يُعد الحذف واحداً من العوامل التي تحقق التماسك النصّي، وهو من الظواهر العالمية في اللغات، فقد لقيت هذه الظاهرة عناية كبيرة من لدن العلماء قديماً وحديثاً(1 ).
وتتعدد تعريفات الحذف وإنْ كان جلها يشير إلى الاستغناء عن جزء من الكلام لوجود دليل بالفهم والإدراك(2 ) ويذكر ابن جنّي في الخصائص أنَّ العرب حذفت "الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة، وليس شيء من ذلك إلاَّ عن دليل وإلاَّ كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته"( 3).
فعن طريق هذا الدليل المتحدث عنه سابقاً يستطيع القارئ أنْ يتعرف على الحذف ويعين المحذوف، وكل محذوف لدليل فهو كالملفوظ به، فإنْ لم يوجد في الكلام أي دليل على المحذوف أدى ذلك إلى الخلل بالفهم والفساد في اللغة بل يصير الكلام لغزاً لا حل له(4 ).
إنّ وجود الدليل شرط مهم، يؤكد ذلك "كريستال" في تعريفه للحذف بأنه "حذف جزء من الكلام، من الجملة الثانية، ودلّ عليه دليل من الجملة الأولى"(5 )، فالحذف "لا يتم إلا إذا كان الباقي في بناء الجملة بعد الحذف مغنياً في الدلالة، كافياً في أداء المعنى، وقد يُحْذَف أحد العناصر لأن هناك قرائن معنوية أو مقالية تومئ إليه وتدل عليه، ويكون في حذفه معنى لا يوجد في ذكره"(6 ) فإنك "ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة، أزيد للإفادة"(7 ).
والتركيز على وجود دليل مقالي هو بيان للإحالة النصّية القبلية أو اللاحقة، المعول عليها في تحقيق التماسك النصّي، بخلاف الإحالة خارج النصّ فتكون على مستوى الجملة( Cool، فالحذف كعلاقة اتساق لا يختلف عن الاستبدال إلا بكون الأول "استبدال من النقطة صفر" أي أن علاقة الاستبدال تترك أثراً ما، وأثره هو وجود أحد عناصر الاستبدال، بينما علاقة الحذف لا تُخَلف أثراً، ولهذا فإن المستبدل يبقى مؤشِّراً يسترشد به القارئ للبحث عن العنصر المفترض مما يمكنه من ملء الفراغ الذي يخلفه الاستبدال، بينما الأمر على خلاف هذا في الحذف، إذ لا يحل محل المحذوف أي شيء، ومن ثم نجد في الجملة الثانية فراغاً بِنْيَويًّا يهتدي إلى ملئه اعتماداً على ما ورد في الجملة الأولى أو النصّ السابق"(9 ) وهذا ما يسميه الأستاذ "محمد مفتاح" الحذف بمؤشر لغوي أي أنه - اعتماداً على الجملة السابقة واللاحقة- يمكن تقدير المحذوف"(10 ).
فالتركيب السابق في الكلام يمكن أن يمدنا بكميات من المادة التي تملأ الفجوة... ويصبح الاستشفاف سهلاً باشتمال التركيب السابق على شواغل المواقع، وذلك حتى إن القارئ ليتوقع أن يضيف معلومات جديدة بناء على شاغل الموقع(11 ).
ولذا "فإن دور الحذف في اتساق النصّ ينبغي البحث عنه في العلاقة بين الجمل، وليس داخل الجملة الواحدة"( 12) لأن العلاقة داخل الجملة الواحدة علاقة بنيوية لا يؤدي فيها الحذف صورة من صور التماسك فيتحدث "هاليداي": بأن الحذف في هذا المستوى غير مهم من حيث التماسك، وذلك، لأن العلاقة بين طرفي الجملة علاقة بنيوية، فالجملة الثانية فرع للجملة الأصلية، وبناء على ذلك فإن الدور الذي يلعبه الحذف في تماسك النصّ يكون بين الجمل الأصلية وليس داخل الجملة الواحدة(13 ).
فالقارئ حين يجد فراغاً بنيوياً في الجملة الثانية فإنه يبحث عنه اعتماداً على ما ورد في النصّ السابق.
كيفية حدوث التماسك من خلال الحذف:
يرى صبحي إبراهيم الفقي أن التماسك بالحذف يتحقق عبر عدة جوانب:
1- تكرار اللفظ نفسه بعد إعادة المحذوف.
2- المرجعية المتحققة بين الشطرين.
3- وجود دليل على المحذوف(14 )
فالحذف علاقة استبدال من "النقطة صفر" أو اكتفاء بالمبنى العدمي كما يسميه دي بوجراند(15 ).
فعن طريق إرجاع المحذوف تتحقق الإحالة القبلية الداخلية، ويظهر التكرار، ويظهر التماسك على مستوى أكثر من جملة، وتظهرأهمية الدليل المذكور، فعن طريق هذا الدليل يستطيع القارئ ملء الفراغ.
أنواع الحذف:
أنماط الحذف في العربية تبدأ من الحركة أو الصوت ثم الحرف ثم الكلمة ثم العبارة ثم الجملة ثم أكثرمن جملة(16).
وحدد "هاليداي ورقية حسن" أنواع الحذف في:
أ- الحذف الاسمي "Nominal Ellipsis" ويقصد به حذف اسم داخل المركب الاسمي:
"أي قبعة ستلبس؟ ....هذه هي الأحسن. ويقرر الباحثان أن الحذف لا يقع إلا في الأسماء المشتركة.
ب- الحذف الفعلي "Verbal Ellipsis" أي أن المحذوف يكون عنصراً فعلياً، مثل: ماذا كنت تنوي؟ السفر...والتقدير: أنوي السفر.
ج- الحذف داخل شبه الجملة، مثل: كم ثمنه؟ خسمة جنيهات(17).
ومن أنماط الحذف المهمة في التحليل النصّي، حذف بعض الأحداث دون البعض في التسلسل الزمني للقصة...والحذف السببي ومنها حذف المكان والزمان، وهناك أقسام أخرى من الحذف القصصي مثل...حذف الشخصيات أو بعض مقوماتها(18).
موقع الدليل:
نجد في معظم الأمثلة السابقة أنَّ "العنصر المفترض يوجد في النصّ السابق، وهذا يعني أنَّ الحذف عادة علاقة قبلية"( 19).
وقد يأتي الحذف في الجملة الأولى أو النصّ السابق؛ لوجود العنصر المفترض في الجملة الثانية أو النصّ اللاحق، ولكن "الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه هو الأكثر، لأن الحذف في الآخر أسهل من الحذف في الأول"( 20)، ومن أمثلة الحذف من النصّ السابق لدلالة الثاني عليه: قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا 000 وأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضِ والرْأيُ مُخْتَلِفُ
فحذف (راضون ) وقع الدليل لاحقاً ، فالإحالة داخلية لاحقة ، ومن ثم فالمرجعية إذا كانت بين المحذوف والمذكور، فهي داخلية لاحقة، أما إذا كانت بين المذكور والمحذوف على الترتيب، فإنها تكون داخلية سابقة"( 21).
ونشير أخيراً إلى قول دي بوجراند بأن "الإيغال في الحذف يتطلب جهداً أكبر لربط نموذج العالم التقديري للنص بعضه ببعض في الوقت الذي يقتطع من البنية السطحية بشدة، ووجود الحذف بدرجات مختلفة يتلاءم كل منها مع النصّ والموقف"(22 ).
مهمة القارئ في معرفة موقع الحذف:
ونشير في النهاية إلى دور القارئ في إدراك مواطن الحذف، وكيفية قيامه بملء الفراغات، وكيفية قيام هذا الحذف بوظائفه.
إذن، القارئ يسهم في إكمال النصّ فهو "إلى حد ما المبدع المشارك، لا للنص نفسه، بل لمعناه وأهمِّيته وقيمته"( 23).
وربما أمدنا رأي ابن رشيق بما يكشف لنا عن تأثير الحذف على المتلقي؛ "إنَّ نَفْس السامع تَتِّسع في الظن والحساب وكل معلوم فهو هين لكونه محصوراً"( 24).
والحذف يُعدُّ وسيلة تسهم في خلق ترابط نصي، إذ يشرع الحذف في تكوين حوار طرفاه النصّ والمتلقي، وهو حوار يتجلى فيه تواصل المتلقي مع النصّ.
وإذا تأملنا الصلة بين النصّ والمتلقي، في إطار الكشف عن مواقع الحذف، فإننا سنجد أن ثمة تعويلاً لازماً على "الدليل" أو الأثر الذي يدل القارئ أو السامع على مكان الحذف ويهديه إلى تقدير المحذوف.