القرآن
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة:267)
التفسير:
{ 267 } قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }: سبق مراراً وتكراراً أن تصدير الخطاب بالنداء يدل على أهميته، والعناية به؛ لأن النداء يتضمن التنبيه؛ والتنبيه على الشيء دليل على الاهتمام به، وأن تصديره بـ{ يا أيها الذين آمنوا } يفيد عدة فوائد:
أولاً: الإغراء؛ و«الإغراء» معناه الحث على قبول ما تخاطَب به؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه»(1)؛ ولهذا لو ناديتك بوصفك، وقلت: يا رجل، يا ذكي، يا كريم. معناه: يا من توصف بهذا اجعل آثار هذا الشيء بادياً عليك.
ثانياً: أن امتثال ما جاء في هذا الخطاب من مقتضيات الإيمان؛ كأنه تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا } إن إيمانكم يدعوكم إلى كذا وكذا.
ثالثاً: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ لأنه لو حقق هذا الوصف لامتثل ما جاء في الخطاب.
قوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }: بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى فيما سبق فضيلة الإنفاق ابتغاء وجهه، وسوء العاقبة لمن منَّ بصدقته، أو أنفق رياءً، حثَّ على الإنفاق؛ لكن الفرق بين ما هنا، وما سبق: أن ما هنا بيان للذي ينفَق منه؛ وهناك بيان للذي ينَفق عليه.
وقوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم } أي مما كسبتموه بطريق حلال؛ و{ كسبتم } أي ما حصلتموه بالكسب، كالذي يحصل بالبيع والشراء، والتأجير، وغيرها؛ وكل شيء حصل بعمل منك فهو من كسبك.
قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }: قال بعضهم: إنه معطوف على { ما } في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ يعني: «ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض»؛ ولكن الصحيح الذي يظهر أنه معطوف على قوله تعالى: { طيبات }؛ يعني: «أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض»؛ لأن ما أخرج الله لنا من الأرض كله طيب ملك لنا، كما قال تعالى: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة: 29] .
وقوله: { مما }: لو قلنا: إن «مِن» للتبعيض يكون المعنى: أنفقوا بعض طيبات ما كسبتم، وبعض ما أخرجنا لكم من الأرض؛ وهناك احتمال أن «مِن» لبيان الجنس؛ فيشمل ما لو أنفق الإنسان كل ماله؛ وهذا عندي أحسن؛ لأن التي للجنس تعم القليل والكثير.
قوله تعالى: { أخرجنا لكم من الأرض } يشمل ما أخرج من ثمرات النخيل، والأعناب، والزروع، والفاكهة، والمعادن، وغير ذلك مما يجب أن ننفق منه.
قوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تقصدوا الخبيث منه فتنفقونه؛ لأن «التيمم» في اللغة: القصد؛ ومنه قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] ؛ والمراد بـ{ الخبيث } هنا الرديء؛ يعني: لا تقصدوا الرديء تخرجونه، وتبقون لأنفسكم الطيب؛ فإن هذا ليس من العدل؛ ولهذا قال تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }.
وقوله تعالى: { منه تنفقون } يحتمل في { منه } وجهان؛ أحدهما: أنها متعلقة بـ{ الخبيث } على أنها حال؛ أي الخبيث حال كونه مما أخرجنا لكم من الأرض؛ وعلى هذا يكون في { تنفقون } ضمير محذوف؛ والتقدير: تنفقونه؛ الوجه الثاني: أنها متعلقة بقوله تعالى: { تنفقون }؛ يعني: ولا تقصدوا الخبيث تنفقون منه؛ وقدمت على عاملها للحصر؛ والوجهان من حيث المعنى لا يختلفان؛ فإن معناها أن الله ينهانا أن نقصد الخبيث - وهو الرديء - لننفق منه.
قوله تعالى: { ولستم بآخذيه }: أي لستم بآخذي الرديء عن الجيد لو كان الحق لكم { إلا أن تغمضوا فيه } أي تأخذوه عن إغماض؛ و «الإغماض» أخذ الشيء على كراهيته - كأنه أغمض عينيه كراهية أن يراه.
قوله تعالى: { واعلموا أن الله غني حميد }؛ فهو لم يطلب منكم الإنفاق لفقره واحتياجه؛ { حميد }: يحتمل أن تكون بمعنى حامد؛ وبمعنى محمود؛ وكلاهما صحيح؛ لأن «فعيلاً» تأتي بمعنى فاعل؛ وبمعنى مفعول؛ إتيانها بمعنى فاعل مثل: «رحيم» بمعنى راحم؛ و«سميع» بمعنى سامع؛ وإتيانها بمعنى مفعول مثل: «قتيل»، و«جريح»، و«ذبيح»، وما أشبه ذلك؛ وهنا { حميد } تصح أن تكون بمعنى حامد، وبمعنى محمود؛ أما كون الله محموداً فظاهر؛ وأما كونه حامداً فلأنه سبحانه وتعالى يَحمَد من يستحق الحمد من عباده؛ ولهذا أثنى على أنبيائه، ورسله، والصالحين من عباده؛ وهذا يدل على أنه عز وجل حامد لمن يستحق الحمد.
ووجه المناسبة في ذكر «الحميد» بعد «الغني» أن غناه عز وجل غِنًى يحمد عليه؛ بخلاف غنى المخلوق؛ فقد يحمد عليه، وقد لا يحمد؛ فلا يحمد المخلوق على غناه إذا كان بخيلاً؛ وإنما يحمد إذا بذله؛ والله عز وجل غني حميد؛ فهو لم يسألكم هذا لحاجته إليه؛ ولكن لمصلحتكم أنتم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: فضيلة الإيمان؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا }؛ فإن هذا وصف يقتضي امتثال أمر الله؛ وهذا يدل على فضيلة الإيمان.
2 - ومنها: أن من مقتضى الإيمان امتثال أمر الله، واجتناب نهيه؛ ووجهه أن الله تعالى قال: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا }؛ فلولا أن للإيمان تأثيراً لكان تصدير الأمر بهذا الوصف لغواً لا فائدة منه.
3 - ومنها: وجوب الإنفاق من طيبات ما كسبنا؛ لقوله تعالى: { أنفقوا }؛ والأصل في الأمر الوجوب حتى يقوم دليل صارف عن الوجوب.
4 - ومنها: وجوب الزكاة في عروض التجارة؛ لقوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولا شك أن عروض التجارة كسب؛ فإنها كسب بالمعاملة.
5 - ومنها: أن المال الحرام لا يؤمر بالإنفاق منه؛ لأنه خبيث؛ والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
فإذا قال قائل: ماذا أصنع به إذا تبت؟
فالجواب أنه يرده على صاحبه إن أخذه بغير اختياره؛ فإن كان قد مات رده على ورثته؛ فإن لم يكن له ورثة فعلى بيت المال؛ فإن تعذر ذلك تصدق به عمن هو له؛ أما إذا أخذه باختيار صاحبه كالربا، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، فإنه لا يرده عليه؛ ولكن يتصدق به(1)؛ هذا إذا كان حين اكتسابه إياه عالماً بالتحريم؛ أما إن كان جاهلاً فإنه لا يجب عليه أن يتصدق به؛ لقوله تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى الله} [البقرة: 275] .
6 - ومن فوائد الآية: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }؛ ووجه الدلالة: أنه لو كان الإنسان مجبراً على عمله لم يصح أن يوجه إليه الأمر بالإنفاق؛ لأنه لا يقدر على زعم هؤلاء الجبرية؛ ولأن الله أضاف الكسب إلى المخاطَب في قوله تعالى: { ما كسبتم }؛ ولو كان مجبراً عليه لم يصح أن يكون من كسبه؛ وليعلم أن مثل هذا الدليل في الرد على الجبرية كثير في القرآن، وإنما نذكره عند كل آية لينتفع بذلك من يريد إحصاء الأدلة على هؤلاء؛ وإلا فالدليل الواحد كافٍ لمن أراد الحق .
7 - ومنها: وجوب الزكاة في الخارج من الأرض؛ لقوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ وظاهر الآية وجوب الزكاة في الخارج من الأرض مطلقاً سواء كان قليلاً، أم كثيراً؛ وسواء كان مما يوسَّق، ويكال، أم لا؛ وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم؛ وهو أن الزكاة تجب في الخارج من الأرض مطلقاً لعموم الآية؛ ولكن الصواب ما دلت عليه السنة من أن الزكاة لا تجب إلا في شيء معين جنساً، وقدراً؛ فلا تجب الزكاة في القليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»(2)؛ و «الوسق» هو الحِمل؛ ومقدار خمسة أوسق: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي.
ولا تجب الزكاة إلا فيما يكال؛ وذلك من قوله (ص): «ليس فيما دون خمسة أوسق» ؛ و «الوسق» كما ذكرت هو الحمل؛ وهو ستون صاعاً؛ وعليه فلا تجب الزكاة في الخضراوات مثل: التفاح، والبرتقال، والأترج، وشبهها، لأن السنة بينت أنه لا بد من أن يكون ذلك الشيء مما يوسق.
تنبيه:
لم يبين في الآية مقدار الواجب إنفاقه من الكسب، والخارج من الأرض؛ ولكن السنة بينت أن مقدار الواجب فيما حصل من الكسب ربع العشر؛ ومقدار الواجب في الخارج من الأرض العشر فيما يسقى بلا مؤونة؛ ونصفه فيما يسقى بمؤونة.
8 - ومن فوائد الآية: ما يتبين من اختلاف التعبير في قوله تعالى: { من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }؛ فلماذا عبر في الأول تعبيراً يدل على أن ذلك من فعل العبد؛ وفي الثاني عبر تعبيراً يدل على أنه ليس من فعل العبد؟ الأمر في ذلك واضح؛ لأن نمو التجارة بالكسب، وغالبه من فعل العبد: يبيع، ويشتري، ويكسب؛ أما ما خرج من الأرض فليس من فعل العبد في الواقع، كما قال تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63، 64] .
9 - من فوائد الآية: وجوب الزكاة في المعادن؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: { ومما أخرجنا لكم من الأرض } لكن العلماء يقولون: إن كان المعدن ذهباً أو فضة وجبت فيه الزكاة بكل حال؛ وإن كان غير ذهب، ولا فضة، كالنحاس، والرصاص، وما أشبههما ففيه الزكاة إن أعده للتجارة؛ لأن هذه المعادن لا تجب الزكاة فيها بعينها؛ إنما تجب الزكاة فيها إذا نواها للتجارة.
وهل يستفاد من الآية وجوب الزكاة في الركاز - والركاز هو ما وجد من دفن الجاهلية - أي مدفون الجاهلية؛ يعني ما وجد من النقود القديمة، أو غيرها التي تنسب إلى زمن بعيد بحيث يغلب على الظن أنه ليس لها أهل وقتَ وجودها؟ لا يستفاد؛ لكن السنة دلت على أن الواجب فيه الخمس(1)؛ ثم اختلف العلماء ما المراد بالخمس: هل هو الجزء المشاع - وهو واحد من خمسة؛ أو هو الخمس الذي مصرفه الفيء؟ على قولين؛ وبسط ذلك مذكور في كتب الفقه.
10 - ومن فوائد الآية: تحريم قصد الرديء في إخراج الزكاة؛ لقوله تعالى: { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}.
11 - ومنها: إذا ضمت هذه الآية إلى حديث ابن عباس حين بعث النبي معاذاً إلى اليمن، وقال: «إياك وكرائم أموالهم»(2)، تبين لك العدل في الشريعة الإسلامية؛ لأن العامل على الزكاة لو قصد الكرائم من الأموال صار في هذا إجحاف على أهل الأموال؛ ولو قصد الرديء صار فيه إجحاف على أهل الزكاة؛ فصار الواجب وسطاً؛ لا نلزم صاحب المال بإخراج الأجود؛ ولا نمكنه من إخراج الأردأ؛ بل يخرج الوسط.
12 - ومنها: الإشارة إلى قاعدة إيمانية عامة؛ وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(3)؛ ووجه الدلالة أن الله سبحانه وتعالى قال: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ فالإنسان لا يرضى بهذا لنفسه فلماذا يرضاه لغيره؟!! فإذا كنت أنت لو أُعطيت الرديء من مال مشترك بينك وبين غيرك ما أخذته إلا على إغماض، وإغضاء عن بعض الشيء؛ فلماذا تختاره لغيرك، ولا تختاره لنفسك؟!! وهذا ينبغي للإنسان أن يتخذه قاعدة فيما يعامل به غيره؛ وهو أن يعامله بما يحب أن يعامله به؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر؛ وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه»(4)، هذه قاعدة في المعاملة مع الناس؛ ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس اليوم لا يتعاملون فيما بينهم على هذا الوجه؛ كثير من الناس يرى أن المكر غنيمة، وأن الكذب غنيمة.
13 - ومن فوائد الآية: إثبات القياس؛ وذلك لقوله تعالى: { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }؛ يعني إذا كنت لا ترضاه لنفسك فلا ترضاه لغيرك؛ أي قس هذا بهذا.
14 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله، وما تضمناه من صفة؛ وهما «غني» و «حميد» .
القرآن
)الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:268)
التفسير:
{ 268 } قوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }؛ { الشيطان } مبتدأ؛ وخبره جملة: { يعدكم}؛ و{ يأمركم } فيها قراءتان: الضم، والسكون؛ فأما الضم فواضح؛ لأنه فعل مضارع لم يدخل عليه ناصب، ولا جازم؛ وأما السكون فللتخفيف سماعاً لا قياساً.
قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً }: هذه الجملة مقابلة لما سبقها: الفضل ضد الفقر؛ والمغفرة ضد الفحشاء؛ لأن الفحشاء تُكسب الذنوب؛ والمغفرة تمحو الذنوب؛ ففرق بين هذا، وهذا؛ والجملة مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: جملة: { يعدكم }.
قوله تعالى: { والله واسع عليم } جملة خبرية مكونة من مبتدأ، وخبر؛ المبتدأ: لفظ الجلالة: { الله }؛ والخبر: { واسع }؛ و{ عليم } خبر ثانٍ.
قوله تعالى: { الشيطان } اسم من أسماء إبليس؛ قيل: إنه مشتق من «شطن» إذا بعُد - وعلى هذا فالنون أصلية؛ وقيل: إنه مشتق من «شاط» إذا تغيظ، وغضب؛ لأن صفته هو التغيظ، والغضب، والحمق، والجهل؛ ولكن الأول أقرب: أنه من «شطن» إذا بعد؛ بدليل أنه مصروف؛ و «أل» فيه للجنس؛ فليس خاصاً بشيطان واحد.
قوله تعالى: { يعدكم الفقر } أي يهددكم الفقر إذا تصدقتم؛ وقوله تعالى: { بالفحشاء } أي البخل؛ وإنما فُسِّر بالبخل؛ لأن فحش كل شيء بحسب القرينة، والسياق؛ فقد يراد به الزنى، كقوله تعالى: { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة } [الإسراء: 32] ؛ وقد يراد به اللواط، كما في قوله تعالى عن لوط إذا قال لقومه: {أتأتون الفاحشة} [الأعراف: 80] ؛ وقد يراد به ما يستفحش من الذنوب عموماً، كقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش} [الشورى: 37] .
قوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة } أي لذنوبكم إن تصدقتم؛ { وفضلًا } أي زيادة؛ فالصدقة تزيد المال؛ لقوله تعالى: { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } [الروم: 39] ، وقوله (ص): «ما نقصت صدقة من مال»(1).
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات إغواء الشياطين لبني آدم؛ لقوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء}.
2 - ومنها: أن للشيطان تأثيراً على بني آدم إقداماً، أو إحجاماً؛ أما الإقدام: فيأمره بالزنى مثلاً، ويزين له حتى يُقْدم عليه؛ وأما الإحجام: فيأمره بالبخل، ويعده الفقر لو أنفق؛ وحينئذٍ يحجم عن الإنفاق.
3 - ومنها: أن أبواب التشاؤم لا يفتحها إلا الشياطين؛ لقوله تعالى: { يعدكم الفقر }؛ فالشيطان هو الذي يفتح لك باب التشاؤم يقول: «إذا أنفقت اليوم أصبحت غداً فقيراً؛ لا تنفق»؛ والإنسان بشر: ربما لا ينفق؛ ربما ينسى قول الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39] ، وقول رسوله (ص): «ما نقصت صدقة من مال» .
4 - ومنها: بيان عداوة الشيطان للإنسان؛ لأنه في الواقع عدو له في الخبر، وعدو له في الطلب؛ في الخبر: يعده الفقر؛ في الطلب: يأمره بالفحشاء؛ فهو عدو مخبراً، وطالباً - والعياذ بالله.
5 - ومنها: أن البخل من الفواحش؛ لأن المقام مقام إنفاق؛ فيكون المراد بالفاحشة: البخل، وعدم الإنفاق.
6 - ومنها: أن من أمر شخصاً بالإمساك عن الإنفاق المشروع؛ فهو شبيه بالشيطان؛ وكذلك من أمر غيره بالإسراف فالظاهر أنه شيطان؛ لقوله تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} [الإسراء: 27] .
7 - ومنها: البشرى لمن أنفق بالمغفرة، والزيادة؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا } ؛ شتان ما بين الوعدين: { الشيطان يعدكم الفقر }؛ { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فالله يعدنا بشيئين: المغفرة، والفضل؛ المغفرة للذنوب؛ والفضل لزيادة المال في بركته، ونمائه.
فإن قال قائل: كيف يزيد الله تعالى المنفِق فضلاً ونحن نشاهد أن الإنفاق ينقص المال حساً؛ فإذا أنفق الإنسان من العشرة درهماً صارت تسعة؛ فما وجه الزيادة؟
فالجواب: أما بالنسبة لزيادة الأجر في الآخرة فالأمر ظاهر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة؛ ومن تصدق بما يعادل تمرة من طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يربيها له حتى تكون مثل الجبل؛ وأما بالنسبة للزيادة الحسية في الدنيا فمن عدة أوجه:
الوجه الأول: أن الله قد يفتح للإنسان باب رزق لم يخطر له على بال؛ فيزداد ماله.
الوجه الثاني: أن هذا المال ربما يقيه الله سبحانه وتعالى آفات لولا الصدقة لوقعت فيه؛ وهذا مشاهد؛ فالإنفاق يقي المال الآفات.
الوجه الثالث: البركة في الإنفاق بحيث ينفق القليل، وتكون ثمرته أكثر من الكثير؛ وإذا نُزعت البركة من الإنفاق فقد ينفق الإنسان شيئاً كثيراً في أمور لا تنفعه؛ أو تضره؛ وهذا شيء مشاهد.
8 - ومنها: أن هذه المغفرة التي يعدنا الله بها مغفرة عظيمة؛ لقوله تعالى: { منه }؛ لأن عظم العطاء من عظم المعطي؛ ولهذا جاء في الحديث الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني»(1).
9 - ومنها: أنه ينبغي للمنفق أن يتفاءل بما وعد الله؛ لقوله تعالى: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلًا }؛ فإذا أنفق الإنسان وهو يحسن الظن بالله عز وجل أن الله يغفر له الذنوب، ويزيده من فضله كان هذا من خير ما تنطوي عليه السريرة.
10 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }؛ وما تضمناه من صفة؛ ويستفاد من الاسمين، والصفتين إثبات صفة ثالثة باجتماعهما؛ لأن الاسم من أسماء الله إذا قرن بغيره تضمن معنًى زائداً على ما إذا كان منفرداً مثل قوله تعالى: {فإن الله كان عفواً قديراً} [النساء: 149] ؛ فالجمع بين العفْوِ والقدرة لها ميزة: أن عفوه غير مشوب بعجز إطلاقاً؛ لأن بعض الناس قد يعفو لعجز؛ فقوله تعالى: { واسع عليم }: فالصفة الثالثة التي تحصل باجتماعهما: أن علمه واسع.
وكل صفاته واسعة؛ وهذا مأخوذ من اسمه «الواسع»؛ فعلمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وكل صفاته واسعة.
القرآن
)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة:269)
التفسير:
{ 269 } قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ { يؤتي } بمعنى يعطي؛ وهي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ، والخبر؛ فالمفعول الأول هنا: { الحكمة }؛ والمفعول الثاني: { مَن } في قوله تعالى: { من يشاء }؛ والمعنى: أن الله يعطي الحكمة من يشاء؛ و{ الحكمة } مِن أحكم بمعنى أتقن؛ وهي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وتستلزم علماً، ورشداً، فالجاهل لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة؛ والسفيه لا تأتي منه الحكمة إلا مصادفة.
قوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }، أي من يعطه الله سبحانه وتعالى الحكمة فقد أعطاه خيراً كثيراً.
فإن قال قائل: ما وجه اختلاف التعبير بين قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }، وقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة }؟
فالجواب: - والله أعلم - أن الحكمة قد تكون غريزة؛ وقد تكون مكتسبة؛ بمعنى أن الإنسان قد يحصل له مع المران ومخالطة الناس من الحكمة وحسن التصرف ما لا يحصل له لو كان منعزلاً عن الناس؛ ولهذا أتى بالفعل المضارع المبني للمفعول ليعم كل طرق الحكمة التي تأتي - سواء أوتي الحكمة من قبل الله عز وجل، أو من قِبل الممارسة والتجارب؛ على أن ما يحصل من الحكمة بالممارسة والتجارب فهو من الله عز وجل؛ هو الذي قيض لك من يفتح لك أبواب الحكمة، وأبواب الخير.
قوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }، أي ما يتعظ بآيات الله إلا أصحاب العقول الذين يتصرفون تصرفاً رشيداً.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: إثبات أفعال الله المتعلقة بمشيئته؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة }؛ وهذه من الصفات الفعلية.
2 - ومنها: أن ما في الإنسان من العلم والرشد فهو فضل من الله عز وجل؛ لقوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }؛ فإذا منّ الله سبحانه وتعالى على العبد بعلم، ورشد، وقوة، وقدرة، وسمع، وبصر فلا يترفع؛ لأن هذه الصفات من الله عز وجل؛ ولو شاء الله لحرمه إياها، أو لسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها؛ فقد يسلب الله العلم من الإنسان بعد أن أعطاه إياه؛ وربما يسلب منه الحكمة؛ فتكون كل تصرفاته طيشاً، وضلالاً، وهدراً.
3 - ومنها: إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { من يشاء }؛ واعلم أن كل شيء علقه الله سبحانه وتعالى بمشيئته فإنه تابع لحكمته البالغة؛ وليس لمجرد المشيئة؛ لكن قد نعلم الحكمة؛ وقد لا نعلمها؛ قال الله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30] .
4 - ومنها: إثبات الحكمة لله عز وجل؛ لأن الحكمة كمال؛ ومعطي الكمال أولى به؛ فنأخذ من الآية إثبات الحكمة لله بهذا الطريق.
5 - ومنها: الفخر العظيم لمن آتاه الله الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.
6 - ومنها: وجوب الشكر على من آتاه الله الحكمة؛ لأن هذا الخير الكثير يستوجب الشكر.
7 - ومنها: أن بلوغ الحكمة متعدد الطرق؛ فقد يكون غريزياً جبل الله العبد عليه؛ وقد يكون كسبياً يحصل بالمران، ومصاحبة الحكماء.
8 - ومنها: منّة الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده بإيتائه الحكمة؛ لقوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً }.
9 - ومنها: فضيلة العقل؛ لقوله تعالى: { وما يذكر إلا أولو الألباب }؛ لأن التذكر بلا شك يحمد عليه الإنسان؛ فإذا كان لا يقع إلا من صاحب العقل دل ذلك على فضيلة العقل؛ والعقل ليس هو الذكاء لأن العقل نتيجته حسن التصرف - وإن لم يكن الإنسان ذكياً؛ والذكاء؛ قوة الفطنة - وإن لم يكن الإنسان عاقلاً؛ ولهذا نقول: ليس كل ذكي عاقلاً، ولا كل عاقل ذكياً؛ لكن قد يجتمعان؛ وقد يرتفعان؛ وهناك عقل يسمى عقل إدراك؛ وهو الذي يتعلق به التكليف، وهذا لا يلحقه مدح، ولا ذم؛ لأنه ليس من كسب الإنسان.
10 - ومن فوائد الآية: أن عدم التذكر نقص في العقل - أي عقل الرشد؛ لقوله تعالى: { وما يذَّكر إلا أولو الألباب }؛ فإن الحكم إذا علق بوصف ازداد قوة بقوة ذلك الوصف، ونقص بنقص ذلك الوصف.
11 - ومنها: أنه لا يتعظ بالمواعظ الكونية أو الشرعية إلا أصحاب العقول الذين يتدبرون ما حصل من الآيات سابقاً، ولاحقاً؛ فيعتبرون بها؛ وأما الغافل فلا تنفعه.
القرآن
)وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (البقرة:270)
التفسير:
{ 270 } قوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ { ما } هنا شرطية؛ والدليل على أنها شرطية أنها مركبة من شرط، وجواب؛ والشرط هو: { أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر }؛ والجواب: { فإن الله يعلمه}؛ و{ مِن } زائدة زائدة؛ أي زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ لأنها تفيد النص على العموم؛ وهي حرف جر زائد من حيث الإعراب؛ ولهذا نعرب: { نفقةٍ } على أنها مفعول به - أي: ما أنفقتم نفقةً أو نذرتم نذراً فإن الله يعلمه؛ ويجوز أن تكون بياناً لاسم الشرط { ما } في قوله تعالى: { ما أنفقتم }؛ لأن «ما» الشرطية مبهمة؛ والمبهم يحتاج إلى بيان.
قوله تعالى: { فإن الله يعلمه } هذه جملة جواب الشرط؛ والفاء هنا واقعة في جواب الشرط وجوباً؛ لأنه جملة اسمية؛ وإذا وقع جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء؛ وفي ذلك يقول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء:
اسمية طلبية وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس قوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار } جملة منفية؛ والمبتدأ فيها قوله تعالى: { من أنصار }؛ و{ من } فيها زائدة إعراباً زائدة معنًى؛ يعنى تزيد المعنى - وهو النص على العموم - وإن كانت في الإعراب زائدة؛ ولهذا نعرب { أنصار } على أنها مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء؛ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
وقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، أي أيّ شيء تنفقونه من قليل أو كثير فإن الله يعلمه.
وقوله تعالى: { أو نذرتم من نذر }، أي أوجبتم على أنفسكم من طاعة، مثل أن يقول القائل: «لله عليّ نذر أن أتصدق بكذا»؛ أو «أن أصوم كذا»؛ { فإن الله يعلمه }؛ وذِكر العلم يستلزم أن الله يجازيهم، فلا يضيع عند الله عز وجل.
قوله تعالى: { وما للظالمين } أي للمانعين ما يجب إنفاقه، أو الوفاء به من النذور { من أنصار } أي مانعين للعذاب عنهم.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الإنفاق قليله وكثيره يثاب عليه المرء؛ وذلك لقوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة }، وكلمة { نفقة } نكرة في سياق الشرط؛ فهي تعم؛ وعلى ذلك تشمل القليل، والكثير؛ لكن الثواب عليها مشروط بأمرين: الإخلاص لله؛ وأن تكون على وفق الشرع.
2 - ومنها: أنه ينبغي للإنسان إذا أنفق نفقة أن يحتسب الأجر على الله؛ لقوله تعالى: { فإن الله يعلمه }؛ لأنك إذا أنفقت وأنت تشعر أن الله يعلم هذا الإنفاق فسوف تحتسب الأجر على الله.
3 - ومنها: أن ما نذره الإنسان من طاعة فهو معلوم عند الله.
4 - هل تدل الآية على جواز النذر؟
الجواب: الآية لا تدل على الجواز، كما لو قال قائل مثلاً: «إن سرَقتَ فإن الله يعلم سرقتك»؛ فإن هذا لا يعني أن السرقة جائزة؛ وعلى هذا فالآية لا تعارض نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر(1)؛ لأن النهي عن النذر يعني إنشاءه ابتداءً؛ فأما الوفاء به فواجب إذا كان طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»(2).
5 - ومنها: عموم علم الله بكل ما ينفقه الإنسان، أو ينذره من قليل، أو كثير.
6 - ومنها: الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه تدخل إطلاقاً؛ وجه ذلك: أنه إذا كان الله يعلمه فلا بد أن يقع على حسب علمه؛ وإلا لزم أن يكون الله غير عالم؛ ولهذا قال بعض السلف: جادلوهم بالعلم؛ فإن أقروا به خُصِموا؛ وإن أنكروه كفروا.
7 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر الظالم؛ لقوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار }؛ ولا يرد على هذا ما وقع في أُحد من انتصار الكافرين لوجهين:
الوجه الأول: أنه نوع عقوبة، حيث حصل من بعض المسلمين عصيانهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون} [آل عمران: 152].
الوجه الثاني: أن هذا الانتصار من أجل أن يمحق الله الكافرين؛ لأن انتصارهم يغريهم بمقاتلة المسلمين؛ حتى تكون العاقبة للمسلمين، كما قال تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } [آل عمران: 141] .
8 - ومن فوائد الآية: أن من دعا على أخيه وهو ظالم له فإن الله لا يجيب دعاءه؛ لأنه لو أجيب لكان نصراً له؛ وقد قال تعالى: {إنه لا يفلح الظالمون} [الأنعام: 21] .
9 - ومنها: الثواب على القليل، والكثير؛ وفي القرآن ما يشهد لذلك، مثل قوله تعالى: {ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} [التوبة: 121] ، وقوله تعالى في آخر سورة الزلزلة: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} [الزلزلة: 7، 8] .
القرآن
)إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (البقرة:271)
التفسير:
{ 271 } قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات } أي تظهروها { فنعمَّا هي }: جملة إنشائية للمدح؛ وقُرنت بالفاء وهي جواب الشرط لكونها فعلاً جامداً { وإن تخفوها } أي تصدَّقوا سراً { وتؤتوها الفقراء } أي تعطوها المعدمين؛ وذكر { الفقراء } هنا على سبيل المثال؛ { فهو خير لكم } أي من إظهارها؛ والجملة: جواب الشرط؛ وقرنت بالفاء لكونها اسمية.
قوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم } الجملة استئنافية؛ ولذلك كان الفعل مرفوعاً؛ و «التكفير» بمعنى السَّتر؛ { سيئاتكم } جمع سيئة؛ وهي ما يسوء المرء عمله، أو ثوابه.
قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }، أي عليم ببواطن الأمور كظواهرها.
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الصدقة، والترغيب فيها سواء أبداها، أو أخفاها.
2 - ومنها: أن إخفاء الصدقة أفضل من إبدائها؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص؛ وأستر للمتصدق عليه؛ لكن إذا كان في إبدائها مصلحة ترجح على إخفائها - مثل أن يكون إبداؤها سبباً لاقتداء الناس بعضهم ببعض، أو يكون في إبدائها دفع ملامة عن المتصدق، أو غير ذلك من المصالح - فإبداؤها أفضل.
3 - ومنها: أن الصدقة لا تعتبر حتى يوصلها إلى الفقير؛ لقوله تعالى: { وتؤتوها الفقراء }.
ويتفرع على هذا فرعان:
أحدهما: أن مؤونة إيصالها على المتصدق.
الثاني: أنه لو نوى أن يتصدق بماله، ثم بدا له ألا يتصدق فله ذلك؛ لأنه لم يصل إلى الفقير.
4 - ومنها: تفاضل الأعمال - أي أن بعض الأعمال أفضل من بعض؛ لقوله تعالى: { فهو خير لكم }؛ وتفاضل الأعمال يكون بأسباب:
أ - منها التفاضل في الجنس ، كالصلاة - مثلاً - أفضل من الزكاة، وما دونها.
ب - ومنها التفاضل في النوع ؛ فالواجب من الجنس أفضل من التطوع؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه»(1).
ج - ومنها التفاضل باعتبار العامل لقوله (ص): «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»(2).
د - ومنها التفاضل باعتبار الزمان ، كقوله (ص) في العشر الأول من ذي الحجة: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»(3)، وكقوله تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3].
هـ - ومنها التفاضل بحسب المكان ، كفضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره.
و - ومنها التفاضل بحسب جودة العمل وإتقانه ، كقوله (ص): «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة؛ والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»(4).
ز - ومنها التفاضل بحسب الكيفية ، مثل قوله (ص): «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»(5).
وتفاضل الأعمال يستلزم تفاضل العامل؛ لأن الإنسان يشرف، ويفضل بعمله؛ وتفاضل الأعمال يستلزم زيادة الإيمان؛ لأن الإيمان قول، وعمل؛ فإذا تفاضلت الأعمال تفاضل الإيمان - أعني زيادة الإيمان، ونقصانه - وهو مذهب أهل السنة، والجماعة.
5 - ومن فوائد الآية: أن الصدقة سبب لتكفير السيئات؛ لقوله تعالى: { ويكفر عنكم من سيئاتكم }؛ ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ، ثم تلا (ص): {تتجافى جنوبهم عن المضاجع...}(1) [السجدة: 16] .
6 - ومنها: إثبات أفعال الله الاختيارية - كما هو مذهب أهل السنة، والجماعة؛ لقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} ؛ فإن تكفير السيئات حاصل بعد العمل الذي يحصل به التكفير.
7 - ومنها: بيان آثار الذنوب، وأنها تسوء العبد؛ لقوله تعالى: { من سيئاتكم }.
8 - ومنها: إثبات اسم الله عز وجل «الخبير» ؛ وإثبات ما دل عليه من صفة.
9 - ومنها: تحذير العبد من المخالفة؛ لقوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }؛ فإن إخباره إيانا بذلك يستلزم أن نخشى من خبرته عز وجل فلا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يرانا حيث نهانا.
شكرا لكم .