أما الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه. وهو الذي يسميه النحويين الجمل، نحو زيد أخوك، وقام محمد، وضرب سعيد، وفي الدار أبوك، وصه، ومه، ورويد، وحاء وعاء في الأصوات، وحسِّ، ولبِّ، وأفّ، وأوّه، فكل لفظ استقل بنفسه، وجنيت منه ثمرة معناه فهو كلام.
وأما القول فأصله أنه كل لفظ مذل به اللسان، تاماً كان أو ناقصاً. فالتام هو المفيد، أعني الجملة وما كان في معناها، من نحو صهٍ، وإيهٍ. والناقص ما كان بضد ذلك، نحو زيد، ومحمد، وإن، وكان أخوك، إذا كانت الزمانية لا الحدثية. فكل كلام قول، وليس كل قول كلاماً. هذا أصله، ثم يتسع فيه، فيوضع القول على الاعتقادات والآراء، وذلك نحو قولك: فلان يقول بقول أبي حنيفة، ويذهب إلى قول مالك، ونحو ذلك، أي يعتقد ما كانا يريانه، ويقولان به، لا أنه يحكي لفظهما عينه، من غير تغيير لشيء من حروفه، ألا ترى أنك لو سألت رجلاً عن علة رفع زيد، من نحو قولنا: زيد قام أخوه، فقال لك: ارتفع بالابتداء لقلت: هذا قول البصريين. ولو قال: ارتفع بما يعود عليه من ذكره لقلت: هذا قول الكوفيين، أي هذا رأي هؤلاء، وهذا اعتقاد هؤلاء. ولا تقول: كلام البصريين، ولا كلام الكوفيين، إلا أن تضع الكلام موضع القول، متجوزاً بذلك. وكذلك لو قلت: ارتفع لأن عليه عائداً من بعده، أو ارتفع لأن عائداً عاد عليه، أو لعود ما عاد من ذكره، أو لأن ذكره أعيد عليه، أو لأن ذكراً له عاد من بعده، أو نحو ذلك، لقلت في جميعه: هذا قول الكوفيين، ولم تحفل باختلاف ألفاظه، لأنك إنما تريد اعتقادهم لا نفس حروفهم. وكذلك يقول القائل: لأبي الحسن في هذه المسئلة قول حسن، أو قول قبيح، وهو كذا، غير أني لا أضبط كلامه بعينه.
ومن أدل الدليل على الفرق بين الكلام والقول إجماع الناس على أن يقولوا: القرآن كلام الله، ولا يقال: القرآن قول الله، وذلك أن هذا موضع ضيق متحجر، لا يمكن تحريفه، ولا يسوغ تبديل شيء من حروفه. فعبر لذلك عنه بالكلام الذي لا يكون إلا أصواتاً تامة مفيدة، وعدل به عن القول الذي قد يكون أصواتاً غير مفيدة، وآراء معتقدة. قال سيبويه: "واعلم أن "قلت" في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها، وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً". ففرق بين الكلام والقول كما ترى. نعم وأخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقر في النفوس، وزالت عنه عوارض الشكوك. ثم قال في التمثيل: "نحو قلت زيد منطلق، ألا ترى أنه يحسن أن تقول: زيد منطلق" فتمثيله بهذا يعلم منه أن الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائماً برأسه، مستقلاً بمعناه، وأن القول عنده بخلاف ذلك، إذ لو كانت حال القول عنده حال الكلام لما قدم الفصل بينهما، ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلة بأنفسها، الغانية عن غيرها، وأن القول لا يستحق هذه الصفة، من حيث كانت الكلمة الواحدة قولاً، وإن لم تكن كلاماً، ومن حيث كان الاعتقاد والرأي قولاً، وإن لم يكن كلاماً. فعلى هذا يكون قولنا قام زيد كلاماً، فإن قلت شارطاً: إن قام زيد، فزدت عليه "إن" رجع بالزيادة إلى النقصان، فصار قولاً لا كلاماً، ألا تراه ناقصاً، ومنتظراً للتمام بجواب الشرط. وكذلك لو قلت في حكاية القسم: حلفت بالله، أي كان قسمي هذا لكان كلاماً، لكونه مستقلاً، ولو أردت به صريح القسم لكان قولاً، من حيث كان ناقصاً، لاحتياجه إلى جوابه. فهذا ونحوه من البيان ما تراه.
ابن جني، الخصائص، 1: 17-19.