تأليف د محمد محمد يونس علي
تعد الدراسات التخاطبية امتدادا، واستكمالا لجهود المدرسة الوظيفية، وتأتي هذه الدراسات نتيجة طبيعية لشعور المهتمين بها بإخفاق النموذج التقليدي للتخاطب traditional model of communication في تقديم تفسير ناجح لعملية التخاطب. ويمكن تلخيص أوجه الإخفاق فيه في كونه يتعامل مع التخاطب في عزلة عن السياقات الفعلية التي تستخدم فيها اللغة، ويصبغ عملية التخاطب بطابع مثالي تتجاهل فيه قضايا اللبس، والخروج عن المواضعات اللغوية، وقصر وظائف اللغة على عملية الإبلاغ،[1]، وإهمال الأصول التخاطبية المفسرة لمقاصد المتكلمين.
ولكي نوضح ذلك يحسن أن نشرح كيف عجز النموذج التقليدي للتخاطب الذي قصر اهتمامه على العناصر، والبنى اللغوية التي ينطقها المتكلم في استنباط (2) من القولة (1):
(1) أكل خالد بعض الخبيز.
(2) لم يأكل خالد كل الخبيز.
فليس ثمة عنصر لغوي في (1) يشير إلى (2)، كما أن كل البنى الصرفية، والنحوية، والمعجمية التي تضمنتها (1) لا تفسر استنباطنا المعتاد للمفهوم من (2). وكانت أول محاولة ناجحة في هذا الشأن ما قدمه فيلسوف اللغة الأمريكي Paul Grice Herbert (1913-1988) فيما سمي بمبادئ المحادثة conversational maxims. وبتطبيق هذه المبادئ، والتعديلات التي طرأت عليها أصبح بالإمكان أن نصل إلى كيفية استنباط (2) من (1). صاغ قرايس مبدأ التعاون the Co-operative Principle الذي يقتضي أن المتكلمين متعاونون في تسهيل عملية التخاطب، وهو يرى أن مبادئ المحادثة المتفرعة عن مبدأ التعاون هي التي تفسر كيف نستنج المفاهيم الخطابية. ويمكن تلخيص تلك المبادئ في الآتي:
1- مبدأ الكمّ maxim of quantity:
(أ) تكلّم على قدر الحاجة فقط (القدر الذي يضمن تحقيق الغرض من التخاطب).
(ب) لا تتجاوز بإفادتك القدر المطلوب.
2- مبدأ الكيف maxim of quality:
(أ) لا تقل ما تعتقد كذبه.
(ب) لا تقل ما يعوزك فيه دليل بيّن.
3- مبدأ الأسلوب maxim of manner
(أ) تجنب إبهام التعبير.
(ب) تجنب اللبس
(ت) أوجز كلامك (تجنب الإطناب الزائد).
(ث) ليكن كلامك مرتبا.
4- مبدأ المناسبة maxim of relation:
- ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال (be relevant)[2]
لقد طوّرت نظرية قرايس بفضل جهود باحثين في مجال علم التخاطب، ومن بينهم هارنيش Harnish الذي أضاف بعض التعديلات منها الجمع بين مبدئي الكم، والكيف[3]، وصادُك Sadock الذي أشار إلى إمكان تقليص بعض مبادئ قرايس، وأبرز بعض الثغرات في معيار الإبطال الذي صممه قرايس لاكتشاف المفاهيم الخطابية conversational implicatures المولّدة نتيجة انتهاك أحد مبادئ المحادثة المشار إليها سابقا. وتمكن صادُك من إضافة معايير أخرى لاختبار تلك المفاهيم،[4] غير أن أقوى التحديات جاءت من ويلسون Wilson، وسبيرير Sperber اللذان شككا في مبادئ قرايس، واستثنيا من ذلك مبدأ المناسبة الذي جعلا منه أساسا لنظرية سمياها بنظرية المناسبة theory of relevance.[5] وبالعودة إلى المثال (1) يمكننا معرفة الأساس الذي يستند إليه المتخاطبون في استنتاج (2) باللجوء إلى مبدأ الكم الذي بمقتضاه يفترض السامع أن قائل (1) ما كان ليستخدم صيغة أضعف (وهي كلمة "بعض") إذا كان متلقيه معنيا بالصيغة الأقوى (وهي كلمة "كل") التي كان بإمكان المتكلم أن يقولها بدلا مما قال. فالقاعدة إذن –كما يذكر جيفري ليتش أن "القضية الأضعف تستلزم أن المتكلم يعتقد بنفي القضية الأقوى". وهكذا فإن ذكر "بعض الخبيز"يستلزم نفي "كل الخبيز".[6]
لاشك أن مثل هذه المباحث فتحت مجالا جديدا واسعا في آفاق اللسانيات، وأسهمت في مد جسرٍ يصل بين البحث اللغوي المحض، والمنطق، فضلا عن كونها برهنت على أن عملية التخاطب لا تقتصر على المعطيات اللغوية؛ بل تتناول أيضا عناصر منطقية، وأخرى تخاطبية، وهو ما أعطى لهذا الحقل بعدا إبستمولوجيا جديدا يبدو فيه التشديد على تداخل المعارف، والعلوم المختلفة، والعلاقة التكاملية بينها. وقد سبق لعلماء أصول الفقه الإسلامي أن أدركوا هذه الحقيقة، وجعلوا منها مزيّة رجحت كفّتهم على كفة النحاة الذين قصروا اهتماماتهم على دراسة البنى اللغوية، وأهملوا الجوانب التخاطبية، والعمليات الاستنتاجية الملازمة لعملية الخطاب. ويبدو شعور تفوّق الأصوليين واضحا عند محمد بخيت المطيعي في قوله إن علماء الأصول "نحاة، وزيادة"،[7] كما صرح عبد العلي الأنصاري قبله بتفوّق علماء أصول الفقه على أهل العربية.[8]
تفترض البراغماتية pragmatics [9] وجود توقعات بين المتخاطبين، وأصول خطابية تحكم سلوكهم، واستنتاجاتهم، ومن الواضح جدا أنها تعنى بالأداء، وليس بالكفاية خلافا للتوليديين. وقد عرف عن البراغماتيين تشكيكهم في فكرة قصر اللسانيات على دراسة الكفاية اللغوية بعيدا عن الاستخدام، والسياق، وفي ما يتطلبه ذلك من قدر عال من التجريد، والأمثلَة.[10]
لقد جاءت البراغماتية بعد مراحل من الدراسات الصورية، أو البنائية formal للمعنى، التي عرف بها التوليديون على وجه الخصوص، ولعل روبين لاكوف Robin Lakof من أوائل التوليديين الذين شككوا في إمكان دراسة المعنى معزولا عن السياق، وتحمل شهادة أحد التوليديين المعروفين بإغراقهم في التجريد على إخفاق النهج الصوري البنائي في دراسة المعنى قيمة خاصة في البرهنة على أهمية السياق، والاستخدام في تقديم تفسير سليم لعملية التخاطب.
ومنذ السبعينيات توالت الانتقادات للدراسات التي تجعل من الجملة وحدة للتحليل اللغوي، وزاد عزوف مختلف الباحثين عن الدراسات التي لا تأخذ في حسبانها العناصر السياقية، والجوانب التخاطبية في دراسة اللغة. فاللسانيون الاجتماعيون بدؤوا يرفضون فكرة المتحدث المثالي عند تشومسكي، وشبيه بهذا ما فعلته اللسانيات النصية، وتحليل الخطاب حين رفضتا قصر الدراسات اللسانية على ما يسمى بنحو الجملة sentence grammar؛[11] متأثرين في ذلك ببعض الوظيفيين من أمثال فيرث، وهاليدي، وميتشال Mitchell الذي بلغت شهرتهم أوجها في الخمسينيات.
ولعل من أهم ما ينبغي أن يذكر في سياق الحديث عن البراغماتية الدور المهم، والمؤثر الذي قام به فلاسفة اللغة في تطوير هذا المجال. ومن الأعلام المهمين هنا -إضافة إلى بول قرايس المشار إليه سابقا -أوستين Austin، وسيرل Searle اللذان قدما للسانيات نظريتهما المعروفة بأفعال الكلام speech acts theory. تقوم هذه النظرية على فكرة أننا عندما نتحدث فإننا نقوم بأفعال، أو أحداث، ويبدو هذا واضحا فيما عرف بالقولات الإنشائية performative utterances التي يمكن أن نمثل لها بما يطلق عليه في كتب الفقه مصطلح "صيغ العقود" نحو "بعتك"، و"زوجتك"، وطلقتكِ"، ومنها أيضا "أعِدك"، و"أرجوك" "وأتمنى أن تفعل ذلك"، ونحوها مما يقترن فيه القول بعمل يصح أن نعده منجزا بمجرد انتهاء المتكلم من كلامه؛ كالطلاق، والبيع، والنكاح، والوعد، والرجاء، والتمني. وقد أضافت هذه النظرية تطورا إبستمولوجيا جديدا في اللسانيات ترتب عليه إعادة النظر في موضوعه من حقل يدرس الأقوال إلى مجال تدرس فيه الأقوال المقرونة بالأفعال، كما ترتب عليه إعادة النظر في طبيعة اللغة، واستخدامها.
لقد أتاحت الطبيعة الموسوعية للبراغماتية الفرصة لتعاون كبير بين المناطقة، والبراغماتيين (وكذلك علماء الدلالة) في سبيل تقديم نموذج متطور لعملية التخاطب يأخذ في حسبانه كل الأبعاد اللغوية، والمنطقية، والتخاطبية، وهو ما أدى إلى بروز أعمال تناقش موضوعات مشتركة[12] مثل أنواع الاستنتاج types of inference، والافتراضات presuppositions، والمفاهيم الخطابية conversational implicatures، والتعيين deixis.
وأخيرا علينا أن نذكّر بأن البراغماتية لا تقتصر على كونها فرعا من فروع اللسانيات النظرية، بل هي أيضا مدرسة متميزة في مناهجها البحثية، وفي موضوعاتها، وفي أصولها. وربما كان من العوامل التي أدت إلى دراستها باعتبارها حقلا من حقول اللسانيات أكثر من الحديث عنها بوصفها مدرسة أن الحديث عنها باعتبارها مدرسة يقتضي صوغ الاسم الذي يشير إليها بإضافة اللاحقة ism (على منوال Structuralism، وFunctionalism، و(Generativism يؤدي إلى التباسها بالمدرسة الفلسفية pragmatism (الذرائعية)،.