فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان :
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدًا . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله تعالى ، واذكروا نعمته عليكم إذ هداكم للإسلام ، وخصكم بنبي الرحمة - عليه الصلاة والسلام - ؛ فقد كان الناس قبل بعثته في جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، متفرقين في عباداتهم ، يعبدون الأحجار والأشجار والأصنام ، يسفكون الدماء ، ويهتكون الأعراض ، ويغتصبون الأموال والحقوق ، ويتحاكمون إلى الطواغيت ، ويتسلطون على الضعفة والمساكين ، وكانت تسيطر على العالم آنذاك دولتان غاشمتان ، دولة الروم النصرانية الضالة ودولة الفرس المجوسية الحاقدة المتجبرة ؛ فكان العالم يعيش في ظلام دامس ، وجهل خانق حتى أذن الله ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ، أرسله بالهدى ودين الحق ، فهدى به من الضلالة ، وبصر به من العمى وأغنى به من العيلة وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور : ( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) . [ آل عمران : 164 ] ، وأمرهم باتباعه وطاعته وتكريمه وتوقيره والصلاة والتسليم عليه ، وقرن اسمه مع اسمه في الشهادتين والأذان والإقامة والخطب ، وشرح له صدره ، ورفع له ذكره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، وأوجب علينا أن نحبه بعد محبة الله أعظم مما نحب أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين . صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين .
عباد الله : إن هذا الرسول الكريم حذرنا أن نحدث في دينه ما ليس منه ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، وقال : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، وفي رواية : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، ونهانا - صلى الله عليه وسلم - أن نغلو في حقه ونرفعه فوق منزلته التي أكرمه الله بها ، وهي العبودية لله والرسالة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبدٌ ؛ فقولوا : عبد الله ورسوله ) ، لكن مع هذا البيان والتحذير تجاوز بعض الناس حدود الله وشرعه ؛ فأحدثوا البدع والخرافات والمخالفات وجعلوها من الدين ، وصاروا يحرصون عليها ويحيونها وينمونها ويتركون الفرائض الشرعية والسنن النبوية أو يتساهلون بها ، ومن ذلكم ما يكررونه كل عام في هذا الشهر من الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى صار كأنه عيد من الأعياد الشرعية كعيد الفطر وعيد الأضحى ، مع أن هذا الاحتفال محدث في دين الإسلام ، لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون وصحابته الأكرمون ، ولم تفعله من بعدهم القرون المفضلة التي هي أفضل قرون الأمة ، وإنما حدث هذا الاحتفال في القرن السادس من الهجرة أحدثه بعض الجهال أو الضلال مضاهاة للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح - عليه السلام - .
ويا سبحان الله ! لو كان هذا الاحتفال حقًا لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته ولو بينه لما خفى على خلفائه وصحابته له - حاشا وكلا - لقد كانوا يحبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من محبتهم لأنفسهم ، وكانوا يعظمونه تعظيمًا شديدًا يليق بمقامه ، حتى قال بعض من رآهم من أعدائهم يوم الحديبية حينما رجع إلى قومه : ( أي قوم والله لقد وفدت على الملوك على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكًا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد ، محمدًا ) ؛ فلماذا إذًا تركوا الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - !؟ ما تركوه إلا لأنه ليس من الدين ، ولأنه تشبه بالنصارى ، وقد حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من التشبه بالنصارى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه [ يعني : المانع الحسي لا الشرعي ] ، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له منا ، وهم على الخير أحرص ، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته وإتباع أمره وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ؛ فإن هذه الطريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع تجدونهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أمروا بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه ، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا ) . انتهى .
أيها المسلمون : إن الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - باطل ومحرم من عدة وجوه :
- أولاً : أنه بدعة في الدين ، وكل بدعة ضلالة ، ولن يستطيع الذين يرون إقامته أن يقيموا عليه دليلاً من الشرع .
- ثانيًا : أنه مشابهة للنصارى في احتفالهم بمولد المسيح - عليه السلام - ، وقد نهينا عن التشبه بهم .
- ثالثًا : أنه كثيرًا ما يقع فيه منكرات ومحرمات أعظمها الشرك بالله من نداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستغاثة به ، وإنشاد القصائد الشركية في مدحه ؛ كقصيدة البردة وأمثالها .
- رابعًا : أنه ليس في الإسلام إلا عيدان . عيد الأضحى وعيد الفطر المبارك ، فمن أحدث عيدًا ثالثًا ؛ فقد أحدث في الإسلام ما ليس منه ، وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما . فقال : ( ما هذان اليومان ّ!؟ ) . قالوا : كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما : الأضحى ويوم الفطر ) . [ رواه أبو داوود وأحمد والنسائي ، وإسناده على شرط مسلم ] .
فاتقوا الله عباد الله ، واحذروا البدع والمخالفات ، والزموا السنن ، واتبعوا ولا تبتدعوا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . [ الأنعام : 153] .