تعدّدتْ دوائر المعارف اللغوية في تراثنا العربيّ ولكنها كانت عالة على دائرة معارف لسان العرب لابن منظور، ولا بدّ لنا من التعريف بهذا اللغوي الموسوعيّ العربيّ الكبير.
هو أبو الفضل(1)، جمال الدين، محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاريّ، الافريقي، ثم المصريّ، وهو عربيّ صميم ينحدر من أسرة رويفع بن ثابت الأنصاري.
وُلد في شهر المحرّم سنة (630هـ /1232م)، وقد سمع من ابن المقير، ومرتضى بن حاتم، وعبد الرحيم بن الطّفيل، ويوسف بن المخيليّ، وغيرهم.. والمعروف عنه أنه كان شيعياً، وقد عُمرّ طويلاً، وكبر، وحدّث، كما روى عنه السبكيّ والذهبيّ، وقال: "تفرّد بالعوالى". وذكر الصفديّ اهتمامه باختصار الكتب المطوّلة. وقال: "لا أعرف في الأدب وغيره كتاباً مطوّلاً إلاّ وقد اختصره كما أخبر ولده قطب الدين أنه ترك بخطه خمس مائة مجلدة، اختصر (تاريخ دمشق) في نحو ربعه، وكتاب (الأغاني)، وكتاب (العقد الفريد)، وكتاب (نشوار المحاضرة)، وكتاب (الذخيرة)، وكتاب (مفردات ابن البيطار)، وكثيراً من التواريخ الكبار، وكان لا يملّ من هذا العمل.
والمعروف عنه أنه قد خدم في ديوان الإنشاء طوال عمره، كما ولى قضاء طرابلس. ذكر ابن فضل الله أنه عمي في أواخر حياته، ومات في شعبان سنة (711هـ /1311م).
وممّا هو جدير بالذكر أن هذه الموسوعة اللغوية الكبرى أهم ما صنفه ابن منظور، فقد جمع فيه بين التهذيب والمحكم، والصحاح، والجمهرة، والنهاية. قال ابن حجر "جوّده ما شاء ورتَّبه ترتيب الصحاح، وهو كبير"(2).
قوله: (وهو كبير) له دلالته العلمية، فقد بلغت أصول المواد اللغوية ثمانين ألف مادة وليس هذا بالشيء اليسير، وذلك إذا ما قيس بالمواد والأصول اللغوية التي تتضمنها اللغات الكبرى المعروفة في علم اللغات واللسانيات العامة.
تحدث المؤّلف في خطبة "لسانه" عن البواعث الجوهرية التي حثّته على إنشاء هذه الموسوعة اللغوية، وممّا قاله:
"فإنني لم أقصد سوى حفظ/ أصول هذه اللغة النبوية.. وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يُعدّ لحناً مردوداً، وصار النطق بالعربيّة من المعايب معدوداً، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير اللغة العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك، وقومه منه يسخرون، وسمّيته (لسان العرب)..)(3).
فعل ابن منظور ذلك ليصون اللغة العربية لأنها مقدسة لها تراثها المجيد عبر العصور والدهور وممّا يؤكد هذا التوجه القوميّ عند صاحب اللسان قوله:
"... وشرّف هذا اللسان العربيّ بالبيان، على كلّ لسان، وكفاه شرفاً أنه به نزل القرآن وأنه لغة أهل الجنان. رُوي عن ابن عباس (رضي اللّه عنهما) قال رسول الله، (صلى الله عليه وسلّم): (أحبّوا العرب لثلاث: لأنّي عربيّ، والقرآنُ عربيّ، وكلام أهل الجنّة عربيّ"...)(5).
هذا الإيمان الأكبر بالعرب والعروبة والعربية كما قاله الرسول العربي الأعظم، صلّى الله عليه وسلم، قد جاء رحمة للعالمين.
لقد انتقد ابن منظور أساليب العلماء وآراءهم في عصره، ووضح الاضطراب الذي وقعوا فيه، وأشار إلى ذلك كله بقوله:
"وإنّي لم أزل مشغوفاً بمطالعة كتب اللغات، والاطلاع على تصانيفها، وعلل تصاريفها، ورأيت علماءها بين رجلين: أمّا من أحسن جمعه، فإنّه لم يحسن وضعَه.
وأمّا من أجاد وضعه، فإنه لم يُجد جمعه.
فلم يُفد حسنُ الجمع مع إساءة الوضع، ولا نَفَعَتْ إجادةُ الوضع مع رداءة الجمع"(6).
هذا النصّ يضع أمامنا حقيقة هامّة، وهي أن المؤلّف اعتمد على اتخاذ المنهج العلمي في التصنيف اللغويّ الموسوعيّ، فقد لاحظنا اهتمام المؤلف بصحة الأصول اللغوية، بعد التأكد منها، ثم يعمد إلى تنسيقها وتبويبها وتفريعها على نحو ميسّر واضح، بحيث يسهل الرجوع إليها دون مشقة وعناء في وقت الحاجة، وهذا من البواعث الجوهرية الرئيسية في أصل الوضع الموسوعي، وقد عبّر عن ذلك بقوله:
"فاستخرت الله.. في جمع هذا الكتاب..، ولم أخرج فيه عمّا في هذه الأصول، ورتبته ترتيب (الصحاح) في الأبواب والفصول، وقصدت توشيحة بجليل الأخبار، وجميل الآثار، مضافاً إلى ما فيه من آيات القرآن الكريم، والكلام على معجزات الذكر الحكيم، ليتحلّى بترصيع دررها عقدهُ، ويكون على مدار الآيات، والأخبار، والأمثال، والأشعار، حلّه وعقده"..(7).
واستطرد المعجميّ الكبير ابن منظور، فتحدث عن أهمية معجمه الموسوعيّ اللغوي الكبير المؤلف من عشرين مجلداً ضخماً، وقال في خطبته الاستهلالية:
"فجاء هذا الكتاب، بحمد الله، واضح المنهج، سهل السلوك، آمناً بمنّة الله من أن يصبح مثل غيره، وهو مطروح متروك، عظم نفعه بما اشتمل من العلوم عليه، وغني بما فيه عن غيره، وافتقر غيره إليه، وجمع من اللغات والشواهد والأدلّة ما لم يجمع مثله مثله.. وقرنت بين ما غرّب منها، وبين ما شرّق، فانتظم شمل تلك الأصول كلّها في هذا المجموع، وصار هذا بمنزلة الأصل، وأولئك بمنزلة الفروع، فجاء، بحمد الله، وفق البغية، وفوق المنية، بديع الإتقان، صحيح الأركان، سليماً من لفظ (لو كان)..)(8).
هذه ثقة ابن منظور صاحب اللسان بما صنّفه، وقد توخّى الصواب والتصويب، وطبق المنهج اللغويّ العربيّ الأصيل، هذا كله بالإضافة إلى الإحاطة الكاملة بسائر المصنفات اللغوية العربية السابقة، كما أنه تجنّب المآخذ عليهم، وإنما حاول استكمال ما أهملته المعاجم اللغوية السابقة.
وقد اختتم خطبته بقوله:
"وأرجو من كرم اللّه تعالى أن يرفع قدر هذا الكتاب، وينفع بعلومه الزاخرة، ويصل النفع به بتناقل العلماء له في الدنيا، وينطق به أهل الجنة في الآخرة..."(9).
هذه الكلمات عن علوم اللسان الزاخرة خير بيان وأجمل تبيان، فلقد كان زاد العلماء في كل زمان ومكان.
أهمية لسان العرب في العصر الحديث
هكذا تتضّح من خلال خطبة اللسان أهمية هذه الموسوعة اللغوية العربية، من حيث الجمع والاستقصاء، والاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث، والتمثيل بالأشعار والأمثال.
لقد عرف الأقدمون والمعاصرون أهمية هذه الموسوعة اللغوية الكبرى، وقد وضّح أستاذي الفاضل العلاّمة الدكتور شوقي ضيف، رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة، أهميتها لاحتوائها على الشواهد الشعرية التي حفظت لنا بعيدة عن التصحيف والضياع، وممّا قاله مؤكداً رأيه:
"وأضاف ابن منظور إلى معجمه الذي يقع في عشرين مجلّداً، والذي سمّاه بحق (لسان العرب) إضافة جديدة بارعة، ولا نقصد جمعه واستقصاءه لمادة اللغة وشواردها، فقد كانت مجموعة مستقاة قبله، وإنّما نقصد المادة الشعرية الغزيرة التي أضافها إلى معجمه"(10).
واستطرد أستاذي الفاضل، فذكر أنه "عكف على دواوين الشعر في العصرين: الجاهليّ والإسلاميّ، عكوفاً حوّل أبياتها فيه، أو بعبارة أدق جمهور أبياتها إلى بطاقات وزّعها على المواد اللغوية المختلفة في معجمه"(11).
لم يقتصر الاهتمام على ما ذُكر، وإنما لاحظنا الاهتمام بهذه الموسوعة اللغوية في المؤسسات المجمعية والجامعية، فقد وضع الدكتور ياسين الأيوبيّ (معجم الشعراء في لسان العرب) وهو جهد كبير على غاية من الأهمية، ومما قاله في مقدمته:
"عندما أقدمتُ على فهرسة شعراء (لسان العرب) وإحصاء أشعارهم، كنت أعلم علم اليقين ما سيعترضني من صعاب، ويعتورني من ضباب الرؤية وتشعبات الدرب، ومع ذلك أقدمت، وخُضتُ الغمار، وذقت ما يذوقه المجاهد في حقول المعرفة من مرّ الحقيقة، ونعيم الوهم، حقيقة الاكتشاف، ووهم العبور إلى الضفة الأخرى وراء التخوم اللامرئية"(12) ومما هو جدير بالذكر أن الدكتور نوري حمودي القيسي، الأمين العام للمجمع العلمي العراقي قد نوّه بهذا العمل قائلاً: "وإنّما سيظلّ هذا العمل واقعاً في الأعمال الكبيرة التي قُدّمت للمحققين والدارسين لاستقصاء البيت الفرد، والخبر الضائع، والحياة المغمورة.. ويبقى الفضل للرجل الذي أقدم على هذا العمل أول مرة، فهو صاحب الفكرة، والمبدع إلى الطريق، والمتحمل لأعباء المشاقّ الصعبة.."(13).
ومما هو جدير بالذكر أن صاحب "معجم الشعراء في لسان العرب" الدكتور الأيوبي قد قام بهذا العمل الجبار، وقدّم له بقوله: "البحث في (لسان العرب) أمر بالغ الصعوبة والتعقيد لا لشيء إلاّ لكون هذا المعجم من أوسع المعاجم العربية وأطولها وأشملها.. والشيء المدهش أن عدد الشعراء المستشهد بهم في (اللسان) قد بلغ رقماً عالياً: قرابة ألف ومائتي شاعر، تراوحت أشعارهم ما بين البيت الواحد والألف تقريباً"(14).
المعاني الفلسفية في لسان العرب
كان لاتحاد الكتاب الفضل في الإسهام بذكر علاقة الفلسفة باللغة من خلال نشره كتاب (المعاني الفلسفية في لسان العرب الفلسفة العربية الأولى) وهذا الكتاب على غاية من الأهمية، فقد بذل مؤلفه الدكتور ميشال اسحق جهداً جباراً في هذا العمل البكر، وهو همزة وصل بين اللغة ومعناها، وعلاقة ذلك كله بالفلسفة وحكمتها، وهذا أمر على جانب كبير من الأهمية لتبيان علاقة المعنى اللغوي بالمفهوم الفلسفي.
قدّم هذا الكتاب الأستاذ جورج صدقني، وقد اختتم تقديمه بقوله: "إن العربية بحر محيط، بعيد الغور والقرار، حتى لقد أعيا الغواصين على درره ولآلئه، وحقّ لمن فاز بلؤلؤة ثمينة، أن يدلّ بفوزه على الناس، فكيف بمن حملت شباكه صندوقاً ضخماً مملوءاً بالجوهر؟!"(15).
واستطرد يتحدث عن أسرار العربية وجمالها بقوله: "على أن أسرار العربية لا تنتهي، فكلّما وضعت يدك على سرّ من أسرارها لاحت لك طيوف أسرار أخرى في أفقها البعيد"(16).
واختتم تقديمه بقوله الجميل المعبّر عن قدسية لغة السماء: "إني أشهد أن لسان العرب هو أجمل لغة على وجه الأرض، ولا عجب في هذا فهو لغة السماء أيضاً"(17).
ولا بد لنا بعد هذا التعريف والتقديم لكتاب (المعاني الفلسفية) من التحدث عما ذكره الدكتور اسحق، وتبيان علاقة اللغة العربية بالأصول الفلسفية للفكر العربي الخلاّق المبدع. ومما قاله المؤلف:
"المقصود بالفلسفة العربية الأولى هو الفلسفة المستقاة من معاني الألفاظ العربية، على ما كانت عليه في عصور الاحتجاج، وعصور الاحتجاج هي العصور التي يمكن الاحتجاج بكلام العرب خلالها، على أنه عربيّ سليم في اللفظ والمعنى، وهي تشمل مراحل ما قبل الإسلام، وما تبعها من العصور الإسلامية التي بقيت فيها ما قبل الإسلام، وما تبعها من العصور الإسلامية التي بقيت فيها العربية على أصالتها.. ومن هذه العصور جمعت المعاجم القديمة مادتها اللغوية، فالفلسفة المستقاة من كلام العرب خلالها فلسفة أصيلة، وذات دلالة صادقة.."
واستطرد الدكتور اسحق، فأشار إلى الإهمال الذي لحق بالفلسفة العربية، ذلك لأن العلماء اهتموا بالجانب اللغويّ كثيراً وأهملوا المعاني الفلسفية التي تولّدها اللغة وممّا قاله: "وقد كانت الفلسفة العربية المشار إليها تنتظر خَلَفَاً يصوغها ويحسن التعبير عنها منذ زمن بعيدٍ، إلاّ أنّها بُليتْ بغرباء حقروا أمرها، وشغلوا الناس بقواعد اللفظ، فصرفوا الأنظار عنها.."(14).
لم يحظ معجم بمثل هذا الاهتمام العلمي كما رأينا من خلال آراء هؤلاء العلماء المحدثين، ومما هو جدير بالذكر هنا أن المستشرق الإنكليزيّ (جون هيوود) تحدث عن أهمية هذا المعجم الموسوعي، فقد ذكر أنه "كان لدى العرب معجم جامع شامل، هو (لسان العرب) فاق كل ما أُلّف من معاجم في أيّ لغة قبل القرن التاسع عشر دقة وشمولاً"(19).
إنّ في هذه الفكرة البيان الأمثل، والتقويم الأكمل، لهذه الموسوعة اللغوية المعجمية الكبرى، إذ ليست قيمة (لسان العرب) فيما قاله القدماء فقط، وإنّما تكمن أصالته من خلال هذا الإبداع المضمونيّ والابتكار المنهجيّ، إذ جمع الأصالة العربية في بيانها وتبيانها، والحداثة المنهجية في جدّتها وتجديدها "وهذا لسانٌ عربيٌ مبين"(20)، وجعله "لسان صدق في الآخرين"(21)، لسان الإنسانية جمعاء.