يمكن للمشتغل بابستمولوجيا الفكر اللساني وبتاريخ هذا الفكر واتجاهاته أن يميز بين تيّارين أساسيين اثنين: تيار "صوري" يقف في مقاربته للغات الطبيعية عند بنيتها لا يكاد يتعداها وتيار "وظيفي" يحاول وصف بنية اللغات الطبيعية بربطها بما تؤدّيه هذه اللغات من وظائف داخل المجتمعات البشرية.
ويمكن أيضا للمشتغل بذلك، إذا ما هو أعمل الفكر في التراث اللغوي البشري، أن يتبين أن لكلّ من هذين التيارين أصوله وامتداداته وأن التقابل بين مفهومي "الصورية" و"الوظيفية" ليس مقصوراً على النظريات اللسانية الحديثة وإن كان له في هذه النظريات من الوضع المنهجي ومن وضوحه ما ليس له في الدّرس اللغوي القديم.
تعدّ اللغة في المقاربة الصورية موضوعاً مجرداً أي مجموعة من الجمل تربط بين مكوناتها علاقات صرفية – تركيبية ودلالية. في هذا المنحى، تقارب اللغة على أساس أنها بنية مجردّة يمكن أن تُدرس خصائصها في حدّ ذاتها أي بقطع النظر عمّا يمكن أن تُستعمل من أجله.
أما حسب المقاربة الوظيفية فإن اللغة أداة تُسخّر لتحقيق التواصل داخل المجتمعات البشرية. من هذا المنظور، تعدّ العبارات اللغوية، وسائل تستخدم لتأدية أغراض تواصلية معينة وتُقارب خصائصها البنيوية على هذا الأساس.
لتوضيح مفهوم أداتية اللغة هذا، دعنا نأخذ المثالين التاليين:
(1) أ- اعطيت هندا كتاباً
ب- كتاباً أعطيت هندا (بنبر "كتاباً")
الفرق بين الجملة (1 أ) والجملة (1 ب) في المقاربة الصورية هو فرق بنيوي صرف يكمن في أن المكون المفعول في الجملة الأولى يحتفظ بموقعه الأصلي بعد الفعل في حين أنه يرد في الجملة الثانية محتلا للموقع الصدر أي قبل الفعل.
أمّا الفرق بين هاتين الجملتين في أي مقاربة تعتمد مبدأ أداتية اللغة فإنه فرق في القصد أوّلا يعكسه الفرق البنيوي.
فتأخير المفعول في الجملة الأولى يعلّله أن القصد من إنتاج هذه الجملة إخبار المخاطب بمعلومة "جديدة" غير متوافرة لديه في حين أن تصديره في الجملة الثانية آيل إلى أن القصد من إنتاجها تصحيح إحدى معلوماته باعتبار هذه الجملة ردّا على الجملة (2):
(2) بلغني أنك أعطيت هنداً قلماً
---------
من كتاب (المنحى الوظيفي في الفكر اللغوي العربي.. الأصول والامتداد) للأستاذ الدكتور أحمد المتوكل،