فتنة اللغة وخصوصية التجربة الشعرية في ديوان "العري على موائد اللغة"
للشاعر الـمغربي زين العابدين اليساري
لست بالتوحيد ألــهو غير أني عنه أسـهو
كيف أسهو كيف ألهو والصحيح أنني هو
الحلاج
رب متسائل ما جدوى أن نكتب الشعر ونحترق في محراب القصيدة ونفتتن في تشكيل اللغة صورا شعرية رائعة، وتطريز الألفاظ معاني تفيض بالعنفوان والحياة، وبعبارة أخرى ما الذائقة الإبداعية التي تدفعنا لكتابة الشعر تحديدا دون سواه من الكتابات النثرية.هل ثمة سر مكنون تكتنزه الكتابة الشعرية! وهل ثمة خصائص فارقة تستفرد بها القصيدة ولا تتوفر في الأنواع الإبداعية الأخرى!
وطبعا لن يكون من السهل الإجابة على مجمل هذه الأسئلة الإشكالية إلا باستعادة سؤال تأسيسي وجوهري حول ماهية الكتابة الشعرية، إذ ليس من قبيل الوجاهة المعرفية والمنهجية الحديث عن موضوع لا نعرف ماهيته وأشكال انبناءه وتشكيله، فما ينبغي الوعي به أولا ونحن في سياق البحث عن بنية الكتابة الشعرية هو معرفة الأدوات والمعايير المتفق عليها عموما والتي تميز هذه الكتابة ..ولا شك أن لا أحد من المهتمين والعارفين يخرج عن قاعدة أن اللغة هي معدن الشعر وأن النغم ملحها..لكن ما طينة هذه اللغة ! وما طبيعة هذا النغم وإيقاعه!.
لعل اللغة هي أولا وقبل كل شيء شرط الوجود الإنساني وعلة كينونته وانواجده " فالعلاقة بين الإنسان واللغة هي علاقة دائرية أو جدلية .إنها تصنعك بقدر ما تصنعها وتسمو بك بقدر ما تسمو بها.والحق أن النص الأدبي بوجه عام لا ينبع إلا من اشتهاء الإنسان للغة العالية التي لا تسمع قط في عالم المياومة"(1) ، ويزداد الأمر أهمية عندما يتعلق باللغة الشعرية بوجه خاص حيث تغدو هذه المادة الخام وطريقة الاشتغال عليها من خلال عملية التكثيف والترميز والانزياح والتوليد من أولى أولويات الشاعر رغبة في إعادة تشكيلها تشكيلا يبعث على الدهشة والتعجب ثم أن الفرق بين كتابة شعرية تأخذ بلبنا وتسحرنا ولغة شعرية أخرى تخيب آمالنا وتحبطنا مرتبط أشد الارتباط بدرجة تشكيل اللغة وتثويرها وخرقها للمألوف ، ترى إلى أي حد استطاع الشاعر المغربي زين العابدين اليساري من خلال ديوانه" العري على موائد اللغة"* أن ينحث لغة شعرية، مفارقة ، تستجيب لخيار الشعر وتنتصر له أولا ،ثم تنتصر لبلاغة النص الشعري ، وتستشرف آفاقها ثانيا، ولعل اختيار الشاعر للعنوان أكثر من معنى ودلالة، فإذا كان لفظ العري يحيل على الكشف وإماطة اللثام عن الشيء بغية معرفة خباياه والإمساك بإسراره الدفينةفإن لفظي موائد اللغة واللذان جاءا مضافين إلى معرفة فهما يتوحدان معنا ويصبان دلالة في الإحالة على علاقة جدلية مبادلة تربط بينهما ، فبينما تقوم اللغة بدورها كأداة للتواصل والتعبير عن إمكانات ونوازع الذات وتجاربها الذاتية والوجودية بموازاة الآخر، تقوم الموائد بتأثيث هذا التواصل بأشكاله المختلفة عبر فضاءات المكان وصيرورات الممكن، ولهذا فلكل مائدة لغتها الخاصة بها، وما أجمل أن تكون للشعر مائدته حيث الشعراء ملتفون حولها يعرون عن مفاتن اللغة الشعرية ويبحثون عن مكامن عذريتها ويحفرون كمجانين علهم يعثرون على سر الحياة وإكسيرها ، ثم ما الحياة إن لم تكن شعرا يفيض عذرية وجمالا ، وما الشعر إن لم يكن تجربة خلاقة ! وما الخلق والإبداع إن لم يكن تجربة تنبني على التفرد والثأثيل والخرق والتحييد والتوليد عوض المشاعية والترديد والمحاكاة و التشعير والتنضيد كما ذهب إلى ذلك الأديب والشاعر المغربي الكبير محمد السرغيني في أحد مقالاته بعنوان" الشعر والتجربة"** إذ لكي تتحقق شعرية القصيدة لا بد من اشتغال محايث على اللغة وذلك بتفجير إمكاناتها الذاتية من الداخل بحثا عن معاني جديدة وصور فاتنة وأنغام رقراقة " بهذا المعنى، تعمل الكتابة على وضع اللغة أما ذاتها، لأن ما لا تستطيع إدراكه واقعا، تسعى اللغة لقوله كتابة.هذا ما يجعل اللغة، في الكتابة، لا تكتفي بالتصوير فقط، بل إنها تذهب إلى حد التقتير، أو التقطير...لم تعد اللغة تكتفي بتسمية الشيء ، بل ستذهب إلى وضعه في مواجهة عرائه"(2)..هذا وإذا كانت لكل تجربة خصائص تميزها وأسلوب يطبعها فإن تجربة الشاعر المغربي زين العابدين اليساري تحتفظ لنفسها بطابعها الخاص والمتميز سواء من حيث الاشتغال أو من حيث الرؤيا، تجربة أراد لها الشاعر منحى مغايرا ، مشاكسا واقتحاميا لمواطن الكتابة التي تقيم من اللغة وفي اللغة بنيانها ومعمارها ، لغة متجددة ومتدفقة تدفق مياه النهر ،يقول الشاعر في قصيدته العري على موائد اللغة:
وأنا المسكون بالعصيان/أجر خيبتي وراء شكلي/والنهر يجرني/ لأغرق.../...لأغرق/في معانيه المرسلة...(30)
معاني طافحة بعلاقات وأنساق جديدة تمت إعادة صياغتها وتشكيلها وبعبارة أخرى تم تفكيكها وإعادة تركيبها لغاية استكناه حقيقتها حقيقة لا تركن إلى تكريس المعاني وتمجيدها بل إلى معاودة تأويلها وتوليدها بحثا عن بديل ممكن يسعى إلى تحرير الإنسان من ربقة الواقع وتقاليده البالية..تقاليد ثقيلة تؤثر فيه وتحدد أشكال تفكيره ، كما تسيجه وتحجب من أمام عينيه رؤية آفاق رحبة جديدة، هذا ولكي يتحقق البديل المنشود لابد من ذوات واعية بالتحول ، حالمة بالمستقبل، شغوفة بالتجديد، ويزداد الأمـر أهمية إذا تــعلق الأمـر بالشاعر الحـداثـي" ومحك هذا التحول هو " أنا" الشاعر، التي هي غير أنا الانسان العادي.الذي قد لا يحس مدى ارتطام الأشياء بذاته، و ما قد يخلفه هذا الارتطام من ارتجاجات تحول رؤية وفهم الشاعر لذاته وللعالم من حوله"(3) رؤيته النافذة وفهمه العميق لأدق التفاصيل التي تتفاعل داخل كيانه والعالم المحيط به..تفاصيل تنبعث من أعماق اللاشعور..من دفتر الذكريات المنسية..من هوامش الأمكنة البائدة نشيدا وجوديا يحمل بين تلافيفه عبق الذات ووهج الذاكرة، وتباشير الحياة، يقول الشاعر في قصيدته تباشير الدعوة الأولى:
أخرج من ربقة كوني../إلى العالم المرئي/كوحي جنوني/أحمل تباشير الدعوة الأولى.../أخرج إلى الحلم القادم من أعماقي/أهدي له بضع نجيمات/أينعت له ردف/كوكبي/الموشح بطلسم النار(33)
و ينضاف إلى هذا التحول في " أنا" الشاعر تحول محايث في صلب الكتابة الشعرية وفي لحظة الاشتغال على اللغة وتشكيلها ، إذ تصبح العودة باللغة إلى صفائها الأول وإلى بدايتها الأولى هاجس الشاعر المأخوذ بالشعر كخلق جديد ، لا ينصت إلا لنبضه ، و لا يرتاح إلا لكينونته ، ولا يستمد خصائصه ومعياره إلا من ذاته، وبهذا المعنى أن يحتل الحرف ذات الشاعر ويمتلك كيانه ،ويأسره ،فهذا معناه أن الشعر بدأ يستعيد ألقه الأول ونسغه الأصيل يقول في قصيدته أسئلة القلق:
لست أدري إن كنت ممكنا/أو مستحيلا/أنا زئبقي الأفكار/صوفي حتى النخاع/مرضي بلا وصفات/وحده الحرف يحتلني/يقيم طقوسه الفلكلورية/على أرقي../ويتجدد في مع كل غيث/وأتجدد فيه /مع كل انتشاء(26)
فنشوة الشعر إذا لا تتحقق إلا مع كل تجديد وكل تجاوز فأن يكون الشعر انعكاسا للواقع ومحاكاة له ،وإعادة ترديد صداه لن يفيد في شيء القصيدة ولا العملية الإبداعية ، وما لم تنهض اللغة ذاتها برسم عوالمها المتخيلة واختيار إيقاعها المتميز ، واستشراف رؤاها وآفاقها فإن القول الشعري لا محالة سيظل يعوم على السطح ذون أن ينفذ غلى الأعماق ولذا فإن اختيار الشاعر المغربي زين العابدين اليساري الاشتغال على اللغة الشعرية ، أو بعبارة أخرى لغة اللغة راجع أساسا لقناعته بقصور لغة اليومي على ترجمة التجربة الإنسانية والتعبير عن معانيها بصدق ، ولهذا نجد نصوصه الشعرية تتقاطع وتتناص والتجربة الصوفية فهو يغترف من معينها ماء تجربته ، ويرتوي في حياضها حد الارتواء لينتج لغته الخاصة به حيث استحضار الرمز بشكل ملحوظ في كتابته ، وهنا كما يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد لابد من التمييز عند المتصوفة بين مصطلحي " الإشارة" و" العبارة" حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى ذون تعيين وتحديد ، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل " المعنى" أفقا منفتحا دائما،وأما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقا ونهائيا"(4) يقول الشاعر في أحد قصيدته ايقاعات من وحي السقوط:
يا سيدي رتب معي/طلاسم الكلام../قل ما شئت../أرني فيك وجه الإنسان../رتب معي الأرقام../وجغرافية الأرض والسماء..(52)
فالرمز إذا من الإمكانات الهامة التي تجعل النص يفيض بطاقة دلالية زائدة، وينساب نفسا تعبيريا إيحائيا يضفي على النص مزيدا من التوهج و الألق الجماليين، وفي هذا السياق فالرمز" هو حالة لغوية، تكسب وجودها، حين يتجاوز الإدراك المعرفي"رؤية العين" و"رؤية العقل" إلى "رؤية النفس" .فمع هذا التخطي والتجاوز يكتسب البناء اللغوي صفته الرمزية"(5) حيث نجد هنا أن الذات تصبح البؤرة والعين التي تفيض منها جميع المعارف وتتمخض كل الكرامات بعد أن تكن الأحلام والتواريخ والأمكنة قد انصهرت في بوثقتها وحلت في ربوعها وتوحدت بها، و لاشك أن استثمار الرمز بأبعاده النفسية ، الأنطولوجية والاستيتيقية ما من شأنه أن يخرج النص من مستوى التداول الضيق والسطحي غلى مستوى التأويل العميق و الإشارات البعيدة، فالشعر هو أولا وقبل كل شيء تلميح لا تصريح ولهذا السبب نجد الشاعر زين العابدين اليساري في جل قصائده مستهاما بالرموز شغوفا بنسجها وتشكيلها ،فمن رمز الماء غلى الطين إلى الجسد إلى المرأة إلى الكرسي إلى الصورة إلى الصمت تتعدد الرموز وتنبثق أشكال تعبيرية مغلفة بمعاني زئبقية ومنفلتة ،تحتاج إلى متلق يقظ قادر على التقاط الإشارات وإعادة تأويلها دونما الحاجة إلى وسيط لتفسير معانيه وشرح مضامينه ،ففي قصيدة الضوء المسائي يبلغ النفس الصوفي ذروته في استعمال الرموز الصوفية الموحية ،فمن رمز النور ينبثق التجلي والمكاشفات الإلهية و تسطع لحظة التـوهج و الإشراقات الربانية،فالشاعر هنا يرنو إلى نور يكشف له الطريق لرؤية الحق وتبيان الحقيقة الأزلية،نور يفسح له السبيل للسفر ،إذ السفر سياحة في معالم الذات والكون ، وبمعنى أخر سفر إلى الله،إلى الخلود ،وذلك عن طريق امتلاك زمام عالم ما بعد الموت ، وعن رغبة في امتلاك الله نفسه..فالموت إذا أقصى ما يرغب فيه الصوفي وتهفو له نفسه، وهو موت مجازي يهدف من وراءه الصوفي قتل الحواس الخادعة واغتيال الرغبات الحيوانية ، والانسلاخ عن دناءة وحقارة الجسد وغوايته،يقول الشاعر في قصيدته القمر الأحمر الذي أريد معبرا عن هذه الرغبة:
ها البياض يا سادتي/يلفني/وأنا أصلي /لنبي الكلمات/موتي جميل /أجمل ما فيه/أني أصلي/على نفسي/قبل موتي/آلاف الصلوات..(60)
وإلى جانب الاحتفاء بالنور والموت يحتفي كثيرا المتصوفة بالحب الإلهي ولا تفتر ألسنتهم عن الغني بحرقة هذا الحب ولوعته ،وعن تعلقهم بالذات الإلهية وافتتانهم بها، وتبعا للضرورة التي كان يفرضها الواقع ومنها سطوة الفقهاء ومحاربتهم لمخالفيهم كانوا يشبهون الذات الالهية بالمرأة فيسبغون عليها من الأسماء الجميلة والصفات الفاتنة والمحاسن البهية ما يرسمها ملكا طاهرا، وهم إذ يهيمون حبا في طلبها، ويتكبدون الأمرين في صحبتها ،فإن حبهم فهو حب عذري حب من يبتغي الفناء في الحب، يقول الشاعر في قصيدته الجسد الزئبقي:
علي أن أكون مؤمنا../لأحفر في قلب الأنثى/وشم الحب الأزلي../وأن أكون لها يدا../تصونها من كل سلطان وثني../علي أن أكون لها شاعرا/لا يدخل السكينة بلا بسملات/تحميه أشعاره /من سيل المعنى الإباحي/علي أن أكون لها ما تريد/وأن أحبها كثيرا..كثيرا../مع كل فجر جديد/ربما تكون لي هي/شيئا آخر/غير ذاك الجسد الزئبقي(44)
ولئن كان النفس الصوفي ونبضه هم من استحكم في نصوص الشاعر زين العابدين اليساري ،فكذلك النفس السوريالي كان له حظه في تأثيث الكتابة الشعرية عند الشاعر ، وهنا نذهب مذهب صلاح بوسريف فيقوله أننا" لا نعني بالسوريالية هنا، ما نظرت له كتابات أندريه بروتون، با إنها،ذلك الجوهر الذي تعمل اللغة على تفجير مسكوتاته بدفعها للكلام"(6) لكن ما هو هذا الجوهر الخفي و المسكوت عنه غير خبايا ذواتنا ومن خلالها رغباتنا المكبوتة من جهة و المقموعة من جهة أخرى. والتي لم تتوانى التجربة السوريالية على كشفها وتعريتها، ومهما يكن من تباين بين التجربتين الصوفية والسوريالية من حيث المنطلقات فإنهما تنحوان نحو نفس الهدف ألا وهو الوصول إلى المطلق ،ومن جهة أخرى التعالي على الواقع وتجاوزه بل وتغييره .هذا التغيير الذي لا يمكنه أن يتحقق إلا بتغيير اللغة لوظائفها المألوفة وانزياحها عن تمثلاتها القديمة ، ومسلماتها الجامدة عن طريق ركوب صهوة الحلم والتحليق في الخيال والاستئثار بشيء من الجنون" فالشعر هنا لا يبحث عن الواقع الآخر لكي يغيب خارج الواقع في الخيال والحلم والرؤيا، إنه يستعين بالخيال والحلم والرؤيا لكي يعانق وقعه الآخر، ولا يعانقه إلا بهاجس تغيير الواقع وتغيير الحياة، فليس الواقع الذي يتطلع إليه، الغيب المنفصل التجريدي، وإنما هو الممكن الذي يختزن لا نهاية الواقع"(7) لكن السؤال المطروح هل باستطاعة الذات الإنسانية الوصول إلى المطلق وهي الذات المحدودة الأفق وهل باستطاعة العقل الإمساك بالحقيقة وهو القاصر على إدراك ماهيته.لكن ما موقع ذات الشاعر المغتربة والممزقة والضائعة في أتون العالم، أليس من سبيل سالك غير سبيل اللاعقل ومن رغبة غير رغبة ركوب صهوة الجنون ، يقول الشاعر زين العابدين اليساري في نصه تباشير الدعوة الأولى معبرا عن هذه الرغبة:
لست أدري إن كنت ممكنا/أو مستحيلا/أنا زئبقي الأفكار/صوفي حتى النخاع/مرضي بلا وصفات
وحده الحرف يحتلني/يقيم طقوسه الفلكلورية على أرقي/ويتجدد في مع كل غيث/وأتجدد فيه /مع كل انتشاء
وهكذا فإن ديوان " العري على موائد اللغة" للشاعر المغربي المتميز زين العابدين اليساري قد استطاع بلغته المفارقة والباذخة ورؤاه النافذة والمنفتحة أن يكتب نصا كونيا يثير أكثر من قراءة وان يأول أكثر من تأويل....