القرآن
{ )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:208)
التفسير:
{ 208 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: الخطاب للمؤمنين؛ وقد تَقدم أن الله تعالى إذا ابتدأ الحكم بالنداء فهو دليل على العناية به؛ لأن المقصود بالنداء تنبيه المخاطب؛ ولا يتطلب التنبيه إلا ما كان مهماً؛ فعندما أقول: «انتبه» يكون أقل مما لو قلت: «يا فلان انتبه»؛ ثم إذا كان الخطاب للذين آمنوا فإن في ذلك ثلاث فوائد سبق ذكرها(1).
قوله تعالى: { ادخلوا في السلم كافة }؛ { السلم } فيها قراءتان: بفتح السين؛ وبكسرها؛ والمراد به الإسلام؛ وهو الاستسلام لله - تعالى - ظاهراً، وباطناً.
فإن قال قائل: كيف يقول: { ادخلوا في السلم } ونحن قد عرفنا من قبل أن الإيمان أكمل من الإسلام؛ لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}؟ [الحجرات: 14]، قلنا: إن هذا الأمر مقيد بما بعد قوله: { في السلم }؛ وهو قوله تعالى: { كافة }؛ فيكون الأمر هنا منصباً على قوله تعالى: { كافة }؛ و{ كافة } اسم فاعل يطلق على من يكف غيره؛ فتكون التاء فيه للمبالغة، مثل: راوية، ساقية، علامة... وما أشبه ذلك؛ والتاء في هذه الأمثلة للمبالغة؛ فيكون { كافة } بمعنى كافاً؛ والتاء للمبالغة؛ قالوا: ومنه قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} [سبأ: 28]، أي كافاً لهم عمَّا يضرهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور.
وتأتي «كافة» بمعنى جميع، مثل «عامة»، كقوله (ص): «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»(2)؛ ووجه ارتباطها بالمعنى الأصلي - الذي هو الكف - أن الجماعة لها شوكة ومنعة تكف بجمعيتها من أرادها بسوء؛ وهنا قال تعالى: { ادخلوا في السلم كافة } هل المراد ادخلوا في السلم جميعه، فتكون { كافة } حالاً من { السلم }؛ أو ادخلوا أنتم جميعاً في السلم، وتكون { كافة } حالاً من الواو في قوله تعالى: { ادخلوا }؟ الأقرب: المعنى الأول؛ لأننا لو قلنا بالمعنى الثاني: ادخلوا جميعاً في السلم صار معنى ذلك أن بعض المؤمنين لم يدخل في الإسلام؛ وحينئذ فلا يصح أن يوجه إليه النداء بوصف الإيمان؛ فالمعنى الأول هو الصواب أن { كافة } حال من { السلم } يعني ادخلوا في الإسلام كله؛ أي نفذوا أحكام الإسلام جميعاً، ولا تدعوا شيئاً من شعائره، ولا تفرطوا في شيء منها؛ وهذا مقتضى الإيمان؛ فإن مقتضى الإيمان أن يقوم الإنسان بجميع شرائع الإسلام.
قوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ نهي بعد أمر؛ لأن اتباع خطوات الشيطان يخالف الدخول في السلم كافة؛ و{ خطوات } جمع خُطوة؛ و«الخطوة» في الأصل هي ما بين القدمين عند مدِّهما في المشي.
قوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }: الجملة تعليلية مؤكدة بـ «إن» ؛ فتفيد شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ والعدو من يبتغي لك السوء؛ وهو ضد الوليّ؛ و{ مبين } أي بيِّن العداوة؛ ويجوز أن تكون بمعنى مظهر للعداوة؛ لأن «أبان» الرباعية تصلح للمعنيين؛ ولا شك أن الشيطان بيِّن العداوة؛ ومظهر لعداوته؛ ألا ترى إلى إبائه السجود لأبينا آدم مع أن الله أمره به في جملة الملائكة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضل الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ لأن هذا النداء تشريف وتكريم.
2 - ومنها: أن الإيمان مقتض لامتثال الأمر؛ لأن الله صدَّر الأمر بهذا النداء؛ والحكم لا يقرن بوصف إلا كان لهذا الوصف أثر فيه؛ وهذه الفائدة مهمة؛ ولا شك أن الإيمان يقتضي امتثال أمر الله عزّ وجلّ.
3 - ومنها: وجوب تطبيق الشرع جملة، وتفصيلاً؛ لقوله تعالى: { ادخلوا في السلم كافة }.
4 - ومنها: أن الإنسان يؤمر بالشيء الذي هو متلبس به باعتبار استمراره عليه، وعدم الإخلال بشيء منه؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة }؛ ومثل هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله} [النساء: 136] يعني: استمروا على ذلك.
5 - ومنها: تحريم اتباع خطوات الشيطان؛ لقوله تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }؛ والمعنى: أن لا نتبع الشيطان في سيره؛ لأن الله بين في آية أخرى أن الشيطان يأمر بالفحشاء، والمنكر؛ وما كان كذلك فإنه لا يمكن لعاقل أن يتبعه؛ فلا يرضى أحد أن يتبع الفحشاء والمنكر؛ وأيضاً الشيطان لنا عدو، كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو} [فاطر: 6] ، ثم قال تعالى: { فاتخذوه عدواً }؛ ولا أحد من العقلاء يتبع عدوه؛ إذا كان الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، وكان عدواً لنا، فليس من العقل - فضلاً عن مقتضى الإيمان - أن يتابعه الإنسان في خطواته -؛ وخطوات الشيطان بيَّنها الله عزّ وجلّ: يأمر بـ «الفحشاء» - وهي عظائم الذنوب؛ و «المنكر» - وهو ما دونها من المعاصي؛ فكل معصية فهي من خطوات الشيطان؛ سواء كانت تلك المعصية من فعل المحظور، أو من ترك المأمور، فإنها من خطوات الشيطان؛ لكن هناك أشياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها من فعل الشيطان، ونص عليها بعينها، مثل: الأكل بالشمال(1)، والشرب بالشمال(2)، والأخذ بالشمال، والإعطاء بالشمال(3)؛ وكذلك الالتفات في الصلاة اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد(4)؛ فهذه المنصوص عليها بعينها واضحة؛ وغير المنصوص عليها يقال فيها: كل معصية فهي من خطوات الشيطان.
6 - ومن فوائد الآية: تحريم التشبه بالكفار؛ لأن أعمال الكفار من خطوات الشيطان؛ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر؛ ولا أنكر من الكفر - والعياذ بالله -.
7 - ومنها: شدة عداوة الشيطان لبني آدم؛ لقوله تعالى: { إنه لكم عدو مبين }.
8 - ومنها: أنه لا يمكن أن يأمرنا الشيطان بخير أبداً؛ إذ إن عدوك يسره مساءتك، ويغمه سرورك؛ ولهذا قال تعالى في آية أخرى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} [فاطر: 6] .
9 - ومنها: قرن الحكم بعلته؛ لقوله تعالى: { لا تتبعوا خطوات الشيطان } ثم علل: { إنه لكم عدو مبين }.
ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي لمن أتى بالأحكام أن يقرنها بالعلل التي تطمئن إليها النفس؛ فإن كانت ذات دليل من الشرع قرنها بدليل من الشرع؛ وإن كانت ذات دليل من العقل، والقياس قرنها بدليل من العقل، والقياس؛ وفائدة ذكر العلة أنه يبين سمو الشريعة وكمالها؛ وأنه تزيد به الطمأنينة إلى الحكم؛ وأنه يمكن إلحاق ما وافق الحكم في تلك العلة.
القرآن
)فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:209)
التفسير:
{ 209 } قوله تعالى: { فإن زللتم } قال بعض العلماء: أي عدلتم؛ وقال آخرون: أي ملتم؛ والمعنى متقارب؛ لأن العادل عن الشيء زال عنه.
قوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }؛ { البينات } صفة لموصوف محذوف - أي الآيات البينات -؛ وسمى الله ذلك زللاً؛ لأن في الميل، والعدول عن الحق هلكة، مثل لو زلّ الإنسان، وسقط في بئر مثلاً.
قوله تعالى: { فاعلموا أن الله عزيز حكيم }: هذا جواب الشرط؛ والمراد بالعلم أن نحذر ممن له العزة.
وذكر أهل العلم أن «العزيز» له ثلاثة معانٍ: عزة قدْر؛ وعزة قهر؛ وعزة امتناع؛ فعزة القدر - أي أنه عزّ وجلّ عظيم القدر -؛ لقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة...} [الزمر: 67] الآية؛ أما عزة القهر فمعناها الغلبة - أي أنه سبحانه وتعالى غالب لا يغلبه شيء -؛ وهذا أظهر معانيها؛ وأما عزة الامتناع فمعناها أنه يمتنع أن يناله السوء - مأخوذ من قولهم: «أرض عزاز» أي قوية صلبة لا تؤثر فيها الأقدام -؛ وأما «الحكيم» أي ذو الحكم، والحكمة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الوعيد على من زلّ بعد قيام الحجة عليه؛ لقوله تعالى: { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات }؛ فإن قيل: من أين يأتي الوعيد؟ قلنا: من قوله تعالى: { فاعلموا أن الله عزيز حكيم }؛ لأن من معاني «العزة» الغلبة، والقهر؛ و «الحكمة» : تنزيل الشيء في مواضعه؛ فإذا كان هناك غلبة وحكمة، فالمعنى: أنه سينزِّل بكم ما تتبين به عزته؛ لأن هذا هو مقتضى حكمته.
2 - ومنها: أن الله تعالى أقام البينات بالعباد؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }.
3 - ومنها: أنه لا تقوم الحجة على الإنسان، ولا يستحق العقوبة إلا بعد قيام البينة؛ لقوله تعالى: { من بعد ما جاءتكم البينات }؛ ولهذا شواهد كثيرة من الكتاب والسنة تدل على أن الإنسان لا حجة عليه حتى تقوم عليه البينة.
4 - ومنها: وجوب الإيمان بأسماء الله، وما تضمنته من صفات؛ لقوله تعالى: { فاعلموا } علم اعتراف، وإقرار، وقبول، وإذعان؛ فمجرد العلم لا يكفي؛ ولهذا فإن أبا طالب كان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه رسول الله؛ لكنه لم يقبل، ولم يذعن؛ فلهذا لم ينفعه إقراره؛ فالإيمان ليس مجرد اعتراف بدون قبول وإذعان.
5 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله - وهما «العزيز» ، و «الحكيم» -؛ وإثبات ما تضمناه من صفة - وهي العزة، والحُكم، والحكمة.
القرآن
)هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (البقرة:210)
التفسير:
210 } قوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله }: الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ و{ ينظرون } بمعنى ينتظرون؛ أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون الذين زلوا بعد ما جاءتهم البينات؛ وتأتي بمعنى النظر بالعين؛ فإن عديت بـ«إلى» فهي للنظر بالعين؛ وإن لم تعدّ فهي بمعنى الانتظار؛ مثال المعداة بـ«إلى» قوله تعالى: {لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم} [آل عمران: 77] .
وقوله تعالى: { إلا أن يأتيهم الله } أي يأتيهم الله نفسه؛ هذا ظاهر الآية، ويجب المصير إليه؛ لأن كل فعل أضافه الله إليه فهو له نفسه؛ ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل من عند الله.
قوله تعالى: { في ظلل من الغمام }؛ { في } معناها «مع»؛ يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل؛ وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية؛ لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عزّ وجلّ؛ والله أعظم، وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته؛ ونظير ذلك أن نقول: جاء فلان في الجماعة الفلانية أي معهم -؛ وإن كان هذا التنظير ليس من كل وجه؛ لأن فلاناً يمكن أن تحيط به الجماعة؛ ولكن الله لا يمكن أن يحيط به الظلل؛ وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجيء الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] ؛ فالسماء تشقق - لا تنشق - كأنها تنبعث من كل جانب؛ وقيل إن { في } بمعنى الباء؛ فتكون كقوله تعالى: {ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52] ؛ وهذا قول باطل لمخالفته ظاهر الآية؛ و{ الغمام }: قالوا: إنه السحاب الأبيض الرقيق؛ لكن ليس كسحاب الدنيا؛ فالاسم هو الاسم؛ ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة - وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم - إلا أنها تختلف مثلما تختلف الدنيا عن الآخرة.
قوله تعالى: { والملائكة } بالرفع عطفاً على لفظ الجلالة؛ يعني: وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم، كما قال الله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً * وجاء ربك والملك صفاً صفاً} [الفجر: 21، 22] ؛ وفي حديث الصور الطويل الذي ساقه ابن جرير، وغيره(1) أن السماء تشقق؛ فتشقق السماء الدنيا بالغمام، وتنزل الملائكة، فيحيطون بأهل الأرض، ثم السماء الثانية، والثالثة، والرابعة...؛ كل من وراء الآخر؛ ولهذا قال تعالى: {صفاً صفاً} [الفجر: 22] يعني صفاً بعد صف؛ ثم يأتي الرب عزّ وجلّ للقضاء بين عباده؛ ذلك الإتيان الذي يليق بعظمته وجلاله؛ ولا أحد يحيط علماً بكيفيته؛ لقوله تعالى: {ولا يحيطون به علماً} [طه: 110] ؛ وقد تقدم الكلام على الملائكة عند قوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ؛ وبيَّنا أن الملائكة عالم غيبي مخلوقون من نور خلقهم الله عزّ وجلّ لعبادته يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
قوله تعالى: { وقضي الأمر }: اختلف فيها المعربون؛ فمنهم من قال: إنها معطوفة على: { أن يأتيهم فتكون في حيّز الأمر المنتظر بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؛ وإلا أن يقضى الأمر؛ ولكنه أتى بصيغة الماضي لتحقق وقوعه؛ وعلى هذا فيكون محل الجملة النصب؛ لأن «تأتيهم الملائكة» منصوبة - يعني: هل ينظرون إلا إتيانَ الله في ظلل من الغمام، وإتيانَ الملائكة، وانقضاءَ الأمر -؛ ومنهم من قال: إنها جملة مستأنفة؛ أي: وقد انتهى الأمر، ولا عذر لهم بعد ذلك، ولا حجة لهم؛ و{ الأمر } بمعنى الشأن؛ أي قضي شأن الخلائق، وانتهى كل شيء، وصار أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة؛ ولهذا قال بعده: { وإلى الله ترجع الأمور }؛ وفي { ترجع } قراءتان؛ الأولى: بفتح التاء، وكسر الجيم؛ والثانية: بضم التاء، وفتح الجيم؛ والمتعلِّق هنا مقدم على المتعَلَّق به؛ لأن { إلى الله } متعلق بـ{ ترجع }؛ وتقديم المعمول يفيد الحصر، والاختصاص؛ أي إلى الله وحده لا إلى غيره ترجع الأمور - أمور الدنيا والآخرة - أي شؤونهما كلها: الدينية، والدنيوية، والجزائية، وكل شيء، كما قال الله تعالى: {وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] فالأمور كلها ترجع إلى الله عزّ وجلّ؛ ومنها أن الناس يرجعون يوم القيامة إلى ربهم، فيحاسبهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وعيد هؤلاء بيوم القيامة؛ لقوله تعالى: { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام... } إلخ.
2 - ومنها: أن الله تعالى لا يعذب هذه الأمة بعذاب عام؛ لأن الله جعل وعيد المكذبين يوم القيامة؛ ويدل لذلك آيات، وأحاديث؛ منها قول الله - تبارك وتعالى -: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46] ، وقوله (ص): «أنه سأل ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأجابه»(2).
3 - ومنها: إثبات إتيان الله عزّ وجلّ يوم القيامة للفصل بين عباده؛ وهو إتيان حقيقي يليق بجلاله لا تُعلَم كيفيته، ولا يسأل عنها - كسائر صفاته -؛ قال الإمام مالك - رحمه الله - وقد سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» ؛ هذا وقد ذهب أهل التعطيل إلى أن المراد بإتيان الله: إتيان أمره؛ وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وصرف للكلام عن ظاهره بلا دليل إلا ما زعموه دليلاً عقلياً وهو في الحقيقة وهمي، وليس عقلياً؛ فنحن نقول: الذي نسب فعل الإتيان إليه هو الله عزّ وجلّ؛ وهو أعلم بنفسه؛ وهو يريد أن يبين لعباده، كما قال تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} [النساء: 176] ؛ وإذا كان يريد أن يبين، وهو أعلم بنفسه، وليس في كلامه عِيٌّ، وعجز عن التعبير بما أراد؛ وليس في كلامه نقص في البلاغة؛ إذاً فكلامه في غاية ما يكون من العلم؛ وغاية ما يكون من إرادة الهدى؛ وغاية ما يكون من الفصاحة، والبلاغة؛ وغاية ما يكون من الصدق؛ فهل بعد ذلك يمكن أن نقول: إنه لا يراد به ظاهره؟! كلا؛ لا يمكن هذا إلا إذا قال الله هو عن نفسه أنه لم يرد ظاهره؛ إذاً المراد إتيان الله نفسه؛ ولا يعارض ذلك أن الله قد يضيف الإتيان إلى أمره، مثل قوله تعالى: {أتى أمر الله} [النحل: 1] ، ومثل قوله تعالى: {أو يأتي أمر ربك} [النحل: 33] ؛ لأننا نقول: إن هذا من أمور الغيب؛ والصفات توقيفية؛ فنتوقف فيها على ما ورد؛ فالإتيان الذي أضافه الله إلى نفسه يكون المراد به إتيانه بنفسه؛ والإتيان الذي أضافه الله إلى أمره يكون المراد به إتيان أمره؛ لأنه ليس لنا أن نقول على الله ما لا نعلم؛ بل علينا أن نتوقف فيما ورد على حسب ما ورد.
4 - ومن فوائد الآية: إثبات الملائكة.
5 - ومنها: إثبات عظمة الله عزّ وجلّ في قوله تعالى: { في ظلل من الغمام }؛ فـ{ ظلل } نكرة تدل على أنها ظلل عظيمة، وكثيرة؛ ولهذا جاء في سورة الفرقان: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25] يعني تثور ثوراناً بهذا الغمام العظيم من كل جانب؛ كل هذا مقدمة لمجيء الجبار سبحانه وتعالى؛ وهذا يفيد عظمة الباري سبحانه وتعالى.
6 - ومنها: أن الملائكة أجسام خلافاً لمن زعم أن الملائكة قوى الخير، وأنهم أرواح بلا أجسام؛ والرد على هذا الزعم في القرآن والسنة كثير.
7 - ومنها: أن يوم القيامة به ينقضي كل شيء؛ فليس بعده شيء؛ إما إلى الجنة؛ وإما إلى النار؛ فلا أمل أن يستعتب الإنسان إذا كان من أهل النار ليكون من أهل الجنة؛ لكنه أتى بصيغة ما لم يسم فاعله لعظمة هذا الأمر؛ وهذا كقوله تعالى: {وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين} [هود: 44] .
8 - ومنها: أن الأمور كلها ترجع إلى الله وحده؛ لقوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور } أي الأمور الكونية، والشرعية؛ قال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} [الشورى: 10] ، وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} [يوسف: 40] ؛ فالأمور كلها مرجعها إلى الله - تبارك وتعالى -؛ وما ثبت فيه أنه يرجع فيه إلى الخلق فإنما ذلك بإذن الله؛ فالحكم بين الناس مرجعه القضاة؛ لكن كان القضاة مرجعاً للناس بإذن الله تعالى.
9 - ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله - أي أنه يحدث من أفعاله ما شاء -؛ لقوله تعالى: { إلا أن يأتيهم الله }؛ وهذا مذهب السلف الصالح خلافاً لأهل التحريف والتعطيل الذين ينكرون هذا النوع، ويحرفونه إلى معان قديمة لمنعهم قيام الأفعال الاختيارية بالله عزّ وجلّ؛ ومذهبهم باطل بالسمع، والعقل؛ فالنصوص المثبتة لذلك لا تكاد تحصى؛ والعقل يقتضي كمال من يفعل ما يشاء متى شاء، وكيف شاء.
10 - ومن فوائد الآية: عظمة الله، وتمام سلطانه، وملكه؛ لقوله تعالى: { وإلى الله ترجع الأمور }.
القرآن
)سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:211)
التفسير:
{ 211 } قوله تعالى: { سل } أصلها اسأل؛ فنقلت حركة الهمزة إلى السين، ثم حذفت تخفيفاً؛ ثم حذفت همزة الوصل لعدم الحاجة إليها؛ و{ كم } استفهامية علقت الفعل { سل } عن العمل؛ فصارت هي، وجملتها في محل نصب؛ وأصله سل فلاناً عن كذا، وكذا؛ فعلقت الفعل عن المفعول الثاني؛ و{ كم } تحتاج إلى مميِّز؛ لأن { كم } اسم مبهم تدل على عدد؛ والمعدود: قوله تعالى: { من آية بينة }؛ و {آتينا} أي أعطينا؛ وهي تنصب مفعولين؛ المفعول الأول: الهاء؛ والمفعول الثاني: محذوف؛ والتقدير: كم من آية بينة آتيناهموها؛ وعاد الضمير المحذوف إلى متأخر لفظاً؛ لأنه متقدم رتبة؛ إذ { من آية } كان حقها أن تكون بعد { كم }؛ وجملة: { ومن يبدل... } شرطية؛ و{ مَن } اسم شرط جازم؛ ولهذا جزمت الفعل؛ وجوابه مفهوم من قوله تعالى: { فإن الله شديد العقاب }؛ فالجملة هنا دالة على الجواب، وليست هي الجواب؛ لأن شدة عقاب الله ثابتة سواء بدلوا، أم لم يبدلوا.
قوله تعالى: { سل بني إسرائيل }؛ الخطاب هل هو للرسول وحده؛ أو لكل من يتأتى خطابه؟ مثل هذه الخطابات تارة يقوم الدليل على أنها خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون خاصة به؛ وتارة يقوم الدليل على أنها عامة له، ولغيره، فتكون عامة؛ وتارة لا يقوم الدليل على هذا، ولا على هذا؛ فالظاهر أنها عامة؛ لأن القرآن نزل للأمة إلى يوم القيامة؛ فمن أمثلة ما قام الدليل على أنها للرسول (ص) قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك * ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك} [الشرح: 1 - 4]؛ ومثال الذي قام الدليل على أنها عامة قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] ؛ فقال تعالى: {يا أيها النبي} ؛ ولكن أمر بحكم عام، فقال تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن} ؛ وأما المحتمل فهو كثير في القرآن؛ ومنه هذه الآية.
وقوله تعالى: { سل }: أي سؤال توبيخ، وتبكيت؛ لإقامة الحجة عليهم ببيان نعم الله التي كان حقه عليهم أن يشكروها، ولكن بدلوها كفراً؛ وإلا فالظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بما آتاهم الله من الآيات البينات؛ و{ بني إسرائيل } أي بني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ والمراد من ينتمي إليه؛ لا أبناء صلبه خاصة.
قوله تعالى: { كم آتيناهم من آية بينة }؛ { كم } هذه تكثيرية - أي أعطيناهم آيات كثيرة -؛ والإيتاء هنا يشمل الإيتاء الشرعي، والإيتاء القدري الكوني؛ لأنهم أوتوا آيات بينات شرعية جاءت بها التوراة؛ وأوتوا آيات بينات كونية، كالعصا، واليد؛ و «الآية» بمعنى العلامة على الشيء؛ و{ بينة } أي ظاهرة في كونها آية.
قوله تعالى: { ومن يبدل نعمة الله } أي ومن يجعل بدلها؛ والمفعول الثاني محذوف؛ تقديره: كفراً، كما يدل لذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً} [إبراهيم: 28] .
قوله تعالى: { فإن الله شديد العقاب } أي قوي الجزاء بالعقوبة؛ وسمي الجزاء عقوبة، وعقاباً؛ لأنه يقع عقب الذنب مؤاخذة به.
وقوله تعالى: { شديد العقاب } هذا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل أن تقول: حسن الوجه - يعني: ذو الوجه الحسن -؛ فهي صفة مشبهة.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: بيان كثرة ما أعطاه الله بني إسرائيل من الآيات البينة الدالة على صدق رسله؛ لقوله تعالى: { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة }.
2 - ومنها: تقريع بني إسرائيل الذين كفروا بآيات الله، وتوبيخهم؛ لأن المراد بالسؤال هنا سؤال توبيخ.
3 - ومنها: أن الآيات من نعم الله؛ لأنها تحمل المرء على الإيمان؛ وفي الإيمان نجاته، وكرامته؛ لقوله تعالى: { ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته }.
4 - ومنها: أن الآيات مبينة لما أتت دالةً عليه.
5 - ومنها: التحذير من تبديل نعمة الله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: {ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته} [البقرة: 211] ؛ والمراد: تبديل الشكر بالكفر؛ لقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً }.
6 - ومنها: إثبات شدة العقاب من الله لمن بدل نعمته بالكفر؛ وهذا من تمام عدله وحكمته.
شكرا لكم .