأن الله سبحانه وتعالى قال: { فطلقوهن لعدتهن }؛ والفقهاء الذين خالفوا في ذلك يقولون: إنه إذا كرر الطلاق في المرة الثانية لا تستأنف العدة؛ فإذاً هي مطلقة لغير عدة فلا يقع الطلاق؛ لأنه سيكون على خلاف ما أمر الله به؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(1)؛ وقد قال شيخنا عن اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن من تأمله تبين له أنه لا يسوغ القول بخلافه»؛ لأنك إذا تأملت كلامه في أنه لا يقع طلاق على طلاق، وأنه لا يتكرر إلا على زوجة غير مطلقة فلا يمكن أن يتكرر الطلاق إلا إذا راجعها، أو عقد عليها عقداً جديداً؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو الذي أفتي به؛ وهو أنه لا طلاق على طلاق حتى لو قال ألف مرة: أنت طالق؛ فليس إلا مرة واحدة فقط؛ ويدل على هذا قول تعالى: {الطلاق مرتان } أي مرة بعد مرة؛ فلا بد أن يقع على زوجة غير مطلقة.
4 - ومن فوائد الآية: أن الواجب على المرء الذي طلق زوجته أحد أمرين؛ إما إمساك بمعروف؛ أو تسريح بإحسان؛ وأما أن يردها مع الإيذاء، والمنة، والتقصير، أو يسرحها بجفوة وعدم إحسان فلا يجوز.
5 - ومنها: بيان حكمة الله في تشريعه سبحانه وتعالى؛ إذ قال تعالى في الإمساك: { بمعروف }؛ لأنه إذا ردها جبر قلبها بالرد؛ وقال تعالى في التسريح: { بإحسان }؛ لأنه سيفارقها، فيحتاج إلى زيادة في معاملتها بالتي هي أحسن حتى ينضم إلى الفراق الإحسانُ - والله أعلم -.
6 - ومنها: تحريم أخذ الزوج شيئاً مما أعطى زوجته من مهر، أو غيره؛ إلا أن يطلقها قبل الدخول والخلوة فله نصف المهر؛ لقوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] .
7 - ومنها: جواز افتداء المرأة نفسها من زوجها بعوض؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به }.
8 - ومنها: أن ذلك إنما يكون إذا خافا ألا يقيما حدود الله؛ أما مع استقامة الحال فلا يجوز طلب الخلع؛ وفي الحديث: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة»(2).
9 - ومنها: أهمية النكاح، وبيان أنه راجع إلى الأسرة كلها؛ لقوله تعالى: { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }.
10 - ومنها: أن للوسائل أحكام المقاصد؛ يؤخذ ذلك من جواز أخذ الإنسان من امرأته ما آتاها، أو بعضه إذا خيفت المفسدة في البقاء على الزوجية.
11 - ومنها: اعتبار المفاسد، وسلوك الأهون لدفع الأشد؛ لأن الأخذ من مال الزوجة محرم بلا شك - كما قال تعالى -؛ لكن إذا أريد به دفع ما هو أعظم من تضييع حدود الله عزّ وجلّ صار ذلك جائزاً؛ وهذه القاعدة لها أصل في الشريعة؛ منه قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام: 108] ؛ فإنّ سبّ آلهة المشركين واجب؛ ولكن إذا كان يخشى من ذلك أن يسبوا الله عدواً بغير علم صار سبّ آلهتهم ممنوعاً.
12 - ومنها: جواز الخلع بأكثر مما أعطاها؛ لعموم قوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فهو يشمل ما افتدت به من كثير، أو قليل؛ وقيل: إن هذا العموم عائد على قوله تعالى: { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً}؛ فيكون المعنى: فيما افتدت به مما آتيتموهن؛ وعلى هذا فلا يأخذ منها أكثر مما أعطاها؛ ويمكن أن يقال: إن كانت هي التي أساءت، وطلبت الخلع فلا بأس أن يأخذ أكثر مما أعطاها؛ وإلا فلا.
13 - ومن فوائد الآية: أن المخالَعة ليست رجعية؛ بمعنى أن الفراق في الخلع فراق بائن فلا سبيل لإرجاعها إلا بعقد جديد؛ لقوله تعالى: { افتدت به }؛ فإذا كان فداءً فالفداء فيه عوض عن شيء؛ وإذا استلم الفداء لا يمكن أن يرجع المفدى عنه - وهو الزوجة - إلا بعقد جديد.
14 - ومنها: جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها؛ لقوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فإن الزوجة تتصرف في مالها كما تشاء في الحدود الشرعية سواء وافق زوجها على هذا التصرف، أم لم يوافق؛ ما دامت امرأة حرة رشيدة فلا اعتراض للزوج عليها؛ وهذه الفائدة قد ينازع فيها.
15 - ومنها: عظم شأن النكاح، وما يتعلق به؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: { تلك حدود الله فلا تعتدوها }؛ فبين أن هذا من حدود الله، ونهى عن تعديه؛ وقد سبق الفرق بين قوله تعالى: { فلا تعتدوها }، وقوله تعالى: { فلا تقربوها }.
16 - ومنها: أن لله عزّ وجلّ أن يحكم في عباده بما شاء؛ لقوله تعالى: { تلك حدود الله }.
17 - ومنها: أنه لا حاكم للخلق، ولا مشرِّع، إلا الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { تلك حدود الله فلا تعتدوها }؛ ولو كان مشرع غيره لكان يمكن لكل إنسان أن يشرع لنفسه - ولو كان في ذلك تعدي حدود الله سبحانه وتعالى -.
18 - ومنها: أن الخلع لا بد فيه من رضا الزوجة؛ لقوله تعالى: { فيما افتدت به }؛ فإذا كانت الفدية منها فلا بد من رضاها؛ وأما إذا كانت الفدية من غيرها فإنه لا يشترط رضاها، كما لو أن أحداً من الناس رأى أن بقاء هذه المرأة مع زوجها فيه ضرر عليه في دينه؛ فذهب إليه، وأعطاه فدية ليخلع هذه المرأة، ويسلم من شرها؛ فهذا جائز - حتى وإن لم ترض بذلك -.
19 - ومنها: تحريم تعدي حدود الله؛ لقوله تعالى: { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون }؛ والظلم حرام.
20 - ومنها: أن التعدي لحدود الله ظلم عظيم؛ يؤخذ من حصر الظلم في تعديها، ومن الإتيان به في الجملة الاسمية الخبرية: { فأولئك هم الظالمون }.
21 - ومنها: جواز الطلاق الثلاث المتفرق؛ لقوله تعالى: { الطلاق مرتان } إلى أن قال: { فإن طلقها } يعني الثالثة؛ فهنا لا شك أن الطلاق متفرق؛ لأنه تعالى قال: { الطلاق مرتان }؛ ثم أدخل الفداء بينهما، وبين الطلاق الثالث؛ فدل هذا على أنه طلاق متفرق؛ وهذا جائز بالإجماع؛ أما إذا جمع الثلاث جميعاً في دفعة واحدة، مثل أن يقول: «أنت طالق ثلاثاً»، أو «أنت طالق طالق طالق» يريد الثلاث؛ أو «أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق»؛ فقد اختلف أهل العلم في جواز ذلك؛ فمنهم من قال بإباحته، ونفوذه - فتبين به المرأة بينونة كبرى -؛ ومنهم من قال بتحريمه، ونفوذه؛ ومنهم من قال بتحريمه، ويقع واحدة؛ ومنهم من قال بتحريمه، وأنه لا يقع لا واحدة، ولا أكثر؛ فإذاً الأقوال أربعة؛ والصحيح أنه حرام، وأنه لا يقع إلا واحدة؛ وهذا هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وعليه يدل الكتاب، والسنة؛ لأنه لا تقع البينونة إلا إذا طلقها بعد طلاق مرتين؛ والطلاق مرتين لا يكون إلا إذا كان بينهما رجعة، أو عقد؛ أما أن يرسل طلاقاً بعد طلاق فهذا ليس بشيء.
القران
)فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (البقرة:230
التفسير:
{ 230 } قوله تعالى: { فإن طلقها } أي المرة الثالثة بعد المرتين؛ { فلا تحل له } أي فلا تحل المطلقة بعد الثالثة للزوج المطلق { حتى تنكح زوجاً غيره } أي يعقد عليها بنكاح صحيح؛ وقال بعض العلماء: أي حتى تطأ؛ وهذا لا شك لا يصح؛ لأن المرأة لا تطأ.
قوله تعالى: { فإن طلقها } أي الزوج الثاني؛ { فلا جناح عليهما } أي فلا إثم على الزوج الأول، وزوجته المطلقة من الزوج الثاني { أن يتراجعا } أي يرجع أحدهما إلى الآخر بعقد جديد؛ { إن ظنا } أي الزوج الأول، وزوجته؛ { أن يقيما حدود الله } أي ما أوجبه الله على كل منهما من المعاشرة بالمعروف.
قوله تعالى: { وتلك حدود الله }: المشار إليه ما سبق من الأحكام؛ و{ حدود الله } أي أحكامه التي حدها لعباده؛ { يبينها } أي يوضحها الله عزّ وجلّ، ويظهرها؛ فكل الحدود التي يريدها الله من العباد قد بينها بياناً كاملاً؛ والبيان يكون بالكتاب، ويكون بالسنة؛ فما لا يوجد في كلام الله يوجد في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وما لا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسوله (ص) نصاً بعينه فإنه يوجد بمعناه؛ وذلك بالقياس الصحيح الذي يتساوى فيه الأصل، والفرع في العلة فيلحق هذا بهذا؛ فبيان الله تعالى للحدود متنوع.
قوله تعالى: { لقوم يعلمون } أي لقوم ذوي استعداد، وقبول للعلم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: تحريم المطلقة ثلاثاً على مطلقها حتى تتزوج؛ لقوله تعالى: { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }.
2 - ومنها: أن نكاح الزوج الثاني على وجه لا يصح لا تحل به للأول؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }؛ ولا يكون زوجاً إلا بعقد صحيح؛ ولذلك لو تزوجها الثاني بنية تحليلها للأول فنكاحه غير صحيح؛ فلا تحل به للأول.
3 - ومنها: حلها للزوج الأول بعد مفارقة الثاني لها؛ لقوله تعالى: { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}؛ وظاهر الآية الكريمة أنها تحل للأول بمجرد عقد الثاني عليها، ومفارقته لها؛ لكن السنة بينت أنه لا بد من وطء الثاني وطأً تاماً بانتشار؛ وذلك أن امرأة رفاعة القرظي بانت منه بالثلاث؛ فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير - بفتح الزاي، وكسر الباء -؛ ولم يكن يقدر على الجماع؛ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني، فَبَتَّ طلاقي، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ولم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب، وقالت بثوبها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك»(1).
4 - ومن فوائد الآية: أن الزوجة المطلقة ثلاثاً لو وطئت بملك اليمين فإنها لا تحل للزوج الأول؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }؛ مثال ذلك: امرأة مملوكة لشخص وقد تزوجها شخص آخر، فطلقها الزوج الآخر، ثم انقضت عدتها، وجامعها سيدها بحكم ملك اليمين، ثم أراد زوجها الأول أن يتزوجها فلا يمكن أن يتزوجها؛ لقوله تعالى: { حتى تنكح زوجاً غيره }.
5 - ومنها: إطلاق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا }؛ والمعروف عند الفقهاء أن الرجعة إعادة مطلقة غير بائن إلى عصمة زوجها؛ هذه هي الرجعة عندهم؛ لكن هذا اصطلاح خاص؛ أما في القرآن فتطلق المراجعة على عقد النكاح؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا }؛ هذا وقد قسم بعض أهل العلم المراجعة شرعاً إلى ثلاثة أقسام؛ فقالوا: قد يراد بها العقد؛ وقد يراد بها إعادة المطلقة رجعياً إلى عصمة زوجها، كما في اصطلاح الفقهاء؛ وقد يراد بالمراجعة أن تعاد المرأة إلى عصمة زوجها بدون طلاق، كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - حين طلق امرأته وهي حائض؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «مُرْه فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس»(1)؛ فالمراد بقوله (ص): «فليراجعها» أن يردها إلى عصمته، ويلغي الطلاق، كما لو تبايع رجلان على عقد فاسد، وقلت لهما: «تراجعا» أي راجعا العقد، أو ألغياه؛ فالمراد بالمراجعة في حديث ابن عمر إلغاء الطلاق على القول الصحيح - وإن كان الجمهور على أنها مراجعة مطلقة حسب اصطلاح الفقهاء -.
6 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز أن يتراجع الزوجان حتى يغلب على ظنهما أن يقيما حدود الله؛ أي أن يقوم كل منهما بمعاشرة الآخر بما يجب عليه؛ لقوله تعالى: { فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله } وجه ذلك: أنهما إذا تراجعا بغير هذا الشرط صار هذا العقد عبئاً، وعناءً، وتعباً، وخسارة مالية؛ لأنهما لا يضمنان أن يرجعا إلى الحال الأولى.
7 - ومنها: الاكتفاء بالظن في الأمور المستقبلة؛ لأن طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يطاق؛ لقوله تعالى: { إن ظنا أن يقيما حدود الله }؛ وقد قال الله - تبارك وتعالى -: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286] ، فقال: «قد فعلت»(2).
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة مهمة: وهي إذا حلف الإنسان على المستقبل بناءً على غلبة الظن، فتبين بخلافه فلا كفارة فيه؛ لأنه يحلف على ما في نفسه، وعلى ظنه؛ وهذا القول هو الراجح؛ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
8 - ومن فوائد الآية: عناية الله سبحانه وتعالى بعباده في بيان ما يجب عليهم في عبادتهم، وفي معاملة بعضهم لبعض حتى لا تحصل الفوضى المؤدية إلى النزاع الذي قد يصل إلى القتال.
9 - ومنها: أنه إذا لزم من فعل المباح شيء محرم صار الشيء المباح حراماً؛ لأن رجوع الزوجة حلال في الأصل؛ فإذا لم يظن الإنسان أنه يقوم بالحدود صار حراماً؛ وهو في الأصل حلال؛ وعلى هذا فنقول: إذا استلزم العقد إبطالاً لواجب، أو وقوعاً في محرم صار ذلك حراماً؛ وهي في مسائل كثيرة؛ منها: لو تبايع رجلان تلزمهما الجمعة بعد ندائها الثاني: فالبيع حرام، والعقد باطل؛ لأنه وقوع فيما حرم الله عزّ وجلّ.
10 - ومنها: أنه لا يعرف هذه الحدود، ويتبينها إلا من كان من ذوي العلم؛ فكلما كان أعلم كانت الحدود في حقه أبين وأظهر؛ فطالب العلم يتعلم من اللفظ مسائل أخرى؛ فالعلم يغذي بعضه بعضاً؛ وطالب العلم رابح بكل حال؛ فهو ليس كطالب المال قد يشتري السلعة وهو يظن الربح، ثم يخسر؛ فطالب العلم أيّ مسألة يعلمها فإنها مفتاح له؛ ولهذا قال تعالى: { يبينها لقوم يعلمون }.
11 - ومن فوائد الآية: أنه لا شيء في دين الله يكون مجهولاً لكل أحد؛ لا من العبادات، ولا من المعاملات؛ فكل شيء مبيَّن؛ فإن قيل: هناك أشياء تشكل على أهل العلم، ولا يعرفون حكمها؟
فالجواب: أن الخلل هنا ليس في النص؛ ولكنه فيمن يستنبط الأحكام من النص؛ فقد يكون لنقص في علمه، أو قصور في فهمه، أو عدوان في قصده؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ مبلغ أوعى من سامع»(3)؛ وقد يكون الخلل في إعراض الإنسان عن التدبر، وبذْل الاجتهاد، وطلبِ الحق؛ وقد يكون عند الإنسان علم، وفهم، وجلد، وتدبر؛ لكن هناك ذنوباً تحول بينه، وبين وصوله للحق، كما في قوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 13، 14] ؛ لأن المعاصي تُظلم القلب؛ وإذا أظلم القلب لا يستنير؛ وكيف يتبين له الحق وهو مظلم؟! ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً} [النساء: 105] ، ثم قال تعالى: {واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً} [النساء: 106أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أنه ينبغي لمن سئل عن علم أن يستغفر الله عزّ وجلّ حتى تزول عنه الذنوب باستغفاره، ويتبين له الحق؛ وعلى هذا فنقول: إن جميع الأحكام التي تتعلق بالعبادات، أو المعاملات قد بينها الله لكن العيب عيب المستدل؛ فالأدلة واضحة كافية؛ لكن المستدل قد تخفى عليه الأحكام للأسباب التي ذكرناها، وغيرها.
ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى: وهي غلط من قال: «إن النصوص لم تستوعب جميع الأحكام، وأننا محتاجون إلى العقول في الأحكام»؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: { يبينها لقوم يعلمون }؛ فالنصوص كافية من كل ناحية.
12 - ومن فوائد الآية: أن كل ما خالف شريعة الله فليس من أحكام الله؛ لقوله تعالى: { يبينها }.
13 - ومنها: أن الخلع ليس بطلاق؛ لقوله تعالى: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] ، ثم قال تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] ، ثم قال تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له } الآية؛ ولو كان الخلع طلاقاً لكان قوله تعالى: { فإن طلقها } هي الطلقة الرابعة؛ وهذا خلاف إجماع المسلمين؛ لأن المرأة تبين بالطلاق الثلاث بإجماعهم؛ وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخلع إذا وقع بلفظ الطلاق صار طلاقاً؛ واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن الخلع فسخ بأي لفظ كان - ولو بلفظ الطلاق -، وقال: إن هذا هو ظاهر الآية؛ لأنه تعالى قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت} ؛ ولم يذكر صيغة معينة؛ لأنه إنما يعتبر في العقود بمعانيها لا بألفاظها؛ فما دام هذا الطلاق الذي وقع من الزوج إنما وقع بفداء من المرأة افتدت نفسها به - فهذا لا يمكن أن نعده طلاقاً ولو وقع بلفظ الطلاق؛ وما ذكره رحمه الله فإنه منظور فيه إلى المعنى؛ وما قاله غيره - من أنه إذا وقع بلفظ الطلاق كان طلاقاً - فقد نظر فيه إلى اللفظ؛ ولا ريب أن من تأمل الشريعة وجد أنها تعتني بالمعنى أكثر من الاعتناء باللفظ؛ أما الألفاظ فهي قوالب للمعاني؛ وأنت إذا ألبست المرأة ثوب رجل لا تكون رجلاً؛ كما أنك إذا ألبست رجلاً ثوب امرأة لم يكن امرأة؛ فالألفاظ عبارة عن قوالب تدل على ما وراءها؛ فإذا صار المعنى هو التخلص من الزوج بهذا الفداء فكيف يحسب طلاقاً؟!
14 - ومن فوائد الآية: تعظيم شأن النكاح بأن الله ذكر له حدوداً في عقده، وفي حله؛ لأنه يترتب عليه مسائل كثيرة من المحرمية، والنسب، والميراث، وغير ذلك - كحقوق الزوجية -؛ ولهذا اشترط فيه أن يكون بِوَلي؛ فالمرأة تستطيع أن تبيع كل مالها؛ لكن لا تستطيع أن تزوج نفسها، كما اشترط فيه الإشهاد على رأي كثير من أهل العلم؛ وكل العقود لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً اشترط فيه الإعلان على رأي بعض أهل العلم؛ والعقود الأخرى لا يشترط فيها ذلك؛ وأيضاً أنه لا يصلح العقد في بعض الأحوال، والأزمان؛ وهذا يشاركه فيه بعض العقود؛ وكل ذلك من باب الأهمية في هذا العقد العظيم الذي تترتب عليه هذه الأمور الكبيرة.
القرآن
)وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة:231)
التفسير:
{ 231 } قوله تعالى: { وإذا طلقتم النساء }: الخطاب هنا لعامة الناس؛ أي إذا طلق الأزواج نساءهم؛ { فبلغن أجلهن }: قال بعض العلماء: المراد قاربن بلوغ أجلهن؛ لأنها إذا بلغت الأجل انتهت العدة؛ ولا إمساك حينئذ؛ ولكن الصحيح أن المراد ببلوغ أجلهن حقيقة بلوغ الأجل؛ وذلك بطهرها من الحيضة الثالثة؛ { فأمسكوهن بمعروف } أي ردوه