[color:5b41=إذا كانت مكانة المرأة في الخطاب العربي تتكشف للمتتبّع من خلال علامات نصوصيّة أدبيّة- كما في شِعر الفرزدق، والبحتري، والمعرّي، وكما في نثر ابن المقفّع، والجاحظ، وغيرهم- فإنها لتكشفها علامات في النقد الأدبيّ العربيّ أيضًا. ويمثّل لقب (الخَنْساء XE "خَنْساء" )، الذي أُطلق على الشاعرة المخضرمة (تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلَمية XE "تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلَمية" ، -645م)، نموذجًا دالاًّ في ذلك؛ من حيث هو لقب ينطوي على بُعْدٍ اجتماعيّ ثقافيّ، لعلاقته الرمزية بقيمة الأُنثى في الثقافة العربيّة القديمة. وتمثّل ظاهرة التلقيب تقليدًا شائعًا في الثقافة العربية القديمة، وقد اشتهر معظم الشعراء العرب بألقاب خاصّة، طغت في معظم الحالات على أسمائهم الحقيقية. ويبدو في إطلاق بعض تلك الألقاب تقييم فنيّ لشِعر الشاعر. أي أنها كانت بمثابة أوسمة للشعراء، تحمل إلينا بذار نظريّة عربيّة في الشِّعر والنقد. يمكن من خلالها أن نستقرئ بعض القِيَم الأساس في نظرة العرب إلى الشِّعر، لا من حيث هو فنّ فحسب، ولكن من حيث هو كذلك تعبير عن حياة العرب الاجتماعيّة والثقافيّة(1). ولقب (الخَنْساء XE "خَنْساء" ) أحد تلك الألقاب المهمّة في دلالتها الرمزيّة. فهو لقبٌ أُنثويّ يشير إلى الشِّعريّة النسويّة البكائيّة XE "شعريّة نسويّة بكائيّة" في مقابل الشِّعريّة الذكوريّة الفُحُوليَّة XE "شعريّة ذكوريّة فُحُوليَّة" . وليس على القارئ لكي يدرك هذا البُعْد سوى أن يرجع إلى صورة الخَنْساء في القصيدة الجاهليّة- التي "ضَيَّعَتْ الفرير"، حسب (لبيد بن ربيعة XE "لبيد بن ربيعة" )(2)- ليدرك مغزى تلقيب تلك الشاعرة بـ"الخَنْساء". فلقد مثّلتْ (الخَنْساء= البقرة الوحشيّة، أو النعجة من المها) معادلاً رمزيًّا للثور الوحشيّ، إذ تُعدّ رمزاً من رموز الشمس لدى الجاهليين يقابل الرمز القمري (الثور الوحشي). وقد عبّر الشاعر الجاهليّ (الذَّكَر) عن فُحُوليّته الشِّعريّة والحياتيّة من خلال تشبيه ناقته بالثور الوحشيّ، بنضاله، الذي يصوّر بانتصاره أملاً يحفز الشاعر نفسه على الكفاح من أجل غدٍ أفضل. ويستند هذا على عمق ميثولوجيّ في ثقافة العرب يتعلّق باعتقادهم أن المهاة من نظائر الشمس المقدّسة؛ ولذلك سمّوا عين الشمس "مهاة"، كما سمّوها أحيانًا بـ"الإلاهة"(3). ومن جهة أخرى كانت هنالك علاقة أسطوريّة بين المرأة والمها، ليس للصفة الأنثويّة في الاثنتين، بل لأنهما كانتا من النظائر الرمزيّة للشمس في الطبيعة، إلى جوار: الغزال، والحصان، والنخلة، والسَّمُرة، وغيرها من عناصر الطبيعة(4).
إن الوعي بالمفتاح الميثولوجيّ للمهاة الخَنْساء يساعد هنا في فهم دلالة اللقب الذي أُضْفِي على الشاعرة تماضر بنت عمرو XE "تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلَمية" ، لا على أن ذلك تشبيه جماليّ- كما هو التعليل الدارج المنشغل بصورة أنفها وأرنبته- لكن على سبيل اللقب الرمزيّ الأنثويّ الشمسيّ في مقابل لقب (الفَحْل XE "فَحْل" ) الذكوريّ الثوريّ القمريّ(5). أمّا لماذا اختاروا تلقيبها بـ(الخَنْساء) دون لقب (المهاة) مثلاً؟ فذلك للسبب نفسه الذي جعل لبيدًا(6) XE "لبيد بن ربيعة" يسمّي في معلّقته البقرة الوحشية بـ:
37. (خَنْساء) ضيّعت الفريرَ فلم يرمْ
عُرْضَ الشقائقِ طَوْفُهـا وبُغامُها
38. لِمُعَـفَّرٍ قَهْـدٍ تَـنازعَ شِـلْوَهُ
غُبْسٌ كواسبُ لا يُمَنُّ طَعامُها
وهي صورة شِعريّة رمزيّة نمطيّة، تتردّد في القصائد الجاهليّة، في مشهدٍ من توحّد المهاة وحزنها على فَقْد جؤذرها الذي اقتنصه الصائد(7). على أن لبيدًا XE "لبيد بن ربيعة" قد خَرَجَ عن النمط التقليديّ لصورة الخَنْساء الثكلى ليُسقط عليها رحلة الثور الوحشيّ النمطيّة، في صراعه مع كلاب الصائد. ومهما يكن من شيء، وعلى الرغم من فقدان كثير من تراث العرب XE "تراث العرب" القديم- ممّا كان يمكن أن يساعف بوعيٍ أوضح بتاريخ المفردات اللغويّة، وجذور الثقافة العربيّة- فإن جملة القرائن السابقة تجعل الدارس يرى وراء لقب (الخَنْساء XE "خَنْساء" ) ما لم يره أحدٌ من القدماء، فضلاً عن المحدثين.
لقد لَقَّب الخَنْساءَ XE "خَنْساء" بهذا اللقب أصحابُ تلك الثقافة نفسها، الذين كانوا يضربون بـ"الخَنْساء ضَيَّعت الفرير" مثلاً للضَّعف الأنثويّ، والانكسار المصيريّ، في مواجهة صروف الدَّهْر، والمنايا التي لا تطيش سهامها. والضَّعْف في مواجهة صروف الدَّهْر، والمنايا التي لا تطيش سهامها، ضعفٌ بشريّ عامّ، لكنّ توظيف الأنثى في تصويره أبلغ، ولاسيما في ثقافة كالثقافة العربيّة، ارتبط معنى الضَّعْف فيها بالأنوثة، حتى سُميت المرأة في بعض اللهجات: "ضَعْفَة". وما ذلك للضَّعْف البيوفسيولوجيّ فحسب، ولكن كذلك لمبدإ ثقافيّ اجتماعيّ راسخ من تصوّر الضعف النفسيّ والقصور الذهنيّ في المرأة. وبلفظ آخر: كانت الأنثى (الخَنْساء XE "خَنْساء" ) مثلاً "للخَنَسِ"، أي (التراجع، والانخذال، والتخلّف، والتأخّر، والاستتار، والانحباس، والغياب). وهذا هو الرصيد من المعاني الكامنة وراء هذه المادة اللغويّة في معجم اللغة العربيّة(8). وهي ذات المعاني التي رآها العرب XE "عرب" في هذا الصوت الشعريّ الأنثويّ، المنكوب الباكي، صوت الخَنْساء XE "خَنْساء" . وعلى الرغم من ذلك، فهو- للمفارقة- ضعفٌ وانكسارٌ منتصرٌ في النهاية، انتصارَ الخَنْساء XE "خَنْساء" في معلّقة لبيد بن ربيعة XE "لبيد بن ربيعة" ، ذلك الانتصار الذي يسعى الشاعر من خلاله إلى أن يكسر اليأسَ من جَدْوَى تَحَدِّي الظروف المحيطة، مهما بلغ عدم التكافؤ بين قوة تلك الظروف ووهن الطَّرَف المقابل.
ومن تلك المنطلقات اعْتَقَدَ العرب XE "عرب" أن الشِّعْر ذكوريٌّ بالطبع والضرورة، وأن فُحُوليَّة الشِّعريّة XE "فُحُوليَّة الشعريّة" قرينة فُحُوليَّة الذُّكورة XE "فُحُوليَّة الذُّكورة" . وعليه فالشِّعر ليليّ قَمَريّ، لا نهاريّ شمسيّ، حسب تصوّراتهم الميثولوجيّة XE "ميثولوجيا" في الشمس والقمر. وقد ألمح إلى هذه العقيدة أبو النجم العجليّ XE "أبو النجم العجليّ" لمّا قال قوله المشهور:
إنّي وكلّ شـاعرٍ من البَشَرْ
شيطانُه أُنثى وشيطـاني ذَكَرْ
ولئن رأينا في تلقيب علقمة XE "علقمة" بالفَحْل XE "فَحْل" لقبًا فنّيًّا، فإنهم لم يمنحوه ذلك اللقب بمعزل عن دلالته الجنسيّة أيضًا. ولقد نَصُّوا على هذا في إشارتهم إلى دور الجانب الفُحُوليّ الذكوريّ في انتصار أُمّ جُندب XE "أُمّ جُندب" له على بعلها امرئ القيس XE "امرؤ القيس" ، ومن ثَمّ نكاحه إيّاها، واستحقاقه لقبه(9). كيف لا وهو القائل: إنه "بصير بأدواء النساء طبيب(10)"! فلا نكران لهذا، ولكنّ خصائص فُحُوليّته XE "فُحُولة" أيضًا قد تمثّلت في شِعره على المستوى الفنّي.
وهذا المغزى الفُحُوليّ XE "فُحُولة" هو الذي اكتسب بسببه شاعر آخر هو (جِران العَوْد XE "جِران العَوْد" ) لقبه كذلك. فلقد لُقّب به، لا لأنه كَرَّر ذِكْر "جِران العَوْد XE "جِران العَوْد" " في شِعره فحسب؛ ولكن لأن اللقب أيضًا يشير إلى تخويف امرأتيه بسَوْط من جران عود. فأصبح بتهديده الفُحُوليّ XE "فُحُولة" ذاك أهلاً لديهم لأن يكون جران فَحْلٍ عَوْد، وأن ينال لقبه الرمزيّ، تأمينًا على قوله يخاطب امرأتيه(11):
- عمدتُ لعَوْدٍ فالتحيتُ جرانهُ
وللكَيْس خيرٌ في الأمور وأنجحُ
- خُذا حـذراً، يا خلـّتيّ، فإنني
رأيتُ جِران العَوْد قد كان يصْلُحُ !
بما يحمله قوله من موقفٍ وافق رأي المتلقّي، من أن الزوج ما ينبغي له أن يكون سوى جران عَوْد مع زوجاته. غير أن جِران العَوْد XE "جِران العَوْد" قد ظلّ لقبًا فُحُوليًّا XE "فُحُولة" اجتماعيًّا، ولم يتجاوز إلى ما تجاوز إليه لقب (الفَحْل XE "فَحْل" ) من دلالة على الفُحُوليَّة XE "فُحُوليَّة" الاجتماعيّة والشعريّة معًا. فالفُحُولة XE "فُحُولة" الشعريّة مشتقّة من الفُحُولة XE "فُحُولة" الذكوريّة، إذن، وأنّى لأُنثى أن تغدو شاعرة فحلة؟! فذلك في عُرفهم نقيضٌ أساسٌ لطبيعتها، حتى لقد عبّر الأصمعيّ XE "أصمعيّ" عن استهجانه شِعر عَدِيّ بن زيد العبادي XE "عَدِيّ بن زيد العبادي" ، وقد سئل عنه: أفَحْل هو؟ فقال: "ليس بفَحْلٍ XE "فَحْل" ولا أنثى!"(12). أي أنه ليس بفَحْلٍ XE "فَحْل" ، ولا حتى بأنثى، فهو عنده: لا شيء. ولهذا لم يكن مستغربًا أن لا يُعترف لمُهَلْهِل بن ربيعة XE "مُهَلْهِل بن ربيعة" بالفُحُولة مثلاً XE "فُحُولة" ، ما دام فيه وفي شعره خنث، ولين، وكان كثير المحادثة للنساء، حتى سمّاه كُلَيب XE "كُلَيب" (زير نساء).
وإذا كان التعارض قد قام لديهم بين مفهوم الهَلْهَلَة XE "هَلْهَلَة" والفُحُولة XE "فُحُولة" بين شاعرين ذَكَرين، فلا بدّ أن لا يُبصروا إلاّ التنافي بين الفُحُولة XE "فُحُولة" والأنوثة XE "أنوثة" . وما ذلك التنافي على المستوى الأدبي إلاّ نظير التنافي على المستوى الاجتماعي بين قيمة الذكورة والأنوثة. ومن هنا، لم يكن لقب (الخنساء) سوى المقابل الرمزيّ والنقيض المعياريّ النقديّ للقب (الفحل).
black]