مُساهمةموضوع: مبادئ نظرية النحو الوظيفي ( 4 ) السبت 23 يناير 2010 - 4:22 رد مع اقتباس نص المساهمة
7.1 - الأداتية وبنية اللغة
لكل المبادئ الستة التي عرضنا لها في الفقرات السابقة أهميتها في تعريف المنحى الوظيفي في الدّرس اللغوي وفرزه عن المنحى الصوري. إلاّ أن أهم مبادئ المنحى الوظيفي على الإطلاق هو ماله صلة بعلاقة أداتية اللغة وبنيتها، بعلاقة وظيفة التواصل بالنسق اللغوي.
1.7.1- مشروعية الوظيفة
ترمي كل النظريات اللغوية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، حديثة كانت أم قديمة، إلى دراسة بنية اللغة مستويات ومكونات وعلائق.
إذا كان هذا هو المرمى الأساسي فلا مشروعية للحديث عن الوظيفة إلا إذا كانت تؤثر تأثيراً دالاً في البنية.
حول مشروع الأخذ بالوظيفة في الدرس اللغوي، انقسمت الآراء بين من ينكرها ومن يقول بها ويدافع عنها.
(أ) أهم ما يدفع به من ينكر مشروعية الأخذ بالوظيفة في الدرس اللغوي أن بنية اللغة نسق مجرّد كما سبق أن أشرنا إلى ذلك تحكمه مبادئه وقواعده الخاصة ويتسنى بالتالي لدراسة اللغة أن يصفه في معزل تام عن أي شيء آخر كما يتسنى لعالم الإحياء أن يصف مكونات القلب وبنيته في استقلال عن وظيفة ضح الدم(3).
(ب) أما أهم ما يحتدّ به القائلون بمشروعية الأخذ بالوظيفة فهو أن بنية اللغة تأخذ الخصائص التي تخدم إنجاح التواصل وأهدافه ومختلف أنماطه.
2.7.1 – البنية والتواصل الأمثل
من المعلوم أن عملية التواصل تقتضي ثلاثة عناصر أساسية: متكلّماً ومخاطباً وخطاباً ينتجه المتكلم ويؤوّله المخاطب كما تُوضح ذلك الترسيمة التالية:
(15) متكلم خطاب مخاطب
إنتاج تأويل
تكون عملية التواصل "ناجحة" إذا خلا الخطاب من كل ما يمكن أن يحول بين المخاطب وبين تأويله وهو ما يسعى المتكلم في تحقيقه (في حالات التواصل العادي).
يمكن إرجاع العوائق البنيوية إلى ما ينتج عن ثلاث عمليات هي الحذف والإضافة والنقل.
(ا) من أمثلة العوائق الناتجة عن الحذف الجملة (16 ب) في مقابل الجملة (16 أ):
(16) أ – خالد، قابلته
ب - ؟؟ قابلته
لأي خطاب عادي ركنان أساسيان: الخطاب ذاته (جملة أو مجموعة جمل) وما يحيل على "مجال الخطاب". هذان الركنان متوافران كلاهما في الجملة (16 أ) كما توضح ذلك الترسيمة (17):
(17) [خالد [قابلته]]
مجال خطاب
ما يهمنا هنا هو أن الركن الأول ضروري لإنجاح عملية التواصل خاصة في بدايتها حيث لا قرينة مقالية أو مقامية تؤشر إلى مجال الخاطاب.
الجملة (16 ب)، إذن، باعتبارها جملة ابتدائية في عملية التواصل جملة غير مقبولة من شأن المخاطب أن يردها على المتكلم مطالبا إياه بتحديد مجال خطابه كما يبين ذلك الحوار التالي:
(18) أ- من الذي قابلته؟
ب – خالد
(2) ومن الإضافات المخلة بالتواصل تعدّد الإدماج في نفس الجملة كما هو الشأن في الجملة (19) حيث يتكرّر إدماج عبارات موصولية:
(19) قابلت الرجل الذي اشترى السيارة البيضاء التي باعها جارنا لصاحب المقهى الذي يوجد بشارع محمّد الخامس.
الجملة (19) مثال للتراكيب التي يصعب على المخاطب تحليلها وفهمها دون عناء في مقابل الجمل التي من قبيل (20).
(20) قابلت الرجل الذي اشترى السيارة البيضاء.
إنها السيارة التي باعها جارنا لصاحب المقهى الموجود بشارع محمّد الخامس.
(3) من غير النادر أن ترد بعض المكونات محتلة لموقع غير موقعها الأصلي نتيجة عملية نقل معينة. أغلب النقول تكون مبرّرة تداوليا كما سنرى في مبحث لاحق إلا أن منها ما يتسبّب في "التشويش" على عملية التواصل خاصة شق التأويل منها.
سنكتفي بمثالين اثنين للنقول "المشوشة" وهما ما نجده في الزوجين الجمليين التاليين.
(21) أ – إن خالدا شاعرٌ ملهم وهو ما يُقرّ به الكلّ.
ب – إن خالداًُ شاعر – وهو ما يقر به الكل – ملهم.
(22) أ– بصراحة، لم تعد تروقني تصرفات هند.
ب – لم تعتد تروقني تصرفات هند بصراحة.
تتضام عناصر الخطاب عامة في شكل مجالات تتكوّن من رأس وفضلة ومحدّد. أهم المجالات مجال الجملة الذي يرئسه المحمول (فعلا أو صفة أو ظرفا) ومجال المركب الاسمي الذي يرئسه عادة اسم.
ما يهمنا هنا هو أن عناصر المجال تنـزع إلى الالتفاف نحو الرأس بحيث لا تقبل إلا بعسر أن يتخللها عنصر أجنبي عن المجال. هذا النـزوع يجعل من الجملة (21 أ) جملة أكثر "طبيعية" من رديفتها (21 ب). وتكمن "غرابة" الجملة الأخيرة في كونها ناجحة عن نقل عبارة "وهو ما يقر به الكل" من خارج المجال وإقحامها بين رأس المركب الصّفي وفضلته. هذا الضرب من التراكيب، في مقابل التراكيب التي من قبيل (21 أ)، يكون تأويله عادة أعسر.
بيّنا في مكان آخر (المتوكل 2005 ب) أن اللغة العربية تنتمي إلى نمط اللغات "شفافة التركيب" (في مقابل نمط اللغات "كاتمة التركيب").
خاصية هذا النمط من اللغات أنها تنـزع إلى فصل المجال العلاقي عن المجال التمثيلي في مستوى البنية الصرفية- التركيبية وتقديم المجال الأول عن المجال التاني كما في الترسيمة التالية:
(23) [مجال علاقي [رأس] مجال تمثيلي].
تتحقق في المجال العلاقي القوة الإنجازية ومختلف السمات الوجهية والمكونات الحاملة لإحدى وظيفتين البؤرة والمحور بينما يُترك مجال ما بعد الرأس لإيواء المكونات التي لا سمة علاقية لها.
فيما يخص مثالينا (22 أ) و(22 ب)، يلاحظ أن المثال الأول تتصدّره العبارة الإنجازية "بصراحة" في حين أن هذه العبارة نجدها "مزحلقة" إلى مجال ما بعد الرأس في المثال الثاني. ومن الواضح أن زحلقة العبارة الإنجازية تجعل من المثال الثاني جملة ذات مقبولية دنيا إذا قيست بالجملة (21 أ) حيث تحتل العبارة الإنجازية الموقع المعدَّ لها.
3.7.1 – البنية وأهداف التواصل
يرمي المتكلم من وراء خطابه إلى تحقيق هدفين أساسين: إمّا إضافة معلومة غير متوافرة في مخزون المخاطب أو تعويض إحدى معلومات المخاطب بمعلومة يعتقد المتكلّم أنها المعلومة الواردة.
(أ) يظل المكون الحامل للمعلومة المراد إضافتها إلى محزون المخاطب محتلا لموقعه "الأصلي" داخل الجملة لا يميزه عن باقي المكونات إلاّ نبْرُه كما هو الشأن في الجملة (24 ب) باعتبارها جواباً للجملة (24 أ):
(24) أ – من زُرتَ؟
ب – زرت هنداً.
(ب) أمّا حين يكون الخطاب مقصودا به تقييد معلومة من معلومات المخاطب أو تصحيحا فإن المكون الحامل للمعلومة المقيّدة أو المصحّحة يرد مصحوباً بإحدى أدوات التقييد أو متصدّرا للجملة أو "مفصولا". من أمثلة ذلك:
(25) أ - لقد زرتَ عائشة وهنداً
ب - ما زرت إلا هنداً
ج - إنما زرت هنداً
(26) أ – بلغني أنك زرت عائشة
ب – هنداً زرت (لا عائشة)
ج – التي زرتها هند
د - ما عائشة زرت بل هندا.
هذه الأمثلة تبين بوضوح أن خصائص البنية الصرفية – التركيبية للعبارة اللغوية مرتبطة ارتباط تبعية بوظيفة التواصل خاصة بالغرض التواصلي المستهدَف.
4.7.1 – البنية وأنماط التواصل
للخطاب أنماط مختلفة كما هو معلوم كالخطاب العلمي والخطاب الفني والخطاب الحجاجي والخطاب السردي وغير ذلك.
ويحدّد نمط الخطاب تضافر مجموعة من الوسائط أهمها أربعة هي: موضوع الخطاب وهدفه وبنيته وأسلوبه. ما نريد أن نشير إليه هنا هو أن موضوع الخطاب وهدفه يحدّدان بنيته وأسلوبه. بتعيير آخر، يأخذ الخطاب البنية والأسلوب اللذين يناسبان ويخدمان موضوعه وهدفه. فليس للخطاب الحجاجي البنية والأسلوب اللذين للخطاب السردي أو الخطاب الوجداني.
ليس هنا مجال التفصيل في بنية وأسلوب مختلف أنماط الخطاب. نكتفي إذن بالتذكير بما أوردناه في مكان آخر (المتوكل 2001 و2003) عن خصائص الجملة النمطية في الخطاب السردي حيث مثلنا لها بالترسيمة (27):
(27) [خب [Ø[فعل ماض (س1) محور (س ن) بؤرة جديد]]].
ما يُفاد من الترسيمة (27) الأمور التالية:
(1) بينما يكون المستوى العلاقي غنيّا إنجازاً ووجها في فروع الخطاب الأدبي الوجدانية مثلا نجده يتسم بفقر ملحوظ في الخطاب السردي الصرف، الخطاب الذي ينأى فيه السارد عن خطابه ويحتفظ بالحياد التام إزاء فحواه(4).
أهم مظاهر هذا "الفقر" العلاقي انعدام السمات الوجهية (الذاتية منها خاصة) وانحصار السمات الإنجازية في الخبر. فيما يخص هذه السمات، يجب أن نشير إلى أن القوة الإنجازية المواكبة للخطاب السردي الصّرف قوة إنجازية صرفية بالأساس إذ من النادر جدّا أن نجد في هذا النمط الخطابي ظاهرة ما يُسمّى "الاستلزام الحواري".
(2) مكونات الخطاب السردي جُمَل فعلية محمولها فعل دال على حدث ماض تام بعكس ما نجده في الخطاب الوصفي مثلاً حيث الجمل جُملٌ صِفية أو اسمية سمّتها الجهيّة الغالبة سمة الدوام والثبوت.
(3) فحوى الخطاب السردي يتسم غالبا بالجدّة وتكون المعلومة الجديدة معلومة يحملها أحد عناصر الجملة أو الجملة رمّتها.