تأليف د محمد محمد يونس علي
اللسانيات المضيقة واللسانيات الموسعة
عندما يقصر اللغوي اهتماماته البحثية على بنية اللغة، وأنظمتها دون أن يتطرق إلى الأبعاد النفسية، أو الاجتماعية، أو العرقية، أو الأدبية فإنه يبحث في اللسانيات المضيقة microlinguistics. أما إذا اختلط البحث ببعض الأبعاد، والجوانب السابقة فسيندرج في اللسانيات الموسعة التي تشمل:
1- اللسانيات الاجتماعية social linguistics: يعرف لاينز هذا العلم بأنه "دراسة اللغة من حيث علاقتها بالمجتمع"،[1] وهو فرع نشأ عن التعاون بين اللسانيات، وعلم الاجتماع الذي يبحث في المعنى الاجتماعي لنظام اللغة، واستخدامها، وزمرة الشروط المشتركة بين البنية اللغوية، والاجتماعية.[2]
2- اللسانيات العرقية (أو الثقافية) ethnolinguistics: وقد عرّفها لاينز بأنه "دراسة اللغة من حيث علاقتها بالثقافة"، ولما كانت الثقافة تقتضي مجتمعا، وكان المجتمع خاضعا للثقافة فإن مباحث اللسانيات الاجتماعية، واللسانيات العرقية بمفهومهما الواسع تتداخل إلى حد كبير.[3]
3- اللسانيات النفسية psycholinguistics: يتركب المصطلح الأجنبي من كلمتين هما الكلمة الإغريقية psyche بمعنى العقل، أو الذهن، والكلمة اللاتينية lingua التي تعني اللغة، ويعرف اصطلاحا بأنه "دراسة اللغة، والعقل".[4] وكما لا يخفى فإن العلاقة بين المعنيين اللغوي، والاصطلاحي وثيقة جدا. ومن الموضوعات التي يدرسها هذا العلم كيفية اكتساب اللغة، وإحداثها language production، وفهمها. ويسعى اللسانيون النفسيون إلى التعرف على طبيعة محتوى المكونات الشخصية للقدرة اللغوية البشرية، واكتشاف الطرائق التي تربط بها المعرفة اللغوية بالاستخدام الفعلي للغة. ومن القضايا التي تبحثها اللسانيات النفسية، وتشكل تحديا للمهتمين به التحديد الدقيق للجوانب الوراثية في اللغة. ومن الآراء المغالية في هذا الشأن ما ذهب إليه تشومسكي من أن كل البنى النحوية، والمفهومية التي تجسد المعرفة اللغوية للبالغين موجودة في الأذهان منذ الولادة. غير أن النظرية الأكثر اعتدالا التي يقول بها كثير من الباحثين تكتفي بالقول بأن لدينا نزعة فطرية لفهم اللغة. وهذا ما يفسر كيف أن تعامل الطفل مع التعقيدات اللغوية الفائقة أسهل من تعلمه العمليات الحسابية البسيطة كالضرب، والقسمة.[5]
وقد ناقش القضايا الأساسية للسانيات النفسية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين ستينثال Steinthal، ووندت Wundt، وبوهلر Buhler. ووضعت التسمية، والتصميم، والمفهوم، والبرنامج لهذا العلم في صيف 1953م في حلقة نقاش في معهد اللسانيات بجامعة إنديانا شارك فيها اللسانيون، واللسانيون النفسيون الأمريكيون. وقرروا أن البنيات اللغوية التي يكتشفها اللسانيون يمكن دراستها باستخدام مناهج علم النفس، ونظرياته.[6]
4- علم الأسلوبية stylistics: هو فرع من اللسانيات الموسعة يدرس "التنوع الأسلوبي في اللغات، والطريقة التي يستثمر بها مستخدموها هذا التنوع". وكثيرا ما يستخدم في معنى أضيق بحيث يقتصر على "دراسة لغة النصوص الأدبية". ويذكر لاينز أن هناك خلافا في السنوات الأخيرة بين الدراسات اللسانية، والأدبية ناشئا عن سوء الفهم، والأحكام المسبقة من جهة، ودعاوى قسم من اللسانيين، ونقاد الأدب بشأن أهداف تخصص كل منهم، وإنجازاتهم. ويشير إلى أن سوء الفهم، والأحكام المسبقة تقلصت: فاللسانيون لم يعودوا معتزين بالقدر الذي كانوا عليه سابقا فيما يتصل بالمكانة العلمية لتخصصهم، كما أنهم أكثر حذرا في صوغهم لمبدأ أولوية اللغة المنطوقة (على المكتوبة)، وفي نقدهم للتحيز الأدبي، والمعياري للنحو التقليدي. كما أن بعض نقاد الأدب على الأقل يدركون أن إصرار اللغوي على فكرة أن استخدام اللغة في الأدب ليس هو الاستخدام الوحيد، أو حتى الأساسي للغة يطّرد مع رأيهم في أن الوظائف الأدبية للغة جديرة بالدراسة على وجه الخصوص. وفضلا عن ذلك، ثمة الكثير من اللسانيين الذين يعملون الآن في حقل الأسلوبية الأدبية يجمعون في اهتماماتهم بين اللغة، والأدب معا. ومن موضوعات الأسلوبية العدول (أو الانزياح) الأسلوبي stylistic incongruity (أي الخروج عن الأساليب المألوفة المتوقعة)، واللبس المقصود deliberate ambiguity، والجرأة في استخدام المجاز the bold use of metaphor، والتكرار alliteration، والجناس assonance، والعروض metre، والقافية rhythm، ونحو ذلك.[7] وهكذا تتشابه اهتمامات الأسلوبيين، واهتمامات علماء البلاغة العربية إلى حد ما، وإن كانت المناهج المتبعة مختلفة.
وبينما يهتم النحو بالبنية القواعدية للجملة تهتم الأسلوبية بدراسة النص، والاستخدامات الجمالية للغة، والاستجابات الجمالية للمتلقي. ويبدو أن الأسلوبيين بدؤوا يميلون الآن إلى دراسة النصوص غير الأدبية كصوغ الدليل الإرشادي، وكتابة الرسائل، إضافة إلى اهتماماتهم التقليدية بالرواية، والشعر. وتمتد مجالات البحث في الأساليب لتشمل –علاوة على اللغة المكتوبة_ الإعلانات المسموعة، والنصوص المنطوقة كإعلانات الإذاعة المسموعة، والخطابات، وحتى المحادثة العادية.
وعلى وجه العموم، ثمة اعتقاد شائع لدى الأسلوبيين أن الاستجابة الجمالية تحدث عندما تستخدم البنى اللغوية على نحو بديع. فمتعة المفاجأة الناشئة عن النظم الفريد، وغير المتوقع يؤدي إلى العناية باللغة في حد ذاتها بدلا من الرسالة التي تعبر عنها تلك اللغة.[8]