تمثل المعجمات العربية مصدراً هاماً للباحث في الدراسات اللغوية والأدبية، ولا سيما بعد أن ظهرت المعجمات الكبرى، واتسع منهجاً ليشمل كثيراً من شؤون الحياة العربية لغوياً وأدبياً وفكرياً وتاريخياً وما إلى ذلك بالإضافة إلى الهدف الأساسي وهو جمع ألفاظ اللغة وتحديد صيغها ومعانيها وما يَعْرِض لها أحياناً من اختلاف بين لهجات القبائل، أو اختلاف بين آراء أهل اللغة، أو ما أشبه ذلك.
ونشأة هذه المعجمات لم تحدث إلا بعد ظهور أنماط مختلفة من التأليف، كانت تحاول أن تجمع فئات معينة من ألفاظ العربية، وهذا يعني أن جمع ألفاظ اللغة كلها في كتاب واحد لم يأتٍ طفرةً دون تدرّج وبحث عن المنهج القادر على ذلك، ولهذا يمكن أن نحدد مرحلتين هامتين لجمع ألفاظ العربية، الأولى تمثل مجرد نشأة التفكير في جمع ألفاظ معينة من اللغة في كتاب، والثانية تمثل النضج في هذا التفكير، والاتجاه إلى استيعاب ألفاظ اللغة كلها في كتاب واحد تبعاً لمنهج وغاية معينة أيضاً، فإن كانت الغاية هي تقديم معاني الألفاظ وضبط صيغها لمن يطلب هذه المعاني والصيغ، كان منهج التصنيف يُبْنَى على أساس لفظي، وهذا ما عُرِفَ بمعجمات الألفاظ، وإذا كانت الغاية هي تقديم كلمة لمعنى يدور في خَلَد المرء دون أن يجد لديه كلمة تعبر عنه، كان منهج التصنيف يُبْنَى على أساس الموضوعات والمعاني، وهو ما عُرِفَ بمجمعات المعاني.
وحسبنا في هذا الحديث(1) أن نوجز القول في نشأة التفكير عند العرب حول جمع بعض ألفاظ اللغة ضمن أنماط مختلفة من المناهج، وهو ما يمثل المرحلة الأولى من التأليف المعجمي، ثم نتحدث عما تبعها في المرحلة الثانية من تأليف معجمات الألفاظ، وأما معجمات المعاني فنرجو أن نفردها في حديث آخر إن شاء الله تعالى.
المرحلة الأولى:
منذ جعلت الفتوح تهدأ رويداً رويداً، اتجه علماء العربية إلى المحافظة على لغة القرآن وما لها من تراث، إذ شرعوا بوضع علم النحو لضبط اللغة وما يَعْرِض لها(2) ولا سيما أن العربية جعلت تحتك بلغة الأعاجم بعد الفتح، وأخذ يتسرب إلى بعض الناطقين بها شيء من عوارض اللحن.
واهتمام العلماء بوضع علم النحو جعلهم يهتمون بجمع اللغة لاستنباط القواعد منها، وجمع اللغة دعا إلى جمع الأدب الجاهلي من صدور الأعراب وغيرهم ليتاح لعالم اللغة أن يستند في قاعدته على شاهد ثابت موثّق(3) ثم لم تلبث هذه الحركة أن تناست الغاية الأولى، وأصبح همها جمع اللغة والأدب لمجرد المحافظة عليها. وكان الأعراب ضمن شروط معينة من المصادر الأساسية لجمع اللغة، سواء أكان ذلك بالاتصال بهم في صحرائهم، أم كان ذلك بالاستماع إليهم لدى وفادتهم على المدن والأمصار(4)، وكانت هنالك مصادر أخرى من أبرزها القرآن الكريم، والحديث(5)، والأدب الجاهلي، وكلام العرب، وما إلى ذلك.
ولا ندري كيف كان يُدَوّن العلماء عن الأعراب، ولا سيما حين نسمع أن أحدهم قد رحل إلى البوادي فأنفد كيت وكيت من زجاجات المداد، على أنه ينبغي أن تتصوّر أن ذلك التدوين كان يتم دون أي تنسيق، إلاّ أن الحاجة فرضت على العلماء فيما بعد أن يوجدوا شيئاً من التنسيق ولو يسيراً، لتسهل العودة إلى ما جمعوا والاستفادة منه.
ولهذا بدأ الرواة العلماء في القرن الثاني يؤلفون رسائل صغيرة في اللغة، محاولين في كل منها إيجاد رابطة بين زمرة من الألفاظ، تُمكِّن من تصنيفها في هذه الرسالة أو تلك، ولهذا نشأت رسائل لغوية ذات أشكال مختلفة تمتاز كلها بطابع العفوية والبساطة، وهو ما يتسم به كل عمل في مراحله الأولى، وكانت أنماطها متداخلة متعاصرة أحياناً في زمن ظهورها، بل ربما نجد أحد العلماء نفسه يؤلف رسائل لغوية متعددة يختلف فيها منهج التصنيف من واحدة إلى أخرى.
ومن أبرز الروابط اللغوية التي اتُّخِذَتْ لمناهج التصنيف في هذه المرحلة:
1-الندرة والغرابة: إذ لجأ بعض العلماء إلى رابطة الندرة والغرابة في بعض الألفاظ، فجمعوا الألفاظ الغريبة النادرة في كتاب واحد دون تنسيق أو ترتيب، فإذا احتاج المرء إلى معنى كلمة غريبة أو نادرة، كان عليه أن يطالع ذلك الكتاب كله حتى يجد ضالته فيه.
ويمثل هذا النمط من التأليف أبو زيد الأنصاري (215هـ) في كتابه "النوادر في اللغة"(6)، وكتاب النوادر مؤلف من أبواب متعددة جاءت بعنوانات: "باب الشعر" أو "باب الرجز" أو "باب النوادر"، وهذه الأبواب تتعاقب دون تنسيق أو تبويب، فقد يأتي باب شعر ثم يليه باب رجز، وقد يأتي باب شعر فباب نوادر، أو باب رجز فباب رجز مثله، وهكذا.. وكلها تأتي بألفاظ نادرة، فتُشْرَح ويُسْتَشْهَد عليها أحياناً بالشعر وأقوال العرب.
2-الموضوعات والمعاني: ومن أنماط هذه المرحلة تلك الرسائل الصغيرة التي جَمعَتْ بعض ألفاظ اللغة ورتبتها تبعاً لموضوع من الموضوعات أو معنى من المعاني العامة، ومن ذلك "خَلْق الفرس" لقطرب (206هـ)، وكتاب خلْق الإنسان، وكتاب الأجناس، وكتاب الأنواء، وكتاب خَلْق الفرس، وكتاب الإبل، وكتاب الشاء، وكتاب النخل والكرم، وكتاب النبات والشجر، للأصمعي (213هـ)، وكتاب القوس والرمح، وكتاب المياه، وكتاب اللبأ واللبن، وكتاب المطر، لأبي زيد الأنصاري (215هـ) وكتاب الرحل والمنزل المنسوب إلى ابن قتيبة (276هـ)، والأرجح أنه لأبي عبيد القاسم بن سلام (224)(7) .
وهذه الكتب عبارة عن رسائل صغيرة حاولت أن تجمع الألفاظ التي تختص بمعنى من المعاني، كالألفاظ التي تتصل بالنبات، أو التي تتعلق بالإبل، أو التي تختص باللبن، وغير ذلك.
3-الأضداد: وهذا النمط من الرسائل بُني على جمع الألفاظ التي تُعبّر عن المعنى وضدّه، كالأضداد للأصمعي (213هـ)، والأضداد لابن السكيت (244هـ) والأضداد لأبي حاتم السجستاني (248هـ)، إذ تُذْكَر الكلمة بمعنى مع شاهد يؤيد ذلك، ثم بالمعنى الآخر مع شاهد يؤيده أيضاً، كقول الأصمعي في أضداده مثلاً: "عَرَّد النجمُ إذا ارتفع، وعَرّد إذا مال للغروب، قال الراعي بالمعنى الأول:
بأطْيَبَ من ثوبَيْنِ تأوي إليهما * * * * سعادُ إذا نجمُ السِّماكَيْنِ عَرّدا
وفي المعنى الثاني قال ذو الرمة:
وهَمّتِ الجَوْزاءُ بالتَّعْرِيدِ"(8)
وهذا النمط يأخذ بالرابطة المعنوية المتضادة بين الألفاظ، ولكنه يشعرنا بشيء من التنبه على لفظ الكلمة، وإن كان بسيطاً إلى حد ما، لأنه يراعي اللفظ الواحد للكلمة مع وجود معنيين لها ضدين.
4-مثلث الكلام: ويراد بالمثلث الألفاظُ التي وردت على ثلاث حركات بمعان مختلفة، ومن أمثلة ذلك: السِّهام بالكسر: النبال جمع السّهم، والسُّهام بالضم: الضّمُور، أو داءٌ يأخذ الإبل، والسّهام بالفتح: وهَجُ الصيف. والصِّرة بالكسر: شدة البرد، والصُّرة بالضم: كل ما يُعْقَد حفظاً للأشياء أو النقود، والصَّرة بالفتح: الصياح الشديد.
ولعل أول من ألف في مثلث الكلام قطرب (206هـ) في كتابه المعروف بـ "مثلثات قطرب". ونلاحظ في هذا النمط أن الرابطة المعنوية ما تزال قائمة، ولكنها ترافق رابطة لفظية تبرز في صيغة الكلمة وما يطرأ عليها من تبدل في الحركات.
5-الأفعال ذات الاشتقاق الواحد: وسبق إلى جمع اللغة على هذا النمط قطرب (206هـ) في كتابه "فَعَل وأَفْعَل"، ثم ألف الزجّاج (310هـ) فيما بعد كتابه "فَعَلْتُ وأَفْعَلْت" فكان لكتابه شهرة واسعة للتأليف على هذا النمط، وهنا أصبحت صيغة الألفاظ هي الرابط الوحيد في تصنيفها. والتنبه على صيغة الكلمة ثم جَعْلها رابطاً لجمع الألفاظ وتصنيفها يُعَدّ من الأنماط الهامة التي بدأت تمهد لقيام مرحلة أوسع في جمع اللغة.
6-الحروف: وآخر ما نجده من أنماط هذه المرحلة، هو تأليف بعض الرسائل التي جمعت الألفاظ ورتبتها بحسب الحروف، ويمثل ذلك كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري (215هـ) والكتاب مقسم إلى أبواب لا تسمية لها، وكل باب يورد الألفاظ التي تنتهي بالهمز، ولكن الأبواب لم ترتب على حروف المعجم، وإنما وردت على هذا النحو: "الألفاظ التي تبدأ بالنون وتنتهي بالهمز"، ثم (الألفاظ التي تبدأ بالباء وتنتهي بالهمز)، ثم (الألفاظ التي تبدأ بالراء)، ثم (التي تبدأ بالزاي)، (ثم التي تبدأ بالذال) فالدال فالسين فالشين فالكاف.. الخ.
ولكن الباب قد لا يستقر على ألفاظ تبدأ بحرف واحد، وإنما يستطرد من حرف إلى حرف، حتى يتحول الباب إلى ألفاظ لا جامع بينها غير الانتهاء بالهمز، وأما الأبواب التي تبدأ بحرف وتنتهي بالهمز،، فالألفاظ فيها لا تُرَتّب على حروف المعجم وإنما تُصنَّف دون أيّ تنسيق.
ومهما يكن من أمر هذا الكتاب فهو أقرب أنماط هذه المرحلة إلى المنهج العام للمرحلة التالية، لأنه لا يقيم الترابط بين الألفاظ على أساس المعنى أو الندرة أو الغرابة، وإنما يوجه الانتباه إلى بنية الكلمة وما تضمه من حروف.
المرحلة الثانية:
في المرحلة الأولى رأينا أنماطاً مختلفة من الرسائل الصغيرة، تحاول كلٌّ منها أن تجمع بعض ألفاظ اللغة في زمرة يربط بينها رابط يتفاوت في إحكامه ودقته من واحدة إلى أخرى، أما المرحلة الثانية فتمتاز بالتوجه إلى جمع اللغة كلها في كتاب واحد، وهذا ما كان يحتاج إلى منهج لهذا الكتاب يعنى عناية دقيقة بالتنسيق والتبويب، ليصبح من اليسير أن يستفاد منه، ولم يصل الفكر العربي إلى منهج مُيَسَّر إلاّ بعد أن سار في طرق شتّى، وسلك في تصنيف اللغة مسالك متعددة، ولذلك نجد في هذه المرحلة أنماطاً متعددة المناهج، يمكن أن نصنفها في ثلاثة، ونرتبها زمنياً حسب أوّل من ابتدع كلاًّ منها، وبذلك نجد الأمر قد بدأ بمنهج صَنّف أصول الألفاظ حسب مخارج الحروف، وكان غاية في التعقيد، هو ما جاء به الخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) في كتاب العين، ثم تطوّر الأمر إلى منهج آخر رتب الألفاظ على حروف المعجم، وراعى أوائل الأصول، وهو ما جاء به ابن دريد (332هـ) في كتاب الجمهرة، ثم كان من بَعْدُ نهج ثالث رتب أصول الألفاظ على حروف المعجم، وراعى أواخر الأصول، وهو ما ظهر على يد الجوهري (393هـ) في الصحاح.
ودراسة هذه الأنماط من المعجمات توضح مناهج كل منها، وتكشف عن التطور الذي رافق البحث عن المنهج المُيّسر، وتُبيّن ما حقّقه كلٌّ منها للغة العربية وأصحابها من فائدة ما زالت تُقطَف ثمارها حتى اليوم.
آ-المعجمات التي رَتَّبت أصول الألفاظ بحسب مخارج الحروف:
يعود الفضل في هذا النمط من المعجمات إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ)، لأن من المحقق أنه كان أسبق علماء العربية إلى وضع منهج لاستيعاب اللغة كلها في كتاب واحد، والمعجم المنسوب إلى الخليل هو كتاب "العَيْن"(9).
وأوّل ما تنبّه عليه الخليل أن ضابط الألفاظ هو الحروف التي تتألف منها، ولذلك بَنَى كتابه على الحروف التي تتألف منها الألفاظ، وهذه البادرة هي التي أفادت منها المعجمات العربية كلها فيما بعد.
ولم يأخذ الخليل بترتيب الأصول حسب الترتيب الهجائي (أ، ب، ت، ث..) لأنه أدرك أن الألف حرف علة لا يبقى في الكلمة على حال واحدة، وإنما يكثر تغيُّره، وهو يريد أن يبتدئ بحرف لا يعتريه التغيّر في بنية الكلمة، "فلمّا فاته أول الحروف، كره أن يجعل الثاني أوّلاً وهو الباء إلا بحجة"(10)، وحين تخلّى عن الترتيب الهجائي، تدّبر ترتيباً آخر، واهتدى بعقليته الرياضية واللغوية إلى مخارج الحروف، فرتب الحروف بحسب مخارجها مبتدئاً بأقصاها في الحلق، ثم تدرج بعد ذلك إلى الأقرب فالأقل قرباً من مخرج الحرف من الحلق، فرأى أن العَيْن أقصاها وأدخلها في الحلق، فبدأ كتابه بها وسماه باسمها. وإذا كانت الهاء أعمق مخرجاً في الحلق من العين، فقد اعتذر الخليل لذلك بأن الهاء مهموسة خفيفة لا صوت لها، ثم ختم الكتاب بحروف العلة لأنها لا تستقر على حال، وإنما يعتريها تبدل كثير.
ثم قسم اللغة إلى ثنائي(11) وثلاثي ورباعي وخماسي وصنف أبواب الكتاب على ذلك، ثم اعتمد على ما يسميه علماء اللغة بـ "الاشتقاق الكبير"(12)، فراح بقلب الثنائي والثلاثي والرباعي على أوجه حروفها المختلفة، وربما كانت غايته من ذلك حصر أبنية العربية وتمييز المستعمل من المهمل مما يتركّب من تقليب الأصل الواحد على حروفه المختلفة. ومثال ذلك أنه إذا ذكر "عَقَّ" أورد بعدها "قعّ" على تقليب الثنائي، وإذا ذكر "ضرب" أورد بعدها: ضبر، ربض، رضب، برض، بضر، على تقليب الثلاثي، وإذا ذكر "عبقر" ضرب العين بالأوجه الستة التي تتكون من (ب ق ر) وهي: عبقر، عبرق، عقرب، عقبر، عربق، عرقب، ثم ضرب الباء بالأوجه الستة التي تتكون من (ع ر ق) وهي: بعقر، بعقر، بقرع، بقعر، برعق، برقع. ومثل ذلك ما يفعله مع القاف والراء بحيث يكون مجموع ما ينتج عن هذه التقاليب أربعة وعشرين وجهاً أكثرها مهمل. وإذا ذكر كلمة خماسية ضرب كل حرف منها بتقاليب الحروف الأربعة الأخرى، ليكون مجموع هذه التقاليب مائة وعشرين وجهاً أكثرها مهمل أيضاً. والخليل لا ينص إلاّ على المستعمل في اللغة فحسب.
وعمد الخليل إلى تصنيف أصول الألفاظ في كل باب من أبواب الكتاب آخذاً بأواخر الأصول تبعاً لترتيب مخارجها، وأما ترتيبها داخل الباب الواحد فكان يلاحظ فيه أوائل الأصول تبعاً لترتيب مخارجها أيضاً، فيقدم الأقرب من الحلق ويؤخر الأبعد فالأبعد، فمثلاً ترد كلمة (قرم) قبل (ضرم) وهذه قبل (رزم) وهذه قبل (برم)..، لأن ترتيب مخارج الأوائل هو (ق، ض، ر، ب...) وفي تصنيف الأصول لا يذكر بعد الحرف إلاّ الحرف الذي يليه، فإذا انتهى إلى آخر الحروف عاد فذكر ما تركه في البداية من ألفاظ بحسب ترتيب المخارج دائماً.
وبذلك كله أصبح طلب كلمة في كتاب العين يحتاج إلى صبر وأناة وتمرس بمنهج الكتاب، ومع ذلك أَثّر هذا المنهج في بعض أهل اللغة، فكان أساساً لما وضعوه من معجمات هامة، وإن كان ثمة بعض الاختلاف اليسير أحياناً، كالذي نجده في معجم تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن احمد الأزهري (370هـ)، والمحكم لابن سيده علي بن اسماعيل الاندلسي (458هـ)، وهكذا كانت هذه المعجمات تمثل الطور الأول على ما فيه من تعقيد.
ب-المعجمات التي رتبت أصول الألفاظ بحسب الترتيب الهجائي
وراعت أوائل الأصول:
إن تعقيد منهج الخليل ومن تبعه في الطور الأول، جعل الفكر العربي يبحث عن مناهج أخرى لترتيب ألفاظ اللغة كلها في كتاب أسهل مُتناولاً مما ورد عند الخليل، ولا سيما أن القدماء أدركوا ما في منهجه من تعقيد، ولهذا اتجه علماء اللغة إلى منهج آخر لتصنيف المعجمات، يُعنَى بترتيب أصول الألفاظ بحسب النظام الهجائي مع مراعاة أوائل الأصول، ولكن هذا المنهج الجديد لم يخرج من التعقيد إلى التبسيط إلاّ بشيء من التدرج أو التطور ضمن أدوار ثلاثة: الأول كان ما يزال معقداً يشبه منهج كتاب العين مع شيء يسير من التبسيط وهو ما ظهر في كتاب الجمهرة لابن دريد (321هـ) والثاني قطع مرحلة واسعة نحو التبسيط، ولكنه احتفظ بشيء من رواسب منهج الجمهرة، وهو ما ظهر في كتابي مجمل اللغة ومقاييس اللغة لابن فارس (395هـ)، والثالث بلغ غاية التبسيط تبويباً وتصنيفاً، وهو ما ظهر في كتاب أساس البلاغة للزمخشري (538هـ). ونظرة إلى مناهج هذه الكتب تجعلنا نقف على التطور الذي حدث في الطور الثاني من تأليف المعجمات العربية.
1-جمهرة اللغة لابن دريد (321هـ):
فابن دريد في الجمهرة سار بمنهج الخليل نحو التبسيط، إلاّ أنه لم يقطع شوطاً بعيداً في ذلك، ففي مقدمته أشار إلى من تقدّمه، ثم ذكر الخليل مُتلطّفاً، فقال: "وقد ألّف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعَنّى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلب معترف، والمعاند متكلف، وكلُّ ما بعده له تَبَعٌ، أقرّ بذلك أم جحدَ. ولكنه رحمه الله ألف كتابه مُشكِلاً لثقوب فهمه وذكاء فطنته، وحدّة أذهان أهل عصره"(13).
فهو يعترف بالفضل والسّبْق للخليل بن أحمد، ويشير إلى احتذاء منهجه، ولكنه يتلطف في ذكر ما في الكتاب من إشكال، يسنده إلى ذكاء الخليل وحدة أذهان تلامذته، وكأنه يشير بذلك الإشكال إلى تصنيف "العين" بحسب مخارج الحروف، ولهذا يقول في مقدمة الجمهرة أيضاً: "وأملينا هذا الكتاب.. فسهّلْنا وعره.. وأجريناه على تأليف الحروف المعجمة، إذ كانت بالقلوب أعْبَق(14)، وفي الأسماع أنفذ، وكان علم العامة بها كعلم الخاصة، وطالبها من هذه الجهة بعيداً من الحيرة، مُشْفياً(15) على المراد.."(16).
فابن دريد تخلى عن التصنيف بحسب مخارج الحروف، واتخذ منهجاً أسهل في رأيه، وهو التصنيف بحسب الترتيب الهجائي، ولا شك أن هذا يمثل خطوة هامة من التطور نحو التبسيط في تأليف المعجمات، ولا سيما أنه زاد من ذلك في مراعاته مبدئياً أوائل الأصول لا أواخرها، ولكن ابن دريد أبقى على مظاهر التعقيد الأخرى التي كانت في منهج الخليل إذ احتفظ بما كان عند الخليل من تقسيم ألفاظ اللغة إلى أبواب الثنائي والثلاثي والرباعي.. الخ، واحتفظ أيضاً بتقليب الأصل الواحد على وجوهه المختلفة حسب الاشتقاق الكبير، واتفق مع الخليل أيضاً بأنه لا يذكر بعد الحرف إلاّ الحرف الذي يليه حتى لا يقع تكرار في تصنيف الألفاظ.
وبذلك أبقى ابن دريد على أمور جوهرية هامة في منهج الخليل، ولا سيما أنه لم يقف في تقسيم الكتاب على الثنائي والثلاثي والرباعي وما فوق الرباعي فقط، وإنما جعل يقسم كلاّ منها إلى أبواب متشعبة أو متداخلة أو مضطربة أحياناً(17)، مما يشكل على غير المتمرس الاهتداء إلى موضع ضالته من كلمة يبحث عن معناها أو مبناها، وهذا يعني أن كتاب الجمهرة سار شوطاً نحو التبسيط في منهج التأليف، ولكن الأمر ما يزال بحاجة إلى جهود أخرى من علماء اللغة بحثاً عن طور آخر يزيل شيئاً من معالم التعقيد في المناهج السابقة.
2-مجمل اللغة، ومقاييس اللغة، لابن فارس (395هـ):
وكان لابن فارس أن يضيف تطويراً آخر يجعل منهج التصنيف أكثر سهولة ويسراً في معجميه المجمل والمقاييس، والمجمل كتاب مختصر، أما المقاييس فأكثر اتساعاً، وابن فارس صنف الكتابين على أسس واحدة(18)، وكانت غايته منهما هي تبسيط المنهج الذي سار عليه من تقدمه في هذا المضمار، ولهذا نراه يخاطب قارئه في مقدمة المجمل فيقول: "فإنك لما أعلمتني رغبتك في الأدب، ومحبتك لعرفان كلام العرب، وأنك شامَمْتَ الأصول الكبار، فراعك ما أبصْرتَهَ من بُعْد تناولها، وكثرة أبوابها وتشعب سبلها، وخشيتَ أن يلْفِتَكَ ذلك عن مرادك، وسألتني جَمْعَ كتاب يُذلِّل لك صعبه، ويسهل عليك وعره، أنشأتُ كتابي هذا.."(19).
وواضح أن ابن فارس يأخذ على من تقدّمه صعوبة طرائقهم وكثرة الأبواب وتشعبها، ولهذا أراد في كتابيه أن يتجه إلى منهج يمتاز بضم ما كان يتفرق في أبواب كثيرة متشعبة، وتصنيف أصول الألفاظ على نحو أيسر ترتيباً، وأسهل متناولاً.
ولهذا تخلى عن تقليب الكلمة بحسب الاشتقاق الكبير، فأزال التعقيد الذي كنا نراه في كتاب العين أو في كتاب الجمهرة، واقتصر على ترتيب الألفاظ بحسب أوائل أصولها، وبذلك أصبحنا نجد (ضرب) في باب الضاد، و(رمز) في باب الراء، في حين كنا في كتاب الجمهرة نبحث عن الأولى في (برض)، وعن الثانية في (رزم).
ولم يصنف اللغة على أبواب الثنائي والثلاثي والرباعي، كما فعل الخليل وسايره على ذلك ابن دريد، لأنه لاحظ أن هذه الطريقة تؤدي إلى التعقيد وتشتيت الأصول المتقاربة، إذ تصبح أمثال (أ بَّ، أتَّ..) في باب، و(أسَن، أسف..) في باب آخر، ولهذا قسم ابن فارس أصول اللغة على عدد حروف المعجم، وأفرد لكل حرف باباً(20) خاصاً، فالكلمات التي تبدأ أصولها بالهمزة يصنفها في باب الهمزة، والتي تبدأ أصولها بالباء يذكرها في باب الباء، وهكذا..
وكل باب يجعله في ثلاثة أقسام متتالية، فيذكر أوّلاً المضعّف مثل (أبّ، أتَّ)، ثم ينتقل إلى الثلاثي فيقول مثلاً: "الهمزة والباء وما يثلثهما" و"الألف والتاء وما يثلثهما" و"الألف والثاء وما يثلثهما"(21).. الخ، ثم يورد بعد الثلاثي ما جاء من كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف. وبذلك نجد في الباب الواحد كلّ الألفاظ التي تبدأ بحرف واحد، إذ نجد في باب الباء من المجمل مثلاً "بَتَّ، بَثَّ.. بَتَر، بَتَع.. بلعوم، برشاع.."، وكنا في الجمهرة نجد هذه الألفاظ موزعة على أبواب متفرقة متباعدة.
على أن هذا المنهج الذي أراد التسهيل وحقق ما أراد، لم ينج من بعض رواسب المناهج السابقة، إذ بقي ابن فارس لا يذكر بعد الحرف إلاّ الحرف الذي يليه في الترتيب الهجائي، فإذا انتهى إلى آخر الحروف عاد إلى ما أسقطه من الأصول، ومثال ذلك ما أورده في باب "الباء والقاف وما يثلثهما" في المجمل، فهو يبدأ بـ "بقل، بقم، بقي"، وذلك لأن اللام تأتي مباشرة بعد القاف، وبعد أن انتهى إلى "بقي" عاد فذكر الأصول التي تقع حروفها قبل اللام فذكر "بقر، بقع"(22) لأن الراء والعين قبل اللام في الترتيب الهجائي.
ووقع منهج ابن فارس في خلل آخر، إذ كان يُنْهي كلَّ باب بالألفاظ التي تقع في كلام العرب على أكثر من ثلاثة أحرف، ولم يرتب هذه الألفاظ على نسق معين، وإنما كانت تُرْصَف دون أي ترتيب، وربما كانت قلتها هي التي صرفت ابن فارس عن مراعاة ترتيبها على نسق ما تقدمها في المضعف والثلاثي، ومع ذلك فهي سمة تعوق التيسير الذي أراده ولو كانت إعاقة يسيرة.
وبذلك ندرك أن ابن فارس قد سار فعلاً بتطوير منهج المعجمات إلى طور هام من التبسيط، ولكنه مع ذلك بقيت لديه رواسب طفيفة كانت تحتاج إلى من يحاول التخلص منها في معجمات أخرى، ليكون المنهج خِلْواً من كل تعقيد.
3-أساس البلاغة للزمخشري(538هـ):
وكان ذلك على يد الزمخشري في كتابه أساس البلاغة، إذ أشار في مقدمته إلى ما قصده من تبسيط، فقال: "وقد رُتِّب الكتاب على أشهر ترتيب مُتداوَلاً، وأسهله مُتناوَلاً، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثُّمام وحبل الذراع(23)، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع،(24) وإلى النظر فيما لا يوصل إليه إلاّ بإعمال الفكر إليه، وفيما دَقَّق النظر فيه الخليل وسيبويه"(25).
فالزمخشري ينتقد مناهج بعض الكتب التي تقدمته، لأنها تُحوِج إلى إعمال الفكر للتنقير عن كلمة تُطْلَب في هذا الكتاب أو ذاك، ولهذا يأخذ بالترتيب الأشهر متداولاً، والأسهل متناولاً، وهو ترتيب ابن فارس في كتابيه السابقين، وهو يقوم على ترتيب الأصول بحسب أوائلها مع مراعاة الترتيب الهجائي في تصنيف أبواب الكتاب.
إلاّ أن الزمخشري تخلّى عن أمرين من منهج ابن فارس، إذ لم يقسم الفصل الواحد إلى ثنائي وثلاثي وما فوق الثلاثي، وإنما ذكر الألفاظ بترتيب أوائل الأصول مع مراعاة الترتيب نفسه في بقية حروف كل أصل، دون النظر إلى أنها ثنائية أو ثلاثية أو غير ذلك. ولم يلتزم بذكر الحرف ثم الحرف الذي يليه كما فعل ابن فارس، وإنما صنف الأبواب حسب الترتيب الهجائي بادئاً بأول الحروف في كل باب ومنتهياً بآخرها.
وبذلك تحرَّر نهائياً من رواسب الجمهرة التي بقيت عند ابن فارس في كتابيه المجمل والمقاييس، وأصبحت طريقة الزمخشري في الأساس أسهل طريقة وأبسطها في تصنيف المعجمات، بل إن طريقته هي الطريقة المتبعة اليوم في تصنيف المعجمات العربية الحديثة.
ولكن أساس البلاغة له خصائص يتفرد بها، لأن صاحبه قد أشار في مقدمته إلى أنه قد بناه على أسس بلاغية حتى يتعرف الناظر فيه المُتداوَلَ من ألفاظ العرب، والمستجادَ عندهم، مما يعينه على إدراك ما هو أَوْقَفُ على وجوه الإعجاز، وأعرَفُ بأسراره ولطائفه، ولهذا تفرد الأساس بخصائص هامة، أبرزها أنه لا يشرح الكلمة إلاّ نادراً، وبدلاً من ذلك يدخلها في جملة أو عبارة، أو مَثَل أو شعر يُفْهَم معناها من سياق استعمالها، وهي طريقة فيها إبداع، لأنها لا تشرح الكلمة مُجرّدةً عن الاستعمال، وإنما تشرحها ضمن استعمالها في كلام العرب، ولهذا استكثر الزمخشري في كتابه من العبارات البليغة، والأقوال الفصيحة، التي "تَمْلُح وتَحْسُن ولا تنقبض عنها الألسن" كما قال في المقدمة، وتخير من جيد الشعر ما يُعين على بيان دلالة الألفاظ واستعمالها.
وإضافة إلى هذا جعل يميز الحقيقة من المجاز، إذ يذكر المعاني الحقيقية التي وُضِعَتْ لها الألفاظ، ثم يذكر المعاني المجازية لها، إن وَجَد للكلمة استعمالاً مجازياً، ولا شك أن هذه مزية هامة في دراسة تطور الدلالة لألفاظ اللغة.
ولكن اهتمام الزمخشري بالجوانب البلاغية، جعله يتخلّى عن ألفاظ كثيرة، لأنها لا تحقق الغرض الذي أراده لكتابه. ومع هذه الخصائص التي تفرد بها "الأساس"، فقد أعطى الزمخشري المنهج الأسهل والأبسط، وهذا ما جعله يؤثر فيمن جاء بعده، إذ أغفلوا تلك الخصائص البلاغية وأخذوا بمنهجه في تصنيف اللغة، ومن أبرزهم الفيومي (770هـ) في كتابه "المصباح المنير".
ج- المعجمات التي صنفت أصول الألفاظ بحسب الترتيب الهجائي
وراعت أواخر الأصول:
ومهما رأينا من تطوير لدى الزمخشري (538هـ) في الأساس، فثمة من سبقه إلى ما رأيناه لديه من تيسير في التصنيف، وإبعاد له تماماً عن مناهج الخليل وابن دريد، إلاّ أنه صَنَّف أصول اللغة بحسب أواخرها، وهذا ما فعله الجوهري (393هـ) في "الصحاح"، وربما كان الزمخشري قد تأثر به حين تخلى عن بعض الرواسب التي وجدناها في منهج ابن فارس. وبذلك يكون الجوهري إماماً لمرحلة ثالثة تخلّت عن منهج الخليل وابن دريد وما فيه من تعقيد، وسهّلت منهج التصنيف ولكنها أخذت بأواخر الأصول، وهو أمر لا يختلف كثيراً عن الأخذ بأوائلها.
والمعجمات التي صُنّفت في هذه المرحلة، ونَحَت في تصنيفها هذا النحو، قد اتبعت كلها منهج الجوهري في الصحاح، وإذا كان من اختلاف بينها فذاك في مدى الشمول والاتساع، أو الإيجاز والاختصار، لا في المنهج والطريقة، وإذا وقفنا على منهج الجوهري وتعرفناه، فذلك يعني أننا وقفنا على المنهج الأساسي لها جميعاً.
وإذا سألنا الجوهري عن منهجه في كتابه، رأيناه يوجز ذلك في مقدمته، فيقول: "أما بَعْدُ فإني أودعت هذا الكتاب ما صَحّ عندي من هذه اللغة، التي شَرّف الله منزلتها، وجعل علم الدين والدنيا منوطاً بمعرفتها، على ترتيب لم أُسْبق إليه، وتهذيب لم أُغْلَب عليه، في ثمانية وعشرين باباً، وكل باب منها ثمانية وعشرون فصلاً، على عدد حروف المعجم وترتيبها.."(26).
ومن الواضح أن الجواهري يرى في منهجه منهجاً جديداً لم يُسْبَق إليه، وهذا صحيح لأنه تخلى عن طرائق من تقدمه أو عاصره من أصحاب المعجمات، إذ رَتَّب أصول اللغة بحسب أواخرها على ثمانية وعشرين باباً بعدد حروف المعجم وترتيبها، أوّلها باب الهمزة، وآخرُها باب الواو والياء. ورّتب أصول الألفاظ داخل كل باب بمراعاة أوائلها، فقسم كلّ باب إلى ثمانية وعشرين فصلاً بعدد حروف المعجم وترتيبها(27)، فالألفاظ التي تنتهي بالميم مثلاً وتبدأ بالهمزة ترد في "باب الميم فصل الهمزة"، والتي تنتهي بالميم وتبدأ بالباء ترد في "باب الميم فصل الباء"، وهكذا حتى ينتهي باب الميم بـ "باب الميم فصل الواو والياء".
وداخل الفصل الواحد يرتب أصول الألفاظ بمراعاة الحرف الثاني منها، فإن كانت رباعية الأصل، نظر إلى الحرف الأوّل والثاني لتعيين الأصل الثلاثي الذي سترد بعده، ثم راعى الحرف الثالث لترتيبها إن كانت هنالك عدة أصول رباعية في هذا الموضع. ومثال ذلك (دِلْقِم) وهي العجوز أو الناقة المسنة، فهي ترد في (باب الميم فصل الدال) وترد مباشرة بعد (دلم)، وكذلك (عِظْلِم)، وهو صبغ أحمر، فهي في (باب الميم فصل العين) وترد بعد (عظم).
وطريقة الجوهري ليست من الصعوبة في شيء كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنما هي سهلة ولا سيما بعد الاطلاع على منهج الكتاب، وإذا وقفنا على نصوص منه، لاحظنا أنه يجمع بين شرح معاني الألفاظ والاستشهاد عليها بكلام العرب شعره ونثره، ولكن حديثه يبقى موجزاً لا نجد فيه تطويلاً واستطراداً واسعاً كالذي نجده في اللسان أو التاج.
ولكن الجوهري عمل على إثبات ما صَحّ لديه عن العرب، ورأيناه يشير إلى ذلك في مقدمته حين قال: "إني أودعت هذا الكتاب ما صَحَّ عندي من هذه اللغة"، وهذا ما جعله يتخلى عن كثير من ألفاظ اللغة، لأنه اشترط أن يُثْبِت الصحاحَ فحسب، وبها سمّى كتابه "تاج اللغة وصحاح العربية"، وبذلك فالأمر ليس كما صَوّر صاحب القاموس فيما بعد، حين زعم أن الجوهري قد فاته نصف اللغة "بإهمال المادة أو ترك المعاني الغريبة النادّة"(28)، فلكل منهجه وطريقته، ولو نظرنا في مادة "القاموس" لوجدنا صاحبه يتكثّر بذكر اللغات الرديئة إلى جوار اللغات الجيدة دون تمييز غالباً بين هذه وتلك.
فحسب الجوهري أنه رسم المنهج، ووضع كتاباً كان قُدْوَةً لكل من أسهم في صنع المعجمات التي أخذت بمنهجه، فكانت الأوسع شمولاً في جمع اللغة وما يتصل بها من روايات أو أخبار أو أيام أو تراجم أو نحو أو صرف أو ما أشبه ذلك.
وأبرز هذه المعجمات "لسان العرب" لابن منظور(711هـ)، و"القاموس المحيط" لمجد الدين الفيروز أبادي (817هـ)، و"تاج العروس من جواهر القاموس" للمرتضى الزبيدي (1170هـ). فهذه المعجمات أخذت بمنهج "الصحاح" ثم امتازت بالشمول ضمن خصائص يتفرد بها كلّ منها. ونظرة إلى اللسان مثلاً تجعلنا نجد أنفسنا أمام صحاح الجوهري منهجاً وترتيباً، ثم نجد في مضمونه غزارة تجعل منه "موسوعة" شاملة، إذ يورد الأصول اللغوية، وكل ما لها من فروع، فيعرض اللهجات المختلفة، ويستشهد بالشعر وكلام العرب، وقد يروي نظائر بعض الشواهد، وقد يستطرد إلى الحديث عن أصحاب الشواهد أو مناسبة بعضها، وإذا به يذكر شيئاً عن أيام العرب أو عاداتهم أو أخبارهم أو الحوادث التي ارتبطت بهذا أو ذاك، وربما وقف على أوجه الخلاف حول صيغ بعض الألفاظ ولا سيما في بعض الشواهد، أو إعراب ما أشكل فيها، وبذلك يتحول اللسان إلى مصدر هام للدراسات في اللغة والأدب والأيام والأخبار والأنساب والأعلام وما إلى ذلك، وبالإضافة إلى هذا كله فهو يوثّق مادته، ويحدد مصادر روايته، ويميز كلامه من كلام مَنْ ينقل عنه.
وبهذا يكون الجوهري في الصحاح "قد أعطى منهجاً دقيقاً لتصنيف المعجمات التي أخذت بأواخر الأصول، كما قَدّم الزمخشري في "الأساس" المنهج الدقيق أيضاً للمعجمات التي أخذت بأوائل الأصول، وكلا المنهجين يلتقي الآخر في تسهيل المنهج، وقرب المتناول، ولم يصل علماؤنا إلى هذا المنهج المُيَسَّر إلاّ بعد مراحل طويلة من التطور والارتقاء بمناهج التصنيف.
وهذا يعني أن العرب لم يتأثروا في وضع معجماتهم بمؤثرات أجنبية، سواء على يد الخليل، أو على يد من جاء بعده(29)، ذلك لأن الإغريق قد تقدّموا على العرب في وضع المعجمات، وألف علماؤهم عدداً منها قبل أن يطل الإسلام على آفاق الجزيرة، وكانت هذه المعجمات سهلة الترتيب، تأخذ بتصنيف الألفاظ على حروف المعجم، ونذكر منها معجم بامفيليوس pamphilius ومعجم هيلاديوس Helladius ومعجم هيزيشيوس Hesychius وكلهم من علماء الاسكندرية.
ووجود هذه المعجمات عند الإغريق، قد يثير الشك بتأثر العرب بها، ولكن ثمة أدلة تنفي ذلك عند التحقيق، فالخليل لا يستطيع الاطلاع على معجمات الإغريق، لأنه يجهل اليونانية، وحركة الترجمة لم تنشط إلاّ في عصر الرشيد، والرشيد بويع له بالخلافة سنة (170هـ)، وهي السنة التي يُرَجَّح أن يكون الخليل قد توفي فيها، ولو أن الخليل اطلع على منهج هذه المعجمات وما فيه من سهولة ويسر، لما رسم منهج كتاب العين على ما رأيناه فيه من تعقيد.
ثم إن الترجمة حين نَشطت أيام الرشيد وبعده لم تكن تُعْنَى بترجمة كتب الإغريق في الأدب واللغة، لأنهم لم يتذوقوا أدب الإغريق ليترجموه(30) وإنما اجتذبهم فكر الإغريق، فشُغِلوا بترجمة ما لديهم من طب وفلسفة، وهذا يعني أن علماء العربية ما كان لهم أن يطلعوا على معجمات الإغريق بعد الخليل، ولو أن أحدهم اطلع عليها لما ادعى أن الخليل في صنع كتابه "العين" كان له السّبْق منذ خلَق الله الدنيا، إذ نجد حمزة بن الحسن الأصفهاني (360هـ) يقول: "صنع صاحب كتاب العين ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا.. من تأسيسه بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة"(31).
ومما يؤيد ذلك أن المعجمات العربية لم تبلغ حَدّ الكمال تصنيفاً وترتيباً إلاّ بعد مراحل طويلة من التدرج والانتقال من طور إلى طور، ولو أنهم اطلعوا على معجمات الإغريق، لاستطاعوا أن يبدأوا بالطريقة السهلة الواضحة، التي تقرب من فهم الخاص والعام، ولم يمرّوا بتلك المراحل المتعددة قبل أن يصلوا إليها، ولم يتجشموا عناء البحث عن طريقة أفضل كلما ظهرت طريقة جديدة بين أيديهم. وبذلك تكون المعجمات العربية على اختلاف أنماطها من إبداع الفكر العربي، ونتيجة لجهود علمائنا منذ القرن الثاني الهجري.