جرى النحاة على تقسيم الجملة إلى فعلية واسمية. وقالوا في تعريف الفعلية:
أنها الجملة التي تبتدئ بالفعل، وفي الاسمية: إنها الجملة التي يتصدرها الاسم، ولا شك في أن مقالتهم هذه في تعريف الجملتين وتمييز إحداهما من الأخرى تبدو شكليّة تتناول الجملة من حيث شكلها ولا تتجاوزه إلى مضمونها ومادتها. قال ابن هشام في مغني اللبيب: "فالاسمية التي صدرها اسم كزيد قائم.. والفعلية هي التي صدرها فعل كقام زيد..". فهل أصاب النحاة حقاً في هذه القسمة وهل بيَّنوا في بنية كل من الجملتين ما تتميز به فعلاً من أختها من حيث إسنادها ودلالتها وشأنها في الأداء؟
ما الفارق في الأداء بين الجملة الفعلية يتقدم فيها الفعل فيسند إلى فاعله، والجمل الاسمية يتقدم فيها الفاعل وهو لا يزال مسنداً إليه ليكون مبتدأ، ومتى نختار هذه الجملة أو تلك؟
أشار الإمام عبد القاهر الجرجاني، في كتابه (دلائل الإعجاز)، إلى أنك إذا حدّثت عن محدّث عنه، بالفعل، بدأت به ولم تقدِّم ذكر المحدّث عنه، كلما كان الفعل مما لا يُشك فيه ولا يُنكر، وهو الغالب، قال الجرجاني: "ويزيدك بياناً أنه إذا كان الفعل مما لا يشك فيه ولا ينكر بحال، لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى به غير مبنى على الاسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلاً عن رجل من عادته أن يخرج في كل غداة، قلت: قد خرج، ولم يحتج إلى أن تقول: هو قد خرج، ذلك لأنه ليس بشيء يشك فيه السامع فتحتاج أن تحققه إلى أن تقدم فيه ذكر المحدَّث عنه. وكذلك إذا علم السامع من حال رجل أنه على نية الركوب والمضي إلى موضع، ولم يكن شك وتردد أن يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه أن تقول: قد ركب، ولا تقول: هو قد ركب /104". ولا شك في أن الشيخ علي الجارم، وقد تحدثنا في مقال سابق، عن مذهبه في تعويل العرب في كلامهم على الفعل، قد أفاد مما قاله الجرجاني فيما تقدم.
ويقول الجرجاني في موضع تقديم المحدّث عنه. "ويشهد لأن تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه إننا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار منكر أو اعتراض شاك، أو في تكذيب مُدَّع، كذلك في كل شيء كان خبراً على خلاف العادة".
وسترى أن القول ما قاله الجرجاني، ولكن كيف استدلَّ إمامنا على صحة ما انتهى إليه من الحكم، وأي سبيل سلك في هذا الاستدلال؟ أقول إنما أتى الجرجاني بالدليل من أي التنزيل ومن كلام العرب. وقد استكثر من الشواهد وأخذ باستقرائها وتحليلها. وإذا تعذر الذهاب بالاستقراء إلى حد الاستقصاء الذي أوجبه السامرَّائي، فيما سبق من القول في مقال سابق، فإنه لا يمتنع التعويل في الحكم على هذه الشواهد لكثرتها وتنوعها، ومكانتها من البلاغة، ومبلغها من إحكام السبك إلى حد الإعجاز في البيان. فالاستدلال الاستقرائي هذا، إنما هو استقراء للنظائر واستشهاد بها على الأمر المطلوب إقامة الحجة على صوابه. وهو يصل بصاحبه إلى التعميم عن طريق ملاحظة عدة نماذج متشابهة في ناحية من نواحيها، فيعمم الحكم عليها بحيث يجعلها زمرة واحدة، ويقوّي اليقين بهذا الاستدلال كثرة النظائر والأمثلة المنتمية إلى هذه الزمرة.
ولكن ما رأىُ العلماء المعاصرين في ما قيل عن فارق الأداء بين تقديم الفعل وإسناده إلى فاعله، وتقديم الفاعل ليكون مبتدأ وهو لا يزال مُسنداً إليه؟ وما يتفرَّع على ذلك من قسمة الجملة إلى فعلية واسمية.
مذهب الجواري في قسمة الجملة إلى فعلية واسمية.
ذهب الدكتور أحمد عبد الستار الجواري، رحمه الله في كتابه (نحوُ الفعل) إلى أن الجملة في مثل قولك (قام زيد) قد أسند فيها القيام إلى زيد، وفي (زيد قام) قد أسند فيها القيام إلى زيد أيضاً وليس بين الجملتين، عند الموازنة، إلا اهتمام المتكلم في الأولى بالإخبار عن القيام، وقد دعاه هذا إلى الابتداء بالفعل، فقال (قام زيد)، واهتمام المتكلم في الثانية بالإخبار عن (زيد)، فقاده هذا إلى تقديم ذكره فقال: (زيد قام)، فالجملة في الحالتين كلام أسند فيه ما تخبر به، أي (المسند) وهو الفعل، إلى ما تخبر عنه أي (المسند إليه) وهو الاسم. قال الأستاذ الجواري: "وحقيقة الأمر أنه لا فرق بين نحو قام زيد، وزيد قام، من حيث طبيعة التركيب. فالمسند فعل في الجملتين، وإذن فطبيعة الإسناد فيهما واحدة، يقصد فيها إلى النص على معنى الزمن. والفرق بينهما ينحصر في تقدم المسند إليه في الجملة الثانية للاهتمام به، وتأكيد الحكم عليه. أما الجملة الأولى فهي الجملة الفعلية على رسلها، وعلى الوجه المألوف بينها 20 و21".
وهكذا يرى الأستاذ الجواري أن تقديم الفاعل بالابتداء لا يغير من تركيب الجملة فيقول: "وليس تقديم الفاعل بالأمر الغريب، فقد أجازه نحاة الكوفة، وهو في اللغات الحديثة وما تحدَّرت عنه من اللغات القديمة، هو المألوف /85".
فالجملة الفعلية عند الجواري هي التي أسند فيها الفعل إلى الاسم، أي الفاعل، سواء أتقدم هذا الفاعل أم تأخّر. وأما الاسمية فهي التي أسند فيها الاسم إلى الاسم.
قال الجواري: "يبدو أن الجملة العربية قد تميزت في صورتها التي وصلت إلينا بأن التركيب فيها يكون بين الاسم والفعل تارة، وبين الاسم والاسم تارة أخرى. وتسمى الصورة الأولى الجملة الفعلية، وتسمَّى الصورة الثانية الجملة الاسمية"، ثم انتقل إلى تفصيل الكلام على الجملة الاسمية فقال: "وهذه الصورة الأخيرة لا يمكن أن تخلو في ما نعرف من اللغات، ولا سيما الحديثة، من فعل وإن كان فعلاً ناقصاً يعين على الإسناد ويحدد زمانها /18".
ويمضي الأستاذ الجواري في الكلام على الجملة الاسمية ويورد لها الأمثلة فيقول:
"فنحن نقول في العربية إذا أردنا إسناد القيام إلى زيد: زيد قام، ونقول في اللغات الأخرى ما يشبه قولنا في العربية: زيد يكون قائما، وهكذا". ويعقب على ذلك فيقول: "وقد يكون التركيب الاسمي أو الجملة الاسمية في اللغة العربية ثمرة من ثمار التطور والتحول الذي قطعته هذه اللغة في عهود سحيقة، موغلة في القدم، لا نكاد نتبين لها ملامح، أو نشهد لها آثاراً، وإنما نقف في بعض المظان على ظواهر تدل على أن العربية كان تسلك سبيل غيرها من اللغات فتستعين بفعل الكون، كانت الناقصة، على الإسناد، ولعل من ذلك ما يذكره النحاة عن (كان الزائدة)، في مثل قول أم عقيل ابن أبي طالب:
أنت تكون ماجد نبيل
إذا تَهبُّ شمألٌ بليلُ
وواضح أن فعل الكون في مثل هذا الجملة لا فائدة فيه، فإن تركيبها من اسمين غنيٌّ عن معنى ذلك الفعل غير محتاج إليه، اللهم إلا إذا أريد معنى المضيّ فيؤتى بالفعل ماضياً، ويكون حينئذ هو المسند أو يكون جزءاً منه /19".
خلاصة مذهب الجواري في الجملة الفعلية والاسمية:
أقول يمكن إيجاز مذهب الجواري هذا بأن الجملة الفعلية هي التي أسند فيها الفعل إلى الاسم، وهو الفاعل، ولا يعني تقديم الفاعل أو تأخيره إلا الاهتمام به في مثل قولك(زيد قام) أو الاهتمام بما أسند إليه وهو الفعل في مثل قولك (قام زيد). أمّا الاسمية فهي ما أسند فيها الاسم إلى الاسم كقولك (زيد قائم)، وهي صورة حديثة انتهت إليها العربية بعد أن تجاوزت أطواراً كانت تستعين فيها على الإسناد بفعل ناقص، هو فعل الكون، كما تفعل اللغات الأخرى، ولا سيما الحديثة.
الرأي في ما تصوره الجواري حداً لتمييز الجملة الفعلية من الاسمية:
خالف الجواري في ما انتحاه مذهب جمهور النحاة، وتفرقت بينهما السبل. إذا اعتدَّ قولك (زيد قام) جملة فعلية، وقصر الاسمية على مثل قولك (زيد قائم). وسنجمل الردَّ عليه وعلى من اتخذ نحواً من مذهبه بعد. على أننا نود أن نشير هنا إلى أن قوله أن اللغات الحديثة لا تزال تستعين في الإسناد بفعل مساعد في مثل قولها: (خالد يكون قائماً) وأن العربية قد عرفت هذا في طور من أطوارها، في نحو قول أم عقيل بن أبي طالب:
أنت تكون ماجد نبيلُ
إذا تهبُّ شمألٌ بليلُ
حين اعتدّوا فعل الكون المضارع زائداً لا يفيد في موقعه معنى. أقول أن دعواه هذه فيها نظر، ذلك أن اللغات الحديثة، ومنها الآرية، تستعين بأفعال مساعدة في الإسناد كفعل الكون والملك. وهو أمر معروف. ولكن ما بال الجواري يقتاس للعربية وطرائقها في الإسناد بما تستن به اللغات الأخرى كالآرية، وينهج لها في التعبير سبيلها. وكيف اتفق له أن يتحقق أن العربية إنما كانت تجري على أسلوب هذه اللغات وتحاكيها في طريقة الإسناد. وهو لو برهن في أن اللغات الأكادية والآشوية والبابلية والكنعانية والآرامية من أخوات لغتنا العربية، بل لهجاتها الموغلة في القدم، إنما تستعين بأفعال مساعدة وأن العربية كانت تحذو حذوها وتطبع على غرارها لكان له في ذلك وجه صالح ومذهب متقبل، ولم يتحدث المتخصصون في هذه اللغات عن شيء من هذا القبيل.
ولا ننسَ أن ما خُصَّت به العربية من ظاهرة الإعراب الذي تتكشف عن علاقة أجزاء الجملة بعضها ببعض قد أسقطت عنها ضوابط كان لا بد للغات غير المعربة من التزامها، فتميزت بذلك أصول كل منهما في التركيب بسمات خاصة بها. وقد أشار الدكتور محمد خير الحلواني إلى نحو من هذا فقال: "والأعراب بهذه الوظيفة أغنى اللغة العربية عن أن تجعل تركيبها ذا حدود صارمة مقيَّدة لا يمكن تجاوزها والخروج على أعرافها، كما هو الحال في اللغتين الفرنسية والإنجليزية ومن هنا لم يكن التركيب فيها بحاجة إلى فعل الكون، أو إلى فعل مساعد، كما لم تكن به حاجة إلى تقديم الفاعل وتأخير المفعول تقديماً واجباً، ولا يشترط أن يكون الاسم قبل الفعل المخبر عنه، لأن صرامة التركيب جاءت في اللغتين الفرنسية والإنكليزية تعويضاً عن فقدان الأعراب الذي كان لأمِّهما اللاتينية والجرمانية اللتين تفرَّعتا عنهما –مجلة الفيصل /العدد: 37".
وهكذا أمكن في العربية تقديم المفعول على الفاعل وتأخيره، كلما أملت دقة التعبير ودعا إليه وجه الأداء، وكان من شأن الأعراب أن يكشف عن الفاعل والمفعول على السواء، خلافاً للغتين الفرنسية والإنكليزية حين أوجبتا تقديم الفاعل وتأخير المفعول. ففي التنزيل
)إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ –فاطر /58(، وقد بدا بالإعراب فاعلية (العلماء) ومفعولية (لفظ الجلالة)، وكشفت عن ذلك القرنية المعنوية. فالخشية إنما تقع من العلماء، وقد نُزِّه الله عن الخشية. وفي تقديم المفعول، وهو اسم الله، غرض هو الإخبار بأنَّ الذين يخشون الله هم العلماء خاصة دون سواهم، فقد قصد بتقديم المفعول حصر الفاعلية، ولو أخِّر لا نعكس الأمر، أي لو قيل: (إنما يخشى العلماء الله) لفُهم أن المخشيّ هو الله دون غيره، ولا تكون الخشية مخصوصة بالعلماء، مقصورة عليهم، بل يشارك فيها غير العلماء، فهم يخشون الله وقد يخشون سواه، خلافاً للعلماء فهم لا يخشون سواه.
وهكذا قوله تعالى: )وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً /البقرة 124(. فالفاعلية للفظ الجلالة والمفعولية لإبراهيم، وقد دلَّت على ذلك قرينة المعنى، فالمبتلي هو الله، والضمير لإبراهيم لتقدّمه لفظاً وإن تأخر رتبة، إذ يكفي أن يتقدم مرجع الضمير لفظاً أو رتبة. وأنت تقول: (أخطأني الحظُّ) فتعلم أن الفاعل هو الحظ، وقد تقدم عليه المفعول، كما تقول: (أخطأت الحظَّ) فتعلم أن الحظ هو المفعول، وقد تقدَّم عليه الفاعل.
أما دعوى الجواري أن العربية قد عرفت الاستعانة بفعل مساعد في طور من أطوارها بدليل قول أم عقيل "أنت تكون ماجدٌ نبيلُ" برفع (ماجد نبيل) على أنه خبر للمبتدأ، فليس ذلك باليقين الثابت بالدليل المقنع.
زيادة (كان) في كلام العرب في غير موضع زيادتها:
ذكر النحاة أن (كان) تختصّ من بين أخواتها بجواز زيادتها بلفظ الماضي، بين شيئين ليسا جارّاً ومجروراً، فتكون زيادتها للدلالة على الزمن الماضي. وهي إذ أشبهت (أمسِ) حكم لها بحكمها، كما ذكر ابن عصفور أو الحسن الاشبيلي الأندلسي، في كتابه (الضرائر). وقد ورد هذا في سعة الكلام كقول قيس بن غالب البدري: "ولدت فاطمة بنت الحُرشَب الكَمَلَةَ من عبسٍ لم يوجدْ كان مثلهم".
وأما زيادتها بلفظ المضارع فإنه نادر. وقد جاء عليه قول أم عقيل "أنت تكون ماجد نبيل" وقول حسَّان:
كأن سبيئةً من بيت رأس
يكون مزاجُها عسلٌ وماءُ
برفع (مزاجها) على المبتدأ، ورفع (عسل) على الخبر، كما قال ابن السيد في أبيات المعاني من كتابه (إصلاح الخلل). والسبيئة بالهمزة الخمرة. وبيت رأس قرية بالشام اشتهرت بجودة الخمر. وقد حمل ابن هشام في (المغني) رفع (عسل وماء) على أضمار الشأن. وروي (مزاجها) بالنصب أيضاً، وجعلت المعرفة الخبر والنكرة الاسم، وذهب سيبويه إلى أن هذا غير جائز في الاختيار وأنه خاص بالشعر، لأن الأصل أن يخبر بالنكرة عن المعرفة. وتأوله أبو علي الفارسي على أن انتصاب (المزاج) على الظرفية المجازية، أي يكون في مزاجها. وقد روي برفع (المزاج) ونصب (المزاج) ونصب (العسل) على الأصل. وأقرب ما يقال في تأويل ما جاء أنه من الضرائر الشعرية، كما قاله كثيرون. (الضرائر لمحمود شكري الألوسي /308).
المخزومي ومذهبه في الجملة الفعلية والاسمية:
وممن بحث تقسيم الجملة من الباحثين المعاصرين، الدكتور مهدي المخزومي،في كتابه (في النحو العربي)، وقد نهج في ذلك سبيلاً عقد فيه الحدّ في قسمة الجملة على (المُسند)، كما فعل الدكتور الجواري. فالجملة فعلية إذا كان فيها المسند فعلاً فأفاد التجدد، فقولك (طلع البدر) و(البدر طلع) جملتان فعليتان، خلافاً لما أجمع عليه جمهور النحاة. قال المخزومي: "الجملة الفعلية هي الجملة التي يدل فيها المسند على التجدد، أو التي يتصف فيها المسند إليه بالمسند اتصافاً متجدداً. وبعبارة أوضح، هي التي يكون فيها المسند –فعلاً –لأن الدلالة على التجدد إنما تستمد من الأفعال وحدها /41".
وقال المخزومي في إيضاح مذهبه: "ومعنى هذا أن كلاً من قولنا طلع البدر والبدر طلع، جملة فعلية. أما الجملة الأولى فالأمر فيها واضح، وليس فيها خلاف مع القدماء.
وأما الجملة الثانية فاسمية في نظر القدماء وفعلية في نظرنا، لأنه لم يطرأ عليها جديد إلا تقديم المسند إليه، وتقديم المسند إليه لا يُغيِّر من طبيعة الجملة، لأنه إنما قدم للاهتمام به /42".
فالجملة الاسمية، عند المخزومي، ما كان المسند فيها اسماً فأفاد الثبوت والدوام، كقولك (البدر طالع). قال المخزومي: "أما الجملة الاسمية فهي التي يدل فيها المسند على الدوام والثبوت، أو التي يتصف فيها المسند إليه بالمسند اتصافاً ثابتاً غير متجدد، أو بعبارة أوضح هي التي يكون فيها المسند اسماً، على ما بينه الجرجاني في ما اقتبسنا من كلامه ها هنا /42".
وقد أخذ المخزومي على النحاة أنه قد فاتهم الكشف عن الفرق بين طبيعتين مختلفتين، فقال: "فإن تقسيمهم الجمل إلى اسمية وفعلية مبني على أساس لفظي محض، لم يلحظوا فيه الفرق بين طبيعتين مختلفيتن، فضيقوا مجال الجملة الفعلية حتى قصروها على ما تقدم فيه الفعل، ووسَّعوا مجال الاسمية حتى أدخلوا فيها ما ليس منها، من جمل فعلية تقدم فيها الفاعل على الفعل.."، وأردف: "ولو كان تحديدهم الاسمية والفعلية قائماً على أساس من ملاحظة واعية للفرق بين طبيعتي الجملتين، لكان عملهم أجدي، ولكفَوْا أنفسهم والدارسين والنصوص المدروسة، عناء ما تكلَّفوه من تأويل وتخريج /218".
الرأي في ما جاء به المخزومي:
أقول الجواب عما جاء به المخزومي إنما يتناول جهتين:
الأولى: أن قوله (طلع البدر) و(البدر طلع) جملتان متشابهتان من حيث الإسناد ولذا كانتا فعليتين، قوله هذا لا أظنه صحيحاً، وسنبين في ما بعد دلالة كل من الجملتين، حين الموازنة بينهما، وأن النحاة على حق في الفصل بين الجملتين. وقد فات المخزومي الصواب كذلك حين قال: "أما الجملة الاسمية فهي التي فيها المسند على الدوام.. وبعبارة أوضح: هي التي يكون فيها المسند اسماً، على ما بينه الجرجاني، في ما اقتبسنا من كلامه ها هنا" فالجرجاني لم يقصر الجملة الاسمية على الجملة التي جاء مسندها "اسماً، في ما اقتبسه المخزومي من كلامه، وكل ما أشار إليه في مثاله هو ثبوت الانطلاق لزيد في قولك:
زيد منطلق، وتجدده في قولك: هو ذا ينطلق، لا أكثر من ذلك ولا أقل!
الثانية: إن في وصف الفعل بالتجدد ونسبة ذلك إلى الجرجاني نظراً، ذلك أن التجدد الذي عناه الجرجاني، كما سنبسط القول فيه، مقصور على المضارع، على حين جاءت أمثلة المخزومي على الفعل الماضي!
مقالة الجرجاني في تجدد الفعل واستمرار اسم الفاعل:
ذكر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز /115) أن الاسم الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد منطلق) يثبت معنى الانطلاق لزيد، دون أن يقتضي تجدده، وأن الفعل الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد ينطلق) يثبت به الانطلاق الذي يتجدد فيقع من (زيد) شيئاً بعد شيء. وأكد في موضع آخر (ص /117) أن لكل من الاسم والفعل المسندين في هذه الجملة الاسمية دلالة تغاير دلالة الآخر، فقال: "ولا ينبغي أن يغرّك إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر أننا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيه استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا فعلين أو يكونا اسمين"، فما الذي قصد إليه الجرجاني بقوله: الفعل الذي يثبت به المعنى المتجدد، والاسم الذي يثبت به المعنى غير المتجدد؟
أقول صواب المسألة عندي أن الفعل الذي قرن بالتجدد، في مقالة الجرجاني، هو الفعل المضارع خاصة، وأن الاسم الذي وصف بعدم التجدد هو اسم الفاعل، المعدّ للعمل، الجاري على معنى الفعل ولفظه، واسم الفاعل لا يُعد للعمل ما لم يكن للحال أو الاستقبال، دون الماضي، وما لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو مبتدأ صريح أو منويّ، أو موصوف، أو ذي حال.
فقد ذهب كثير من النحاة، في مثل قولك (خالد دائب في عمله) أنه بمعنى قولك (خالد يدأب في عمله). ورأى الجرجاني غير ذلك حين أكد أن في دلالة الفعل، أي المضارع وهو (يدأب) من التجدد ما ليس في الاسم، وهو اسم الفاعل (دائب). وأشار إلى مثل ذلك بعض الأئمة. قال ابن مالك في (ألفيَّته): "أحمد ربي الله خير مالك" فعقب الأشموني على هذا فقال: أي أثنى عليه الثناء الجميل اللائق بجلال عظمته وجزيل نعمه، التي هذا النظم من آثارها"، وأردف: "واختار صيغة المضارع المثبت لما فيه من الإشعار بالاستمرار التجددي. أي كما أن آلاءه تعالى تتجدد في حقنا دائماً، كذلك نحمده بمحامد لا تزال تتجدد.." وفي قوله: "واختار صيغة المضارع" ما يشعر بخصوصية هذه الصيغة في الدلالة على التجدد.
وهذه شواهد الجرجاني وأمثلته. ومنها قوله تعالى: )وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد –الكهف /18(. قال الجرجاني: "فإنّ أحداً لا يشك في امتناع الفعل ها هنا، وأن قولنا: وكلبهم باسط ذراعيه، لا يؤدي الغرض. وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت، ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً، بل تثبته بصفة هو عليها، فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب /134". وقد ذهب جماعة إلى أن اسم الفاعل في الآية، وهو (باسط) جاء للماضي، أي أن زمن حصوله للمخبر عنه سابق نزول الآية الكريمة على رسول الله (r)، وقد أجيب عن ذلك بأن الكلام قد جاء على حكاية الحال، بدليل قوله تعالى (وكلبهم باسط) والواو للحال، ولا يحسن أن يقال هنا: وكلبهم بسط، بالماضي، وإنما يحسن أن يقال بعد واو الحال: وكلبهم يبسط. وقد جاء قبل الآية قوله تعالى: )ونُقَلِّبهم ذات اليمين وذات الشمال( فأتى فيها بالفعل المضارع الدال على الحال أو الاستقبال.
ومن شواهد الجرجاني في هذا الباب، قوله تعالى )هل من خالق غير الله يرزقكم –فاطر /3" فقد ذهب الجرجاني أن الفعل قد أتى بصيغة المضارع لأن الرزق يتجدد ساعة بعد ساعة ولو قيل (هل خالق غير الله رازق لكم بصيغة اسم الفاعل لكان المعنى غير ما أريد (ص /136).
وهكذا قول الجرجاني (زيد منطلق) فإنه لا يعني عنده غير إثبات الانطلاق لزيد أما (زيد ينطلق) فقد قال فيها: "فإذا قلته، أي زيد ينطلق، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً جزءاً وجعلته يزاوله ويُزجيه..".
ويتبين بما قدمنا أن الجرجاني قد رأى التجدد في صيغة المضارع دون سواها، وقد استنَّ بسنته في وصف الفعل بالتجدد الدكتور المخزومي في ما اقتبسه عنه، لكنه لم يقصر التجدد على المضارع منه، فقال: "ان الجملة الفعلية هي التي يدل فيها المسند على التجدد.. وبعبارة أوضح هي التي يكون فيها المسند فعلاً لأن الدلالة على التجدد إنما تستمد من الأفعال وحدها /241". ثم استشهد في إثبات مقالة التجدد هذه بمثال جاء به على صيغة الماضي فقال: "ومعنى هذا أن كلاً من قولنا طلع البدر والبدر طلع جملة فعلية.."، ففاته بذلك فهم مذهب الجرجاني في التجدد، وفي دعواه أن البدر طلع) جملة فعلية.
وانظر بعد إلى ما جاء في (الكليّات) لأبي البقاء الكفوي. قال أبو البقاء: "اشتهر عند أهل البيان أن الاسم يدل على الثبوت والاستمرار، والفعل يدل على التجدد والحدوث –5 /182"، فأشار إلى نحو مما خلص إليه الجرجاني، في هذا الباب، ولم يشر إلى ما يريده بالفعل صراحة. لكنه بحث هذا في موضع آخر فقال: "الجملة الاسمية إذاً كان خبرها اسماً فقد يقصد بها الدوام والاستمرار الثبوتي بمعونة القرائن"، وأردف: "وإذا كان خبرها مضارعاً فقد يفيد استمراراً تجددياً –5 /174"، فكشف عن أن ما يريده بالفعل هو المضارع.
وعلق أبو البقاء عمل اسم الفاعل ودلالته على الاستمرار، على كونه للحال أو الاستقبال، فقال: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال والاستقبال، والغاؤه لاشتماله على الماضي –5 /317".
الثبوت في الصفة المشبهة:
وإذا دلَّ اسم الفاعل على الاستمرار والدوام فإن الصفة المشبهة أصل في الثبوت. فقد جاء قوله تعالى: )ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون –المؤمنون /15". قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت، دون اسم الفاعل". ولكن أوَ لا يصح ها هنا أن يقال: (ثم إنكم بعد لمائتون) بلفظ اسم الفاعل؟
أقول يصح هذا إذا أريد به الاستمرار، فقد أشار إلى ذلك الإمام البيضاوي نفسه، حين أردف: "وقد قرئ به" أي قرئ باسم الفاعل أيضاً.
ولا يخفى أن دلالة (الميت) بتشديد الياء، في الآية، نحو دلالة (المائت)، أي لا بد أنهم صائرون إلى الموت، ولا يعني أنهم فارقوا الحياة. وكذلك قوله تعالى: )إنك ميِّت وإنهم ميِّتون –الزمر / 30( بتشديد الياء. قال الراغب في مفرداته: "قيل معناه ستموت، تنبيها أنه لا بد من الموت، كما قيل: والموت حتم في رقاب العباد".
وجاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي: "والميْت مخففة هو الذي مات، والميِّت بالتشديد، والمائت هو الذي لم يمت": وقد ذهب إلى هذا جماعة، لكن الذي عليه نصوص المعجمات أن المائت هو الحي، والميت بالتخفيف هو الذي فارق الحياة. أما الميِّت بالتشديد فقد يعني الحي كالمائت، ويعني فاقد الحياة كالميت بالتخفيف. وجاء في الحديث الشريف:
"يتبع الميْت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله". والميت فاقد الحياة، وقدروي ها هنا بالتخفيف. (إعراب الحديث النبوي للعكبري –ص /121).
مذهب الدكتور السامرائي في الجملة الفعلية والاسمية:
بسط الدكتور السامرائي مذهبه في هذه المسألة، في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته)، فسلك طريقة المخزومي في ما رسمه من حد يفرق به الجملة الفعلية من الاسمية، وجرى على منهاجه فجعل قوله (سافر محمد) و(محمد سافر) سواء في الإسناد، لأن المسند فيهما هو الفعل، وهذا سبيل الجواري نفسه في الموازنة بين الجملتين.
لكن السامرائي قد أخذ على المخزومي قوله بتجدد الفعل. قال السامرائي: "وقد خالف الدكتور المخزومي الأقدمين في حد الجملتين الفعلية والاسمية. فقد ذكر أن الجملة الفعلية ما كان فيها المسند فعلاً، وقد أصاب الأستاذ المخزومي الحقيقة في الحد الذي رسمه للجملة، فإن: سافر محمد، جملة فعلية هي نفسها: محمد سافر. غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني واتخذها دليلاً للتمييز في الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن إلى أن هذه المقالة حجة عليه. فالتجدد المنسوب للفعل المسند إلى الاسم، لم يتحقق في قولهم: محمد سافر وسافر محمد. ومن هنا لا يمكن للسيد المخزومي أن يعتبر الجملتين فعليتين.."، وأردف: "أما نحن فنقول أنَّ محمدٌ سافر وسافر محمدٌ جملتان فعليتان، ما دام المسند فعلاً، وليس لنا أن نلصق التجدد بالفعل لأن ذلك ليس من منهجنا، لأن الشواهد لا تؤيد هذا التجدد المزعوم".
وقد أوضح السامرائي رأيه في تجدد الفعل فقال: "وكيف لنا أن نفهم التجدد والحدوث في قولنا: مات محمد وهلك خالد وانصرف بكر. فهذه الأقوال كلها أحداث منقطعة لا يمكن لنا أن نجربها على التجدد والحدوث. واختيار الجرجاني لـ: ينطلق، مفيد له في إثبات مقالته. أما أن يكون الفعل: سافر وذهب ومات، وما إلى هذا، فليس في ذلك ما يحقق غرض الجرجاني، ولا ما ذهب إليه المخزومي –204 /205".
الجواب عما جاء به السامرائي:
أقول في الجواب عما جاء به السامرائي لا حجة لمقالة القائلين أن (سافر محمد) و(محمد سافر) سيَّان في الإسناد لأن المسند فيهما هو الفعل، وسنبين ذلك بعد. أما تجدد الفعل الذي أتت به مقالة الجرجاني، فقد تأكد أنه مقصور على المضارع، خلافاً لأمثلة المخزومي. والسامرائي على حق حين أنكر تجدد الأفعال في ما أورده من الأمثلة، لا لشيء سوى أنها أتت على صيغة الماضي، لا المضارع، كما بسطنا القول فيها قبل. إذ ليس في قولك (سافر محمد) و(محمد سافر) أو في قولك (البدر طلع) و(طلع البدر) ما يشعر البتة بتجدد الفعل. ولكن ما الذي أراده السامرائي بقوله: "غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني، واتخذها دليلاً للتمييز بين الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن.."؟
فما الذي أفاده المخزومي من مقالة الجرجاني واتخذ منه دليلاً للتمييز بين الجملتين؟
أقول الذي فعله الجرجاني هو أنه بسط القول في دلالة مختلف الصور التي تؤديها الجملة الفعلية والاسمية، فأبان مثلاً فرق ما بين دلالتي (زيد ينطلق) و(زيد منطلق) الاسميتين، وبين (قتل الخارجيَّ زيدٌ) و(قتل زيدٌ الخارجي) الفعليتين، وبين (ينطلق زيد) الفعلية و(زيد ينطلق) الاسمية، وبين (ضربت زيداً) الفعلية و(زيد ضربته) الاسمية.. وهكذا.
ومما قاله الجرجاني مثلاً في الفرق بين أن يكون المسند في الجملة الاسمية اسماً لا تجدد فيه، أو فعلاً متجدد الحدث، فقال في كلامه على (فروق الخبر): "ان موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء، من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. أما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد الشيء، فإذا قلت: زيد منطلق فقد أثبتَّ الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمر قصير. وكما لا يقصد ها هنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث كما توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد منه إلى ذلك.. فإذا قلت زيد هو ذا ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلته يزاوله ويزجيه.. –133 /134". فقد جاءت مقالة الجرجاني هذه للتمييز بين كون الخبر اسماً يثبت به المعنى للمبتدأ دون تجدد، أو فعلاً يثبت به وقوع الحدث منه في تجدد. والذي أفاده المخزومي من هذا أنه اتخذ الفرق بين الخبرين حداً يميز به الجملة الاسمية من الفعلية، وذلك ما لم يخطر للجرجاني على بال أو يجري له في حساب، عدا ما غاب عن المخزومي من أن الذي عناه الجرجاني بالفعل، هو المضارع دون سواه.
وقد أفاد السامرائي نفسه من مقالة الجرجاني هذه، فحكاها عنه في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته /202)، وعقَّب عليها فقال: "وعلى هذا فالجملة الاسمية ما دلَّ فيها المسند على الدوام والثبوت"، وأردف: "ومقالة الجرجاني هذه في التمييز بين الفعل والاسم ينبني عليها التمييز بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية".
وهكذا فات السامرائي في استنباطه هذا ما فات المخزومي من مقالة الجرجاني. إذ كان فعلاً غرض الجرجاني من مقالته هذه بيان الفرق في الإسناد بين أن يكون الخبر اسم فاعل أو فعلاً مضارعاً (أي جملة فعلية فعلها مضارع) في جملة اسمية لم يتغير مبتدؤها، ويؤيد ذلك قول الجرجاني بعد هذا: "ولا ينبغي أن يغرك، إذا تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر، أنا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما تقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم.."، فدلَّ هذا أن كلاً من الجملتين (زيد يقوم) و(زيد قائم) تتألف من مبتدأ وخبر، فهما إذن جملتان اسميتان.
السامرائي وموضوع النحو:
نهج السامرائي، كما ذكرنا، نهج الجواري والمخزومي في التسوية به قولك (قام الرجل) و(الرجل قام)، فنفد على الشيخ الجارم مذهبه في اتخاذ مذهب النحاة في التمييز بين الجملتين الفعلية والاسمية، وكشف عما يعنيه تقديم الفعل في الأولى وتأخيرها في الثانية، على ما انتحاه الجرجاني في (الدلائل)، قال السامرائي: "وهذه المسألة البلاغية لا يمكن أن تكون مادة في البحث النحوي، والشيخ الجارم يجد في دلائل الإعجاز للجرجاني ما أعانه على إثبات ما أثبته. وهو في ذلك كالأستاذ المخزومي في التماس مادته من المصدر نفسه /206".
ثم أوضح رأيه فقال: "وعلى هذا فإن هذا المنحى ليس منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه /208"، وخلص إلى القول: "ولقد بحث علماء المعاني في الجملة العربية بحثاً خاصاً بهم، ذلك لأن ما خاضوا فيه ليس من مادة النحو الذي يقتصر على أجزاء الجملة وعلاقات هذه الأجزاء ببعضها ووصفها كما تبدو في بناء الجملة /212".
وهكذا سلك السامرائي في معالجة المسألة مسلكاً لا يتناول فيه حقيقة ما ذهب إليه الجرجاني وتابعه فيه الجارم، في التفريق بين الجملتين، أهو حقيقة علمية راهنة يدعمها البحث وتؤيدها الأدلة الواضحة، والبيِّنات المسلَّمة وعلم اللغة الحديث، فلا بد من الأخذ بها، أم هو شيء لا يتصل بهذا كله فلا بد من معارضته واستبعاده، وإنما يأبى الخوض في ذلك لأن المسألة مسألة بلاغية، لا يمكن أن تكون مادة البحث النحوي، وأن تحريرها يستلزم العدول إلى منحى ليس هو منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه.
أقول يمن الإجابة عما ذهب إليه السامرائي من جهتين
الأولى: أن ما يجب الفحص عنه هنا، هو حقيقة الحد الذي اقتاس به الباحثان الجرجاني والجارم، سواء أكان البحث فيه من شأن البلاغة أم من شأن النحو. فإذا صحَّ أن لكل من الجملتين شأناً في التعبير لا تؤديه الأخرى، فالجملتان متغايرتان، وإن اشترط النحاة في الفاعل أن يتقدم عليه فعله ليتميز بذلك من المبتدأ الذي تبدأ به الجملة الاسمية، أمر يقتضيه الفعل بين شأنيهما، وأي غرابة في أن تتغير معاني التركيب بتغير مواضع عناصره؟
الثانية: أنه لا غنى لمادة النحو من بحث ما نحن بسبيله من الكشف عن تغير الدلالة في كل من الجملتين بتنقل أجزائها. فإذا كان غرض النحو الأول وقاية اللسان من اللحن والخطأ، ولذا جعلوا منه العلم الذي تعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناءً، فكان علم الاعراب، كما ذكر الزمخشري في مقدمة كتابه (المفصَّل) فإن من أغراض النحو، ولا شك، انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره.. ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، كما قال ابن جني في الخصائص (1/132 –ط1913م)، وقد أشار الزمخشري في موضع آخر في مقدمته إلى علاقة ما بين النحو والبيان فقال: "وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان المطلع على نكت نظم القرآن"؛ فعبر بذلك عن اتصال النحو بالبلاغة وتلازمهما، وقد برع الجرجاني في ذلك وبسط القول فيه. وأكد ابن سيده أبو الحسن كلام ابن جني في مخصصه، حين حاول تعريف علم النحو، فاستعار ألفاظ ابن جني نفسها ولم يخرج عنها.
وقد عرضت لهذا في كتابي (مذاهب وآراء في نشوء اللغة وتدرج معانيها /111)، إذ جاء فيه: "ولا يخفى أن النحو عند الأوائل هو علم العربية الذي يُعرف به وجهة كلام العرب وما يقصدون إليه في التعبير عن أغراض النفس. وقد أشار إلى ذلك الأشموني حين قال: وهو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها، كما أشار إليه ابن عصفور في المقرّب حين ذكر أن المراد هنا بالنحو قولنا علم العربية، لا قسيم الصرف، أه . أما عند المتأخرين فقد غدا النحو غالباًً: علم الاعراب والبناء، كما نبه عليها الصبَّان حين قال: واصطلاح المتأخرين تخصيصه بفن الإعراب والبناء وجعله قسيم الصرف، وأردف: وعليه فيعرف بأنه علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء، وموضوعه الكلم العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب والبناء. أه .وهكذا تحوَّل النحو مما كان عليه من البحث في صحة تأليف الكلم للتعبير عما في النفس من أغراض، إلى البحث في ضبط الأواخر إعراباً وبناءً، ضماناً لسلامة اللسان من اللحن، وبسط الكلام في عوامل ذلك والإسهاب في تعليله بالجدل النظري، فبد النحو وقد غار ماؤه وشاه بهاؤه وساء مذاقه، وإلا فإن توكيد العناية بالمعاني كان يوجب دراسة اللفظ في تركيب الجملة بدراسة موقعه من التركيب عامة من حيث اتصاله بالأجزاء الأخرى وتأثره بها وتأثيره فيها، ثم دراسة الجملة مجتمعة الشمل من حيث صورة التعبير وأسلوبه، وقد جرد النحو من هذا كله وخصصت به علوم البلاغة كالمعاني والبيان...".
وهذا سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان (180ه) أمام هذا العلم وعَلَم أعلامه، قد ضمَّن كتابه أبواباً جُعِلتْ بَعْدُ مادةً لعلم المعاني، فأشار بذلك إلى أن هذه الأبواب ملازمة للنحو لا تنفك عنه بحال من الأحوال. قال سيبويه: "هذا باب تخبر فيها عن النكرة بالنكرة، وذلك قولك: ما كان أحد مثلك، وليس أحد خيراً منك، وما كان أحد مجترئاً عليك. وإنما حسن الإخبار ها هنا عن النكرة حيث أردت أن تنفي أن يكون مثل حاله شيء، أو فوقه، فإن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا. وإذا قلت: كان رجل ذاهباً، فليس في هذا شيء تعلمه كان جهله، ولو قلت: كان رجل من آل فلان فارساً، حَسُنَ، لأنه قد يحتاج إلى أن تُعلمه أن ذاك من آل فلان، وقد يجهله. ولو قلت كان رجل في قوم فارساً، لم يحسُن، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا فارس، وأن يكون من قوم، فعلى هذا النحو يحسن ويقبح... 1 /26 و27".
فقد تجاوز سيبويه في كتابه مادة النحو، في هذه المرحلة، إلى ما أسموه بعد بعلم الصرف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم العروض وعلم الأصوات وعلم القراءات، من علوم العربية، بل علم النقد الأدبي، ذلك لتلازم هذه العلوم واستحالة انفكاك بعضها من بعض، فجاء كتابه متضمناً كل ما يُستعان به على فهم كلام العرب والكشف عن سر تأليفه. وإذا عمد علماء العربية في دراساتهم بعد إلى تخصيص كل علم منها بمادة وموضوع للغوص على جزئيات كل من هذه العلوم، فلا يعني ذلك إمكان الفصل بينها في التماس فهم كلام العرب، ففي كل علمٍ منهما تمام للعلم الآخر، بل جلاء لأسراره ودقائقه.
ولا شك في أن ما جاء به سيبويه، ها هنا، ونحوه مما ذكره في مواضع أخرى من كتابه، قد أوحى إلى الجرجاني ما أوحى، في كتابه (دلائل الإعجاز) مما يتصل بعلم المعاني. وقد تحدث الجرجاني عن معاني النحو، ونبَّه على أن النظم، وهو موضوع الكلام بشكل من الأشكال، إنما يتوخى هذه المعاني. وإذا كان العلماء قد قصروا الحديث عن المعاني المذكورة، على ما أسموه بعلم المعاني، فإنهم لم يوفقوا في فصله عن النحو، جملة وتفصيلاً، لأنه نوره الذي به يُهتدى إلى صوغ الكلام وإحكام البيان.
وقد وفق الجرجاني حقاً في الكشف عن اتصال النحو بالبلاغة خاصة وتلازمهما. وقد حذا هذا الحذو ويمم هذا السمت الإمام أبو يعقوب السكاكي (ت 626ه) في كتابه (مفتاح العلوم) فقد تحدث فيه عن علوم البلاغة فجعل ما تعلق منها بمطابقة الكلام لمقتضى الحال والتتبع لخواص تراكيب الكلام مادة علم البيان، وما اختص بوجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ووضوح الدلالة مادة البديع، فهو أخص من علمي المعاني والبيان، لكنه قال في مقدمة كتابه: قد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللغة، ما رأيت أن لا بد منه، وهذه عدة أنواع متآخذة، فأودعته علم الصرف بتمامه وأنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق.."، وأردف: "وأوردت علم النحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان..."، فدلَّ بذلك على تعلق النحو بعلم البلاغة وتأكيد مهمة اللغة في الأداء والإبلاغ.
وقال في موضع آخر من كتابه: "أن علم النحو هو أن ننحو معرفة كيفية التركيب في ما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها، ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفية. وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ورعاية ما يكون من الهيئات إزاء ذلك، وبالكلم نوعيها المفردة وما هي في حكمها –المفتاح /37". وجاء في شرح السيد للمفتاح: "وأما عن المركبات فباعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو".وهذا هو أبو إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى (790ه) يعرِّف علم النحو في شرح (الخلاصة) فيقول: "وهو في الاصطلاح، علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، أي المعاني التي تستفاد بالأشكال..".
بل هذا ابن كمال باشا (940ه) يقول في رسائله، وقد عرض فيها لعلم النحو:
"ويشارك النحوي صاحب علم المعاني في البحث عن المركبات، إلا أن النحوي يبحث عنها من جهة هيئاتها التركيبية صحة وفساداً، ودلاله تلك الهيئات على معانيها الوضعية على وجه السداد، وصاحب المعاني يبحث عنها من حيث النظم المعبر عنه بالفصاحة في التركيب، وقبحه..." ثم خلص إلى القول: "وهذا كون علم المعاني تمام علم النحو".
وقال الأستاذ إبراهيم مصطفى، رحمه الله، في كتابه (إحياء النحو): "وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فرسم في كتابه –دلائل الإعجاز-طريقاً جديداً للبحث النحوي، وتجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب وبيَّن أن للكلام نظماً وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام وأنه إذا عدل الكلام عن سنن هذا النظم.. لم يكن مفهماً معناه ولا دالاً على ما يُراد منه /16".
وإذا كانت مادة النحو لا تتجاوز الحكم على أواخر الكلم وعلامات الإعراب، فلا شك في أن عالم النحو المحيط به خُبراً الواقف على جليل أحكامه ودقيقها، يستطيعُ أن يتحاشى الخطأ في بيانه وتعبيره ويتبين صحيح الكلام من فاسده، لكنه قاصر أن يتعرَّف كيف يكون إحكام الأداء وإحسان التعبير وإجادة السبك، وتمييز سديد الكلام من سفسافه، بل قاصر أن يتعرَّف كيف يكون انتهاج سبيل الفصحاء في تأليف الكلام نثراً ونظماً، وهو ما قد أشرنا إليه في كتابنا (مسالك القول في النقد اللغوي –ص /62).. وأنَّى لدارس النحو هذا أن يعي نظام صياغة كلام العرب ومتصرف قولهم ويستشف طرق نسجهم وحبكهم إذا انحرف عن غرض النحو في تعرّف روح العربية ونهجها في التأليف والتعبير وتصريف المعاني فقصر النحو على بحث أثر العوامل في أواخر الكلم.
ولا شك أن الجرجاني قد وفق في ما ذهب إليه من تجاوز ظواهر الاعراب إلى تبين أسراره وأغراضه ودواعيه. فإذا نحن أفردنا مذهب الجرجاني لنجعل منه مادة لعلم المعاني وحسب، وحبسناه عن مادة النحو، فقد بخسنا النحو حقه بل أيبسنا نسغه وغضنا ماءه وأذهبنا نداوته.
وقد كشف الدكتور أحمد البدوي في كتابه (عبد القادر الجرجاني) عما انتهى إليه الجرجاني في كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) من أن أصل المعنى يمكن أن يعبَّر عنه بطرق مختلفة، وأن لكل عبارة من ذلك معناها الخاص الذي تفترق به عن العبارة الأخرى، لأن العبارتين لا يمكن أن تؤديا معنىً واحداً، إلا إذا اتفقنا من جميع الجهات.
أقول هذا ما فات كثيراً من النحاة أن ينبهوا عليه ويفصحوا عنه، في كثير من الأحيان، فأغفلوه وتجاوزوه حين أغرقوا في الصناعة اللفظية، وقصروا الاهتمام على ضبط أواخر الكلم.
مذهب العلاَّمة الحصري في الجملة الفعلية والاسمية:
وممن عمد إلى هذا الموضع من البحث، فسلك مسلك الجواري والمخزومي والسامرائي، في مخالفة الحد الذي اتخذه جمهور النحاة في تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية، وسوّى بين تقديم الفعل وتأخيره في مثل قولك (جاء خالد) و(خالد جاء) بل سبقهم إلى ذلك العلاَّمة الأستاذ ساطع الحصري في كتابه (آراء وأحاديث في اللغة والأدب).
قال الحصري: "ومن المعلوم أن الجملة تنقسم إلى قسمين فعلية واسمية: ولكننا عندما ننظر إلى الأمور نظرة منطقية، يجب أن نفهم من تعبير جملة فعلية: الجملة التي تحتوي على فعل، وبتعبير آخر الجملة التي تعلمنا ما حدث وما يحدث. كما يجب أن نفهم من تعبير جملة اسمية الجملة التي لا تحتوي على فعل؛ وبتعبير آخر: الجملة التي تخبرنا عن أوصاف اسم من الأسماء وحالاته"، وأردف: "غير أن قواعد اللغة العربية لا تلتزم هذه التعريفات والمفهومات المنطقية، بل تخالفها كلية، فإنها تعتبر الجملة فعلية عندما تبتدئ بفعل، واسمية عندما تبتدئ باسم. ومعنى ذلك أنها لا تصنف الجمل حسب أنواع الكلمات التي تتألف منها، بل تصنفها حسب نوع الكلمة التي تبتدئ بها، دون أن تلتفت إلى بقية كلماتها /107".
ويمضي الحصري في شرح مذهبه ونقد مذهب النحاة، فيقول: "ونظراً لهذه القواعد الرسمية فإن عبارة: نام الولد، يجب أن تعتبر جملة فعلية، في حين أن عبارة الولد نام، يجب أن تعتبر جملة اسمية، مع أن كلتيهما تتألفان من الكلمتين أنفسهماوتؤديان المعنى نفسه/108".
الرأي في ما جاء به الحصري ومن نحا نحوه، في التسوية بين تقديم الفعل على فاعله وتأخيره عنه:
نقول في الجواب عما تقدم من كلام الحصري، إن الذي نراه هو أن قولك (نام الولد) لا يؤدي مؤدَّى قولك (الولد نام) عند التحقيق، ولو أوهم ظاهر الجملتين غير ذلك.
فلكل من هاتين الجملتين شأن في التعبير، وموضع من الأداء، لا تسد مسدَّه الجملة الأخرى، إذ ليس يكفي أن تتفق العناصر التي تتألف منها كل من الجملتين، بل ينبغي أن يتفق فيهما موضع كل عنصر من الآخر، وليست هذه الحقيقة وقفاً على اللغة العربية.
ذلك أن قولك (جاء خالد) و(نام الولد) في الجملة الفعلية، قد دلَّ على مسند أو خبر لم يطرق أذن السامع، ولم يسبق ذكره في سياق الكلام. فإذا ذكر الخبر أي المسند انتظر السامع ذكر الذي أسند إليه، وهو الفاعل، وإذا ذكر هذا اتصل بفعله فأصبح جزءاً منه.
أما قولك (خالد جاء) أو (الولد نام) في الجملة الاسمية، فقد دلَّ على مسند إليه قد ذكر في السياق، ومسند أو خبر معلوم يرادُ التوثق من إسناده إليه. قال الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه) في كتابه (دلائل الإعجاز): "لا تؤتى بالاسم مُعرَّى من العوامل إلا لحديث قد نُوي إسناده إليه /77". وقد أسند الخبر إلى ما هو موضوع الكلام، وهو (خالد أو الولد) وحُمل عليه دون أن يتصل اتصال الفاعل بفعله. وان ما قدمناه في الموازنة بين دلالتي الجملة الاسمية والفعلية من مذهب لغوي متكامل للإمام الجرجاني قد أتى به منذ القرن الحادي عشر من الميلاد، وجاءت المذاهب الحديثة تعزز مذهبه هذا وتؤيده.
وإنا لنسأل كل من قال بالتسوية بين (خالد جاء) و(جاء خالد)، ألست تقول (خالد جاء) فتحدَّث السامع عن (خالد)، وقد جاء ذكره بينكما وبات السامع ينتظر منك أن تحدثه عنه، فإذا أخبرته بمجيئه أَزَلْتَ الشك لديه في حقيقة مجيئه؟ كما تقول (جاء خالد) فتبادر السامع بإخبارك إياه عن مجيئه دون أن يقتضي ذلك تقدم ذكره، فكيف يستوي القولان في التعبير إذاً؟ ولا تستوي العبارتان في أداء معنى، ما لم تتفقا في البنية وتتطابقا في البنية وتتطابقا في موضع كل جزء من أجزائها.
وإذا كان النحاة قد ميزوا قولك (خالد جاء) من قولك (جاء خالد) فأسموا الأول جملة فعلية والثاني جملة اسمية، ولم يتطرقوا صراحة إلى الكشف عن الفرق بينهما في أداء المعنى، وانصرفوا إلى الاهتمام بالصناعة اللفظية، فقد جاء الجرجاني ليكشف عما قصَّر النحاة غالباً في إيضاحه والإفصاح عنه، من حيث اختلاف الأداء في كل من الجملتين. ولا يخفى أن (خالد جاء) جملة اسمية مركبة، تتألف من مبتدأ ومن خبر هو جملة فعلية، فإذا أردت الجملة الاسمية البسيطة قلت (خالد آتٍ). أما (جاء خالد) فهو جملة فعلية وحسب.
وانظر إلى ثقوب رأي الجرجاني وبعد غوره، بل أصالة فكره، في الإشارة إلى المواضع التي يدعو فيها الأداء إلى تقديم الفاعل ليكون مبتدأ. قال الجرجاني في دلائل الإعجاز (ص /99): "واعلم أن هذا الذي بات